قراءة في نهج الرئيس فؤاد شهاب وتجربته الإصلاحية/ بقلم أ. د. لويس صليبا،
مقالة نشرت في مجلة الدراسات الأمنية/مجلّة فصلية محكّمة، عدد97، ك2-2024
تنطلق هذه الدراسة من مراجعة تقييميّة ونقدية لأطروحة دة فاتن الحاج حسن “فؤاد شهاب 1902-1973: نهج قائد ورئيس” الصادرة مؤخّراً في كتاب، لتتوسّع في عرض التجربة الإصلاحية الرائدة والفريدة للأمير اللواء وأثرها البعيد في التاريخ اللبناني المعاصر.
فؤاد شهاب: ما أبسط الاسم، وما أكثر الألقاب المقرونة به: الأمير، اللواء أو الجنرال قائد الجيش اللبناني ومؤسّسه والرئيس الباني دولة المؤسّسات. وبعض هذه الألقاب مكتسب بالولادة، وأكثرها بالجهد والمواظبة، وكلّها تؤكّد أنه كان عصاميّاً عظاميّاً في آن. أياً يكن فهو بكلمة مختصرة مكثِّفة ظاهرة استثنائية في تاريخ لبنان بل هو فعلاً شهابٌ لمع في سماء موطن الأرز، والشهاب قاموسيّاً: الشعلة الساطعة من النار، وفي آيات الذكر الحكيم: {أو آتيكم بشهابٍ قبسٍ لعلّكم تصطلون} (سورة النمل27/7).
فلذلك كلّه، ولغيره من الأسباب، فهو شخصيّة تاريخية فريدة وتستحقّ المزيد من العناية والدراسة والتبصّر واستخلاص العِبر.
شهاب أبرز شخصيّة في تاريخ لبنان الكبير
وممّا لا يبرح ماثلاً في الذاكرة والوجدان في هذا الصدد أنّني دُعيت لإلقاء محاضرة في الجامعة اللبنانية كلّية الصحّة الفرع الثاني (الفنار) بمناسبة عيد الاستقلال في 21/11/2017 على عتبة المئوية الأولى للبنان الكبير (1920-2020) ويومها تمنّت عليّ الجهة الداعية، أي إدارة الكلّية، أن أتحدّث عن جانبٍ يزرع الأمل في نفوس الطلّاب الشباب المحبطين من تراكم الأزمات وتتاليها في هذا الوطن الصغير. فأطرقتُ متفكّراً متأمّلاً: نحو قرن مرّ على ولادة لبنان الكبير فعن أيّة تجربة مُشرقة يمكنني أن أحدّث هؤلاء الشباب الجامعيين الأحبّاء؟ ولم أجد أمامي سوى تجربة واحدة وشخصيّةٍ وحيدة: عهد الرئيس فؤاد شهاب 1958-1964. ست سنوات أي ما لا يزيد عن 6% من مجمل الحقبة التاريخية التي سأتناولها، ورغم قصر هذه المدّة فقد حوت أبرز الإنجازات من عمر لبنان المعاصر وتاريخه، وهي بحقّ البيّنة الدامغة والتي من شأنها أن تنقض مقولة القائلين إن لبنان الكبير خطأ تاريخي، وهو ما تبسّطتُ بدراسته في كتابٍ لي عرف رواجاً ملحوظاً فطُبع حتى اليوم ثمان مرّات.([1])
وممّا قلتُ في محاضرتي تلك: ستُّ سنوات قضاها الجنرال الأمير والرئيس فؤاد شهاب في الحكم (1958-1964) كانت حافلة بإنجازاتٍ لم تعرفها أكثر العهود الباقية، بل كلّها. سعى الأميرُ الرئيس بفاعلية ونجاح إلى إرساء أسسِ دولةٍ عصرية. ولكنه اصطدم بما سمّاه جدار المال، وبالفاسدين “أكلة الجبنة”، وزعماء الطوائف الذين يفرضون تجاوزاتهم على كلّ العهود.
وختمتُ عرضي بالقول: حسْبُ الرئيس شهاب نزاهتَه وتعفّفه. حسْبُه أنه لم يجدّد رغم طلب أكثر اللبنانيين والنواب منه ذلك. في حين أحرق غيره البلد ولم يسأل عنه في دأبه الحثيث للتجديد وأحداث 1952، 1958، 1988، 2004، دلائل وبيّنات على ذلك.([2])
ميّزاتٌ في شهاب الرئيس لم تتوفّر في سواه
واللوحة التي ترسمها دراسة دة. فاتن عن فؤاد شهاب شخصيّة وهويّة وخلفية تاريخية وعائلية هي والحقّ يقال متكاملة إلى حد بعيد، ما يجعل القارئ يخرج ببورتريه عامّ واضح عن هذا الرجل الذي حكم لبنان ردحاً من الزمن، وكان له تأثير حاسم في تاريخه قبل جلوسه في سدّة الرئاسة وخلاله وبعده.
ولم يقيّض لمن سبق شهاب ولمن تلاه في الحكم ما قُيّض له من عوامل ومعطيات وجذور تاريخيّة وأسرية ساعدت في إيصال السفينة إلى برّ الأمان. فهو المسيحي الكسرواني الماروني ذو الأصول العائلية الإسلامية الممتدّة إلى قريش قبيلة الرسول. وهذه الجذور الإسلامية العريقة يسّرت له قبولاً بل تأثيراً فاعلاً في النصف الآخر من الوطن، تروي المؤلّفة (ص23): “كان يحلو له [الرئيس شهاب] القول لبعض زائريه من الشخصيّات الإسلامية سواء كانت سياسية أم روحية: لا تنسوا أنّي فؤاد عبدالله حسن شهاب”
أميرٌ فقير يتحسّس وطأة الأزمة الاجتماعية
بيد أن هذه العراقة والأصول الشريفة لم تقي الأمير الشابّ العوز والفاقة في صباه (ص23): “كانت أسرة فؤاد شهاب تعاني شظف العيش، وهذا سبب جعله يترك الدراسة ويتوجّه نحو العمل في محكمة جونيه لكي يُعيل أسرته”.
نحن إذاً أمام أمير، بيد أنّه أمير فقير دفعه فقره المبكر إلى إيلاء الشأن الاجتماعي أهمّية قصوى عندما تولّى المسؤولية، وفي ذلك تخلص الباحثة دة ندى حسن فيّاض التي وضعت أطروحة عنه سبقت لنا دراستها: “عرف الرئيس فؤاد شهاب الفقر في صغره، وذاق الحاجة خلال تدرّجه في الخدمة العسكرية، ولطالما كان يضع العدالة الاجتماعية، وإنصاف الطبقات المعوزة، في مقدّم اهتمامه، معتقداً أن العدالة الاجتماعية والإنماء، وحدهما يساهمان بتحقيق ميثاق 1943”([3])
وهذه المعاناة الحقيقيّة كان لها إذاً الأثر البعيد في تحسّس شهاب للأزمة الاجتماعية في لبنان وهي ما ميّزه عن سائر من تعاطوا الشأن العام من سابقيه ومعاصريه اللبنانيين. وكانت من أبرز دوافعه للكثير من الإصلاحات والإنجازات في هذا المجال. يروي كاتب سيرته نقولا ناصيف مقارناً بينه وبين سابقَيه في الحكم: “وخلافاً لما قال به سلفاه إذ وجدا ارتباطاً وثيقاً بين الاضطرابات السياسية التي رافقت حكميهما والتدخّلات العربية والدولية في الشؤون اللبنانية عزا فؤاد شهاب جانباً رئيسيّاً من عدم الاستقرار إلى الفروق الاجتماعية والاقتصادية بين السكّان والمناطق اللبنانية، وخصوصاً بين الساحل والداخل وبين الأطراف”.([4])
واضح أن الأمير اللواء انطلق من مبدأ قائل إن تحصين الوضع الداخلي يولّد مناعة من شأنها أن تقف سدّاً منيعاً بوجه المؤثّرات السلبية الخارجية، تماماً كما أن مناعة الفرد تقيه عدوى الأمراض والأوبئة. وقد اعتبر أن العمل الإنمائي والاجتماعي والتخفيف من حدّة الفروقات الطبقية والاقتصادية بين اللبنانيين من شأنه أن يرسي سلماً أهلياً ويعزّز الانصهار العابر للطوائف بين أبناء موطن الأرز، وفي ذلك يقول في أحدى خطبه الرئاسيّة: “إن العمل الإنمائي الذي يجري في ميادين الاجتماع والاقتصاد والعمران يتعدّى في غاياته رفع مستوى العيش وتحقيق العدالة الاجتماعية إلى صهر اللبنانيين في مجتمع واحد (…) والولاء الخالص لوطن واحد، ولا تقف عند حدود تعايش الفئات والتحالف بينها”([5])
وسبق لنا أن درسنا تعاونه مع المطران غريغوار حدّاد في الشأن الاجتماعي، وتبنّيه للعديد من أنشطة “الحركة الاجتماعية” التي أسّسها هذا الأخير([6]) وحصلت على الرخصة والعلم والخبر في العهد الشهابي 1961. وكان لمقاربة الأمير الاجتماعية أثرها البعيد على الصعيد الرسمي، وبحسب تعبير دة ندى الحسن: “عمل الرئيس شهاب على تطبيق الإنماء المتوازن في سبيل غدٍ أفضل مزاوجاً بين الواقع والحلم حتى قيل إن فؤاد شهاب هو من أدخل الهمّ الاجتماعي إلى السراي في لبنان بعد أن كان غريباً عنه”. (الحسن، م. س، ص201).
وبقي الأمير اللواء يحذّر وينبّه ويناضل في الشأن الاجتماعي حتى اليوم الأخير من حياته، ففي مقابلة أجراها معه العالِم الفرنسي موريس دوفرجيه قبل وفاته في 25/4/1973 بأيام ونشرتها جريدة الأوريان لوجور في 29/4/1973 قال الرئيس شهاب: “المشكلة الأساسية في لبنان اليوم وغداً اجتماعية. يجب إرساء توازن اجتماعي في لبنان لا وجود له. وكان هذا هدفي عندما كنتُ في الحكم. ولا أعتقد أنّني كنتُ أخطأتُ في ذلك. وأرى المشكلة اليوم تطرح نفسها بإلحاحٍ أكثر”.([7])
ويروي باسم الجسر عنه: “لم يفاجأ الرئيس شهاب بنتائج الدراسات التي قامت بها بعثة إيرفد، لأنّها جاءت تؤكّد نظرته إلى الواقع اللبناني واقتناعه بأن المشكلة الحقيقية أو الأساسية الكامنة وراء المشاكل السياسية والطائفية، إنما هي مشكلة اجتماعية اقتصادية. وكان قد شعر بذلك إبّان خدمته في جيش الشرق، في الثلاثينات، في منطقة راشيّا والبقاع وتفهّم أهمّية المطالب الاجتماعية والعدالة الاجتماعية خلال رحلاته الدراسية العسكرية إلى فرنسا في الثلاثينات”. (الجسر، م. س، ص52).
اللواء شهاب القائد المنتصر في معركة المالكية
واللواء فؤاد شهاب العسكري القائد لعلّه من القادة العرب القلائل الذين حقّقوا نصراً واضحاً على العدوّ الإسرائيلي ولا سيما في حرب 1948، تروي المؤلّفة (ص39): “في 5-6 حزيران 1948 خاض الجيش اللبناني أهمّ معاركه في قرية المالكية التي احتلّها الجيش الصهيوني في 28/5/1948. وفي 6 حزيران قبل الظهر هاجم الجيش اللبناني مواقع الجيش الصهيوني في قرية المالكية، وأحكم سيطرته عليها”.
وتخلص الباحثة الحاج حسن في هذا الصدد (ص42): “يتّضح لنا من خلال البحث بروز فؤاد شهاب في حرب فلسطين وذلك من خلال قيادته للجيش اللبناني والمتطوّعين اللبنانيين والأجانب، وخاصّة في معركة قرية المالكية التي كبّد بها الصهاينة خسائر كبيرة وحرّرها بأداء بطولي”.
إنه عملٌ عسكري باسل ومقدام، إن كان على “قدّ” لبنان وإمكاناته العسكرية المحدودة، فهو أقلّه نصرٌ واضح ويؤكّد أن مؤسّس الجيش اللبناني عمل ومنذ البدء على أن يكون لهذه المؤسّسة العسكرية الناشئة عقيدة قتالية واضحة أثمرت ظفراً في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.
بين قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية
وتستوقفنا ردّة فعل اللواء شهاب على مطالبة عددٍ من السياسيين والنوّاب الموافقة على انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1958 (ص51): “إذا فتحتُ هذا الباب فمن يقفله؟ من سيكون في وسعه مستقبلاً منع أيّ ضابطٍ من الترشّح لرئاسة الجمهورية؟ إذا وافقتُ أنا سيعتبر أيّ ضابط أن هذا المزراب حقّ مشروع له”.
وكان حدْس القائد الشهابي في محلّه، فمذّاك صار كلّ قائد للجيش اللبناني مرشّحاً طبيعيّاً وبديهيّاً لرئاسة الجمهورية، ويسعى جهده بالحري للوصول إلى هذا المنصب من خلال قيادة الجيش أكثر ممّا يهتمّ بشؤون القيادة عينها والجيش عموماً! وارتسمت في مخيّلة اللبنانيين نجاح التجربة الشهابية “سابقة” جعلتهم في كثير من الأحيان يؤثرون انتخاب قائد الجيش رئيساً آملين تكرار هذا النجاح، وما كان القادة الذين تولّوا الرئاسة بعد شهاب، مع الأسف، عند حسن الظن!! إذ ليس منصب القيادة ما يصنع الرجال!
وقد وعى الأمير اللواء هذه المخاطر وتوقّع حصولها، وهي ما جعله يتحاشى أن يخلفه عسكري في رئاسة الجمهورية، وكان يقول: “أي قائد للجيش بعدي يُنتخب رئيساً، سيحمل الضبّاط على الخروج عن الانضباط والتدخّل في السياسة، وسيضاعف من طموحاتهم في الوصول إلى السلطة، وسيكون ذلك هدفاً يعملون له من داخل قيادة الجيش”. (ناصيف، م. س، ص507، نقلاً عن مقابلة مع العميد جان ناصيف).
اللعبة الديموقراطية في انتخاب رئيس
ومنذ انتخابه رئيساً كثر الحديث ولا يزال عن الدور الأميركي الحاسم في تسميته، في حين نجده لم يسعَ يوماً إلى أي تأييدٍ خارجي أميركي أو غيره، بل إنّه لم يُحجم عن الطلب من الموفد الأميركي مورفي والسفير الأميركي في بيروت ماكلنتوك، وبصراحة واضحة، عدم التدخّل في هذه المسألة (ص52): “لقد تشاورتُ مع الزعماء اللبنانيين، واتّفقنا مبدئياً على الموقف الذي يؤمّن مصلحة لبنان، فأرجو أن تتوقّفا عن التدخّل في هذا الموضوع”.
والمؤلّفة وهي ابنة جبيل البارّة لا تنسى أن تظهّر دور الزعيم الجبيلي العميد ريمون إدّة يومها (ص53): “الذي أصرّ أن يترشّح للرئاسة ضدّ اللواء فؤاد شهاب رغم يقينه من النتيجة. إلا أنّه أبى إلا أن يحفظ للديموقراطية دورها واحترامها، فلا يقال إن رئيس جمهورية لبنان انتُخب بالإجماع كما في أيّ بلدٍ عربي”.
وموقف العميد اللافت هذا ردٌّ مفحمٌ على كلّ الطروحات الراهنة والقائلة بوجوب التوافق على اسم رئيس، فأين هذا من اللعبة الديموقراطية التي حرص ريمون إدّة وجيله على أن تبقى سارية؟!
وفي الواقع لم يكن الأمير اللواء بأقلّ حرصاً من العميد إدّة على الديموقراطية والأساليب والطرق الديموقراطية وهو القائل في إحدى خطبه: “إن الديموقراطية في لبنان هي شرط من شروط بقاء لبنان، لأنها صورة الوحدة الوطنية والتعبير العملي الحيّ عنها”. (شهاب، مجموعة خطب، م. س، ص96).
إنجازات الشهابية أرست أسس الدولة المدنية
ولا أظنّ أن دراسة د. فاتن هذه تقصّر في عرض إنجازات العهد الشهابي وتحليلها وتبيان أهمّيتها، بل هي بالحري تتبسّط في كلّ ذلك وتفي موضوعها الكثير ممّا يتطلّب ويستحقّ، وتعلن ذلك منذ البداية إذ تقول (ص3): “ومن أهداف الدراسة إبراز أهمّ المنجزات الإصلاحية والتطوّرات التي حدثت على جميع الأصعدة”. ثم تردف مؤكّدة على أهمّية ذلك (ص4): “إن مرحلة حكم الرئيس فؤاد شهاب، وهي مرحلة الإصلاحات في الدولة اللبنانية من جميع النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية تُعتبر من أهمّ مراحل التاريخ اللبناني المعاصر”.
ولا نرى ضرورة للدخول في تعداد هذه الانجازات والتبسّط في تحليلها وتبيان أهمّيتها، فقد استوفت المؤلّفة عموماً هذا الأمر حقّه. ونكتفي في هذا المجال بالملحوظة المهمّة التالية (ص81): “عمل الرئيس شهاب على تحقيق العدالة الاجتماعية عبر وظائف الدولة والتوظيف على طريق الكفاءة، وهذا ما نراه عندما تسلّم الرئاسة، فجعل من أبناء طائفته المارونية، والتي كانت تحظى بنسبة 50% من وظائف الدولة، فتراجعت إلى 33% حسب نسبتهم في عدد السكّان”.
وأيّ زعيمٍ أو مسؤول يقتدي بفؤاد شهاب في هذا المجال؟! ألسنا نرى كلّ سياسي يتولّى الحكم أو الوزارة فيأتي بأبناء طائفته وجماعته ليملأ بهم الدوائر الرسمية حتى صارت الوظيفة الرسمية “تنفيعة للمحاسيب”، وباتت الدولة عاجزة عن دفع رواتب موظّفيها!
وبالمقابل وكما يؤكّد الوزير فؤاد بطرس: “فمن المعروف أنّه في عهد الرئيس شهاب ولدت معادلة 6 و6 مكرّر في الوظائف العامّة أي اعتماد المناصفة في التوظيفات بعد أن جرى تطبيقها في الجيش اللبناني أثناء قيادته له”([8])
ويركّز نقولا ناصيف على أهمّية هذا الإنجاز الإصلاحي في عهد فؤاد شهاب، وأثره في إرساء عدالة اجتماعية جنّبت البلاد الكثير من الخضّات، فيقول: “وللمرّة الأولى منذ الانتداب الفرنسي وضع الرئيس شهاب قاعدة 6 و6 مكرّر([9]) موضع التنفيذ. وحقّق المساواة بين المسيحيين والمسلمين في الوظائف العامّة والرسمية في الإدارة، في خطوةٍ رمت إلى كسر احتكار المسيحيين كل الوظائف الرئيسية في الدولة، وتخفيف أسباب التوتّر في العلاقات الوطنية الناشئة عن تذمّر المسلمين من إجحاف لحقٍّ بحقوقهم في المشاركة والتوازن داخل إدارات الدولة ومؤسّساتها”. (ناصيف، م. س، ص380-381).
وهذه السياسة الإصلاحية التي رمت إلى إحقاق العدالة والمساواة في توزيع الوظائف الرسمية بين مختلف أطياف المجتمع اللبناني أثارت حفيظة عدد من المراجع السياسية والدينية المسيحية إذ اعتبرت نفسها خاسرة من جرّاء هذه التدابير، وكانت أحد أسباب تردّي العلاقة بين الرئيس شهاب والبطريرك الماروني بولس المعوشي، ينقل نقولا ناصيف عن المطران شكرالله حرب قوله: “تحفّظ البطريرك المعوشي على السياسة الجديدة التي اتّبعها الرئيس، في تطبيق خطّته الإصلاحية، بتعديله التوزيع المعتمد في وظائف الإدارة، فأضحى وفق قاعدة 6 و6 مكرّر”. (ناصيف، م. س، ص457).
شهاب أهمّ رئيس حكم لبنان
ولا بدّ لنا من وقفة عند استقالة الرئيس فؤاد شهاب سنة 1960، لا سيّما وأنّنا بتنا نفتقد ثقافة الاستقالة في بلدنا، فما عدنا نسمع بمسؤول، مهما بلغت درجة خيبته وفشله، يعزم على الاستقالة! بل على النقيض من ذلك تماماً، فكلّما زاد فشله وتفاقم زاد تمسّكه بل تشبّثه بالكرسي وبالمسؤولية!
وخلافاً لكلّ ذلك، فالرئيس شهاب استقال إثر نجاحه في إعادة توحيد البلد وإنهاء الحرب الأهلية فيه ووضع القطار على السكّة الصحيحة. والمؤلّفة الجبيلية لا تنسى الإشارة إلى دور العميد إدّة في ثني الرئيس عن قراره (ص89): “أثّرت كلمة النائب ريمون إدّة كثيراً في نفس الرئيس فؤاد شهاب لأنّ ريمون إدّة كان قد نافسه سنة 1958 على رئاسة الجمهورية، إذ قال له: إذا أصرّيت يا فخامة الرئيس على الاستقالة، فإنّك ستكون مثل الجندي الذي يفرّ من المعركة”.
فها هو أحد أبرز أخصام الشهابية يرجو الرئيس شهاب العودة عن استقالته. وكنتُ في دراسة آنفة قد نقلتُ عن العميد إدّة خصم الشهابية العنيد قوله لي شخصيّاً في ت2/1992: “فؤاد شهاب هو أهمّ رئيس جمهورية حكم لبنان”. (صليبا، لويس، لمحات، م. س، ص130). والوزير فؤاد بطرس يروي موقفاً مماثلاً: “وقد بلغني أن عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون إدّة، أشدّ معارضي العهد الشهابي ضراوة، اعترف في المرحلة الأخيرة من حياته أن ما كان يشكو منه في الستّينات، لا يمكن مقارنته مع ما جرى في لبنان في الآونة الأخيرة، وبأن عهد فؤاد شهاب كان بالنتيجة أفضل عهدٍ في لبنان مبدياً أسفه لمعارضته”. (بطرس، المذكّرات، م. س، ص91).
ولا تغفل المؤلّفة ذكر موقف معارضٍ شرس آخر للشهابية، أصرّ هو الآخر على الرئيس اللواء العودة عن الاستقالة، إنه الرئيس صائب سلام الذي قال له يومها (ص89): “وجودك ضمانة لبقاء لبنان، وبقاؤك في سدّة الرئاسة يلبّي رغبة كلّ لبناني”.
وصائب سلام كان على رأس مضطهدي الشهابية والمكتب الثاني عندما تولّى رئاسة الحكومة في بداية السبعينات، ورغم ذلك فقد أقرّ في التسعينات كما أقرّ صديقه إدّة بريادة الرئيس شهاب. يروي عنه اللواء أحمد الحاج الحوار التالي: “إنّي أسألك يا دولة الرئيس وأرجو أن تجيبني بصراحتك المعهودة لو أجرينا استفتاءً اليوم لتقييم عهد الرئيس شهاب، فماذا ستكون النتيجة؟ أجابني [الرئيس سلام]: الرئيس شهاب صار أسطورة. فودّعته قائلاً له: وصلني حقّي”.([10])
والمؤلّفة ليست ببعيدة عن جوّ هذا التقييم العامّ للحكم الشهابي والذي أقرّ بريادته الخصوم والأعداء قبل المحبّين والأصدقاء، فهي تقول (ص102): “فرغم كلّ ما قيل عن فؤاد شهاب، فقد كان أفضل رئيس جمهورية عرفه لبنان، وكان عصره عصراً ذهبيّاً دخل قصر الرئاسة نظيف الكفّ، وخرج منه حسبما يقتضيه الدستور”.
الحسّ الشهابي المرهف
ولا يفوت المؤلّفة كذلك، وبحسّها الأنثوي أن تلحظ في خاتمة مسألة الاستقالة (ص90): “وساد الصمت في منزل الرئيس الذي بقي وحيداً مع زوجته يصغيان إلى أجراس الكنائس القريبة تُقرع فرحاً، ولا بدّ أنّهما تبادلا نظرات استعادت دقّات الحزن التي قرعتها أجراس هذه الكنائس يوم 31 تموز 1958 عندما انتُخب الجنرال رئيساً، وها هي الآن الأجراس ذاتها ترسل دقّات الفرح ابتهاجاً بعدول الرئيس عن استقالته (…) فقد انتُخب بالفعل رئيساً للجمهورية في 20/7/1960”.
وإنّنا لعلى يقين أن تقييم دور الرئيس اللواء على حقيقته وفهم الحسّ الشهابي المرهف وتفهّم أبعاده يحتاج حسّاً أنثوياً واضحاً لتظهيره يسبر أعماق المشاعر ولا يتوقّف فقط عند الظواهر، وهو ما لم تقصّر المؤلّفة غالباً في تبيانه.
ومن ناحيته لم ينخدع الرئيس اللواء بمظاهر التأييد العارم والقاطع الذي أبداه النوّاب والزعماء اللبنانيّون للرئيس شهاب وهم يطالبونه بالعودة عن استقالته، فقال يومها لمساعده الياس سركيس: “الآن ألحّوا عليّ جميعهم وأرغموني على العودة إلى الرئاسة، وفعلت. لكنّهم لن يتركونني أحكم كما أرتَئي”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص443، نقلاً عن الوزير فؤاد بطرس عن الرئيس الياس سركيس).
بيد أنه بالمقابل مضى قدُماً في ورشته الإصلاحية العامرة، فكان عهده عهد المؤسّسات وبناء دولة الاستقلال بامتياز: “عاد الرئيس شهاب عن استقالته محمّلاً بثقة اللبنانيين، فلم يخذلهم عاملاً على إنجاح عمليّتي التخطيط والإنماء عن طريق تأمين الاتّصال والارتباط اللازمَين بين السلطة الحاكمة المصمّمة والقاعدة الشعبية”. (فيّاض، م. س، ص248).
وبشأن مسألة الاستقالة وما يمكن أن يُستخلص منها من عِبرٍ، فإنّنا نوافق الباحث باسم الجسر في ما خلُص إليه في هذا الموضوع: “أيّاً كانت الأسباب المباشرة أو العميقة، الشخصيّة أو المبدئية، فقد كانت استقالة الرئيس شهاب من الرئاسة وعودته عنها تحت إلحاح كلّ زعماء البلاد والشعب ونوّابه، علامة مميّزة في تاريخ السياسة اللبنانية، وأمثولة في الزهد في المناصب، وفي مناقبيّة القيام بالواجب العام”.([11])
ناسك صربا الرئيس الزاهد
ولا تفوت المؤلّفة الإشارة إلى زهد الأمير اللواء وتقشّفه، وهي ميّزة ثابتة في شخصيّته وأدب حياته، ومن مقوّمات نجاحه في الحكم، تذكر مثلاً (ص51): “قصد مورفي والسفير الأميركي بيت قائد الجيش [اللواء فؤاد شهاب] في جونيه، فتفاجأ شهاب من الزيارة كما تفاجأ ضيفاه من بساطة منزل قائد الجيش”.
وهي ملحوظة في محلّها! وعن هذا التقشّف البالغ الدلالة يروي فؤاد بطرس: “ومن مميّزاته [الرئيس شهاب] أيضاً التجرّد ومراعاة المبادئ القانونية بكلّ دقّة. والتقشّف، فلم يحبّ السهرات والحفلات والدعوات على مختلف أنواعها. وكانت حياته أقرب إلى التنسّك حتى إنّه دعي في وقتٍ من الأوقات ناسك صربا” (بطرس، المذكّرات، م. س، ص104).
ويصف العميد الركن ميشال ناصيف مرافق رئيس الجمهورية فؤاد شهاب مكتبه الرئاسي كما يلي: “لمّا دخلتُ مكتبه في صربا وجدته: غرفة متواضعة فيها مقاعد لأربعة أشخاص فقط، ومكتب خشبي بسيط عليه قلم حبر ونظّارتان وتمثال لمريم العذراء”([12])
ولكن هل كان هذا الناسك متطرّفاً في زهده وترفّعه؟ نقرأ لباسم الجسر مؤرّخ الشهابية الملحوظة التالية: “وفي الحقيقة تلك كانت نقطة القوّة والضعف في آن في شخصيّة فؤاد شهاب وفي نهجه وحكمه. نعني ترفّعه عن السياسة وألاعيبها، وزهده في المناصب والسلطة، إذ كان يأنف خوض المعارك السياسية والنزول إلى الساحة، أو مخاطبة الجماهير والمواجهة العلنية لأخصامه أو قيادة حزب سياسي. كما كان يأبى التخلّي عن دور الجندي الذي أجبرته الظروف على أن يقوم “بوظيفة” رئيس الجمهورية، ويخشى من ثبوت اتّهام أخصامه له بأنه سعى إليها في أثناء قيادته للجيش”. (الجسر، م. س، ص76).
فهل يمكن أن يقال عن ناسك صربا أنّه أحجم حيث وحين وجب أن يُقدم؟! وذلك في حقبات الاستحقاق الدستوري في 1952، و1964، و1970 حين أصرّ، وأمعن في الإصرار، على أن يبعد عن نفسه “كأس” الرئاسة، فآلت إلى من قادوا البلد إلى الخراب؟! وممّا يشجّع الباحث على طرح هذا التساؤل ومناقشة هذه الفرضية أن الأمير اللواء عاد وقبيل وفاته وأبدى أسفه وحسرته على تطرّفه في الزهد بالحكم، فنقل عنه مرافقه العميد ميشال ناصيف أنه وفي لقائه الأخير معه في 21/4/1973 وقبل أربعة أيّامٍ من وفاته، أسرّ إليه الرئيس فؤاد شهاب بالتالي: “أنا نادم على عدم ترشّحي للرئاسة عام 1970. عوض أن أوجّه رسالة العزوف كان ينبغي أن أعود إلى الحكم. ربما كان بوسعي أن أقوم بعملٍ ما، وكنتُ قد جرّبتُ مقدار ما أستطيع. ربّما لم نكن نصل إلى ما وصلنا إليه”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص561).
ويعود العميد ميشال ناصيف في مذكّراته الصادرة سنة 2018 ليؤكّد هذه الواقعة: “أسرّ لي الرئيس شهاب بندمه عن الإحجام عن الترشّح آنذاك [1970] يوم زرته في منزله [قبيل وفاته] سنة 1973”. (ناصيف، ميشال، م. س، ص36).
الرئيس المتطرّف في اعتداله
أياً يكن، فليس من شأن المؤرّخ ولا من مهمّة الباحث الأكاديمي تفحّص ومناقشة فرضيّات كهذه لم تحصل! وقد يكون الأمير اللواء المعتدل دوماً متطرّفاً في اعتداله، وذلك خلافاً للحكمة البوذية القائلة: “كن معتدلاً في كلّ شيء، بما في ذلك الاعتدال نفسه”.([13]) و”الزايد خيّ الناقص” يقول المثل اللبناني، أو “كلّ شي زاد بالمعنى نقص”([14])
ولعلّه كذلك لم يكن صبوراً بما يكفي رغم زهده، وبوذا يقول: “خير الزهد الصبر” (صليبا، لويس، هكذا علّم، م. س، ص272، 24/3). فضاق ذرعه وعيل صبره من ألاعيب السياسيين “أكلة الجبنة” Fromagistes ومماحكاتهم وهو القائل عند استقالته في 20/7/1960:
J’en ai assez de ces politicards et de leurs acrobaties et qui ne cherchent par leurs manoeuvres que leur propre intérêt. (الحاج، من الجندية، م. س، 105).
واللافت هنا أن اللواء أحمد الحاج الذي أورد هذه العبارة للرئيس شهاب المستقيل اكتفى بذكرها بالفرنسية، وتحاشى، عمداً ربما، تعريبها، ذلك لأنّها تعرّض بالطبقة السياسية اللبنانية برمّتها! يقول شهاب ما ترجمته:
“لقد طفح الكيل من هؤلاء الدسّاسين([15]) وبهلوانيّاتهم، فهم لا يبحثون من خلال مناوراتهم إلا عن مصلحتهم الشخصيّة”.
ولنلحظ هنا كيف أن الأمير أبى حتى أن يدعوهم “سياسيين” على ما يحمل هذا اللقب من سلبٍ وإيجاب، فقد اعتبرهم حتى غير جديرين به، فسمّاهم “دسّاسين” Politicards أي دأبهم الدسّ وفبركة الدسائس والمؤامرات لتمرير مصالحهم الشخصيّة على حساب المصلحة العامّة. أما عندما كان الأمير اللواء يتحدّث بالعربية فكان يسمّيهم “تجّار سياسة”، ينقل عنه العميد فرنسوا جينادري: “كان الرئيس شهاب يقول ويكرّر: ليس عندنا في لبنان سياسيّون، بل تجّار سياسة”. (ناصيف، م. س، ص377).
وهو بذلك قد أصاب كبد الحقيقة ووضع الإصبع على الجرح النازف منذ قيام لبنان الكبير 1920 وحتى يومنا هذا، فلبنان افتقد ولا يزال سياسيين كباراً يعملون في سبيله بغضّ النظر عن المصالح الشخصيّة الضيّقة، ولم يعرف أو يُنشئ سوى “دسّاسين” أو تجّار سياسة!!
وإذا كان الرئيس شهاب قد رأى سنة 1960 في وجود سكّة حديد وقطار بعضاً من تعزية له فقال: “لحسن الحظّ لدينا قطار في لبنان، وأظنّه الشيء الوحيد الذي يسير في شكلٍ مستقيم في هذا البلد”. (بطرس، فؤاد، المذكّرات، م. س، ص54). فقد عمد تجّار السياسة وأكلة الجبنة إلى القضاء على القطار وسِككه التي كانت تصل مختلف المناطق بعضها ببعض كي لا يبقى في الوطن الصغير شيئاً مستقيماً!!
رئيس من خامة القدّيسين
ووسط “طبقة أكلة الجبنة” Fromagistes هؤلاء والذين قال عنهم الرئيس شهاب “إنّهم لا يمشون مع الوطن مجّاناً” (ناصيف، نقولا، م س، ص289)، هل يصحّ أن نلوم الأمير على انزوائه وزهده بالسياسة وأهلها وبناسها كذلك؟
تحضرني في خلاصة هذا المبحث عن زهد الأمير طُرفة تُروى عنه، وهو المحبّ للنكتة كما عُرف عنه: “في إحدى زيارات الرئيس فؤاد شهاب لمزار القدّيس شربل في دير عنّايا، خفّ رهبان الدير للسلام عليه. فانبرى راهب يقول للرئيس شهاب: الناس عم ينتقدوك يا فخامة الرئيس، إنك ما بتحبّن، وما بتعيش معن، بتحبّ تعيش وحدك بعزلة، وأنا بعطيُن حقّ لأنّو بُعدك عن الناس ما طلع منّو شي. فحبكت النكتة عند شهاب وأجاب: بتقدّر يا محترم، لو القديس شربل عاش معكن ومع الناس كان طلع منّو شي؟”([16])
ولعلّ الأمير اللواء كان بالحري من خامة القدّيسين لا من طينة السياسيين والدسّاسين كما يقول ويكرّر مراراً مرافقه الأمين العميد ميشال ناصيف.
إنّه وطبقاً لتعبير نقولا ناصيف راوي سيرته: “أوّل رئيس يخرج من الرئاسة إلى العزلة كي ينطوي على نفسه، فلا تلاحقه لعنة الفساد والرشوة والكسب غير المشروع واستغلال السلطة، ويُشهَّر بسمعته”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص572).
وهو إلى كلّ ذلك: “أوّل رئيس يموت فقيراً. وهل يمكن، يوماً، تصوّر رئيس يموت فقيراً؟!”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص572-573).
الانقلاب الفاشل والأدوار الخارجية
وتبقى مسألة محاولة الانقلاب الفاشلة على حكم الرئيس شهاب في 31/12/1961، والمؤلّفة تتبسّط في عرض تفاصيلها أما نحن فنكتفي بملحوظة بشأنها، ألا وهي ما تنقله من تقرير لكمال جنبلاط وزير الداخلية يومها نشرته الكفاح في 24/1/1962 وجاء فيه (ص95): “إن بعض أجزاء المؤامرة قد أُعدّ في روما، وكان السفير الإسرائيلي فيها يطّلع عليها، ويساهم في نسج خيوطها. كما أن أجزاء أخرى من المؤامرة أُعدّت في عمّان الأردن وفي لبنان بواسطة العملاء وفي طليعتهم قادة الحزب السوري القومي”.
وكان جنبلاط قد أدلى بتصريح نقلته مجلّة الصيّاد (ع905، 18/1/1962) وجاء فيه: “إن مؤامرة القوميين كانت تستهدف لبنان وكيانه واستقلاله وتستهدف رؤوسنا جميعاً، وتستهدف أيضاً عودة الاستعمار والقواعد العسكرية والأحلاف تنفيذاً لخطّة حماية المصالح البترولية في الخليج العربي بواسطة حكومات موالية لأرباب هذه المصالح، وكذلك لتدعيم وضع إسرائيل بشكل نهائي”.([17])
أفيكون الفريق الأكثر عداوة لإسرائيل وللصهيونية بل وحتى لليهود قد عمل لمصلحة هذا الكيان الغاصب؟! تذكّرني هذه المفارقة التي يشير إليها كمال بك بحكمة للمتصوّف “أبو يزيد البسطامي (188-261هـ) تقول: “أبعد الخلق من الله أكثرهم إشارة إليه”.([18])
وتبقى مسألة الأدوار الأجنبية في هذا الانقلاب حقيقة تاريخية ثابتة. يؤكّد الباحث العراقي د. فتحي عبّاس خلف في خلاصة دراسة موسّعة له: “تبيّن أن التدخّل البريطاني في الانقلاب كان على درجة عالية (…) فضلاً عن اتّصالات كانت قد تمّت بين الرئيس السابق كميل شمعون وملك الأردن الحسين بن طلال (1953-1999)” ([19])
ويتابع هذا الباحث العراقي نقلاً عن تقارير أجنبية عديدة تؤكّد الدور البريطاني-الأردني المزدوج في محاولة الإنقلاب:” وثبت وصول قوّات بريطانية إلى الأردن سرّاً أواخر 1961 فضلاً عن 13 ضابطاً طيّاراً بريطانيّاً مع طائراتهم. إلا أن هذه القوّات عادت بسرعة بعد فشل المؤامرة كي لا يُفتضح أمرها”. (خلف، م. س، ص372).
ومرافق الرئيس شهاب العميد ميشال ناصيف وهو الذي ألقى القبض على قائد الإنقلاب د. عبدالله سعادة يؤكّد هذا التدخّل الخارجي من خلال محتويات الحقيبة السوداء التي ضبطها بيد هذا الأخير، فيروي في مذكّراته: “الحقيبة التي كان يحملها رئيس الانقلاب الدكتور عبدالله سعاده كانت المؤشّر على ضلوع بعض الدول في التخطيط لهذا الانقلاب. ففي الحقيبة السوداء الليرة الإنكليزية والدينار الأردني وطبعاً الليرة اللبنانية. ومجموع هذه العملات يقدّر بحوالي 400 ألف ليرة لبنانية. وتوجّهت بعدها إلى منزل الرئيس شهاب حاملاً الحقيبة السوداء، وأفدته بالتفاصيل. وطلب منّا الرئيس عدّ المال معي شخصيّاً، وتنظيم محضر بموجوداتها. وتبيّن فيما بعد لدى المحقّق العدلي الذي استجوب بدءاً الدكتور سعاده بأن الموجودات مطابقة لما صرّح به لا سيما لجهة الدراهم ومصادرها”. (ناصيف، ميشال، م. س، ص24).
ومحاولة الانقلاب الفاشلة هذه كانت على ما يبدو تستهدف الرئيس شهاب شخصيّاً وترمي إلى القضاء عليه كما تؤكّد مصادر تاريخية عديدة، فنقولا ناصيف يذكر بشأنها: “محاولة انقلاب عسكري نفّذها الحزب السوري القومي الاجتماعي منتصف ليل 31/12/1961، وكانت محاولة ترمي في إحدى خطواتها إلى الاستيلاء على السلطة وإسقاط النظام، وقتل رئيس الجمهورية”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص429).
وينقل الباحث العراقي د. خلف عن مصادر عديدة: “واعترف عبدالله سعادة بعد مواجهته لشوقي خيرالله عن وجود شبكة اغتيالات ينويان تنفيذها بعد أن أعدّها الحزب”. (خلف، م. س، ص375).
ورغم محاولتها استهدافه شخصيّاً فالأمير اللواء أعلن بشأن الانقلابيين أمام عددٍ من ضبّاط الجيش كما تروي دة فاتن الحاج حسن (ص96): “سوف نطبّق عليهم القانون، لكن القانون سوف يطالنا إذا أخطأنا. وأصرّ الرئيس شهاب على أن تكون المحاكمات عادية”.
والرئيس شهاب برفضه توقيع أحكام الإعدام الصادرة بحقّ قادة هذا الانقلاب وإصداره مراسيم بتعديلها إلى السجن المؤبّد (ص96) أظهر نبلاً وسماحاً فائقاً، وبيّن أنه حاكم تاريخي يمنح العفو عند المقدرة. وكما تروي دة ندى الحسن: “مُنح المتّهمون القوميّون كلّ وسائل الدفاع وحقوقه، واستُبدلت أحكام الإعدام بالسجن المؤبّد ولم تُنفّذ بكاملها. وما لبث أن صدر عفو عنها بموافقة الرئيس شهاب”. (الحسن، م. س، ص72).
المسيحيّون ومسؤوليّتهم عن وضعهم الحرِج
ووقفة تأمّل وتبصّر أخيرة عند ثلاث من مقولات الأمير اللواء. فقد عُرف عنه قولٌ دأب على تكراره: “المسيحيي لازم تعلّمن مصلحتن غصبن عنن”. (بطرس، المذكّرات، م. س، ص61).
وهي مقولة صحّت مع الأسف، ولا تزال صحيحة إلى حدّ بعيد. فطالما انجرف هؤلاء الذين يدين لبنان الكبير لهم بنشوئه وراء الأوهام والتطرّف والزعماء المتطرّفين وأولئك الذين يزايدون برفع السقف وإطلاق الشعارات الطائفية المغالية وغير القابلة للتحقيق. وهم في ذلك غافلون عن أبسط حقائق التاريخ والجغرافيا، وأوّلها وأكثرها بداهة أنّهم أقلّية صغيرة وسط بيئة مختلفة بل ومخالفة ويسهل أن تتحوّل إلى معادية فتنقضّ على طموحاتهم المغالية هذه في أيّة لحظة. فإذا كانوا قد اختاروا، وخلافاً للأقلّية اليهودية في فلسطين، أن يعيشوا في وئام وانسجام مع الأكثرية المحيطة بهم فعليهم أن “يدوزنوا” خياراتهم ويختاروا ممثّليهم ونوّابهم ويحدّدوا أهدافهم على ضوء هذه الحقيقة وبشيء من الحكمة والواقعية والترويّ. وهم في الحقيقة قلّما فعلوا ويفعلون ذلك، إذ تصرّفوا ولا يزالون بانفعالية استعلائية وغرائزية وطائفية، أو تبعاً لمصالحهم الشخصيّة والفردية الضيّقة!
وكم بالغوا في “سعدنة” الغرب في المظهر والاتّكال الكسول وغير المجدي عليه. وقد لخّص الأمير اللواء هذا الوضع المأزوم بما يلي: “اللبناني بيعرف شو بدّو، بس بيعمل غير ما بدّو… ما بعرف ليش بيلبس فرنجي، بس عقلو مش فرنجي”([20])
تداعيات الانتقال من المتصرّفية إلى لبنان الكبير
بيد أن هذه النظرة النقدية إلى الذهنية المسيحية السائدة، والأوضاع التي أوصل المسيحيّون أنفسهم إليها لم تحل دون أن يحمل الرئيس شهاب همّ الوضع المسيحي عموماً، ولا سيّما بعد التحوّل الكبير الناتج عن الانتقال من لبنان المتصرّفية إلى لبنان الكبير في أيلول 1920، وقد قال مرّة سنة 1966 إن البطريك الياس الحويّك عندما طالب بلبنان الكبير في مؤتمر الصلح في باريس 1919: “وسّع جغرافيّته وقلّص ديموغرافيّته”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص296، نقلاً عن العميد جورج حرّوق). والمقصود أن المسيحيين لم يعودوا أكثرية ساحقة كما كانوا في المتصرّفية. غير أن ملحوظة شهاب اللافتة هذه لم تكن تعني تبرّماً من لبنان الكبير بقدر ما كانت تعبيراً عن قلق، سبقت الإشارة إليه، على مصير المسيحيين في لبنان وسط محيطهم العربي، ووجوب أن يتكيّفوا بالتالي مع هذا الواقع المستجدّ. وفي ذلك قال: “على المسيحيين أن يدركوا مصيرهم. إنّهم الآن في محيط عربي، وآمل في أنّهم يتفهّمون ذلك لأن فرنسا لم تعد في لبنان كي تحميهم. باتوا في قلب محيطهم العربي، وعليهم التكيّف مع هذا الواقع”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص297، نقلاً عن العميد ميشال ناصيف).
والأمير اللواء بحدسه الصائب لم يكن يستبعد عودة حروب يقع المسيحيّون ضحيّتها، أو تُشنّ عليهم. ومثّلت طويلاً في وجدانه وذاكرته الفتن الطائفية التي عرفها المسيحيون ولا سيما الموارنة على مرّ تاريخهم حتى الثورة التي أطفأها هو سنة 1958. وإذ ذاك قال بمشروعَين وعمل بدأب على تنفيذهما: منفذ بحري، وطريق القمم.
المنفذ البحري كان مرفأ جونية وهو المتنفّس للبلدات الكسروانية على البحر. أمّا طريق القمم فقد تولّدت الفكرة تدريجيّاً: سلسلة قمم تربط مرتفعات بلدات نائية وجرودها بعضها ببعض لإبقاء الطريق سالكة أمام قرى مسيحية قد تجد نفسها يوماً محاصرة أو معزولة: من قمّة جبل الأرز في الشمال مروراً بحدث الجبّة-تنّورين-اللقلوق-أمهز-ميروبا-القليعات-بكفيّا وصولاً إلى جزّين.
وعن طريق القمم والمنافذ البحرية يشهد مرافق شهاب العميد ميشال ناصيف في مذكّراته: “طريق القمم: انطلاقاً من هاجس يراود سكّان الجبل المسيحيين من أقصى الشمال إلى الجنوب نفّذ الرئيس شهاب مشروع طريق القمم الذي ربط المناطق الجبلية ببعضها البعض بدءاً من إهدن مروراً ببشرّي وحدث الجبّة وتنّورين واللقلوق والعاقورة وكسروان وبكفيا والمديرج وصولاً إلى جزّين. وتمّ ربط هذه الطريق بالموانئ البحرية في شكّا والبترون وجونيه، وذلك تفادياً لأيّ حصار تتعرّض له المناطق المسيحية فيما لو نشب صراع مستقبلي بين الفرقاء اللبنانيين”. (ناصيف، ميشال، م. س، ص35).
وقال الجنرال شهاب عن هذه الطرق عام 1968: “شُقّت هذه الطرق وسواها من ضمن شبكة واسعة شملت المناطق اللبنانية كلّها، وهي لا تربط قرى بعضها ببعض وحسب، وإنّما تؤمّن اتّصال الناس بعضهم ببعض”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص297، نقلاً عن المعاون حنا بو ملهم). وبالفعل فهذا الربط بين القرى عبر شبكة من الطرق لم يقتصر على البلدات المسيحية. “ففي عام 1960 وإثر مسحٍ متكامل للطرق اللبنانية، تفاجأ الرئيس شهاب من أن 300 بلدة شيعية من 450 لم تكن الطرق تصل إليها. وبعد سنة نجحت شبكة واسعة من الطرق في ربط 1138 قرية بعضها ببعض”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص404-405).
وهكذا، فرغم ما خصّ الرئيس شهاب به المناطق المسيحية من عناية لم يسبق أن حظيت به في العهود السابقة، فقد كانت عنايته بالمناطق الأخرى الإسلامية مثار نقد فئات سياسية طائفية اعتبرت نفسها متضرّرة من كلّ هذه المشاريع العمرانية فوجّهت إليه انتقادات لاذعة واعتبرت كما يروي الوزير فؤاد بطرس أن: “سبب اهتمام الرئيس شهاب بالمناطق الإسلامية يعود إلى أن جدّه كان مسلماً ويدعى حسن، واتّهمته بالانحياز إلى غير المسيحيين”. (بطرس، فؤاد، المذكّرات، م. س، ص60).
شهاب وكراهيّته للرحلات الرئاسية السندبادية!
والمقولة الشهابية الثانية التي تستوقفنا هي ما كان يحلو للأمير اللواء ترداده بالفرنسية: Je suis là pour gouverner non pour régner
أي “أنا هنا لأحكم لا لأملك”.([21])
لم يشأ الرئيس شهاب أن يكون كملكة إنكلترا فيتركّز دوره وعمله على ترؤس الاحتفالات الكبرى والفخمة والتي تحتشد فيها الجماهير وتحيّيه وتصفّق له، بل كان بالحري يتجنّب الحفلات والاستعراضات المشهدية التي تستهوي غالباً الرؤساء والزعماء وتدغدغ نرجسيّتهم وتثير فيهم جنون العظمة Paranoïa!
وفي مقالة له بعنوان “الرئيس فؤاد شهاب كما عرفته”، نشرتها مجلّة الصيّاد في بيروت (ع 27 نيسان 2003) يروي العميد ناصيف ما شرحه له شهاب عن الفرق بين العبارتَين: “إذا كنتَ يا خواجا لا تدرك الفرق ما بين Gouverner و Régner ففتّش في قاموسك… فإذا قبلتُ دعواتٍ شتّى فمن يقرأ ويحلّل البريد “الما شاء الله” الذي تحملونه إليّ كلّ يوم… افهموا للمرّة الأخيرة طريقتي في العمل”([22])
ويروي عنه أيضاً مرافقه العميد ميشال ناصيف: “فؤاد شهاب لم يكن يحبّ البهرجات والظهور والتصاريح والبيانات، توجيهاته لبناء الدولة تحدَّد في الخطابات التي كان يُعدّها شخصيّاً ثم يُصار إلى ترجمتها”. (ناصيف، ميشال، م. س، ص26).
ولم تكن السفرات الرئاسية إلى الخارج كذلك تستهويه، ولا كان يجد لها جدوى حقيقيّة. والمفارقة الكبرى في نهجه تكمن في أن أنجح عهد رئاسي في تاريخ لبنان كان العهد الأقلّ سفراً، بل بالحري كان العهد الوحيد الذي لم يسافر فيه رئيسه ولو مرّة واحدة إلى الخارج! يروي الصحافي جورج فرشخ: “المؤتمر الثاني للقمّة العربية من 5 إلى 11 أيلول 1964 حيث كان الملوك والرؤساء العرب على موعد في الإسكندرية في مصر. كان يفترض بالرئيس شهاب أن يمثّل لبنان في تلك القمّة. لكن الرئيس شهاب لم يكن يحبّ السفر، خلافاً للرئيسَين اللذين سبقاه، ولجميع الرؤساء الذين خلفوه. كأن بعضهم “لم يرشّح نفسه للرئاسة إلا من أجل أن يقوم بجولة على أكبر عددٍ ممكن من بلدان العالم وفاء لعهدٍ قطعه لزوجته قبل أن يُنتخب رئيساً على ما شاع في يومٍ من الأيّام”.([23])
وما نخال أن فرشخ قد جافى الحقيقة في تحليله ومقارنته هذه!! فماذا أفادت هذه السفرات والرحلات السندبادية لبنان سوى أنّها أرهقت خزينته بالمصاريف والتكاليف الباهظة من العملة الصعبة، حتى إن الموكب الرئاسي احتاج أحياناً إلى طائرتَين كاملتين كي تقلّاه وتطيرا به من بلدٍ إلى آخر. وقد قيل عن ذاك الرئيس الرحّالة إنه “مسبّع القارّات” وهو تعبير اشتُقّ للسخرية على وزن التعبير اللبناني الشعبي “مسبّع الكارات”. في حين لم تعد هذه الرحلات الرئاسية البطّوطية وأمثالها على لبنان بأيّة فائدة عملية!!
لبنان يتألف من سكّان لا من مواطنين!
والمقولة الشهابية الثالثة هي التالية: “لبنان يتألّف من سكّان وليس من مواطنين”. (خويري، م. س، ص418). ويروي السفير صلاح عبّوشي في السياق عينه وضمن وقائع إعداد البيان الأوّل للرئيس المنتخب فؤاد شهاب في 4/8/1958 أنّه عند مراجعة النصّ وقراءة العبارة التي تشير إلى الثقة الغالية التي وضعها فيه مواطنوه طلب فخامته استبدال كلمة المواطنين بالشعب اللبناني الكريم”.([24])
وينقل الوزير فؤاد بطرس عن الرئيس شهاب قوله: “إنّه لم يعثر على مواطنية لبنانية حقّة وكافية ومطلوبة (…) وفي الإمكان عبر الدولة تحقيق وطن ومواطنية، عوض أن نبدأ عكس ذلك الذي هو أصعب بالنسبة إلينا”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص412).
وهي حقيقة كانت ولا تزال، مع الأسف والحسرة، قائمة. فنحن في هذا البلد الصغير لم نتربَّ بعد على أسس المواطنية الصحيحة، ولا زلنا مجرّد سكّان أو بالحري نزلاء فندق يتمتّعون ويستمتعون بكلّ الخدمات التي يوفّرها هذا الأوتيل، ويتهرّبون حتى من دفع الفاتورة!
فمتى نجهد كي نحوّل أنفسنا من سكّان ونزلاء إلى مواطنين؟! لا بدّ من مساعٍ وتربية طويلة الأمد في هذا السبيل. وغياب المواطنية الحقّة كان العامل الحاسم في تقويض الكثير من إصلاحات الرئيس شهاب! وقد أدرك، ومنذ البدء خطورة هذا الأمر، إذ روي عنه: “في إحدى الجلسات قال له أحد السياسيين: يا فخامة الرئيس، أنت أنظف وأقوى رئيس جمهورية، ويمكنك جعل لبنان سويسرا الشرق فعلاً لا قولاً. فأجابه الرئيس شهاب: بس منين بدّك تجيب شعب سويسري”. فقد كان يعتبر أن التربية المدنية والوطنية تنقص اللبناني”([25])
وكان الرئيس شهاب في مقارنته بين اللبناني والمواطن الغربي يرسم اللوحة التالية: “اللبناني بيشتري سيّارة أوروبية أو أميركانية. مش المهمّ اشتراها. المهمّ كيف بيسوقها. مع الأسف اللبناني بيسوق السيّارة بصبّاطو، بينما الفرنجي بيسوقها بعقلاتو” (صافي، م. س، ص362).
فمتى نقود سيّارتنا، وبالتالي وطننا، بعقولنا؟!
فؤاد شهاب يجعلك تعتزّ بأنّك لبناني
فبناء دولة عصرية قد لا يعصى على زعيمٍ تاريخي من طينة فؤاد شهاب، أما بناء وطن فيشترط أولاً وجود مواطن ومشاركته الفاعلة في ذلك. وطالما كرّرت روز رنيه بواتيو زوجة الرئيس شهاب في أواخر أيّامها: “معه حقّ في ما كان يقوله لي. بنى دولة، وأخفق في بناء وطن”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص53).
فهل كانت أرملة الرئيس الشهابي محقّة بدورها في قولها بأسى قبل وفاتها في كانون الثاني 1992: “من حُسن حظّ فؤاد أنه مات ولم يبصر ماذا يجري على أرض وطنه. لا يرى كيف يهدمون ما صنع”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص53).
والأمير اللواء كان قد رأى بحدسه ما سيحدث، وتمنّى أن يرحل قبل حصوله، فقال قبيل وفاته: “أرى لبنان مقبلاً على أيّامٍ سود. أرى بُرَك دم. أرجو الله أن لا يجعلني أحضر هذه الأيّام”. (ناصيف، نقولا، م. س، ص19).
أياً يكن، فلن نسترسل في التشاؤم ونسرف في السوداوية في ختام هذا البحث، بل نكتفي بالقول: في الحقيقة عندما تقرأ، في سِفر كهذا، شيئاً من أخبار الرئيس شهاب، فلعلّها تكون اللحظات الوحيدة والفريدة التي تشعر فيها باعتزاز بأنّك لبناني! وتلوح في ذهنك عندها بارقة أمل أن ذاك الذي قَيّض لهذا الوطن الصغير خادماً متواضعاً ومتفانياً مخلصاً كفؤاد شهاب لا بدّ أن يُقيّض له قلباً أي فؤاداً آخر يسير على “النهج” الذي أرساه وسار عليه الفؤاد الشهابي النابض الكبير.
»«»«»«»«»([26])
[1] -صليبا، د. لويس، لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي: نزاعات على الكيان نشأة وهويّة، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط8، 2022، [ط1: 2015]، 421ص.
[2] -صليبا، د. لويس، لمحات من تاريخ لبنان الحديث 1850-1950، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2022، فق: فؤاد شهاب باني الدولة الحديثة، ص107-110.
[3] -فيّاض، ندى حسن، الدولة المدنية تجربة فؤاد شهاب في لبنان، تقديم بسّام ضو، بيروت، منتدى المعارف، ط1، 2011، ص135.
[4] – ناصيف، نقولا، جمهورية فؤاد شهاب، تقديم فؤاد بطرس، بيروت، دار النهار للنشر، ط1، 2008، ص400.
[5] -شهاب، الرئيس فؤاد، مجموعة خطب الرئيس الأمير اللواء فؤاد شهاب، بيروت، وزارة الإعلام، [1964]، من خطبة عيد الاستقلال في 22/11/1962، ص101.
[6] -صليبا، د. لويس، حوار الأديان في لبنان: المسيحية والإسلام تاريخاً ومستقبلاً ومعتقدات وعلاقات في الفكر اللبناني المعاصر، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2020، ف1، فق: ملامح سيرة أسقف استثنائي، ص20.
[7] -ناصيف، نقولا، جمهورية فؤاد شهاب، تقديم فؤاد بطرس، بيروت، دار النهار للنشر، ط1، 2008، ص30، نقلاً عن الأوريان لوجور ع 29/4/1973.
[8] -بطرس، فؤاد، المذكّرات، إعداد أنطوان سعد، تقديم خليل رامز سركيس، بيروت، دار النهار للنشر، ط1، 2009، ص103.
[9] -عبارة قاعدة 6 و6 مكرّر تشير إلى الرسالتَين اللتين وجّههما رئيس الجمهورية اللبنانية إميل إدّه إلى المفوّض السامي الفرنسي وأخذ الأخير علماً بهما، وأُلحقتا بالمعاهدة اللبنانية-الفرنسية التي أقرّها مجلس النوّاب بالإجماع في 24/11/1936. وفي الرسالة الأولى أكّد الرئيس اللبناني: “أن الحكومة مستعدّة لتأمين المساواة في الحقوق المدنية والسياسية بين رعاياها من دون أيّ تمييز بينهم، وأنّها مستعدّة أيضاً لتأمين تمثيل عادل لمختلف عناصر البلاد في مجمل وظائف الدولة، وستحرص الحكومة اللبنانية في مجال توزيع النفقات ذات المنفعة العامّة، على توزيع الحصص توزيعاً عادلاً بين مختلف المناطق”. أما في الرسالة الثانية (رقم 6مكرّر) فأكّد الرئيس اللبناني للمفوّض السامي الفرنسي، وعطفاً على الرسالة رقم 6 أن الحكومة اللبنانية: “ستعمل في أقرب وقت ممكن، وعلى كلّ حال قبل نفاذ المعاهدة، على توحيد النظام الضريبي. وتُعرب عن استعدادها، بالذهنية نفسها، لتطبيق برنامج إصلاحي على كلّ الأراضي اللبنانية يشتمل على: 1-منح البلديّات صلاحيّات أوسع. 2-إيجاد مجالس للأقضية مخوّلة دراسة المسائل المحلّية.
وفي وسع المجالس المذكورة أن تبدي رأيها وأن تتّخذ قرارها النهائي في المسائل المطروحة عليها بحسب أهمّيتها. فإذا اتّخذت قراراً نهائيّاً، فإن هذا القرار يخضع أو لا يخضع لموافقة الحكومة المركزية بحسب الحالات التي يفترض بها أن تُحدَّد لاحقاً. وسيصار إلى استشارة هذه المجالس على نحو خاصّ في قيمة المبالغ التي تعتمدها الخزينة لإنفاقها على أقضيتها”. (ربّاط، إدمون، التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري، ترجمة حسن قبيسي وجورج كتّورة، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، ط1، 2002، ج2، ص673-674).
[10] -الحاج، السفير اللواء الركن أحمد، من الجندية إلى الدبلوماسية، مقدمة الرئيس حسين الحسيني، بيروت، دار النهار للنشر، ط1، 2012، ص405.
[11] -الجسر، باسم، فؤاد شهاب، بيروت، مؤسّسة فؤاد شهاب، 1998، ص44.
[12] -ناصيف، ميشال، سيرة حياة العميد الركن ميشال فضل الله ناصيف، تنسيق وتقديم شربل لويس بصيبص، بيروت، ط1، [2018]، ص19
[13] -صليبا، لويس، هكذا علّم بوذا التأمّل والتصوّف وأدب الحياة، تقديم الحكيمة تنزين بالمو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2024، ص353، 36/15.
[14] -صليبا، لويس، وجه أمّي وجه أمّتي: حكم وأمثال ونوادر ووجوه وأزجال من التراث اللبناني، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2023، ص191.
[15] -Politicard: دسّاس، شخص يتعاطى الدسائس السياسية.
[16] -الخويري، أنطوان بطرس، تاريخ غزير السياسي والحضاري والاجتماعي، غزير/لبنان، منشورات بلدية غزير، ط1، 2007، ص420.
[17] -عيسى، د. غسّان، العلاقات اللبنانية السورية، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط1، 2007، ص529.
[18] -صليبا، د. لويس، إشارات شطحات ورحيل: أناشيد ومختارات صوفية مع أبرز شطحات البسطامي والحلّاج ولوحات لعدد منها ودراسة لها، تقديم المستشرق بيير لوري، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2013، ص40.
[19] -خلف، فتحي عبّاس، الحزب القومي السوري الاجتماعي ومحاولته الانقلابية في لبنان 1961-1962، العراق، مركز الدراسات الإقليمية، مجلة دراسات إقليمية، ع6، 2019، ص370.
[20] -صافي، عزت، طريق المختارة زمن كمال جنبلاط، بيروت، دار النهار للنشر، ط1، 2006، ص362.
[21] -نقلها عنه مرافقه العميد الركن ميشال ناصيف ورواها لنا عندما شرّفنا بزيارة إلى منزلنا في جبيل في 13/9/2018 ذاكراً أنه قالها له عندما ألحّ عليه رئيس الحكومة الحاج حسين العويني برعاية وحضور حفلة تنظّمها جمعية الشابّات في بيروت قائلاً: إذا بينزل الرئيس على بيروت منعملّوا حفلة بعد ما صارت بالتاريخ”.
[22] -ريحانا، العميد الركن سامي، موسوعة عهد الجنرالات في لبنان، اللواء الأمير فؤاد شهاب2، بيروت، دار نوبليس، ص325-326، نقلاً عن مجلّة الصيّاد.
[23] -فرشخ، جورج، فؤاد بطرس مذكّرات موازية ومتقاطعة، بيروت، دار الفارابي، ط1، 2009، ص63.
[24] -عبّوشي، صلاح، تاريخ لبنان الحديث من خلال 10 رؤساء حكومة، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1989، ص183.
[25] -بو لحدو، واكيم، فؤاد شهاب القائد والرئيس، حريصا/لبنان، مطبعة أنطون الشمالي، ط1، 1996، ص85.
[26] –