د. لويس صليبا/قراءة في كتاب “سياسيّات الإسلام في الفكر العربي المعاصر“، تأليف عبدالإله بلقزيز، صدر عن منتدى المعارف، بيروت، ط1، 2021، في 223ص.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن، بيروت، أيار 2024
مهّد المؤلّف لدراسته القيّمة هذه بمدخلٍ عامّ ضافٍ قُسّم إلى 12 مبحثاً، تناول فيه السياسة والسلطة في تراث الإسلام، وليته وضع لكل مبحث عنواناً لمزيد من الفائدة، وتسهيلاً للرجوع إليه!
ولا يرى بلقزيز من أثرٍ فاعل للفلسفة الإسلامية وفلاسفة المسلمين بالتالي في المعرفة الإسلامية القديمة بالسياسة والسياسي، ذلك أن (ص10): “فلسفة السياسة لم تقدّم ولم تؤخّر في شيء المعرفة بالسياسة في تراث الإسلام، لأنّها خاضت في سياسة مدنية افتراضية لا صلة لها بالسياسة كما تجري في عالم الإسلام”.
إنها مقولة يحسن التفكّر فيها، فأيّ أثر كان مثلاً لمدينة الفارابي الفاضلة أو “جوامع سياسة أفلاطون” لابن رشد في المعرفة السياسية وفي السلطة في الإسلام؟! بقي تأثير هذه المؤلّفات المهمّة، مع الأسف محدوداً، لا سيما في المجال المشار إليه!
ويتناول الكاتب الدراسات الاستشراقية، فيرى أنها، ورغم ما أثارت من اعتراضات، فقد شقّت أقلّه الطريق للدارسين (ص14): “وأيّاً تكن تحفّظات الكثير منّا عنها سدّت الكثير من حاجتنا إلى المعرفة بالتراث السياسي للإسلام: فكراً ونظاماً ومؤسّسات. ولكن الأهمّ من ذلك أنّها نبّهت وعي النخب العلمية العربية المنشغلة بتراث الإسلام إلى الحاجة إلى إيلاء مسألة السياسة والسياسي مكانة معتبرة في هواجسهم الدراسية”.
إنّه حكمٌ متّزنٌ ومنصف بلا ريب، بيد أن إشكاليّته تكمن في أنّه يبقى في العموميّات، وليت الكاتب ضرب مثلاً توضيحيّاً أو أكثر تبياناً لما يقول!
ويعود بلقزيز إلى التأكيد على خلوّ النصّ التأسيسي في الإسلام من التشريع السياسي، وهي مقولة مركزية في فكره السياسي، يقول (ص15): “ربّما أوحى قيام دولة المدينة النبوية بأن السياسي في الإسلام منصوصٌ عليه قرآنيّاً. وهذا غير صحيح، ويمكن لأي دارس أن يقف بنفسه على حالة الفراغ التشريعي القرآني في المسألة السياسية. وإلى ذلك لا تكفي آيتا الشورى القرآنيّتان أن يُبنى عليهما قولٌ بتشريع قرآني للدولة”.
ويعي الباحث تماماً أهمّية، بل خطورة ما يقول، فهو بقولته هذه ينسف طروحات ونُظم القائلين بالدولة الإسلامية من أساسها، لذا يردف متابعاً (ص15): “كلّ الذين درجوا على تعريف الإسلام بأنّه دين ودولة على مثال ما فعل أبو الأعلى المودودي وحسن البنّا ثم سيّد قطب إنّما هم يزيدون على تعاليم الإسلام ما ليس منها، أو هم متأوّلون من غير قيدٍ من نصّ”
وبلقزيز بتحليله هذا إنّما يسحب البساط من تحت أرجل دعاة الأصولية والسلفية وسائر الساعين والداعين إلى إقامة حكم إسلامي أو “حكم الله على الأرض”، إلى ما هنالك من مزاعم وشعارات تبدو فارغة من أي مضمون واقعي. ونظرته الثاقبة، وأسلوبه الهادئ والحازم في آن في عرضها يبدّدان الكثير من الأوهام في هذا المجال، وهو يتابع ليؤكّد معقّباً وموضحاً (ص16): “الدولة في عهد النبي، كما في عهودها كافّة مدنية واجتماعية (…) والخلافة التي قامت بعد وفاة النبي هي نفسها مؤسّسة سياسية، وإن كان على رأسها أكبر صحابة النبي، وأقربهم إليه. فلقد خلفوه في القيادة السياسية للدولة، لا في النبوّة التي اختُتمت به”.
ولكن رغم خلو النصّ التأسيسي البالغ الدلالة هذا كانت علاقة السياسي بالديني دائماً متشابكة ووطيدة وهي غالباً ما كانت بالحري تَبَعية (ص27): “هل من دليل على مركزية السياسي في الإسلام أكثر من توظيف العقيدة في خدمة السياسة والمصالح، توظيف المطلق في خدمة النسبي؟ ماذا يفعل الأصوليون اليوم أكثر من استئناف ذلك التقليد ومعه تمديد العمل بالفُرقة والشقاق داخل جسم الجماعة والأمّة؟!”.
ما أشبه الأمس باليوم! لا بل ليس اليوم سوى امتداد للأمس وممارساته. فعلاقة رجل الدين اليوم بالسلطة نسخة منقّحة عن علاقة الفقيه بالأمس بالحاكم، وهي ما يسمّيه المؤلّف علاقة تساند متبادل، ويضيف واصفاً ومحلّلاً (ص32): “الفقهاء من جهتهم يسندون الأمراء ويخلعون الشرعية الدينية عليهم ويَدْعون إلى طاعتهم لأنّهم سدنة الدين والدنيا وضمانة وحدة الجماعة، والأمراء (الخلفاء، الملوك) من جهتهم يسندون الفقهاء ويعترفون لهم بوظيفتهم الشرعية، ويسبغون عليهم الرعاية والحدب”.
إنّها علاقة مصالح مشتركة وخدمات متبادلة تعود بالفائدة إلى كلّ فريق. وهكذا استمرّت علاقة المصلحة هذه لأزمنة وامتدّت إلى اليوم يتابع بلقزيز معقّباً (ص32): “يطيب للسلطة هذا النوع من الفقهاء، لأنّهم يخدمون الدولة ويوفّرون للماسكين بأزمّة الأمور فيها الأسباب التي تجعل سلطانهم مشروعاً في عيون الرعيّة. ويطيب للفقهاء أن يستتّب أمرُ السلطان السياسي لأنّ به تُحفظ وحدة الجماعة وتُدرأ الفتنة، ولأن به تستتبّ لهم أمورهم كفئة ذات اعتبار في المجتمع والدولة”.
ويبحث بلقزيز مطوّلاً في مساهمة عدد من المفكّرين العرب المعاصرين في دراسة تراث الإسلام الفكري في ميدان السياسة، والبداية مع الباحث اللبناني رضوان السيّد فيرى أنّه (ص44): “يسلّم رضوان السيّد بأن نجاح الجماعة في حفظ بقائها بعد رحيل قائدها ونبيّها إنّما حصل بسبب بقاء النصّ الإلهي الحقيقة الأساسية فيها، بل هو يذهب إلى أنّها لم تكن لتستمرّ بغير النص حيث المسوّغ الوحيد لاستمرارها، وهو الذي يمنح وجودها شرعيّته المتعالية”.
وفي الخلاف بين الصحابة غداة وفاة الرسول، ولا سيما في التمايز بين السياسي والديني ينقل عن السيّد قوله (ص45): “واضح أن الصحابة كانوا يعتبرون أبا بكر زعيمهم السياسي أي رئيس دولتهم، ولذا رأوا واجباً عليهم أن ينفّذوا أوامره بمقتضى بيعتهم له، وإن لم يكن قتال المرتدّين عملاً دينيّاً من أعمال الدولة”.
ويخلص في دراسته لمساهمة رضوان السيّد بأن هذا الأخير (ص65): “لا يجد غضاضة في الذهاب إلى حدّ القول إن الدولة لم تنفع الدين فحسب، بل أضرّت به إضراراً شديداً حين حوّلته إلى أداة في الصراع السياسي”.
وينتقل بلقزيز إلى دراسة إسهام المفكّر المغربي عبدالله العروي في المجال عينه، فيرى أنّه (ص67): “تقوم قراءة عبدالله العروي لتراث الفكر السياسي الإسلامي على ثنائية حاكمة هي ثنائية الدولة الموضوعية أي الدولة الموجودة في الواقع الموضوعي والدولة المتخيّلة أو المفترضة والمرغوبة في الآن عينه، وهي دولة مثالية غير قابلة للتحقّق”.
ويعرض لمعالم فكر العروي وممّا يستخلصه (ص73): “صعوبة الحديث في موقف الفقهاء من الدولة تكمن بالذات في هذه الازدواجية التي تستبدّ بتفكيرهم، فهم مسكونون بما سمّاه العروي طوبى الخلافة، وهي طوبى لأنّها مستحيلة التحقيق إلا بمعجزة. وهم مدفوعون إلى التسليم بما تفرضه عليهم ضرورات الوقت من التكيّف مع الدولة الواقعية القائمة”.
ومن ناحيتنا نرى أن المؤلّف قد وفى كلّاً من المفكّرين اللبناني السيد والمغربي العروي حقّه من العرض والدراسة وبَلْور أبرز طروحاتهما في تراث الفكر السياسي الإسلامي. وتبقى أبرز بحوث الكتاب دراسته لمصنّف المفكّر الأردني فهمي جدعان في المحنة. وهو يرى أن جدعان نجح في جلاء الكثير من اللُبس الذي اكتنف هذه المسألة. (ص159): “ليس من التزيّد في القول أن نحسب عمل الأستاذ فهمي جدعان على المحنة عملاً تأسيسيّاً للنظر الإشكالي على جدليّات الصلة بين السياسي والديني في المجال الإسلامي”.
وهو يوافق جدعان في ما ذهب إليه من أن القول بخلق القرآن لم يُنسب حصراً إلى المعتزلة إلا لتحميلهم وزر المحنة التي وقعت في زمن المأمون وخَلَفَيه المعتصم والواثق (ص163): “لهذا صحّ القول مع فهمي جدعان أن القرآن مخلوق قولٌ يعزى بتعميم غير دقيق إلى المعتزلة. وأن فِعْل نسبة القول إليهم وتخصيصهم به إنّما هو ممّا يراد به إنزال الإدانة بهم على امتحان أهل السنّة”.
والمعتزلة عموماً أبرياء من مجريات المحنة وتبعاتها (ص169): “وليس من شكّ في أن تبرئة فهمي جدعان جانب أحمد بن أبي دؤاد من جريرة الممتحنين، وقبلها من تهمة تحريض الخليفة على الامتحان هي تبرئة للمعتزلة كافّة الذين زُجّ بهم في الاتّهام”.
وما نُقل إلينا عن المحنة أسباباً ومجريات لحقه الكثير من المبالغة، والحنابلة هم مَن فعل ذلك تبريراً لما ألحقوه بالمعتزلة أي للمحنة المعاكسة التي كان الأخيرون ضحيّة لها (ص170): “والحقّ أن ما ذهب إليه جدعان من قول بأن حدث المحنة ضُخّم كثيراً من قبل الحنابلة صحيح. وأن ما جرى لا يتناسب إطلاقاً مع الضجّة التي أثارتها وسائل الاتّصال والبثّ الحنبلية”.
ويتابع بلقزيز نقلاً عن جدعان، فمِمّا بولغ في روايته مدّة محنة ابن حنبل وسجنه (ص170): “ولعلّ ممّا كان موضوع تضخيم في حدث المحنة مدّتها التي مُدَّ فيها في بعض المرويّات الحنبلية لتصلَ إلى سنوات فيما يرجّح جدعان، واستناداً إلى مصادر غير مغالية في رواياتها، أن تكون محنة ابن حنبل قد وقعت بين نهاية عهد المأمون 218هـ وبداية عهد المعتصم. وأن تكون مدّتها أقلّ من سنة ونصف السنة”.
إنّه استنتاج على جانبٍ كبير من الأهمّية ومن شأنه أن يقلب فهمنا للأمور رأساً على عقب، فالمعتزلة كانوا بالحري ضحيّة المحنة إذ هم من دفع الثمن الغالي، في حين أن الفاعل والمحرّك كان بالأحرى المأمون (ص173): “فكرة الامتحان، يقول جدعان، نبتت في عقل المأمون وهو من أحكم إخراجها والبدء في تنفيذها. ولم يرحل بعدها بأشهر حتّى حوّلها إلى سياسة عُليا للدولة، وألزم من يأتي بعده بها”.
أما القول أن المأمون كان من أهل الاعتزال فزعمٌ تنفيه الوقائع التاريخية وما عُرف عن هذا الخليفة من فكرٍ وعقائد (ص174): “فمعتزلية المأمون أزعومة فنّدها فهمي جدعان بقوّة ويكفي لدحضها أنّه لم يأخذ بمبدأ مركزي رئيس من مبادئ المعتزلة: مبدأ العدل، إذ كان جبريّاً، ولم يكن قدريّاً أو عدليّاً”
وإذ جلا جدعان حقيقة فكر المأمون ومعتقده استطاع أن يثبت أن هذا الخليفة كان في الحقيقة واقعيّاً نفعيّاً يسعى أبداً إلى مصلحة دولته وحكمه (ص176): “سيكون من الإسراف أن ننسب المأمون إلى أيّ مذهبٍ من المذاهب السياسية الاعتقادية في عصره، لا لشيء سوى لأنّه تميّز بواقعية سياسية حادّة بما هو رجل دولة يسير وفقاً لما يهديه عقله العملي”
ويتابع بلقزيز نقلاً عن جدعان تفحّصه لخفايا المحنة وخلفيّاتها فيورد عن هذا الأخير (ص176): “ليس لدينا نصّ واحد يشير من قريب أو من بعيد إلى أن واحداً من المعتزلة قد أشار على المأمون بامتحان من امتحنهم من الفقهاء أو المحدّثين أو رجال السياسة”.
ويؤيّد بلقزيز ما خلُص إليه جدعان (ص183): “السياسي لا يمكن أن يخضعَ إلا لمنطقٍ واحد هو منطق الدولة، أو منطق المُلك. وكلّ مبدأ آخر أو فعالية أخرى يجب أن تُردّ إليه. ولم يحِدْ أحدٌ من خلفائه [المأمون] الأقربين: المعتصم والواثق والمتوكّل عن ذلك قيد شعرة”.
أما بلقزيز فيخلص في عرضه ودراسته للمسألة إلى (ص185): “وافقت المعرفة الاعتزالية أو بعض قضاياها الكلامية هوى السلطة، فأخذت بها وسخّرتها وأدخلتها قطعة غيار في آلتها، فيما ناصبت معرفة الفقهاء والمحدّثين خصومة وعداء وعالنتها التشنيع لمخالفتها مصلحتها (…) وفي الحالين لم تكن السلطة ومن يمسكون بأزمّتها في وضع المعتقد بل في وضع مقدّر المصلحة من العمل بهذا الرأي أو بذاك”.
ومحمد عابد الجابري نفسه في كتابه “المثقّفون في الحضارة العربية” لا يخالف جدعان في ما خلُص إليه، بل بالحري ينطلق من خلاصته هذه (ص199): “إن قارئ كتاب الجابري لا يفوته أن منطلقات هذا الكتاب مستمدّة من نتائج بحث فهمي جدعان في المسألة، وهي بالتالي تصادق على رواية جدعان التصحيحية بأن المعتزلة كانوا عن محنة ابن حنبل بمنأى وبعد”.
والمتوكّل الخليفة العبّاسي الذي حالف أهل السنّة ضدّ أهل الاعتزال لم يفعل ذلك عن قناعة دينية مذهبية بل بالأحرى لمصلحة سياسية (ص207): “اعتبر الجابري انقلاب المتوكّل على المعتزلة ومحالفة أهل السنّة قضيّة سياسية لا قضيّة دينية، بدليل أن المتوكّل اللابس لبوس أهل السنّة كان في سلوكه الديني والأخلاقي أبعد ما يكون عن أخلاقيّات السنّة كما يؤكّد المؤرّخون السنّيون أنفسهم”
وختاماً فعبدالإله بلقزيز في جولته الطويلة على بحوث معاصريه وزملائه في تراث الفكر السياسي الإسلامي نجح في أن يجمع بين المفيد والممتع وحتى المشوّق وفي أن يقدّم مألفة Synthèse قيّمة لخلاصات أبرز الدراسات في هذا المجال وميّزاتها، وأَحْسَنَ التمهيد لبحوثه هو في “السلطة في الإسلام”، ولدراسات من سيأتي عهده في هذا المضمار.