دراسة تحليلية لكتاب “بين راهب وأمير”، للأب يعقوب سقيم، بقلم لويس صليبا
مقالة في مجلّة الأمن، بيروت، زاوية مكتبة الأمن/آب – 2024
بقلم أ. د. لويس صليبا
كتاب: بين راهب وأمير
الأب يعقوب السقيّم (ر ل م)
بين راهبٍ وأمير: ذكرياتي مع الرئيس فؤاد شهاب، تأليف الأب يعقوب السقيّم، صدر مؤخّراً عن منشورات جامعة الروح القدس/الكسليك، ضمن سلسلة مركز فينيكس للدراسات اللبنانية: أنتولوجيا 6، في 173ص.
كتابٌ قدّه قليل وأثره جليل، بل هو وثيقة أوّلية لا غنى عنها لمن يودّ أن يؤرّخ للبنان في الستّينات أو في الزمن الشهابي الذي اعتُبر بحقّ العصر الذهبي في تاريخ لبنان الكبير. وهذا السفر النفيس من الأصول التي لا يمكن لمن يؤرّخ لعهد شهاب وللبنان في النصف الثاني من القرن العشرين أن يتجاوزها، لأنّه شهادة موثّقة من عين الحدث، ومتزامنة مع الوقائع، وخالية من شوائب ضعف الذاكرة وثغراتها، وكذلك من عمليّات إسقاط الحاضر على الماضي التي تكاد لا تخلو منها أيّة مذكّرات. ذلك لأنّها بالحري يوميّات كُتبت في زمن الأحداث، ويوماً بعد يوم في أجندة هذا الراهب الفاضل. وهو يقول مقدّماً ومعرّفاً (ص11): “هي بعض محفوظات ذاكرتي وكتاباتي اليوميّة، بعد أن احترق قسمٌ منها عندما قُصف دير سيدة طاميش أثناء أحداث لبنان الأخيرة (1975-1990)، وهي أيضاً كما كنتُ أدوّنها كلّ مساء قبل الرقاد، وذلك دون إصلاح اللغة أو التعابير، لتبقى على بساطتها وعفويّتها وصدقيّتها”.
هي إذاً يوميّات Diaries، وليست مذكّرات. والفرق بين الاثنين شاسع. فالمذكّرات تستحضر الماضي، وما بقي في ذاكرتك منه من انطباعات ورواسب، فعمل الذاكرة فيها وإعمالها أساسي. في حين أن اليوميّات تُكتب في حينها، وبالتزامن مع الأحداث وتتابعها وتداعياتها، ولا تحتاج إلى جهد ذاكرة ومجهودها واستحضار ماضٍ وما قد يشوب كلّ ذلك من ثغرات وفجوات Troux de mémoires، لذا تبقى غالباً بريئة، ونضرة طازجة، وبالأخصّ خالية من عمليّات إسقاطات الحاضر على الماضي، وقراءة هذا الأخير على ضوء ما استجدّ من أحداث وظهر من معطيات وخلفيّات. والمؤلّف دقيق في تدوينه، يكتب مساء كلّ يوم، كما يخبرنا، الوقائع والأحاديث. وقد أسرّ الرئيس شهاب إليه بالكثير، واستودعه العديد من مكنونات قلبه فدوّنها وصانها من الضياع. يقول متابعاً (ص11): “ما دوّنته ليس مجرّد أقوالٍ وأحاديثَ سرّية أو غير سرّية، كما سترون في المدوّنات وحسب، ولكن شهادة حقيقية على ما عشتُ وإيّاه، وبالقرب منه، ككاهن، وراهب (مرشد)، وكصديقٍ حميم، (تبادل آراء واستشارات)، أغلبيّتها بعد أن ترك الرئاسة، ولم يكن أحدٌ يعرف ذلك إلا القلائل جدّاً جدّاً”.
بيد أن أبونا سقيّم أحجم عن ذكر كلّ ما أمّنه عليه الجنرال منبّهاً إيّاه بالعبارة المفتاحية والاصطلاحية التالية: “هودي إلك”. يكتب راهبنا في 13 /2 / 1969: “اتّصل بي مساء فخامة الجنرال وأخبرني (…) عن أشياء في الحكم والحكومة لا مجال لذكرها حفاظاً على كرامة بعض الأشخاص، ونزولاً عند رغبة الجنرال (هودي إلك)”. (ص64). والعبارة الأخيرة هذه تتكرّر مراراً في اليوميّات، ما يعني أن هذه الأسرار ذهبت بذهاب من باح بها (الرئيس شهاب) ومن أصغى إليه (الأب سقيّم)، ومن العبث محاولة التفتيش عنها! وهذا ما أكّده هذا الأخير في المقدّمة إذ دوّن: “ثم رُحتُ بالذاكرة إلى حيث كنّا نختلي في تلك الغرفة التي سمِعَت جدرانها أسراراً، كان ليلها في مكان، ونهارها في داخلها، مع الجنرال بحضوري، وكم من حقائق غابت معه، وستغيب معي إلى الأبد”. (ص14).
وكمَثلٍ على ذلك، فإثر أحداث واضطرابات كتب راهبنا في 29/1/1969: “دار الحديث عن الإضرابات، ومَن وراءها، ولأيّة غاية… أو غايات خاصّة داخلية وخارجية، وقليلون الذين يهمّهم الوطن… أمّا البعض الآخر، فالوطن عندهم جيوب، ومنافع، وحسد، وكيد… وشرح أكثر عن البعض قائلاً: هودي إلك”. (ص63).
وإثر زيارة لشهاب في مقرّه الصيفي في عجلتون كتب سقيّم في 28/7/1969: “دامت زيارتي ثلاثة أرباع الساعة معه لأنّ الحديث طال عن أشياء سرّية للغاية، تداولنا فيها… لا أسمح لنفسي أن أذكرها على الورق، ولا حتى شفهيّاً حفاظاً على صدقيّتي مع فخامة الجنرال، وحفاظاً على كرامة الآخرين”. (ص76).
ويذكر أبونا يعقوب في المقدّمة أن الأمير صنّف أقواله له إلى فئات ثلاث: “أحاديثنا العاديّة يمكن قولها أمام من تريد، لا بأس إذا كان منها إفادة، ولكن عندما كان يقول لي entre nous [بيننا] يمكن قولها لقلائل. أي لغير الثرثارين الذين يتباهون بما يكونون قد سمعوه عن لسان شهاب. أما عندما كان يقول لي: أبونا هودي إلك فقط ça, c’est pour vous seulement متابعاً قوله إنّك تحفظ سرّاً، وسرّك عميق جدّاً، وهذا ما يسرّني جدّاً، لأنّه كان متأكّداً من ذلك بعد خبرة عميقة بيني وبينه، بأن ما قاله سيذهب معي إلى القبر”. (ص18).
واضحٌ أن ما سنقرأه في يوميّات الأب سقيّم ينتمي حصراً إلى الفئتين الأولى والثانية. والمؤرّخ إذ يأسف لضياع الكثير من الأسرار مع رحيل من كانت سريرته مستودعاً لها، لا يسعه إلا أن ينوّه بأمانة المؤلّف سقيّم وصدقيّته، فهو لا يكتب إلا ما سُمح له بتدوينه وإفشائه. وبالتالي يمكن الركون إلى رواياته ومدوّناته والوثوق تماماً بصحّة ما كتب، ومن هنا أهمّية وثيقته وشهادته التاريخيّة القيّمة هذه. فهي أصدق وأدقّ من التقارير الدبلوماسية السرّية المواكِبة للأحداث والمتزامنة معها، والتي لا يُكشف عنها إلا بعد مضي نصف قرنٍ أو أكثر! فالدبلوماسي يبقى صاحب غاياتٍ ومنفعة، وتُقيّده مصالح بلاده، وتُوجّه مقاربته ورؤاه، وليست هذه حال كاتب يوميّات كالتي بين أيدينا، فلا منفعة له ولا مصلحة مادّية أو مباشرة، بل هو كَتَب بدافعٍ صادقٍ من الإخلاص والأمانة والوفاء لشخصيّة عرفها عن كثب وقدّر نزاهتها وتجرّدها واندفاعها في سبيل المصلحة العامّة.
وأمانةُ أبونا يعقوب وحفظه أسرار الجنرال وجعْلُ بعضها بمثابة سرّ اعتراف يستحيل البوح به هي ما جعله موضع ثقة هذا الأخير ومستودع أسراره، فكان في بوحه له كمن يحدّث نفسه، أو كمن يفكّر بصوتٍ عالٍ، لا بل أكثر من ذلك، كان الأب سقيّم بمثابة من فوّض إليه الأمير تدوين مذكّراته التي رواها له شفاهة، فهو يروي في 26/ 6/ 1972 ما يلي: “أجبته: لماذا لا تدوّن مذكّراتك يا حضرة الجنرال؟ (…) طلبتُ إليه إذاً أن يدوّن مذكّراته للتاريخ، وللإفادة للبنان وللجيل الطالع”. (ص151).
والأهمّ في المسألة ردّ الأمير على هذا الطلب، يتابع المؤلّف: “وكان جوابه أنت الآن تسمع، وسمعتَ ما أقول، ونتحدّث وتحدّثنا، وسوف نتحدّث إن شاء الله عن أشياء وأمور وقضايا مهمّة… وصرْتَ يا أبتِ تعرف ما يجب أن يُعرف، وما لا يجب أن يُعرف، وهل نسيتَ أنّك صديقٌ لي عزيز، وصادق، وراهب، كاهن محترم، عندك أسراري كلّها، واختبرتُ سرّك كم هو عميق… فدمعَتْ عيناه وعيناي واحتسينا القهوة، وشربنا الماء”. (ص151).
ما يقوله الأمير لصديقه الراهب هنا بالغ الدلالة، وأساسي لفقه أهمّية ما يرويه هذا الأخير. أبونا يعقوب يطلب من الجنرال كتابة مذكّراته، أما جواب هذا الأخير فهو كمَنْ يقول له: ها أنا أرويها لك هذه المذكّرات، وأنت موضع ثقتي، وتعرف ما يجب أن يُعلَن، وما يجب أن يبقى مستوراً، وما عليك سوى أن تتصرّف بوحي من كلّ ذلك”
ومن هنا فيوميّات الأب سقيّم أشبه بمذكّرات غير رسمية أو غير مباشرة للجنرال، نقرأ متتبّعين كلام راهبنا: “ثم تابع [شهاب] لمن أكتب؟ الزعماء لا شكّ فإنّهم سيضحضون ما أقول وأكتب، ويكذّبوني و… و… إلى آخر المعزوفة؛ والمسؤولون الكبار كما الناس في لبنان، لا يقرأون، لا سيما الأمور والأحداث التاريخية وهي ضرورية لأخذ القرارات التاريخية المفيدة للجميع، وإذا قرأوها، لا يستفيدون منها شيئاً، وسيفسّرونها على هواهم وأميالهم، وأميال من يسيرون وراءهم… وأودّ أن أقول الحقيقة العارية، وهذه ستجرح الكثيرين، وأنا أقولها أمامك، كما قلتُ أشياء أخرى أمامك”. (ص152).
نلمح في كلام الأمير دعوة غير مباشرة للراهب إلى تدوين ما سمعه هذا الكاهن من ذكريات أو بالحري اعترافات، وقد سبق للجنرال أن نبّه أبونا يعقوب أنّه يعرف جيّداً أن يميّز بين ما يجب أن يُنشَر وما يجب أن يُستَر. وهذا الأخير يواصل روايته فينقُلُ عن شهاب اعتباره كلامه له “اعترافات”، يقول: “وطال الوقت حتى دقّوا باب الغرفة مرّتين، إذ كان الأستاذ الياس ربابي ينتظر، ففتحوا الباب واعتذر رأساً عن التأخير، وقال بين الجدّ والمزح: أبونا سقيّم كاهن يسمع اعترافات كثيرة وطويلة، ويحتمل، قلتُ عفواً فخامة الجنرال أنت تخفّف الحمل، فضحكنا جميعاً، واعتذرتُ، ورافقني كالعادة حتى المدخل الخارجي قائلاً: لا بقى تطوّل عليّي، هل فهمت؟! قالها بنبرة لا تخلو من العتاب الصادق”. (ص153، يوميّات 26 حزيران 1972).
واضح من هذه الرواية أن لقاءات الأمير بالراهب كانت غالباً خلوات لا يشاركهما فيها مستمعٌ ثالث واعترافات، ومن هنا أهمّيتها في تأريخ تلك الحقبة. وسقيّم ينقل في يوم وفاة الجنرال عنه قوله (يوميّات 25 نيسان 1973): “قال مرّة لأحد أصدقائه المقرّبين: أنا لم أُرزَق أولاداً… الأب يعقوب السقيّم أعتبره ابني”. (ص162).
وفي يوميّة 19 شباط 1970 ينقل أبونا يعقوب قولاً للجنرال يعبّر له فيه عن ثقته التامّة به، ممّا يجعله يصارحه بما لم يبُح به لأحدٍ غيره، قال له يومها شهاب: “وما اقوله الآن، وأنت أصبحتَ تعرفني جيّداً: لأنّك صادق معي، وتحفظ أسراري. إذاً أقول هذا بصدقٍ واقتناع. ثم قال إنّي أشعر بإخلاصك، ولهذا أصارحك وحدك، وحدك، بقضايا وأسرار، وأعترف لك بأسرار، إذا ظهرت للعلن ستقطع رؤوس وكفى… وأنت تعلم يقين العلم أنّي لا أصارح غيرك بها… ثم صمت وغصّ بالكلام”. (ص95).
لنلحظ بداية تكرار الجنرال عبارة “وحدك” مرّتين، وكذلك عبارة “أصارح”، وأيضاً عبارة “أسرار” المقرونة بـ “أعترف”، وهي ليست المرّة الوحيدة التي كان الجنرال “يعترف” فيها للأبونا. يروي هذا الأخير في يوميّة 3 شباط 1967: “إذا كان هناك قضايا مهمّة للغاية كان يقول لي: “أنا أعترف الآن” أي يجب ألا تباح أمام أحد ويتابع “هودي إلك”، أي إليّ فقط، أي على قطع رأسي يجب أن أحفظ أسراره” (سقيّم، م. س، ص26).
ومعلوم أن سرّ الاعتراف في المسيحية يجب أن يُقرَن بالتكتّم التامّ من جانب الكاهن المعرِّف على ما اعتُرف وأقِرّ له به. جاء في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (بند1467) ما يلي: “نظراً إلى دقّةِ هذه الخدمة وعظَمتها، وإلى الاحترام الواجب للأشخاص، تعلن الكنيسة أن كلّ كاهن يسمع اعترافات مُلزَم بحفظ السرّ المطلق في شأن الخطايا التي يعترف بها التائبون، وذلك تحت طائلة العقوبات الشديدة. ولا يجوزُ له أيضاً أن يستخدم ما يستقيه من معلومات تتعلّق بحياة التائبين. وهذا السرّ الذي لا يحتمل أيّ استثناء يسمّى “الختم السرّي”، لأنّ ما يكشفه التائب للكاهن يبقى “مختوماً” بالسرّ”
فالكاهن “المعرِّف” ملزَمٌ إذاً بحفظ السرّ والذي تسمّيه الكنيسة “الختم السرّي” تأكيداً على وجوب أن يبقى مكتوماً أيّاً كانت الظروف، وبدون أيّ استثناء.
فهذه الصلة الحميمة والعلاقة العائلية، وهذا الودّ المتبادل، والإلفة والكيمياء بين الراهب والأمير، كان لا بدّ لنا من تسليط اضواء كاشفة عليها لتبيان مدى أهمّية هذه الوثيقة الأوّلية التي خلّفها الأب سقيّم وما حوت من اعترافات شهاب له!
والكتاب منجم معلومات ومعطيات عن الرئيس شهاب وتجربته الفريدة في الحكم والإصلاح، ولن يكون بمقدورنا في دراسة محدودة كهذه ان نتوقّف عندها كلّها متفكّرين محلّلين، لذا نكتفي بالجانب الشخصي أي ملامح شخصية الأمير كما يظهّرها هذا المصدر، أو بالحري بورتريه Portrait الرئيس شهاب بريشة الأب سقيّم. وسبق أن تناولنا ملامح شخصية الأمير في بحوث آنفة، وشهادة أبونا يعقوب تأتي في السياق عينه لما ذُكر لشهاب من مزايا وفضائل، بيد أنّها تبقى متميّزة بما تنقل من روايات وأحداث وأقوالٍ للجنرال لا نجدها في أيّ مصدر آخر.
فعن تواضع الأمير وبساطته وتقواه يروي أبونا يعقوب في يوميّات عيد الميلاد 25 ك1- 1967: “دخل فخامة الجنرال فؤاد شهاب الكنيسة في مدرستنا في جونيه في تمام الساعة التاسعة صباحاً. وكالعادة وضعتُ له Fautuil أمام المذبح فلم يقبل، بل جلس على البنك ما قبل الأخير في الكنيسة، اشترك في الذبيحة الإلهية، وبعد الانتهاء دخل مكتبي ودامت زيارته حوالي الساعة والنصف. وتحدّثنا عن قضايا كثيرة، أسأله، ويسأله المدراء ويجاوب بكلّ بساطة عن التربية، عن السياسة، عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية… وكان يُسهِب في الأجوبة. شعورنا نحوه، وهذه حقيقة: لطيف، دمث الأخلاق، سريع النكتة، ودقيق الملاحظة، لا يفوته شيء، ثم يستفهم عن كلّ شاردة وواردة”. (ص31).
وواضح من هذه الرواية وما تخلّلها من وصف أن الأمير لم يكن، كما سائر من يتعاطون الشأن العامّ، محبّاً للمظاهر و”الأبّهيّات” والصفوف الأولى في المجالس. وهو كان يعي بلا ريب ويعمل بموجب تعليم يسوع القائل: {إيّاكم ومعلّمي الشريعة، يرغبون في المشي بالثياب الطويلة، ويحبّون التحيّات في الساحات، ومكان الصدارة في المجامع، وأوائل المتّكآت في الولائم} (لوقا20/46). وهذا يعني أيضاً أن الإيغو Ego أو الأنا عند الجنرال لم يكن منتفخاً كما هي حال أكثر الزعماء والقادة، وهم غالباً ما يصلون في هذا المجال إلى حدّ مرض جنون العظمة Paranoïa. لا بل أكثر من ذلك فهو يُؤثر العزلة والتواري عن الأنظار. يروي المؤلّف في يوميّات 9 نيسان 1968: “وفيما نتحدّث أتوه [الجنرال] بورقة كُتب عليها: الرئيس عسيران الموالي، والرئيس كامل الأسعد يطلبان مقابلته، فاعتذر، ثم قال: أقول لك وحدك بأنّي أعيش منعزلاً هذه الفترة، وهكذا أرتاح”. (ص39).
وهذه الرغبة في العزلة والانزواء تتكرّر الإشارة إليها في يوميّات الأب سقيّم، ففي 10 نيسان 1970 نقرأ: “اتّصلتُ هاتفيّاً بفخامة الجنرال شهاب ودامت المكالمة 50 دقيقة، وشكرتُه على استقباله للنقيب سعاده، لأن الطلب كان بواسطتي. إذ إنه ما كان يرغب في استقبال أي إنسان، لا لأنّه لا يحترم كلّ إنسان، بل لأنه كان يرغب دائماً في الهدوء والسكينة، ولأن بعض الأحاديث، وكثرة الثرثرة تضيّع الوقت، ولا فائدة منها”. (ص105).
وهذا الطبع الإنزوائي عند الجنرال يجعلنا نفهم ونتفهّم رفضه الباتّ للتجديد له سنة 1964، وعزوفه عن الترشّح 1970. كانت الرئاسة والعمل في الشأن العام وكأنّه حملٌ ثقيل وصليبٌ كُتب عليه أن يحمله على منكبَيه لفترة، وقد آن وقت التحرّر منه!!
وهذه البساطة والتواضع والزهد وحبّ الانزواء ميّزات رافقت الأمير حياةً ومماتاً، فإثر رحيل شهاب كتب الأب سقيّم في 26 نيسان 1973: “وعن وصيّته، طلبه عند مماته أن يُلبَس بذّته العسكرية، ويُدفن فيها، وتقتصر النعوة على كاهن الرعيّة، وعلى المقرّبين جدّاً فقط، لا أريد طبل وزمر” (ص164).
وعن الجنازة كتب أبونا يعقوب في اليوم التالي (27/ 4/ 1973): “توجّهتُ باكراً إلى جونيه لحضور مأتم الجنرال شهاب (…) وكنتُ أعلم أن الراحل ما كان ليقبل وداعه إلا بالصمت والصلاة والسكينة على ما كان يقول لي. كان زاهداً في الدنيا، وفي كلّ أمجادها… وهمُّه الجيش، وعزّته، وكرامته، وعدم انقسامه… همّه أن يُلبسوه بذّة الجيش، ويضعوه في التابوت، ومأتم بسيط فقط”. (ص164).
وإلى تواضعه وبساطته وزهده ينقل الأب سقيّم عن الجنرال خاصّية أخرى قلّما تحدّث عنها الباحثون، ألا وهي الحياء. ففي يوميّة 7 /11 /1967 كتب: “ثم تطرّقتُ إلى شخصه الكريم كرئيس، وعن تصرّفاته (…) فقال لي: “أنا ذو طبع خجول Je suis timide. ولكن كنتُ أتصرّف ولأوّل مرّة بحذرٍ مع الناس، ويجب أن يكون الإنسان دائماً حذراً، لأن الناس كما تعلم، وأنا أعلم أكثر منك، كيف يتصرّفون بأكثريّتهم الكثيرة لصالحهم، وليس للصالح العام”. (ص28).
وخجل الشهابي فضيلة هو، بل إنّه من خصائص الإيمان. ففي الحديث الشريف، ممّا أخرج الشيخان عن الرسول قوله: “الحياء شعبة من الإيمان” (حديث متّفقٌ عليه، أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن الرسول (ص)، بخاري ح9، ومسلم ح35.)
وفي سياق تواضعه وبساطته وحيائه الفطري، تندرج فضيلة أخرى للأمير ألا وهي صمته وتحاشيه لآيات المديح والثناء، وذلك خلافاً لمعظم الحكّام من عرب وغيرهم الذين كانوا يبذلون العطايا والأموال الطائلة للشعراء وسائر المتكسّبين لمدحهم. يروي أبونا يعقوب في يوميّة 10 /1/1971: “وراح [شهاب] يذكّرني بأقوال وأقوال لبعض الزعماء التي لا تتجاوز خروجها من أفواههم… قائلاً: الذي يتكلّم كثيراً، عادةً لا يفعل شيئاً. أجبتُ لقد نعتوك بالصامت، وقد غاب عن ذهنهم: كم سهرت، وكم فكّرت، وكم تعبت، وكم كانت أعمالُك حسنة وكثيرة… فقاطعني: لا تتأخّر عليّ”. (ص138).
لنلحظ أوّلاً كيف قاطع الجنرال محدَّثه الراهب ومنعه من الاسترسال في المديح! وثانياً قوله أن العبرة بالأعمال لا بالأقوال، وكثير الكلام لا يعمل!
وممّا يشهد الأب سقيّم له بصدقٍ من فضائل الرئيس شهاب أنّه لم يكن يحمل حقداً على أحد حتى وإن كان عدوّاً له. كتب الراهب في يوميّة 6 أذار 1970: “أجابني [شهاب]:
Mon Père, toi tu le sais déjà bien, je ne garde rancune à personne” (ص100).
أي ما تعريبه: “أبتِ أنت تعرف ذلك جيّداً أنا لا أحمل حقداً على أحد”.
ويتابع سقيّم شاهداً على ما عرف وخبر طيلة صحبته لشهاب: “وأنا شخصيّاً أشهدُ على ذلك، لأنّي كثيراً ما طالبتُ بخدمات لأشخاص كانوا يناوئونه، إما سياسيّاً، وإمّا اجتماعيّاً، وإمّا شخصيّاً، وكان يعرف ذلك تمام المعرفة… يعرفهم شخصيّاً، وكان يعرف تصرّفاتهم المسيئة له ولعهده… وإذا كان ما أطلبه حقّ، كانت كلّ طلباتي هذه تلبّى، وبسرعة البرق، وبدون تردّد، والأمثلة كثيرة عندي”. (ص101).
هل كان الجنرال حقّاً لا يحمل ولا يبيّت أي حقدٍ لأيّ من السياسيين الذين خاصمهم طيلة عهده وبعد انقضاء هذا العهد وحتّى وفاته كمثل الرئيس كميل شمعون وغيره؟ تبقى المسألة هذه غير محسومة وتحتمل الشيء ونقيضه!!
وعن نزاهة الرئيس شهاب النموذجية والإسوة ينقل سقيّم في يوميّة 13 شباط 1969 الخبر التالي: “اتّصل بي مساءً فخامة الجنرال وأخبرني عن الجنرال بستاني، وعن صائب سلام والأربعة ملايين، ثم عن الشيك بعشرة ملايين دولار أميركي لدفع رواتب الموظّفين، وذلك من السفير الأميركي، عندما انتُخب رئيساً للجمهوريّة، وكان الشيك باسمه (أي باسم الجنرال شهاب) فقال له شهاب حرّره باسم الدولة…” (ص64).
الحادثة رويت على ما يبدو في سياق المقارنة بفضائح مالية أثيرت يومها. ولكن ما الذي قصده السفير الأميركي يومها من تحرير الشيك باسم رئيس الجمهورية؟! هل أراد رشوة هذا الأخير؟! أسئلةٌ بديهية تخطر لكلّ من يقرأ هذا الخبر البالغ الدلالة. وقد طرحناها بدورنا على المحامي الدكتور علي برّو الخبير الدولي في مجال مكافحة الفساد، (في اتّصال هاتفي معه أجريناه صباح الإثنين 8 نيسان 2024.) فأفادنا بعد تلاوة هذا الخبر عليه بما يلي: “شيك باسم رئيس الجمهورية شخصيّاً هو مخالفة لأصول جوهرية لها علاقة بالهبات وقبولها، وهي قرارات يُفترض أن تصدر عن مجلس الوزراء. وبالتالي فإن أي هبة يجب أن تعطى وفق الأصول، وباسم الدولة اللبنانية. وإن إصدارها باسم رئيس الجمهورية مباشرة يثير شكوكاً حول الثمن المقابل لهذا المبلغ، والذي يمكن أن يشكّل جرم فساد وفقاً للتعريفات السائدة حالياً. وممّا يزيد الشكوك في هذا الصدد أن خطوة السفير الأميركي هذه لم يعلن عنها يومها!!”.
حقّاً كان الرئيس شهاب رائداً وسبّاقاً في مجال مكافحة الفساد. ونزاهته النموذجية هذه كانت أحد أبرز أسباب صدامه مع الطبقة السياسية في لبنان، أو جماعة أكلة الجبنة Les fromagistes. ينقل عنه راهبنا في يوميّة 19 شباط 1970 قوله له: “ليكن بعلمك يا أبتِ: “الجبنة” للجميع أوّلاً، ثمّ للبنان ثانياً، أفهمت؟ قلتُ نعم يا فخامة الجنرال، وهذا شيء غير مقبول، فأجاب غير مقبول، وبل مرفوض ومسيء للمعتّر لبنان”. (ص95).
فإذا كانت هذه حال لبنان وسياسيّيه في أوائل السبعينات، فما القول عن هذه الحال وقد تفاقم الفساد حتى غدا مرضاً سرَطانيّاً ينهش في جسد الوطن ويكاد يقضي عليه؟! إنّه الإنسان الضعيف، والذي يسقط أمام مغريات الدنيا، وفي ذلك ينقل أبونا يعقوب عن الجنرال (يوميّة 9 ك2/1970): “ثمّ تنهّد طويلاً، وسمعتُ تنهّده، وقال: يا أبونا سقيّم هذه هي حال الدنيا: الإنسان ضعيف، أجل ضعيف، أجل ضعيف دائماً تجاه المادّة… وراح يشرح عن أشياء، ويسرد لي أشياء مرّت بحياته، أُحجم عن ذكرها أمانةً منّي لحفظ أسراره”. (ص91).
لنلحظ كيف يكرّر الجنرال مرّاتٍ ثلاث تأكيده على ضعف الإنسان أمام المال! وهو السبب الوجيه الذي يجعل من الوطن الصغير “معتّر”.
وممّا دوّنه قلم الأب سقيّم، وأبقته لنا يوميّاته من مزايا الأمير وفضائله حرصه الدائم واللافت على المؤسّسات، روى أبونا يعقوب في 10 كانون الثاني 1971: “اتّصلَ بي فخامة الجنرال شهاب مرّتين، وكنتُ غائباً عن المدرسة، ولمّا عدتُ، اتّصلتُ به، فكان مراده أن أنبّه المسؤول في المدرسة عن أن الشبابيك يلاطمها الهواء العاصف لئلا تتكسّر”. (ص138).
وهل من المألوف أن نجد رئيساً للجمهورية وزعيماً مثله، يتّصل مرّتين بمدير مدرسة لينبّهه على وجوب إقفال الشبابيك صيانة لها؟! ومتى كان زعماؤنا يهتمّون بتفاصيل بسيطة كهذه؟! والأب سقيّم يعقّب على تنبيه الجنرال هذا فيقول: “فعلاً هو أمير، وقائد، ورئيس يحرص على المدرسة كحرصنا عليها… فشكرته على لفتته هذه، فردّ الجواب: هي مدرستنا أيضاً، علينا المحافظة عليها، وعلى من فيها” (م. ن، ص138).
ومن أخلاق اللبناني عادة أنّه لا يحرص على مؤسّسةٍ إلا إذا كانت ملكيّتها تعود حصراً إليه. أمّا المؤسّسات العامّة، فغالباً ما تُترك فريسة للنهب، أو أقلّه للإهمال. وإنّه لدرسٌ معبّرٌ بوجوب العناية بالمؤسّسات العامّة كما لو كانت لنا، لأنّها فعلاً لنا، وإن لم نحطها بهذه العناية فسنفقدها عاجلاً أم آجلاً، ونُحرَم ممّا يفترض بها أن تقدّم لنا من خدمات!
ولا بدّ لنا من أن نشير إلى أن ما نشره هذا الراهب في كتابه ينحصر في يوميّات السنوات التالية من 1967 وحتى 1973، وتحديداً 27 نيسان 1973 أي يوم دفن الرئيس شهاب. أمّا الحقبة الرئاسية الشهابية فيقول عنها أبونا يعقوب: “هناك مدوّنات أثناء كان الرئيس شهاب رئيساً للجمهورية، وكانت علاقتي به كمدوّناتي قليلة جدّاً، ويا للأسف فُقدت!”. (ص12).
كما أنّه يذكر (ص146): “كان لي بعض مكالمات هاتفيّة واجتماع أو ثلاثة مع الجنرال شهاب، بين 24 تشرين الثاني، وآخر كانون الأول 1971، وللأسف احترقت بكاملها”. وهو يورد (ص136) صورة لبعض ما احترق من أوراق مذيّلاً بالتعليق التالي: “نموذج آخر من أوراق الأب يعقوب السقيّم، التي احترقت إثر تعرّض دير سيّدة طاميش للقصف إبّان أحداث لبنان (1975-1990).
وبقي الأب سقيّم يهاتف الجنرال ويزوره حتى اليوم الأخير من حياته. ففي يوم رحيل الأمير، أي في 25 نيسان 1973 كان من أواخر محاوريه وزائريه، فكتب في يوميّاته: “تركتُ صباحاً الدير، دير سيّدة ميفوق (…) وقبل وصولي إلى بيروت، مررتُ بالجنرال شهاب دون موعد، وكان لي فترة شهر تقريباً قبل المرور به أو الاتّصال هاتفيّاً، ولمّا وصلتُ عاتبني قائلاً لماذا لم أسمع صوتك منذ زمن؟ ولم تمرّ بي أيضاً؟ اعتذرت بخصوص تعطيل الهاتف مراراً في الجبال، أما مروري، فلم أرغب بدون موعد. وكان الجواب: ألم تعلم حتى الآن أنك تأتي بدون موعد!” (ص161).
ولم يكن وضع الأمير يشير إلى أيّ سوء أو رحيل وشيك، ورغم ذلك، تبقى “القلوب شواهد” فقد حدَسَ الصديقان بما سيحصل، وبأنّه اللقاء الأخير، يتابع أبونا يعقوب: “ثمّ تودّعنا، ويا للعجب، ولأوّل مرّة بالعناق منذ أن تعارفنا وتصادقنا دون أيّة غاية، أو مصلحة خاصّة؛ ورافقني كعادته إلى المدخل الخارجي، وشعرتُ أنّه تأثّر ودمعت عيناه، وأنا بدوري تأثّرت، وخالجني شعور حزنٍ عميق، ولم أدرِ لماذا؟” (سقيّم، م. س، ص161).
إحساس مرهف خالج كلّاً من الصديقَين أنه اللقاء الأخير، وكان في محلّه. ويختم الأب السقيّم بنصيحة كتبها إثر رحيل جنراله الحبيب ووجّهها إلى من يتعاطى الشأن العام اليوم وغداً في لبنان: “وأنتم أيّها المسؤولون الكبار والمؤتمنون على الدولة اللبنانية، إذا ما نقصتم كرامة، أو همّة، أو عزّة نفس، أو زهد… فاذهبوا إلى تربة المرحوم الأمير اللواء الرئيس فؤاد شهاب وانفضوا التربة عنه، فستجدون هناك العزّة والعنفوان… وسيروا في خطاه لترفعوا لبنان وتحفظوه من كلّ أذى”. (24/ 4/ 1973، ص166).
كلمةٌ ممّا قلّ ودلّ على أثر هذا الشهاب الذي لمع في سماء لبنان، وكان ولمّا يزل منارة للمخلصين والسالكين على دروب الوطن.
«»«»«»«»«»([1])