د. لويس صليبا/ الإنجيل بلغة القرآن: الترجمات العربية القديمة للبيبليا وإشكالية علاقتها بالذكر الحكيم، بحث مقدّم في مؤتمر العلّامة الفغالي، البطريركية المارونية، بكركي/لبنان، 22حزيران2024

د. لويس صليبا/ الإنجيل بلغة القرآن: الترجمات العربية القديمة للبيبليا وإشكالية علاقتها بالذكر الحكيم، بحث مقدّم في مؤتمر العلّامة الفغالي، البطريركية المارونية، بكركي/لبنان، 22حزيران2024. (نسخة بدون هوامش)

الترجمات العربية القديمة للإنجيل وللبيبليا عموماً موضوع أثار اهتمام العلّامة المونسنيور الفغالي ردحاً طويلاً من الزمن. فقد عرِف، بنظره الثاقب وبما له من مراسٍ وباعٍ طويل في الدراسات البيبلية، أهمّيته وحيويّته لا سيما في هذا المشرقِ المسيحي. وهو أوّلُ من شجّعني على البحث فيه. وقد عمِلنا سويّاً لحقَبة في هذا المجال. فأمّنتُ له نُسخة من الترجمة القديمة لدياطسّارون ططيانس والتي عرّبها الفيلسوف واللاهوتي عبدالله بن الطيّب. فوضع لها دراسة موسّعة وتولّيتُ طباعة هذا الكتاب ونشره في دار ومكتبة بيبليون/جبيل، فصدر بعنوان: الإنجيل بحسب العبرانيين: دياطسّارون ططيانس وعلاقتُه بالقرآن وبإنجيل برنابا، دراسة وتقديم العلّامة المونسنيور بولس الفغالي.

ولقي هذا الكتاب رواجاً واهتماماً ملحوظاً من جانب القرّاء، فلم يطُل الوقت حتى نفدت طبعته الأولى. وقد سُرّ العلّامة الفغالي بهذا الإقبال، فتشجّع على متابعة العمل. فأمّنتُ له نُسخة من الترجمة العربية القديمة للتوراة السامرية للكاهن السامري أبو الحسن إسحق الصوري 1100م، فقام بدراسةِ هذه الترجمة، ووضع مدخلاً ضافياً لها. وقمتُ بدوري بطباعة ونشر هذا الكتاب الثاني فصدر عن دار ومكتبة بيبليون بعنوان: التوراة السامرية: النصّ الكامل مع دراسة مقارِنة بين البيبليا اليهودية والسامرية والسبعينية، تقديم ودراسة المونسنيور بولس الفغالي. وعندما خرج هذا الكتاب من المطبعة سنة 2019 كان العلّامة الفغالي قد وقع فريسة المرض الذي أودى في النهاية بحياته. ولمّا أتيتُه بالنسخة الأولى منه، أخذها بيديه، وطفقَ يحدِّقُ فيها، وصاح مندهشاً: يه هيدا إسمي. كان حقّاً كطفل يفرحُ بهديّة قيّمة، ونظرَ إليّ فرِحاً مبتسماً شاكراً. ولا تزالُ نظرتُه المُحبّة الحنونة تلك محفورةً في القلب.

وكان بوِدّ المونسنيور الفغالي أن يمضي قُدُماً في دراسة الترجمات العربية القديمة للبيبليا، لا سيّما وأنّه أدرك تماماً مدى أهمّية هذا الموضوع وحيويّته، بل خطورته. لكن المرض أقعده، وحال دون مواصلته البحث. فبقي اهتمامُه الأخير هذا بمثابةِ وصيّة لنا وغالية علينا. ومن هنا طرْحُنا لهذا الموضوع في هذا المؤتمر الأوّل عن العلّامة الفغالي.

ولا بدّ لي بادئَ ذي بدء من أن أشيرَ إلى أن موضوعَ الترجماتِ العربية للأناجيل وسائرِ أسفارِ البيبليا، والمخطوطات القديمة لهذه الترجمات، مسألّةٌ مركزية إن في علومِ الأديانِ وتاريخها أم في الحوار المسيحي الإسلاميـ أو تاريخ الديانات الإبراهيمية الثلاث وجدلية العلاقات المتشابكة بينها، أو غير ذلك من القضايا الدينية والفلسفية التي تهمُّ إنسانَ اليوم. والبحثُ في هذا المجال، وإن كان قد بوشر في أواخر القرن التاسع عشر، فهو لمّا يزل في خطواتِه الأولى.

والإنجيل بلغة القرآن وأبجديّتها مسألةٌ كانت مدارَ بحوثٍ ودراسات عديدة، وطالما أثارت، ولا تزال الكثير من النقاش، بل والجدل وحتى السجالات! فمتى ظهرت الترجماتُ العربية الأولى للبيبليا؟ ولا سيما للعهد الجديد منها؟ أكان ذلك قبل نشوء الإسلام أم بعده؟ سؤالٌ إشكاليّ كبير يبقى الجوابُ عنه غير محسومٍ ولا حاسم إلى يومنا هذا. فكُثرٌ هم أولئك الذين أكّدوا أن الترجمات العربية للإنجيل سبقت الإسلام والقرآن، وكثرٌ هم الذين أنكروا ذلك ونقضوا هذه الفرضيّة. ولا يزالُ الباحثون، وإلى يومنا هذا، منقسمين إلى فريقَين: واحدٌ يؤكّد أو أقلّه يرجّح ترجيحاً كبيراً، وآخر ينكرُ وينفي.

وفي تقريرٍ وضعه عددٌ من الباحثين وعلماءِ الكتابِ المقدّس من فريق بيبليا أرابيكاBiblia Arabica  في أيلول 2017 وردت المعطيات الإحصائية المهمّة التالية معرّبة: “يبلغُ عددُ المخطوطات التي تحتوي على نُسخٍ عربية من البيبليا نحو عشرة آلاف تقريباً، والعددُ التقريبي هذا يعودُ إلى أنّه لم يُجرَ، حتى اليوم، إحصاءٌ دقيقٌ لها. وهذه المجموعةُ الكبيرة كثيرةُ التنوّع. وهي تشملُ العهدَ القديم إضافةً إلى أسفارِ العهدِ الجديد، والكتبِ القانونية الثانية. ومن بين هذه المخطوطات ما قاومَ عواملَ مرورِ الزمن، فوصلَ عددُ أوراقه السليمة إلى 500 ورقة. والقسمُ الأكبر من هذه المخطوطات محفوظٌ اليوم في مجموعات أوروبية، وتوجد بعض المجموعاتِ الكتابية في الشرق الأدنى، وأبرزُها مكتبة سانت كاترين في جبل سيناء، ولم يخضع سوى عددٍ قليل من هذه المخطوطات لدراسة معمّقة”.

وسنعرض في الجزء الأوّل من بحثنا هذا ونناقش فرضيّات الباحثين من عرب ومستشرقين بشأن الترجمات الأولى للبيبليا والحقبة التي ظهرت فيها: قبل الإسلام أم بعده، ومتى تحديداً. وسنقسم هذا الجزء إلى قسمين: نعرض في الأوّل منه البحوث العربية، ونناقشُ طروحاتِها، وفي الثاني ما كُتب في اللغات الأجنبية من فرنسية وإنكليزية وألمانية ولاتينية وإيطالية مركّزين على التفاعل والنقاش الحامي بين الباحثين في هذا المجال، وتضارب آرائهم فيه، وخلفيّات كلّ ذلك من ثمّ.

أولاً: المؤلّفون العرب: عمدنا إلى إجراءِ إحصاءٍ شامل للباحثين العرب الذين تناولوا هذا الموضوع بحدٍّ أدنى من الأكاديمية والرصانة، فأحصينا أقلّه ستة عشر باحثاً عربياً بين مسلمٍ ومسيحي توزّعوا بحسب التسلسل التاريخي لظهور دراساتهم كما يلي:

1-الأب لويس شيخو اليسوعي، 1901. 2-جرجي زيدان، 1911. 3-عبد المسيح المقدسي، 1933. 4-الأب جورج فاخوري البولسي، 1935. 5-البطريرك السرياني إفرام برصوم، 1943. 6-محمّد عزّة دروزة، 1946. 7-جواد علي، 1960. 8-الأب سمير خليل اليسوعي، 1982. 9-المونسنيور ميشال الحايك، 1987. 10-حُسني يوسف الأطير، 1991. 11-طيّب تيزيني، 1994. 12-الأخت جوزفين نصر، 1998. 13-القسّ ثروت قادس، 1999. 14-الأب سهيل قاشا، 2007. 15-صموئيل معوّض، 2014. 16-الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدى، 2016.

وقد خصّينا كلّ مؤلّفٍ بمبحثٍ مستقلّ عرضنا فيه طروحاتِه في هذا المجال، وحلّلناها ونقدناها، ولا يُتيحُ لنا ضيقُ المجال إيرادَ كلّ ذلك، لذا سنكتفي برائدِ هؤلاء الباحثين ونُتبع ذلك بخلاصةٍ عامّة.

فلعلّ أوّل من طرحَ هذه المسألة في المشرقِ العربي طرحاً موثّقاً هو الأب لويس شيخو اليسوعي (1859-1927). إذ كتبَ في مجلّة المشرق التي كان يرأسُ تحريرها عدداً من المقالات. ففي شباط 1901 نشر شيخو دراسةً قال فيها بوجود ترجمة للبيبليا سابقة للإسلام، وأعطى عدداً من الأدلّة على ذلك أبرزها التالي:

1-عدّة قبائل من العرب أخذتْ تدين بالنصرانية منذ أواخر الجيل الرابع. (…) فلا يقبَلُ العقل أن هذه القبائل العديدة بقيت نحو 200 أو 300 سنة دون أن يطّلع أصحابُها على الأناجيل الطاهرة في اللغة العربية”.

2-هناك إشارات واضحة إلى مقاطع من الأناجيل والتوراة بالعربية في القصائد الجاهلية.

3-الاستشهادات البيبلية بالعربية الموجودة في المصادر الإسلامية.

وبعد هذه المقالة كتبَ شيخو عدداً آخر من المقالات في المشرق بَدءاً من سنة 1910، ثم عاد وجمعها في كتاب بعنوان “النصرانية وآدابُها بين عرب الجاهلية”، وأبرز ما يمكن ذكرُه من هذا الكتاب في موضوعنا هو التالي:

“أمكنَ العرب أن ينقلوا أخبارَ العهد العتيق عن اليهود أو عن المسيحيين (…) زد على ذلك أن الأسفار الإلهية والأناجيل المقدّسة كما يظهر من عدّة شواهد تؤيّد ذلك، كانت معرّبة، وإن كانت تلك الترجمة هي اليوم مفقودة”.

ويبقى كلام شيخو هذا مجرّدَ فرضيةٍ تفتقرُ إلى دليل!

“وقف العرب في الجاهلية على كثيرٍ من أخبارِ السيّد المسيح المدوّنة في أسفار العهد الجديد واطّلعوا أيضاً على بعض الأحداث التي جرت للنصارى في الفترة التي كانت بين السيد المسيح وظهور الإسلام”. ويضرب شيخو أمثلة عديدة من أشعار الجاهليين في هذا المجال.

كما يتفحّص أبونا لويس الأمثال العربية القديمة، فيرى: “كما أخذ العرب كثيراً من أمثالِهم عن أسفار العهد القديم، كذلك رووا عدّة أمثال عن أسفار العهد الجديد ولا سيما الإنجيل الطاهر”. ويضرب أمثلة عديدة على ذلك.

وتبقى آراءُ شيخو وطروحاتُه في هذا الموضوع متّسمة بطابعٍ من الحماسة التي تبلغُ أحياناً حدّ المغالاة. وليسَ هذا رأيَنا وحسب، بل هو خلاصةُ حكمِ من خلف شيخو في إدارة مجلّة المشرق. إنّه استاذُنا الباحث المدقّق الأب كميل حشيمه اليسوعي (1935-2015). وقد عمِل ردحاً طويلاً من الزمن على آثار شيخو، وحقّق العديد من كتبه ونشرَها. وله فيه أطروحة فرنسية، جاء فيها بما يتعلّقُ بموضوعنا: “إن الدراسة المفصّلة والمقارنة لمختلف المصادر الأدبية والأركيولوجية قادتنا إلى الاستنتاج أن المسيحية لم تكن منتشرة في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام كما تُصوّرها لنا حماسة الأب شيخو”. ويدرس حشيمه أسباب حماسة شيخو هذه وخلفيّاتها، فيربطُها بأوضاع مسيحيي المشرق عموماً في زمنه وما تعرّضوا له من اضطهادات ولا سيما من الدولة العثمانية، ويخلص حشيمه في هذا الصدد: “ولا يغربنّ عن بالنا بالأخصّ أن الضرر الأكبر الذي لحق بأطروحة شيخو كان على وجه التحديد من أطروحته نفسها. فمن خلال رغبته في إثبات الكثير، والدفاع أكثر ممّا يلزم، وجد مؤلّفُنا نفسه عالقاً في شِركِ شباكه الخاصّة”.

“الزايد خيّ الناقص” يقول المثل اللبناني، وشيخو من فَرْطِ حماسته أساء إلى جوهرِ أطروحته!

وقد عرضنا في دراستنا الموسّعة لآراء ستّة عشر كاتباً عربياً في الموضوع، أربعة منهم مسلمون: دروزة وجواد علي وحسني يوسف الأطير وطيّب تيزيني، والبقية مسيحيّون. ومن بين الباحثين المسيحيين ال12 ثلاثة فقط يمكن أن يُقال عنهم أنّهم أتوا بجديد في الموضوع: شيخو والمقدسي وسمير خليل، أما الآخرون فلم يفعلوا سوى تكرارِ ما سبقَ أن قيل.

والرائد كان الأب لويس شيخو اليسوعي، وجاءت نبرتُه حماسية وأطروحته عاطفيّة إلى حدّ ما. في حين كان الأب حشيمه نزيهاً وموضوعيّاً في ردّه عليه.

وبالمقابل فعبد المسيح المقدسي، ورغم ما جاء في مقالته من معطياتٍ جديرة بالبحث والنقاش، فقد تخطّى حماسة شيخو إلى شيء من “الزعبرة” والتمويه للحقائق كمثل ما زعم بشأن ترجمة عربية قديمة للإنجيل ذكرها يوسابيوس القيصري في تاريخه!!

والأب سمير خليل اليسوعي، وكان من أوائل الذين ذكروا بالعربية أبحاثَ المستشرقين في الموضوع. بيد أنّه لم يلتزمْ الحيادَ المرجوّ في عرضه، وأظهرَ انحيازاً واضحاً إلى رأي القائلين بوجودِ ترجماتٍ للإنجيل سابقة للإسلام، وذلك من خلال تسليط الأضواء الكاشفة على هؤلاء في مقابل التمويه بشأن مواقف ناقضي هذا الطرح كمثل ما ذكره عن جورج غراف وآرثر فوبس، إذ قوّلهما نقيض ما قالا!!

وما كشفناه من “زعبرة” عند المقدسي، رأينا شبهاً له عند الأخت جوزفين نصر في تقويل المستشرق فوبس نقيض ما قال. أما الأب جورج فاخوري فلم يخرُجْ من جُبّة لويس شيخو، ولم يزد شيئاً مهمّاً على ما قال عبدالمسيح المقدسي، وبقيَتْ طروحاتُه بمجملها تدورُ في فلكهما. وتبقى الطامة الكبرى في ما كتب الأب سهيل قاشا، فمقالتُه، وكما بينّا بالأدلّة والمقارنات النصّية، مجرّدَ سرقةٍ أدبية Plagia لمقالات الروّاد الثلاثة: شيخو والمقدسي وسمير.

ونصل إلى الباحثين المسلمين الأربعة: دروزة وجواد علي والأطير وتيزيني. وقد أظهروا عموماً نزاهةً وموضوعية في بحثهم جديرة بكلّ تنويه. ولم يكن لانتمائهم الديني أثرٌ في طرحهم وفي نتائجِ بحثهم. لذا يُشهد لهم بذلك.

ماذا الآن عن آراء المستشرقين والمتخصّصين في الدراسات الكتابية في الموضوع؟ لقد انقسموا إلى تيّارَين: الأوّل يقول بوجودِ ترجمةٍ للإنجيل وللبيبليا عموماً سابقة للإسلام، وفريقٌ آخر ينفي ذلك.

وقد أحصينا كلّ هؤلاء وقرأنا مقالاتِهم ودراساتِهم باللغات الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية وعرضنا أبرزَ طروحاتِها، وهم في مجملهم 16 ستة عشر باحثاً وعالم لغات قديمة ومستشرق ويتوزّعون بحسب التوالي التاريخي لظهور دراساتهم كما يلي: 1-أنطون باومشتارك، 1929. 2-برنهارد لوفين، 1938. 3-الأب جورج غراف، 1944. 4-ألفرد غيوم، 1950. 5-أرثر فوبس، 1954. 6-حاييم رابين، 1960. 7-عرفان شهيد، 1971. 8-يوشع بلاو، 1973. 9-الأب سدني غريفيث، 1982. 10-رئيف جورج خوري، 1987. 11-سمير عربش، 1994. 12-القسّ حكمت قشّوع، 2012. 13-سارة شولتز، 2016. 14-ناتان جيبسون، 2017. 15-ميرا بولياك، 2019. 16-روبرت تورنبول، 2020.

نُلاحظ أن بعضَ هؤلاء أمثال رئيف جورج خوري وحكمت قشّوع وعرفان شهيد ليسوا غربيين بل هم بالحري لبنانيّون وعرب، بيد أنّهم كتبوا بلغاتٍ غربيّة: الإنكليزية والفرنسية والألمانية ولم تُنقَلْ بحوثهم بعدُ إلى لغة الضاد، لذا تركَّز تأثيرُهم بالحري على الأوساط الغربية، ومن الأجدى بالتالي أن يُذكروا في هذا السياق.

ولا يتيحُ لنا ضيقُ الوقت أن نعرُضَ لطروحاتِ كلّ هؤلاء العلماء، لذا سنكتفي بنماذج من التيّارين: المؤيّد لظهور ترجمات عربية سابقة للإسلام والداحض لذلك:

-المستشرق الألماني أنطون باومشتارك (1872-1948) Anton Baumstark

نشر عدداً من المقالات بين عامي 1929 و 1938 يؤكّد فيها وجود ترجمة للإنجيل سابقة للإسلام. وننقل في ما يلي عن الألمانية أبرز ما ورد في مقالاته من طروحات. يقول: “النشاط التبشيري في المسيحية المشرقية المبكرة تَمَّ مع ترجمة فوريّة أقلّه للأناجيل وسفر المزامير، وكذلك ليتورجيا الأقسام الأكثر أهمّية للبيبليا في منطقة التبشير الجديدة”.

وكلام باومشتارك هذا يبقى في إطار الفرضيّات، ليس إلا!

وتوقّف باومشتارك عند ما ذَكرَ ابن اسحاق في السيرة النبوية من آية من إنجيل يوحنا، فلاحظَ، في هذا الصدد، أن اقتباسات ابن اسحاق في القرن 8م مصدرُها نسخة سريانية غريبة جدّاً تَمَّ الحفاظ عليها فقط في كتاب قراءات الأناجيل السرياني الفلسطيني. وإلى ذلك فهو يشير إلى أن المؤلّفين المسلمين الأوائل في القرن 9م أمثال ابن قتيّبة في كتاب المعارف وابن ربّن الطبري في الدين والدولة استشهدوا ببِضعةِ مقاطع من الأناجيل باللغة العربية من نُسخة سريانية، وهي ليست البسيطة ولا الهركلية بل هي سريانية قديمة ضائعة. وهو إلى ذلك يزعم أنّه لا بدّ أن تكون هناك نُسخة عربية من الأناجيل مترجمة من نُسخة سريانية قديمة وُضعت قبل الإسلام بزمن طويل، واستخدمها علماء المسلمين في القرنَين الثامن والتاسع م.

ومزاعم باومشتارك هذه، سيردّ مستشرقون آخرون عليها وسنكتفي هنا بعرض نظرة عالم الكتاب المقدّس المستشرق الأميركي والكاهن الكاثوليكي الأب سيدني غريفيث Sidney Griffith. وقد نشر مقالةً علمية سنة 1983 وعنوانها يدلّ على محتواها: “الإنجيل بالعربية تحقيق في ظهوره في القرن الأوّل العبّاسي”. وفي مقالته هذه ينقضُ غريفيث فرضيّات باومشتارك، ويدافعُ عن مقولة أن الترجمات الأولى للبيبليا ظهرت في القرن العبّاسي الأوّل في سوريا وفلسطين.

ويرى غريفيث أن اللغةَ السريانية كانت لغةَ الكتابِ المقدّس للمسيحيين العرب زمنَ رسولِ الإسلام، ومن الأدلّة على ذلك: “العدد الضخم من التعابير ذات الأصل السرياني المتغلغل في المفاهيم الكتابية والدينية المسيحية والموجودة في القرآن بَدءاً من عبارة “قرآن” نفسها، وامتداداً إلى الكثير من التعابير المميّزة الأخرى”.

ويسلّط غريفيث الضوء على عدم وجود وثائق يعود تاريخها على نحوٍ مؤكّد إلى ما قبل ق 9م في حين لدينا مخطوطات عديدة مؤرّخة لاحقاً مثل مخطوطة سيناء عربي 72، سنة 897م. وإلى ذلك يؤكّد غريفيث أيضاً أن المراجع المسيحية في مؤلّفات المسلمين القدماء مثل ابن إسحاق لا يمكن اعتبارُها إشاراتٍ صريحة إلى مراجع بيبليّة موجودة باللغة العربية. وبالمقابل فالمصادر الإسلامية اللاحقة مثل ابن قتيّبة وابن ربّن الطبري تدلّ بوضوح على أن الأناجيل كانت متوفّرة بالعربية في ق 9م. ويخلص غريفيث بشأن موضوعنا: “كلُّ ما يمكنُ أن يقولَه المرءُ بشأنِ احتمالِ وجودِ ترجمةٍ مسيحية من الإنجيل في حقبة ما قبل الإسلام هو أنّه ليس من دليلٍ على وجودها الفعلي قد ظهرَ حتى الآن”.

وفي كتابٍ قيّم له صدر 2013 أعاد الأب غريفيث عرضَ نظريّتِه وردّ على ما كُتب في الموضوع ولا سيما أطروحة القسّ حكمت قشّوع. وتحدّث في كتابه هذا عن معاني التذكير النصّي في القرآن أو أفق ذكر البيبليا في القرآن، وأكّد في هذا الصدد أن الكتاب المقدّس موجود في كلّ مكانٍ في القرآن وليس في أيّ مكان منه في الوقت عينه

The bible is everywhere and nowhere in the Qur’an

ويُجري غريفيث في كتابه هذا مناظرة مع علماء وباحثين آخرين أمثال القس حكمت قشّوع الآنف الذكر. وعملُهم الحالي حول الأناجيل بالعربية، هو برأيه، جزءٌ من تقليد علمي طويل يجادل ويؤكّد وجودَ مؤلّفات عربية ولا سيما بيبلية مكتوبة قبل القرآن. وتوصّلَ غريفيث إلى استنتاجٍ مماثل فيما يتعلّق باليهود في عصور ما قبل الإسلام.

وهو في ذلك، وفي هذا السياق، يؤيّد وجهةَ النظر التي يتبنّاها باحثون آخرون أمثال غريغور شولر Gregor Schoeler بأن أوّل كتابٍ في الإسلام وفي الأدب العربي في الوقت عينه هو القرآن، وليس نُسخةً عربية من الكتاب المقدّس. ويؤكّد غريفيث كذلك أن الجماعات المسيحية واليهودية لم تنشطْ وتندفعْ لإنتاج نُسخ عربية مكتوبة وسليمة لكتبها المقدّسة إلا بعد اعتمادها اللغة العربية للأغراض الأدبية، والأهمّ من ذلك، بعد أن وعت وجود القرآن بلغته العربية مجموعاً ومكتوباً ككتاب مقدّس إسلامي”.

بعد هذه الجولة ماذا عسانا أن نستخلص؟

إنها بلا ريب مسألةٌ جدلية أهرقت الكثير من الحِبر وأشعلت الكثير من النقاشات والسجالات. فأن تكونَ ترجمةُ الإنجيل والبيبليا عموماً قد سبقت القرآن فذلك عنى للكثيرين أن هذا الأخير قد تأثّر بها وأخذَ عنها. وبالمقابل لم يتأخّرْ الردّ أن يصلَ من الجانب الآخر. ولن ندخُلَ في تفاصيلِ الحجاج الذي حمي يومها، ولا تزالُ إلى اليوم، تردّدُ أصداءه المواقعُ على الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة.

ولكن ماذا عن بحوث المستشرقين في موضوعنا؟ لم يعرف الغربيّون هذه الحماسة التي نلحظُها في بحوث شيخو والمقدسي وغيرهما. وقد يكون ذلك عائداً إلى بعدهم الجغرافي، أو لأنّهم غير معنيين مباشرة بهذا الصراع الثقافي والحضاري. كما أن ظاهرة التكرار الببّغائي والسرقة الأدبية Plagia قليلاً ما نلمحُها عندهم. واللبنانيّون والعرب الذين كتبوا باللغات الغربية ورغم اعتمادهم المنهجية العلمية المتّبعة في الغرب عموماً، لم ينجحوا تماماً في المحافظة على دمٍ بارد Sang froid وعلى البقاء على مسافة معيّنة من موضوع بحثهم! ويبقى أنّه لا بدّ من أن ننوّه بالدقة والصرامة المنهجية والموضوعية عند باحثين من أمثال الأبوين جورج غراف وسيدني غريفيث: كلاهما كاهن كاثوليكي يرتبطُ بطريقة أو بأخرى بمسيحيي المشرق، بيد أن ذلك لم يحُلْ دون أن يفصلا تماماً بين إيمانهما وانتمائهما الديني وبين موضوعِ بحثهما والمقاربة المحايدة والمنهجية له بغضّ النظر عمّا ستُسْفر من نتائج!

ماذا الآن عن موقفِنا الشخصي ورأينا في هذا الموضوع، وبعد كلّ ما عرضنا من آراء ونظريّات ومقولات؟

من ناحيتنا، حرصنا على أن نعرض بحيادٍ وبمعزلٍ عن أيّة أحكام مسبقة آراء الفريقَين. وناقشنا كلَّ باحثٍ، إلى أيّ فريق انتمى، في ما طرح واستخلص وذهبَ إليه، وأحجمنا عن إبداء رأيٍ أو إطلاقِ حكمٍ في الموضوع قبل أن نتفحّصَ الروايات الواردة في هذا الشأن في المصادر القديمة العربية. وقد قسّمناها إلى خمس فئاتٍ من الروايات:

1-ما ورد بشأن موضوعنا في الأحاديثِ الشريفة وكتبِ الصِحاح كمُسند ابن حنبل وصحيحَي البخاري ومسلم وسائر مصنّفات الحديث.

2-ما رُوي من آثارٍ وأخبار عن الصحابة والتابعين وسائر علماء الإسلام في موضوعنا، وبالأخصّ عن المحدّث التابعي والمتصوّف الزاهد مالك بن دينار.

3-رواية المؤرّخ السرياني البطريرك ميخائيل الكبير المأخوذة عن سلفه البطريرك ديونيسيوس التلمحري (818-845م) والتي كرّرها ابن العبري وكذلك المؤرّخ الرهاوي المجهول، وجاءت وثيقةٌ سريانية كُتبت في 17/8/874م ومحفوظة في المتحف البريطاني لتؤكّدها.

4-رواية ابن النديم في الفهرست عن ترجمة للبيبليا تعودُ إلى زمن الخليفة هارون الرشيد.

5-رواية المسعودي في التنبيه والإشراف عن ترجمة عربية للبيبليا عن الترجمة السبعينية قام بها حُنين بن إسحاق.

ولا يتيح لنا الوقتُ عرضَ وتحليل كلّ هذه الفئات، لذا سنقصُرُ الحديث على الأولى منها، أو حتى على نماذجَ معيّنة منها:

ونبدأ برواية للمحدّث الحافظ الإمام عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني (126-211هـ) في المصنّف نقلها عنه الإمام أحمد بن حنبل (164-241هـ) في المسنَد، وأكّد عالما الحديث الأعظمي والألباني أنّها حديثٌ صحيح: “جاء عمر بن الخطّاب إلى النبي(ص) فقال: يا رسولَ الله إنّي مررتُ بأخٍ لي من قُريظة، فكتبَ لي جوامعَ من التوراة، ألا أعرضُها عليك؟ قال: فتغيّرَ وجهُ رسولِ الله.(ص) قال عبدالله: فقلتُ له: مَسَخَ الله عقلَك، ألا ترى ما بوجِه رسول الله؟ فقال عمر: رضينا بالله ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمّدٍ رسولاً، قال: فسُرّي عن النبي ثمّ قال: والذي نفسي بيده لو أصبحَ فيكم موسى ثم اتّبعتموه وتركتموني لضللتم”./ ماذا يعني هذا الحديث؟ إنّه ببساطة يؤكّد أن نصوص التوراة كانت متوفّرة بالعربية كتابةً ومنتشرة بين يهودِ المدينة في الجاهلية ومع ظهور الإسلام. ويعني ثانياً أن الرسول نهى المسلمين عن قراءة هذه النصوص وتداولها، وهو ما فعله أو بالحري باشره مع عمر.

والملاحظ هنا أن ابنَ خلدون (ت808هـ) أخرجَ حديثَ صحيفةِ عمر من التوراة في السياق عينه، أي حظر العودة إلى الكتب المقدّسة السابقة للإسلام. ففي المقدّمة يقول ابن خلدون: “فقد نهى الشرعُ عن النظر في الكتب المنزلة غير القرآن. وقال (ص): لا تصدّقوا أهل الكتاب، ولا تكذّبوهم. (…) ورأى النبي في يدِ عمر ورقة من التوراة، فغضبَ حتى تبيّن الغضبُ في وجهه (…). ويُظهر لنا ابنُ خلدون أن عُمر بن الخطّاب حفِظَ الدرسَ جيّداً. ففي فصل “العلوم العقلية وأصنافُها” يورد عن الخليفة الثاني الرواية التالية: “إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلادَ فارس وأصابوا من كتبِهم وصحائفِ علومِهم ما لا يأخذُه الحصر كتبَ سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب يستأذنُه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن فيها هدى، فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النار، وذهبت علومُ الفرس أن تصلَ إلينا”.

فتصرّفُ عمر هذا يأتي في سياقِ الحظر الذي أشار إليه ابنُ خلدون عند تخريجه للحديث مدارِ بحثنا.

وفي الأحاديث الصحيحة ما اتّفق على تخريجِه الشيخان البخاري ومسلم، وهي أحاديث تؤكّد بنصِّها وسياقِها أنّه كان بحوزة اليهود في المدينة زمنَ الرسول نصّاً للتوراة بالعربية. وجاء في رواية البخاري ولفظِه ما يلي: عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله(ص) فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسولُ الله(ص): ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا نفضحُهم ويُجلدون، فقال عبدالله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهُم يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها، وما بعدها، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آيةُ الرجم، فقالوا: صدَقَ يا محمّد، فيها آيةُ الرجم، فأمرَ بهما رسولُ الله(ص) فرُجما”.

واضحٌ من هذا الحديثِ المتّفقِ عليه والذي أخرجه البخاري وكرّرَه أربع مرّات أن التوراة بنصّها العربي كانت، وكما ألمعنا، متوفّرة في يثرب زمن الرسول، فها هو قارئٌ يهودي يقرأُ منها سفرَ تثنية الاشتراع على مسامعِ رسولِ الإسلام، ويُخفي بيدِه آيةَ الرجم كي لا يراها هذا الأخير.

تبقى أخيراً إشارةٌ سريعة إلى بعض الآثار والروايات. فابن دينار المولود نحو منتصف ق1 هـ (ت127هـ)، وهو من التابعين ومحدّثٌ ومتصوّف وثّقه كبارُ العلماء. روى عنه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني (ت430هـ) في “حلية الأولياء” أخباراً وآثاراً تُبيّن أن العهدَين العتيق والجديد كانا مترجمَين ومتوفّرين بالعربية في زمنه أي منذ النصف الثاني من القرن الأول هـ وبدايات ق 2 هـ. وممّا أخرجه أبو نعيم الرواية التالية: ” عن مالك بن دينار قال: كنتُ مولعاً بالكتب أنظرُ فيها. فدخلتُ ديراً من الديارات ليالي الحجّاج، فأخرجوا كتاباً من كتبهم، فنظرتُ فيه، فإذا فيه: يا ابن آدم لِمَ تطلب علم ما لم تعلم؟ وأنت لا تعملُ بما تعلم”.

وختاماً نعودُ لنذكِّرَ أنّنا اقتصرنا من الفئات الخمس التي درسناها على مجرّد نموذجَين من الأولى. واستناداً إلى ما حلّلنا في دراستنا الموسّعة صِرنا راهناً نميل، وخلافاً للانطباع العام الذي كوّناه في بدايات البحث، إلى ترجيح الرأي القائل بوجود ترجمة عربية ما، وإن جزئية للبيبليا أو بعض أسفارها، سابقة أو معاصرة لظهور الإسلام. وأياً يكن، فلبحثنا صلة، وعسانا نقفُ لاحقاً على المزيد من المعطيات.

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *