“طريق الحكمة طريق السلام”
مراجعة كتاب “طريق الحكمة طريق السلام: كيف يفكّر الدلاي لاما”،
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن/أيلول 2024 بقلم لويس صليبا
كتاب يضمّ مجموعة مقابلات مع الدلاي لاما أجراها الكاتب فيليزيتاس فون شونبورن، ترجمة لطيفة الدليمي، صدر عن دار المدى في بيروت، في 143ص.
الدلاي لاما شخصية فكرية ودينية مرموقة، بل هو من أشهر الشخصيات الروحية الراهنة، ومن أبرز دعاة اللاعنف والعاملين في سبيله في أيامنا. سلك في هذا المجال طريق المهاتما غاندي، وأصرّ على مسلكه هذا لتحرير بلاده التيبت من الاحتلال! وعندما سئل عن الأمور المميّزة التي تجعله مختلفاً عن غاندي ابتسم واكتفى بالقول: “كلانا يرتدي نظّارات مختلفة”. (ص24). ما يعني أنّه لا يميّز بالعمق بين المسلكين والدعوتَين. ويمضي الدلاي لاما مؤكّداً على تتلمذه للزعيم الهندي، فيقول (ص133): “أشعر على نحوٍ خاصّ بمديونيّتي العظمى لتعاليم المهاتما غاندي”.
فالعنف ذو طبيعة ارتدادية، ويُدخل الإنسان الفرد والشعوب عامّة في حلقة مفرغة ولا تنتهي من الفعل وردّات الفعل، وفي ذلك يقول الدلاي لاما متابعاً (ص134): “بعض الأشياء يمكن تحقيقها على المدى القصير من خلال العنف، لكن لو نظرنا إلى الأمور من المنظور الزمني البعيد فسنرى أن كلّ شيء سيصبح أكثر تعقيداً بفعل العنف، وهذا هو السبب الذي يجعلني ملتزماً بكلّ طاقتي بالمقاومة غير العنفية”.
والعنف، ومصدره الأساسي الغضب علامة ضعف هو، وليس بدليل قوّة. ومتى سيطر على الإنسان تحكّم به وبسلوكه قولاً وفعلاً، وفي ذلك يقول الدلاي لاما شارحاً ومبرّراً خياره في النضال اللاعنفي (ص125): “لو سمحتُ لنفسي بأن يغمرها الغضب والعنف الجامح تجاه الصينيين، فلن يكون هذا الأمر علامة قوّةٍ لديّ، وسيؤدّي بالنتيجة إلى خسارة سكينتي الداخلية الثمينة”.
فالسلام الداخلي هو كنز الكنوز وينبغي على المرء دوماً أن لا يفرّط به لأي سببٍ كان، هكذا علّم معظم الحكماء عبر العصور، والدلاي لاما واحدٌ من هؤلاء، وهو يعرف هذه القاعدة الذهبية ويدرك تماماً أهمّية العمل بها. فمهما بلغت خطورة الأعداء الخارجيين شأواً، يبقى الأعداء الداخليّون هم الأشدّ شراسة وخطورة، وتبقى المحافظة على السلام الداخلي السلاح الأمضى في هذا المجال. يؤكّد قداسته (ص126): “أعداؤنا الحقيقيّون في هذه الحياة هم أفكارنا الشخصية السيّئة. إذ قد ننجح في الابتعاد عن الأعداء الخارجيين، لكن الكراهية والغضب تبقى متجذّرة في دواخلنا حتى لو أقفلنا الأبواب في وجهها”. ويمضي الدلاي لاما موضحاً (126-127): “الوقائع العدوانية الخارجية يمكن أن تمرّ وتغرق في بحر النسيان سريعاً، لكن الأعداء الماكثين عميقاً في الداخل مثل الغضب والكراهية سيبقون حيث هم. وهو أمرٌ ينطبق على كلّ كائن بشري: فأنا ألدّ أعداء ذاتي عندما أحملُ نوازع الكراهية والتطلّع لحيازة أشياء عديدة. وإذا نظرنا إلى كامل الصورة سنوقن أن عدوّنا الحقيقي الذي لا يهدأ في إثارة المشاكل بوجهنا إنّما يتعايش معنا طول الوقت”.
والجشع الذي يشير إليه قداسته يبقى أبرز نوازع العدوان والعنف تجاه الآخرين. ولا يتيسّر للمرء أن ينزع فتيل العنف المشتعل بداخله وفي محيطه إلا بإطفاء جذوة الطمع والشره الملتهبة في نفسه وفي المجتمع. يؤكّد قداسته (ص124): “الجشع، تلك الرغبة الدفينة في تملّك شيء ما هو أكثر الأمور التي تدفعنا لأن نكون عدوانيين ذوي خصومة لا تنتهي مع سوانا من الكائنات البشرية. والحقّ أن الجشع جذرٌ لكلّ أفعالنا العدوانية الشبيهة بأفعال الحروب بين الأمم المتصارعة”.
ويبقى الترياق الأساسي والذي من شأنه أن يبطل مفعول سموم العنف وويلات الحروب بين الدول والشعوب هو الحوار، والدلاي لاما يرى فيه أولويّة أولى تفوق بأهمّيتها حتى الدعوة إلى عقيدته وقناعاته ومبادئه في اللاعنف، يقول (ص71): “يبدو لي، وبخاصّة في يومنا هذا، أن الأمر الأكثر أهمّية من سواه في المقام الأوّل، ليس نشر الدعوة إلى معتقداتنا البوذية، بل أرى أن الحوار بين الأديان هو الأمر الأكثر أهمّية في واقع الأمر”.
الحوار بين الأديان أهمّ من الدعوة إلى ديانتي والتبشير بها، معادلة بالغة الأهمّية والتأثير، يرسي قواعدها الدلاي لاما، ولو شاركه في قناعته الراسخة هذه وفي العمل في سبيلها عددٌ من الزعماء الروحيين لشهدت البشرية حقبة جديدة من تاريخها سمتها بداية تراجع العنف الديني. ويُظهر قداسته بصيرة ثاقبة في مقاربته لأسباب هذا العنف وجذوره، ويرى في تحوّل الأديان إلى إيديولجيّات المولّد الرئيسي له، يقول (ص93): “تزايد الأصوليّات في كلّ بقاع العالم يعود إلى أن الأديان صارت إيديولوجيّات، بات فيها الفرد يقاتل خصومه، ويسعى لترسيخ شعوره المتضخّم بهويّته الذاتية. وإذا ما أردنا حقّاً تفكيك جذور هذه الظاهرة القاتلة في الأصولية المتفاقمة، فيجب أن نكافح من أجل تبادل خبراتنا الدينية المنفتحة والطيّبة”.
عودة إذاً إلى الحوار، وبالأخصّ حوار الأديان فهو المفتاح لحلّ الأزمات الدينية المستشرية. ويشهد الدلاي لاما أن الانفتاح على الآخر المختلف ومعرفته كما هو وكما يعرف هو ذاته ويحدّدها من شأنه أن يمحو الأنوية، أو أقلّه يحدّ منها ومن وهم مركزية الذات Egocentrisme، فيقول (ص74): “عندما كانت التيبت لا تزال معزولة عن العالم كنّا نرى أن ديننا هو أفضل دينٍ في العالم، لكنّني أرى اليوم، وبحسب ما تبدو به الحقائق على الأرض، أن التحاور مع الأديان الأخرى إنما هو عنصر إثراء متبادل بينها جميعاً”.
ويعيد قداسته التذكير بالقاعدة التي غدا ينظر بموجبها إلى الأديان (ص70): “سبق لي أن قارنتُ الأديان المختلفة بطائفة مختلفة من الأطعمة التي تناسب الحاجات والميول المختلفة لدى البشر في شتّى بقاع العالم”.
ويذهب الدلاي لاما إلى مزيد من التبسيط، إذ طالما قال وكرّر ما معناه: إذا دعوتني إلى الغداء في مطعم، فهل يصحّ أن تفرض عليّ الوجبة أو الطبق الذي يلذّ لك أنت؟! أم يحسن بك أن تدَعَني أختارُ ما يحلو لي، وتختار أنت بدورك من القائمة ما يطيب لك؟ وأي ضيرٍ في أن تتنوّع خياراتنا وتختلف تبعاً لاختلاف أذواقنا؟! وهكذا لندع خياراتنا الروحية والدينية تختلف باختلاف توجّهاتنا وتربيتنا وغير ذلك من العوامل الشخصية والمجتمعية، من دون أن تؤثّر على حُسن العلاقة بيننا!
وفي نظرته الحوارية إلى المسيحية يُدرج قداسته المسيح بين كبار معلّمي البوذية وحكمائها، فيؤكّد (ص77): “بالنسبة لنا نحن البوذيين، وعلى المستوى التصوّفي، نرى بخاصّة أن المعلّمين الدينيين الذين أرسلوا بركاتهم العظمى لأعداد لا تحصى من البشر خلال قرون عديدة هم البوديستفاس، أو الكائنات الفائقة التي نالت استنارة مطلقة، ويسوع واحد من هؤلاء”
ويروي الدلاي لاما تجربته في التفاعل والحوار وتظهير المشتركات مع أحد كبار وجوه التصوّف المسيحي المعاصر (ص79): “التقيتُ الراهب الكاثوليكي توماس ميرتون عام 1968 في دارامسالا قبل فترة وجيزة من وفاته. وبالنسبة لي أرى أنّه راهب ومعلّم روحاني بوذي Geshe في ثياب كاثوليكية. واكتشفتُ خلال حواراتي المديدة معه أن أشياء كثيرة مشتركة تجمع بين البوذية والمسيحية، وحصل في أوقات لاحقة أن التقيتُ العديد من المسيحيين الذين كانوا يُشعّون بالخصائص النبيلة ذاتها”.
ويقدّم قداسته نصيحة ذهبية لكلّ من يرغب في أن يغيّر دينه (ص109-110): “إذا ما أراد أحدٌ ما التخلّي عن دينه القديم، فينبغي أن لا يحدث هذا الأمر بسبب الحماسة الفوّارة للوافد الجديد، وكذلك ينبغي أن لا يتسبّب هذا الأمر بقطيعة مأزومة مع ثقافة الشخص الأصلية. وعلى الشخص المعني أن يواصل التعبير عن احترامه العميق للجماعة الدينية التي كان أحد أفرادها من قبل، وأن لا يحاول عزل نفسه عنها بطريقة واعية مقصودة”.
وهي ملحوظة بارزة وما نشهده بالأحرى هو نقيضها تماماً. فغالباً ما يهاجم المتحوّلون دينياً أديانهم السابقة ويعتبرونها أصل كلّ تعاستهم، ما يجعلهم في حال من الاغتراب الكامل بل والصراع مع الجماعات والمجتمعات التي نشأوا فيها.
ولمعتنقي البوذية الجدد نصيحة في السياق عينه (ص110): “التحوّل إلى البوذية أمرٌ يجب دراسته والتفكير به بدقّة وشمولية. والتغيير التلقائي للدين برهن دائماً أنّه أمرٌ عسير، ويمكن أن يقود إلى اضطرابات عاطفية خطيرة: غيّر وعيك، لكن دع هيئتك الخارجية كما هي”.
ما يعني أن الدلاي لاما ينتقد ضمناً التغيير الدراماتيكي والمظهري للدين.
والخلاصة فهذا الكتاب الصغير تحفة نفيسة عنوانها العام الدعوة إلى اللاعنف والحوار والوئام بين الشعوب على اختلاف ثقافاتها ومعتقداتها.