د. لويس صليبا/الترجمات العربية القديمة للإنجيل والتوراة وإشكالية علاقتها بالنصّ القرآني

د. لويس صليبا/الترجمات العربية القديمة للإنجيل والتوراة وإشكالية علاقتها بالنصّ القرآني

لا بدّ لي بادئَ ذي بدء من أن أشيرَ إلى أن موضوعَ الترجماتِ العربية للأناجيل وسائرِ أسفارِ البيبليا، والمخطوطات القديمة لهذه الترجمات، مسألةٌ جدّ حيويّة ومهمّة إن في علومِ الأديانِ وتاريخها أم في الحوار المسيحي الإسلامي أو تاريخ الديانات الإبراهيمية الثلاث وجدلية العلاقات المتشابكة بينها، أو غير ذلك من القضايا الفلسفية التي تهمّ إنسان اليوم. والبحثُ في هذا المجال، وإن كان قد بوشر في أواخر القرن التاسع عشر، فهو لمّا يزل في خطواته الأولى. وفي ذلك يقولُ المستشرق وعالِمُ الكتاب المقدّس سيدني غريفيث Griffith (كتاب بالإنكليزية، 2013، ص1) ما تعريبه : “إن دراسةَ الكتاب المقدّس باللغة العربية لمّا تزل في بداياتها. فهناك المئات من المخطوطات المتوفّرة والتي تحوي أجزاءً من البيبليا، وهي نتاجُ جهدِ يهودٍ ومسيحيين في العصور الإسلامية المبكرة وفي العصور الوسطى كذلك. ولكن حتى الآن، ورغم بعض الاستثناءات الملحوظة، فهي لم تكن محطَّ اهتمامِ علماء الكتاب المقدّس ولا حتى مؤرّخي اليهودية والمسيحية أو الإسلام”

وفي تقريرٍ وضعه عددٌ من الباحثين وعلماءِ الكتابِ المقدّس من فريق بيبليا أرابيكاBiblia Arabica  في أيلول 2017 (منهم ناتان جيبسون وروني فولاند وآخرون) وردت المعطيات الإحصائية المهمّة التالية معرّبة: “يبلغُ عددُ المخطوطات التي تحتوي على نُسخٍ عربية من البيبليا نحو عشرة آلاف تقريباً، والعددُ التقريبي هذا يعودُ إلى أنّه لم يُجرَ، حتى اليوم، إحصاءٌ دقيقٌ لها. وهذه المجموعةُ الكبيرة كثيرةُ التنوّع. وهي تشملُ العهدَ القديم إضافةً إلى أسفارِ العهدِ الجديد، والكتبِ القانونية الثانية. ومن بين هذه المخطوطات ما قاومَ عواملَ مرورِ الزمن، فوصلَ عددُ أوراقه السليمة إلى 500 ورقة. في حين أن قسماً لا يُستهان به لم يبقَ إلا في حالةٍ مجزّأة. والقسمُ الأكبر من هذه المخطوطات محفوظٌ اليوم في مجموعات أوروبية، وتوجد بعض المجموعاتِ الكتابية في الشرق الأدنى، وأبرزُها مكتبة سانت كاترين في جبل سيناء، ولم يخضع سوى عددٍ قليل من هذه المخطوطات لدراسة معمّقة”.

والمفارقة الكبرى هنا تكمن في أنّه رغم هذا العدد الهائل من المخطوطات البيبلية العربية التي لمّا تزل بحاجة إلى دراسة وتحقيق، وكثيرٌ منها تتوفّرُ صورٌ كاملةٌ له للتحميل مجّاناً على الإنترنت، نجدُ الطالبَ الدكتور علي سميسم قد اختار موضوعاً لأطروحته مخطوطةً سبقت دراستُها وتحقيقُ أطول إنجيل منها (من حيث عدد الآيات) أي لوقا في أطروحةٍ وضعتها وناقشتها الأخت جوزفين نصر في هذه الجامعة العريقة والرائدة وفي هذا المعهدِ الرصين بالذات 1998 .والسؤالُ البديهي الذي يُطرح هنا: هل تستحقُّ المخطوطةُ المذكورة نفسها أن تكون موضوعَ أطروحةِ دكتوراه ثانية؟! برأينا المتواضع لا!

وكنّا لأجزنا ذلك، تساهلاً، لو توفّر في الأطروحة الثانية هذه أي الراهنة أقلُّه شروطٌ أكاديمية ثلاثة: 1-أن تشملَ كلَّ ما تبقّى من المخطوطة دون نشر وتحقيق أي الأناجيل الثلاثة الباقية برمّتِها. 2-أن تكونَ الدراسة المرفقة مختلفة نهجاً ومخطّطاً وبنيةً ومواضيع ومقاربة عمّا نجد في الأولى. 3-أن تُلِمَّ الأطروحةُ الثانية بل أن تتعمّقَ بعرض وتحليل ما استجدّ في العلوم البيبلية والكتابية وخصوصاً الدراسات التي وُضعت حول ترجمات الكتاب المقدّس إلى العربية ومخطوطات هذه الترجمات منذ أطروحة الأخت نصر 1998 إلى اليوم أي منذ أكثر من ربع قرن، وهي عديدة وتفتحُ آفاقاً رحبة للبحث، وتدعو إلى إعادة النظر بالكثير ممّا طُرح وافتُرض سابقاً في هذا المجال!

والحال، أن أيّاً من هذه الشروط الثلاثة لم يتوفّرْ في الأطروحة الراهنة. فهي أولاً تحقّقُ واحداً من أصغر الأناجيل حجماً: إنجيل يوحنا، ويأتي ترتيبُه الثالث من حيث عدد الآيات، والباحث لا يذكرُ ما الذي جعله يختارُ هذا الإنجيل دون غيره من سائر أسفار المخطوطة، ولماذا اكتفى به؟

وثانياً فالدراسة المرفقة لا تحوي شيئاً جديداً، بل وبغضّ النظر عمّا أثير من Plagia وعمليات سطو فيها، فهي في أيّة حال تعتمدُ المخطّطَ العام لأطروحةِ الأخت نصر، ولا تحوي شيئاً جديداً في الموضوع. وذلك، ثالثاً رغم أن عشرات الأطروحات مثل أطروحة حكمت قشّوع 2012، وروني فولاند 2015، وسارة شولتز، 2016، وغيرها كثير قد وُضعت ونوقشت منذ ذلك التاريخ.

وما الذي يمنعُ عندها أن يأتينا طالبُ دكتوراه ثالث طارحاً تحقيق إنجيل متّى من المخطوطة عينها، موضوعاً لأطروحته، ورابع طارحاً إنجيل مرقس موضوعاً، وقد تناهى إلى مسامعنا أخبارٌ عديدة من هذا القبيل!!

أيّاً يكن فقد أكبرتُ في صديقي الشيخ الدكتور سميسم خياراً جعله يطأُ أرضاً ليست أرضَه، وهو الباحث الحوزوي النشأة. فهل أُحسن توجيهُه وزُوّد بخارطةِ طريقٍ تعينه في حقلٍ من الألغام عليه أن يتحرّك فيه ويخطوَ إلى الأمام، حتى يخرجَ بصيدٍ ثمين؟!

إنّه سؤالٌ يُطرح عليه وعلى موجّهيه. أمّا أنا فليس أمامي، مع الأسف، سوى النصّ، نصّ الأطروحة، أفتّشُ فيه وأنقّب، وأقرأُ وأستقرئ بحثاً عن أجوبة لأسئلة كهذه.

تطرح هذه الأطروحة إشكالية جديرة بالبحث، وأثارت ولا تزال كثيراً من الجدل الحامي، ألا وهي مسألة وجود، أو عدمِ وجود، ترجماتٍ عربية للأناجيل سابقة للإسلام. وممّا لحظناه وأثارَ دهشتَنا واستغرابَنا أن الدراسات العربية بقيت شبهَ معزولةٍ عن التطوّرات البارزة والخطيرة التي شهدتها البحوث الغربية في هذا المجال. وهاكم مثلاً بالغَ الدلالة على ذلك. عام 1982 كتبَ الأب سمير خليل اليسوعي مقالةً في مجلّة IslamoChristiana ضمَّنَها صفحةً ونصف، لا أكثر ولا أقلّ، لخّصَ فيها في سطرٍ أو اثنين رأي سبعةٍ من المستشرقين وعلماء البيبليا في الموضوع. بدءاً من أنطون باومشتارك 1929، مروراً بجورج غراف 1940، ووصولاً إلى يوشع بلاو 1973. ومذّاك والباحثون العرب يكرّرون ببغائياً هذا العرض المقتضَب لا يزيحون عنه، ولا يزيدون عليه، وذلك رغم أن ما استجدّ من بحوثٍ فاقت كمّاً ونوعاً وأهمّيةً ما ذكره سمير خليل يومها. وسأتوَقَّفُ برهةً هنا عند هذا النقل أو الكزّ الذي لم تسلمْ منه هذه الأطروحة، وما شابه من تشويهٍ وتحريفٍ للآراء.

يقول أبونا سمير بشأن رأي جورج غراف Graf: “فقد أثبت أن الترجمات العربية التي وصلت إلينا لا ترجِع إلى أيّام الجاهلية. لكنّه يفترض وجودَ ترجمة عربية للكتاب المقدّس (أو لأجزاء منه) قبل الإسلام” (سمير، م. س، ص11).

وفي الحقيقة فقد أدهشتنا هذه الملحوظة عن فرضية غراف، لا سيما وأنّه معروف برأيه القائل بنفي وجود ترجمة عربية للبيبليا قبل الإسلام، ولم نجد في كتاب غراف “تاريخ الأدب المسيحي العربي” الصادر بالألمانية 1944 الذي يذكره أبونا سمير في الهامش ما يشيرُ إلى ذلك!

أما عرض الأخت جوزفين نصر لآراء المستشرقين في المسألة، فهو نقلٌ حرفي عن مقالةِ المشرف على أطروحتها الأب سمير خليل رغم اقتضابِ عرض هذا الأخير كما سبق وأشرنا!

وممّا لحظناه في هذا المجال أنّها، رغم زعمِها النقلَ الأمين عن الأب سمير، فهي تضيفُ أحياناً إلى نصِّه ما يؤيّدُ رأيها وحُكمَها المسبَق القائل بوجود ترجمات للإنجيل سابقة للإسلام. فالأب سمير يكتب مثلاً: “وعالج أرثر Vööbus الموضوع باختصار، فتوصّل إلى النتيجة ذاتها التي كان قد توصّل إليها جورج غراف”. (سمير، م. س، ص11). وتنقل الأخت جوزفين عنه ذلك، بيد أنّها تضيف إلى جملته هذه: “أي وجودَ ترجمةٍ ترقى إلى ما قبل الإسلام”. (نصر، م. س، ص89). وبذلك تكونُ قد قلبَتْ رأيَ غراف ونظريّتَه رأساً على عَقِب!! هذا إضافة إلى أنّها شوّهت رأي فوبس وقوّلته نقيضَ ما يقول.

وجملة جوزفين نصر الملتبسة هذه تصيرُ عند الشيخ سميسم (ص97) متحدّثاً عن غراف: “ولكنّه يفترض وجودَ مخطوطاتٍ في العصر الجاهلي”.

عبارةُ ترجمةٍ عربية عند خليل تصيرُ ترجماتٍ عند جوزفين نصر، فمخطوطاتٍ عند علي سميسم، فيُجهَز بذلك على نظرية جورج غراف وتُطلق عليها رصاصةُ الرحمة من فرط النقل عن هذا وذاك، ما ينطبِقُ عليه تحديداً ومع الأسف قول المثل اللبناني: من هالك، لمالك، لقبّاض الأرواح”.

وتبقى العلّةُ الأساسية في هذه الأطروحة ورأسُ عيوبها أنّها تنقل غالباً، إن لم يكن دوماً، عن مراجعَ ثانويّة وغير موثّقة كما يجب استسهالاً، وتُحجم عن العودة إلى المصدر الأساسي، وسنضربُ مثلاً أو أكثر على ذلك. فبصددِ رواية ترجمة البطريرك اليعقوبي للإنجيل، وهي في صُلب الإشكالية التي تطرحُها الأطروحة، نرى الباحث يتناولُها أربعَ مرّاتٍ وفي أربعة مباحث مختلفة، وكلّ مرّة نقلاً عن مرجع ثانوي، لا عن المصدر.

1-ص63-64 يقول: وتوجد روايةٌ مضطربة عن محاولة أحد عمّال عمر بن الخطّاب بالشام إبدالَ المذهب اليعقوبي بمذهب مسيحي جديد يتوافق والعقائد الإسلامية في رؤيتها للمسيحية (…) ومن الجدير ذكرُه عدمُ ورودِ هذه الرواية في المصادر العربية، بيد أنّها وردت في المصادر المسيحية، وباضطرابٍ شديد في تاريخها، وفي اسم القائد العربي، وعدمِ وصول نصّها إلينا، عندما ذكروا رسالة البطريرك اليعقوبي وهو يصفُ بها المحاورة التي جرت بينه وبين أمير عربي في الشام، وتحدّث عنها المؤرّخ اليعقوبي ميخائيل الكبير في تاريخه”. (…) لم تورد هذه المصادر تاريخَ المحاورة بدقّة إلا أن نو عالج الأمر إلى حدّ ما، ثم أعاد لامنس النظر فيه منتقداً النتائج التي توصّل إليها الباحث الأوّل”.

والحال أن نصّ الرواية وصلنا كاملاً، كما سنبيّن وخلافاً لما يذكر الطالب هنا.

2-ص95، يذكر: “يقول الأب سهيل قاشا عن مصدر سرياني (يعقوب الثالث: الكنيسة السريانية): لا هذا ولا ذاك مصدر هذه الرواية!! ثم يعلّق: وكان للبحث تعليق على هذه الرواية المضطربة.

3-ص97 يورد: “أقوى ما يَستدِلّ به الأب ميشال الحايك روايةٌ غير موجودة في المصادر العربية، ووُجدت فقط في مصادر السريان اليعاقبة، ووردت باضطراب شديد في التاريخ الكنسي. (…) لذا احتار المؤرّخون الغربيّون في محاولةِ تصحيحِ الرواية بدلاً من إسقاطها”.

4-ص128-129 يقول: وجدَّ في تعريبه البطريرك يوحنا المعروف بأبي السدرات على أيدي العرب المسيحيّين من بني عقيل وتنوخ وطيء (…) ويتابع الرواية ناقلاً عن ابن العبري التاريخ الكنسي ترجمة صليبا شمعون طبعة دهوك 2012 ص275-279: سطران يضع لهما مرجعاً في 5 صفحات، وقد عدتُ إلى هذه الترجمة وهذه الطبعة تحديداً فلم أجد هذه الرواية، ووجدتُ الرواية بالحري ص67-68 بنصّ مختلفٍ تماماً. ويعقّب الباحث سميسم كعادته وللمرّة الرابعة على التوالي (ص129): “مع عدم قبول الباحث لهذه الرواية لاضطرابها وضعفها؟” مع علامة استفهام؟

وواقع الأمر أن الاضطراب والضعف يقع بالأحرى في رواية الطالب للخبر وعرضه للموضوع. فهو يخبط فيه خبطَ عشواء ويجهلُ أو يعجز عن تمييز الخيط الأبيض من الأسود، ذلك لسببٍ بسيط فهو لم يعد إلى نصّ الرواية الأصلي، وزعم أنّه لم يصلْنا، فاكتفى في المرّة الأولى بالنقل والكزّ عن سلوى العايب دون العودة إلى رواية ميخائيل الكبير، ولا إلى مقالات نو ولامنس، وهو يكتفي بنقل كلّ ذلك عنها، ويعقّب بمثل قوله العجيب الغريب: عالج نو الأمر إلى حدّ ما!! ولا نعلم يعالجُ باحثٌ موضوعه إلى حدٍّ ما!!

وفي المرّةِ الثانية يذكرُ الروايةَ عينَها نقلاً عن سهيل قاشا عن يعقوب الثالث، أي من هالك لمالك، فكلاهما ليس بمصدر!! بل مجرّد ناقلٍ عن هذا وذاك!!

وفي المرّةِ الثالثة ينقلُ الروايةَ إيّاها، مع اختلاف عمّا سبق، عن جوزفين نصر التي نقلتها عن الأب ميشال حايك الذي نقلها عن ابن العبري ولا نعلم عن أيّة ترجمة!!

وفي المرّة الرابعة يزعمُ أنّه ينقُلها عن ابن العبري وعودتُنا إلى كتاب ابن العبري الذي أشار إليه، أكّدت أنه لا ينقل عنه بل عن مرجعٍ ثانوي. وعرضُه وتحليله في المرّات الأربع يتّصفان بالتسرّع والحكمِ المسبق الذي يمليه التعصّب للرأي!!

ولا يخفى على أيّ باحثٍ حصيف أن في هذه الطريقة الغريبة أقلّه عيبان منهجيّان كبيران: الأوّل بنيوي إذ كان حريٌّ بالباحث أن يجمع كلّ هذه الروايات في مكان واحد ومبحثٍ واحدٍ من الأطروحة ويناقشَ مختلفَ تفاصيلها مرّةً واحدة، وعندها إثبات قول هذا ونقض قول ذاك كما يرى ويحلّل.

والعيب الثاني أنّنا، رغم كلّ هذه الروايات المبعثرة هنا وهناك وهنالك، لا زلنا نجهل، ولعلّه هو أيضاً يجهل المصدرَ الأساسي لهذه الرواية التاريخية. وحقيقةُ الأمر أن هذا المصدر الأساسي هو كما أشرنا تاريخ ميخائيل الكبير، وكان عليه أن يعود إليه لا سيما وأنّه مترجمٌ إلى العربية، ومتوفّرٌ للتحميل على النت مجّاناً. ويروي منه لا من سلوى العايب ولا سهيل قاشا ولا غيره الرواية بنصِّها الأصلي، وعندها فهو حرّ أن يأخذَ بها أو ينقضَها. وروايةُ تاريخ ميخائيل الكبير يؤكّد العلماء سيباستيان بروك وأندرو بالمر، وروبرت هويلاند  في كتاب صادر 1993، نقلاً عن ميخائيل الكبير نفسه، أنّها مأخوذة عن تاريخ البطريرك ديونيسيوس التلمحري (818-845م)، المعاصر للرشيد والمأمون فهي إذاً عريقةٌ في القدم. وعنها أخذ ابن العبري كما أخذ عنها المؤرّخ الرهاوي المجهول. لدينا إذاً أربعٌ رواياتٍ في أربعةِ مصادرَ سريانيةٍ قديمة وعريقة للخبرِ عينه. وإضافةً إلى كلّ ذلك، فمقالةُ المستشرق نو التي يشيرُ إليها الطالب نقلاً عن سلوى العايب ودون أن يعرفَ ما فيها هي بالحري تُحقّقُ نصّاً سريانياً وتترجمه إلى الفرنسية وتحلّلُه. ونو يقول فيها معرّفاً: “مخطوط سرياني في المتحف البريطاني أُرّخت كتابته في 17 /8 /874م. ويروي أن الأمير المسلم استدعى البطريرك اليعقوبي يوحنا فأتاه مصحوباً بخمسة أساقفة وعددٍ من الأعيان المسيحيين ومن المؤمنين. وبعد أيّامٍ من هذا اللقاء كتَبَ تقريراً عنه وأرسله إلى مسيحيّي بلاد الرافدَين كي يُعْلِمَهم بما جرى، ويشدّدَهم في إيمانهم، ويطلبَ منهم أن يصلّوا للأمير حتى يمنحَه الله الحكمة ويرشدَه إلى ما يُرضي الربّ. وهذا التقرير المهمّ الذي بقي مَنسيّاً منذ سنة 874م ها نحن نقومُ بتحقيقه ونشره كي يُعرف”.

وهذا الاجتماع الذي يروي التقرير مجرياته سبق تحديداً اللقاء الثاني الذي طلب فيه الأمير من البطريرك ترجمةَ الإنجيل إلى العربية. فهذه الوثيقة السريانية العريقة القدم تقوّي رواية ميخائيل الكبير المأخوذة عن التلمحري وتدعمُها. أمّأ مقالةُ المستشرق لامنس، والتي يشيرُ إليها الطالب نقلاً عن سلوى العايب، ودون أن يعرف ما فيها تحديداً، فهي بالحري تصحّحُ وتدقِّقُ في اسم الأمير العربي وفي تاريخ اللقاء، في حين تأخذُ برواية الوثيقة السريانية التي حقّقها وترجمها نو، ولا تستطيعُ في أيّة حالٍ نقضها لأن الوثيقة/الرسالة أصيلة ولا مجال للتشكيك بصحّتها أو أصالتها. وقد درس هذه الوثيقة المؤرّخان المستشرقان باتريسيا كرونه ومايكل كوك في كتابهما المشهور والمترجم إلى العربية “الهاجريّون” 1977، كما درسها الأب سمير خليل وحقّق في هوية الأمير العربي، 1984. ودرستها أيضاً ومؤخّراً بتوسّع وتعمّق المستشرقة المعروفة بربارة روجيما Roggema، مرّتين 2007، 2016  أربعةُ دراساتٍ أكاديمية حديثة مهمّة لهذه الوثيقة البالغة الأهمّية لا علم للطالب بأيٍّ منها، وهو يكتفي بنقض الوثيقة وردّ الرواية دون أن يعرف حتى ما ورد في أيّ منهما، أي على الطريقة التركية المعروفة: “مالطا يوك أفندم”.

وتبقى ملحوظة أخرى وأخيرة فبشأن الموضوع عينه أي الترجمات العربية الأولى للبيبليا، يورد الطالب (ص95): “وأكّدت الموسوعةُ البريطانية عدمَ وجودِ أي دليلٍ لترجمةِ الكتاب المقدّس إلى العربية قبل الإسلام، وذكرت أن الحاجة أضحت ماسّة في ق7م لترجمته إلى العربية بعد أن كثُر أعدادُ اليهود والنصارى بين المسلمين إبّانَ الحكم الإسلامي”.

وقد وضعتُ على هذا المقطع ملاحظةً خطّية منهجية للطالب قائلاً له لا يجوزُ تجهيلُ القائلِ في أطروحة جامعية، فعليك أن تحدّد من قال ذلك في الموسوعة البريطانية أي أن تسمّي الباحث، وأن تذكُرَ المرجع والمقالة بالتحديد والصفحة. ثم عدتُ وذكّرتُه هاتفيّاً بوجوب أن يفعل ذلك، فأجابني قد فعلت. وعندما قرأتُ الأطروحة صُدمتُ لما كتب من مرجع (هامش 2، ص95: أنظر مقال رقم 73198 [على شبكة الإنترنت] متوافر على: article. يعني وكما يقول المثل اللبناني: “إجا تيكحلها عماها”.

ورغم ذلك قلتُ في نفسي لا يجب أن أظلم الطالب، فلعلّ غيري من الخبراء في النت يجد ما لم أجد فصوّرتُ المتن والمرجع في الهامش للمسؤول عن البحوث على الإنترنت عندنا الخبير الأستاذ أحمد الحوت، وطلبتُ منه أن يفيدَني خطّياً بما يجد، وبعد يومَين كتب لي في 14/ 1/ 2024 المايل التالي: “هذه النبذة (أي ما كتبه الطالب) تتكرّر بالحرف على كلّ المواقع: حرّاس العقيدة، موسوعة الحقّ، شبكة الدفاع عن السنّة، منتدى التوحيد، إلخ مواقع سخيفة تافهة ضيّعتُ فيها ساعات، ولم أجد شيئاً أو مرجعاً يسند هذا الكلام، وكلّها يعتمد طريقة خزّق بزّق لزّق”.

والرسالة هذه تغني عن أيّ تعليقٍ إضافي.

والإشكاليةُ التي تدرسُها هذه الأطروحة هي بلا ريب مسألةٌ جدلية أهرقت الكثير من الحبر وأشعلت الكثير من النقاشات والسجالات. فأن تكون ترجمةُ الإنجيل والبيبليا عموماً قد سبقت القرآن فذلك عنى للكثيرين أن هذا الأخير قد تأثّر بها وأخذ عنها. وهذا الجدل لمّا يزل حامياً إلى يومنا هذا. وفي ذلك تقول المستشرقة سارة شولتز ما تعريبه: “إن التطوّرات المتعلّقة بالأدب العربي المسيحي قبل الإسلام تطرح إشكاليّاتٍ كبرى عندما تُستخدم للتشكيك في أصالة القرآن وسلامته، كمِثلِ فرضية التبعية النصّية. “. Schulthess, op. cit, p56

وفي جولة إبحار على مواقع الشبكة العنكبوتية تَبيّن لنا صحّة قول شولتز هذا. وممّا يمكن أن نضرب من الأمثلة على ذلك موقع www. IslamicAwerness.org. وقد تمّ إنشاؤه سنة 1999، ويتمّ تحديثه Update بانتظام. وهم يستندون فيه إلى بحوث الأب كميل حشيمه والمستشرق الأب سيدني غريفيث لإظهارِ استحالةِ أن تكونَ البيبليا مصدراً للقرآن.

ومن المراجع الأجنبية المهمّة في موضوع الأطروحة كتاب المستشرق الإيطالي إنياس غويدي عن ترجمات الأناجيل إلى العربية الصادر في روما 1888. وكذلك أطروحةُ القس الدكتور حكمت قشّوع عن ترجمات الأناجيل إلى العربية: المخطوطات وفئاتها، الصادر في برلين وبوسطن 2012، وبحوث المستشرقين والباحثين الغربيين التالية أسماؤهم: سدني غريفيث، رئيف جورج خوري، سمير عربش، سارة شولتز، ميرا بولياك وغيرهم

وأكثر هذه المراجع العربية والأجنبية متوفّرة للتحميل مجّاناً على الإنترنت، وكان حري بالباحث سميسم العودة إليها، إذ كان من شأنها أن تغيّرَ الكثيرَ من معالم أطروحته. فتكونَ له عوناً مثلاً في طرح عددٍ من الإشكاليّات التي تفتقرُ إليها أطروحته.

وكذلك فلترجمة الأسقف عبديشوع الصوباوي (ت1318م) البليغة والمسجّعة علاقةٌ وطيدة بالترجمة موضوع الأطروحة، بل هي امتدادٌ لها. وهذه الأخيرة مذكورة على ما يبدو في مقدّمة الصوباوي وكذلك في دراسات التحقيق. وما ورد في هذا المصدر المهمّ كان من شأنه أن يُعين في طرح العديد من الإشكاليّات في هذه الأطروحة والإجابة عنها، وكذلك في الكشف عن هويّة المترجم. والمفارقة الكبرى أنّنا لا نجد أي ذكرٍ للصوباوي ودارسيه في الأطروحة. يقول عبديشوع في مقدّمة أناجيله المسجّعة ذاكراً مخطوطتنا على الأرجح كما يلي:

وأمّا الشيخ ابن داد يشوع (رحمه الله)/ فمع كونه ادّعى البلاغة في نقله،

وأبان عن فصاحته وفضله، فإنّه خلط جُمَلَ الكلمات،/ وقَلْقَلَ مباني الآيات،

وغيّر الأسماءَ تعريباً/ وبدّل الألقابَ تغريباً

وذلك من أفظعِ خطأٍ اجتراء /وأشنع بدعةٍ وافتراء

فما أجازَتْه الشريعة/ ولا قُرئ على منابر البيعة” (خوري، ص2/72).

نصٌّ بالغُ الأهمّية والغرابة. وقفَ أمامه ناشرُه الأب سمير خليل متسائلاً: مَن هو داد يشوع هذا الذي لا نعرف عنه سوى هذا الاسم؟ وهل هو مترجم هذه الأناجيل موضوع دراستنا؟! وخليل لا ينفي ذلك ولا يؤكّده (خوري، م. س، ص2/78). في حين أن أوصافَ الصوباوي وانتقاداتِه اللاذعة تنطبقُ حصراً على مخطوطتنا ولنقل دون غيرها من المخطوطات والترجمات. فهي ترجمةٌ بليغة تتصرّفُ أحياناً بالآيات تقديماً وتأخيراً بحسب مقتضى السجع وأساليب البيان، وهي على الأخصّ تُعرِّب الأسماءَ السريانية لتستخدمَ الصيغ القرآنية لها: عيسى ويحيا وغيرها. ولم تجمع هذه الصفات أيّةُ مخطوطةٍ قديمة من ترجماتِ الأناجيل سوى هذه التي نحن بصدد دراستها.

وميزتا السجع والأسماء القرآنية هاتان هما ما دفع الأب خليل إلى اعتبار أن مخطوطتَنا هذه موجّهة خصوصاً إلى جمهورٍ من المسلمين. (خوري، م. س، ص2/78). وهو ما يوافقه عليه القس حكمت قشّوع في أطروحته (ص129) إذ يقول ما تعريبه: “مصطلحات هذه الترجمة تتحرّكُ على نحوٍ وثيق في جوّ القرآن. ولا بدّ أن النموذج الأصلي لهذه الترجمة قد ظهر في محيط إسلامي. والمترجم عربي مسيحي. وكان هدفُه إيصال الإنجيل بسماتٍ لغويّة مألوفة على الآذان الإسلامية”.

ويبقى شيخُنا الحبيب غريباً تماماً عن هذه المقولات والإشكاليّات المطروحة في موضوع دراسته. وذلك لأنه، على الأرجح، لم يعرف أناجيل عبد يشوع الصوباوي وارتباطَها الوثيق بالمخطوطة التي يحقّق، ولا اطّلعَ على أبحاث الأب خليل بشأنها، ولا على أطروحة القسّ قشّوع.

وتبقى مسألةُ بلاغةِ هذه المخطوطة المميّزة، واعتمادُها السجع وما يحاكي الفواصل القرآنية، والتي سيحذو حذوها لاحقاً الصوباوي وغيرُه. والطالب يُدرج كل ذلك ضمن أساليب القرن الرابع الهجري البيانية وبالأخصّ ضمن ما يُسمّى التضمين القرآني. (ص329). والمسألة تتخطّى برأينا مجرّد هذا التضمين. وقد درسها الأب خليل في مقالةٍ عنوانها بالغ الدلالة، ألا وهو “ردّ ضمني على إعجاز القرآن”. وفيه يُوردُ نصّاً للعلّامة القبطي الصافي ابن العسّال من كتابه “استحالة تحريف التوراة والإنجيل” وقد ألّفه نحو 1245 م وفيه سعى إلى تبيان أن إعجاز القرآن ليس فيه أي إعجاز، وممّا قال: “وأما النَظم، فلا إعجاز فيه، مع كونِه موجوداً للعرب كثيراً أولاً وأخيراً. فقد قصده الأعمى العربي [يقصد المعرّي]، وعَمَلَ مثله سورةً بسورة. بل وبعضُ النصارى افتُخر عليه بفصاحةِ ألفاظِ هذا الكتاب. فعرّبَ الإنجيل، وأتى فيه بغريب اللغة، وجودةِ النظم، مع تقيّده حفظ معاني الإنجيل على أصلها، ثم سلوكِه في مقاطع الكلام طريقَ ما افتُخر به عليه، ولم يُدْعَ معجزة”. (خوري، م. س، ص2/90).

فهذا النص للصافي ابن العسّال بالغُ الدلالة بالنسبة لبحثنا. إذ يبيّنُ أن هذه الترجمات المسجّعة للإنجيل، وأقدُمها مخطوطتُنا، اعتبرها المسيحيّون، وكذلك المسلمون على الأرجح، جواباً ضمنيّاً على نظرية إعجاز القرآن. (خوري، م. س، ص2/91). وهكذا تبدو هذه المخطوطة وقد حوت منجماً من الإشكاليّات النفيسة والتي من شأنها أن تحرّكَ البحث، وتوجّهَه نحو آفاقٍ جديدة مهمّة ولا سيما في الحوار المسيحي الإسلامي، بيد أن الطالب لم يطرحْ أو يقارب أية واحدة منها!!

وأختمُ بخلاصةِ تجربةٍ شخصيّة في مجال البحث وتدريس مادّة “الترجمات العربية القديمة للبيبليا” في  ماجستير الدراسات الكتابية Etudes Scipturaires فأقول: كلُّ ما كُتب بالعربية في الموضوع منذ 1982 وحتى يومنا هذا أو معظمُه ينطبقُ عليه عموماً عبارة “راوح مكانك”. فما زلنا معزولين عن الخَطوات الكبرى في هذا المجال التي شهدَتْها الدراسات الغربية مع غريفيث وخوري وعربش وقشوع وشولتز وفولاندت وغيرهم. وكلّ باحثٍ عربي في الموضوع إن لم يكن يتقنُ أقلَّه لغتَين أوروبيّتين الإنكليزية والفرنسية ويلمّ بالألمانية إضافة إلى السريانية، فسيبقى يدورُ في حلقةٍ مفرغة من تكرارِ ما قيل وإعادة القول. وهو حالُ هذه الأطروحة، ففيها، وفي معظمِ الدراساتِ العربية في الموضوع، ينطبقُ قولُ الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلمى الذي يلخّص حالَنا منذ زمن:

ما أرانا نقولُ إلا مُعاداً        أو مُعاراً من لفظِنا مكرورا

(كلمة د. لويس صليبا في مناقشة أطروحة مخطوطة إنجيل يوحنا، معهد الآداب الشرقية ILO في جامعة القدّيس يوسف USJ الإثنين 22 نيسان 2024)

 

شاهد أيضاً

قراءة في نهج الرئيس فؤاد شهاب وتجربته الإصلاحية/ بقلم أ. د. لويس صليبا،

قراءة في نهج الرئيس فؤاد شهاب وتجربته الإصلاحية/ بقلم أ. د. لويس صليبا، مقالة نشرت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *