قراءة نقدية في كتاب عبد الإله بلقزيز “السلطة في الإسلام”/منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا
مقالة نشرت في مجلة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن عدد نيسان 2024
“السلطة في الإسلام”،
“السلطة في الإسلام نظرة مقارِنة باليهودية والمسيحية”، مشروع المؤلف الدراسي “نحو إسلاميّات نقدية 2″، تأليف عبد الإله بلقزيز، صدر مؤخّراً عن منتدى المعارف في بيروت في 447ص.
كتابٌ موسوعيّ ضخمٌ وجيّد التوثيق ومن قسمين، وتصعب مراجعته في مقالة موجزة، ولا بدّ له كي نفيه حقّه من مساحة مضاعفة كي نفيه حقّه. لذا سنقسم دراستنا له إلى شطرين نتناول في الأوّل منها القسم الأوّل من الكتاب: السياسي والديني في الأديان التوحيدية: التعاليم والتاريخ.
يبدأ المؤلّف بحثه بالتركيز على أهمّية المقارنة في البحوث في الآداب وعلوم الأديان وسائر العلوم الإنسانية، فيقول (ص14): “لمّا كانت معرفة الظاهرة أيّ ظاهرة تتعزّز وترحب إمكاناً كلّما سلكت لنفسها طريق مقارنتها بغيرها كان لا بدّ من مقارنات جزئية نعقدها بين تجربة السلطة في الإسلام وتجربتها في اليهودية والمسيحية قبل ذلك من أجل أن تمدّنا هذه المقارنة بالإضاءة الضرورية للوضع الخاصّ للسلطة ولعلاقتها بالدين في الإسلام وما يشترك فيه أو يختلف فيه مع غيره من الأديان التوحيدية على هذا الصعيد”.
ونحن لا يسعنا إلا أن نوافقه تماماً على هذا الطرح، لا بل إنّنا لنذهب إلى أبعد من ذلك فالعقل البشري بطبيعته، ومن حيث الموروث المتناقل منذ القدم، يتعلّم بالحري بالمقارنة، فإذا شاء المرء مثلاً أن يدرس لغة جديدة فهو يتعلّمها غالباً المقارنة بلغته، وكذا القول في دراسته لأيّ دين آخر. بيد أن المشكلة الكبرى في علوم الأديان بالعربية أن الباحثين لم يألفوا المقارنة المحايدة، ودراساتهم في هذا المجال هي بالحري مفاضلة وليست مقارنة، فهم يقارنون دينهم بأيّ دين آخر ليبيّنوا تفوّق الأوّل على الثاني وأفضلية ذاك على هذا. وليست هذه المقاربة من العلم في شيء. والسؤال البديهي الذي يطرحه كلّ قارئ رصين عندما يرى مصنّفاً عربيّاً في مقارنة الأديان: إلى أيّ مدى نجا من وباء المفاضلة التي تنتقل عدواها بأسرع من الكورونا، ولم نجد بَعدُ لها لقاحاً واقياً أو حامياً في دنيا العرب وأرض الإسلام!!
فإلى أيّ مدى كان باحثنا العزيز محصّناً ضدّ هذا الوباء؟! هذا ما سنسعى إلى أن نتبيّنه.
والقاعدة المهمّة الثانية التي يطرحها بلقزيز في مقدّمته هي وجوب التمييز بين الدين كنصّ، وهذا الدين عينه كتاريخ ونظامٍ مُعاش. فإسلام النصّ شيء، وإسلام التاريخ شيء آخر، وهذا الأمر ينسحب أيضاً على المسيحية وسائر الأديان، يقول (ص14): “الدين ليس محض نصوص وتعاليم فحسب، بل تمثّلات المؤمنين بها واصطحابهم إيّاها في معيشهم، وبالتالي ما يقع في تلك التمثّلات من تبدّلات يفرضها تغيّر شروط المكان والزمان”
هل هي مسألة تكيّف يفرضها تغيّر الزمان والمكان؟ إنه بلا ريب عامل من العوامل، ولكن ثمّة أخرى (ص18): “الفجوة كبيرة بين النصّ الديني والتجربة التاريخية للجماعة الدينية. وبيان ذلك أن تاريخ المسلمين ينطوي على كثافة سياسية عالية فيما لا حامل عليها من آمر ديني، بل لا وجود لِمَعْلم من معالم التسويغ الديني لذلك”.
والفكر السياسي الإسلامي، كان بالحري عملانيّاً يرتبط بالواقع أكثر ممّا كان ملتصقاً بالنصّ (ص16): “والحقّ أنّنا لو استثنينا نسبيّاً علمَي الكلام والقفه اللذين ظلّلا شديدَي الاتّصال بالنصّ الديني، ألفينا أن أكثر الفكر الإسلامي انصرافاً إلى السياسة لم يكن مشدوداً إلى ذلك النصّ الديني، بل أكثر انصرافه كان إلى الواقع التاريخي وما يفرضه من أحكام، وما يرتّبه على الجماعة الإسلامية من وجوه التدافع لحماية المصالح وتعظيمها”.
ويبدأ الكاتب بدراسة السلطة في اليهودية، فيرى أنّه وفي نظرة مقارِنة بسائر الديانات (ص27): “ليس من ديانةٍ في التاريخ، كتابيّة أو غير كتابية، احتلّت فيها السياسة (والدولة) محلّ القلب من تعاليمها ومن تاريخ الجماعة المؤمنة بها مثل اليهوديّة. ولقد بلغ من كثافة حضور السياسي فيها حدّاً تبدّت فيه المماهاة كاملة بين الدين والسياسة”.
وهي ملحوظة في محلّها، فقارئ البيبليا في عهدها القديم يطالعه هذا الاختلاط الدائم بين السياسة والدين وبين الديني والدنيوي. والباحث يتوقّف عند ظاهرة مسح الأنبياء للملوك، فيرى فيها مؤشّراً واضحاً على هذا التداخل (ص32): “لقد كان تقليد مسح الملوك من قبل الأنبياء تعبيراً عن تدخّل الدين في السياسة وفي يوميّات بني إسرائيل، وهو استمرّ إلى زمن السبي البابلي، قبل أن يتّخذ شكلاً جديداً”.
وهذا الحضور الدائم والمتواصل يراه بلقزيز ظاهرة ميّزت اليهودية عن الديانتَين الإبراهيميّتين الأخريين (ص29-30): “وحين يقف قارئ أسفار الشريعة والأسفار التاريخية على الكمّ الهائل من الأنبياء الذين قاموا بأدوار في تاريخ بني إسرائيل، سيقف على أوّل فارق بين اليهوديّة من جهة والمسيحية والإسلام من جهةٍ ثانية هو غياب ظاهرة الأنبياء في الدينَين الأخيرَين، وارتباطهما بالنبي/الرسول الواحد عيسى ومحمّد”.
ولا نرى أن الباحث قد جانب الصواب في ملاحظته هذه، بيد أنّنا نضيف إلى قوله هذا أن شخصيّة المسيح حضوراً ورسالة كانت الحدّ الفاصل وخاتمة لظاهرة النبوّة والأنبياء وتواليهم في اليهوديّة، فبعد يسوع الناصري لم نعد نسمع بظهور أنبياء في بني إسرائيل، وكأنّه أنهى عهدهم! وهو الذي علّم وكرّر: {إحذروا الأنبياء الكذبة، يأتونكم بثياب الحملان، وهم في داخلهم ذئاب خاطفة} (متى7/15-16). وبلقزيز يتوقّف عند هذه الظاهرة ويستقرئها ويحسن استخلاص العِبَر منها (ص33-34): “يبدو من قراءة العهد القديم أن ظاهرة النبوّة والأنبياء في بني إسرائيل كانت شديدة الانتشار في تاريخهم كلّه وأن كثيرين انتحلوها لأنفسهم لما يتأتّى من حملها من جزيل العائدات المادّية والرمزية. لقد كانت بمعنى من المعاني رأسمالاً (…) لذلك كثرت نصوص التشنيع الديني على الأنبياء الكذبة في بني إسرائيل وتولّى الردّ عليهم أنبياء آخرون، ولكن باسم الربّ يهوه”.
وتاريخ اليهود الوسيط والحديث يبيّن أن ظاهرة هؤلاء “الأنبياء” استمرّت ولحقبة طويلة بعد نهاية زمن أنبياء إسرائيل “المعتبَرين”. واستمرار هذه الظاهرة وامتدادها وحذر اليهود وتحسّسهم منها من شأنه أن يسلّط أضواء كاشفة على موقفهم من رسول الإسلام وبالتالي دخولهم في صراعٍ شرسٍ معه!
وممّا يُحسن الباحث لحظه في عرضه ودراسته للسلطة في اليهودّية قوله (ص50): “يهوه مفارقٌ للعالم في تعاليم موسى، ومن هنا فكرة التوحيد. ولكنّه محايثٌ له في الوقت عينه، متدخّلٌ في كلّ تفاصيل حياة شعبه، حتى أن له مسكناً في وسطه يحمله الكهنة أينما شدّت جماعة بني إسرائيل رحالها”.
ولا نملك سوى أن نوافقه في ما ذهب إليه هنا، بيد أنّنا نضيف: ألم يرث الإسلام هذه المحايثة لله، والقرآن يُدخله في كلّ كبيرة وصغيرة، لا بل وحتى في ما يخطر له في سريرته وفي خلجات قلبه؟ {وما رميتَ إذ رميت ولكن الله رمى} (الأنفال8/17).
ويبقى عرض بلقزيز لليهودية وتحليله للسلطة فيها يتّسم بموضوعية واضحة وبحياد رزين لم نألفهما في سائر المؤلّفات العربية الحافلة بمؤثِّرات معاداة السامية. ولنا على عرضه ملاحظتين: الأولى أنه يرجع غالباً إلى كمال الصليبي (ص40، 41، وغيرهما) وهو ليس بمرجع معتمد في الدراسات البيبلية كما سنرى!
والثانية: طريقته في تخريج الآيات البيبلية: مثلاً (ص34): “سفر إرميا الأصحاح 23، آ [آية]: 16”. فلا ضرورة لكلّ هذه التفاصيل، وطريقته هذه ليست هي المألوفة ولا المتداولة لا في الدراسات البيبلية العربية ولا الأجنبية! وكان من الأبسط والأولى أن يخرّج هذه الآية كما يلي: (إرميا23/16). فضلاً عن أن لفظة أصحاح (أو إصحاح) سريانية وقد استخدمت في الترجمات العربية القديمة، واستعيض عنها اليوم بكلمة “فصل”. ويبقى السؤال الأبرز عن أيّة ترجمة ينقل الباحث هذا الكمّ الكبير من الآيات البيبلية من العهدَين القديم والجديد، فهو لا يذكر ذلك لا في المتن ولا الهوامش ولا البيبلوغرافيا!!
وننتقل إلى عرض الباحث للسلطة والسياسة في المسيحية. وهو يشير بداية إلى منهجيّته في ذلك قائلاً (ص60): “سنسلّم بالرواية الرسمية التي اعتمدتها الكنائس الكبرى، وبالمصادر الأساس التي صادقت على مرجعيّتها من غير جدلٍ في الأمر . ولكن لا لصحّة هذه من وجهة نظر البحث التاريخي، بل لأنّها هي التي كوّنت الوعي المسيحي عبر التاريخ”.
وهو موقف سليم 100%. بيد أنّنا بالمقابل، وكما أشرنا، نجده كثيراً ما يرجع في عرضه ويستند إلى طروحات كمال الصليبي في البحث عن يسوع وغيره (ص64، 73، إلخ). وطروحات الصليبي تنسف رواية الكنائس الكبرى الرسمية، وترفضها هذه الكنائس رفضاً باتّاً. ومن يعرض للمسيحية استناداً إلى الصليبي كمن يعرض للإسلام استناداً لابن الراوندي!!
وهو يركّز على التحوّل الكبير في المسيحية من حيث علاقتها بالسلطة وموقفها منها مع تنصّر الأمبراطور الروماني قسطنطين، ويطرح التساؤل التالي (ص85): “هل الأمبراطورية هي التي تنصّرت، أم المسيحية التي ترومنت Romanisée؟ والفارق كبير بين الحالتَين، وتنجم من حدّيه حقائق وأوضاع متباينة”. والباحث يرجّح بالأحرى الاحتمال الثاني، ويظهر ذلك في قوله معقّباً (ص86): “مع صيرورة المسيحية ديانة رسمية للدولة الرومانية في العقد الثاني من ق4م سينشأ النمط الأوّل من أنماط الصلة بين السياسي والديني في التجربة المسيحية هو نمط تبعية الديني (الكنيسة) للسياسي (الدولة)”.
ويتابع بلقزيز قائلاً (ص87): “وقد دشّنت هذه الصلة نمطاً من الحكم المهجّن عُرف في دراسات التاريخ الديني باسم البابوية القيصرية Césaropapisme، حيث القيصر الإمبراطور رأس الدولة ورأس الكنيسة في الوقت عينه”.
وقد يجد الباحث أن هذه المقولة تنطبق بالأحرى على كنيسة القسطنطينية البيزنطية أكثر ممّا تنطبق على كنيسة روما ورأسها البابا، لا سيما وأن هذا الأخير أخذ عن الإمبراطور لقب “الحبر الأعظم”. بيد أنّها تبقى مقولة مقبولة.
ويستوقفنا في هذا الصدد مقارنة المؤلّف (ص18): “المسيحية والإسلام يتشابهان إلى حدّ بعيد في هذه المسافة الكبيرة الفاصلة بين النصّ الديني والتجربة التاريخية السياسية، ولا نكاد أن نعثر على اختلاف بينهما سوى في أنّه كان لنبي الإسلام ما لم يكن لنبي المسيحية من دور في القيادة السياسية لأتباعه”.
ويشرح بلقزيز لاحقاً ما عناه بهذا الاختلاف، فيقول (ص113): “الجديد أن الإسلام لم ينتظر قسطنطيناً [قسطنطين] يخرج من صُلبه فيحمله إلى الآفاق. فلقد كان الرسول هو قسطنطين نفسه بعبارة برنارد لويس فأقام سلطةً أمسك فيها بكلّ شيء”.
ونرى أن الباحث قد أجاد المقارنة والحديث عن تشابه الديانتين وتمايزهما في آن. قسطنطين كان بداية التحوّل الكبير في المسيحية ولا سيما في تعاطيها مع السلطة وموقفها من السياسي. أما الرسول محمد فكان نبيّ الإسلام وقسطنطينه في آن!
ولنا على عرض المؤلّف للمسيحية بعض الملاحظات والتنقيحات:
-الأناجيل Synoptiques تسمّى بالعربية الإزائية لا الأناجيل المتماثلة (ص73).
-رسول الأمم يسمّى بالعربية بولس وليس پولس (ص62 وكثير غيرها). وهذه التسمية اعتمدتها كل الترجمات العربية الحديثة للعهد الجديد وغالبية الترجمات القديمة.
-يسوع اسم علم أعجمي ممنوع من الصرف، ولا يقبل التنوين بكلّ أشكاله كمثل قول المؤلّف: “إن يسوعاً” (ص69 وغيرها). وهذا الاستخدام لاسم يسوع يُشعر القارئ المسيحي بالحري بشيء من الاشمئزاز. وكل الترجمات العربية القديمة والحديثة للعهد الجديد أجمعت على أن “يسوع” ممنوع من الصرف. وكذلك “قسطنطين” (ص113).
-الانشقاق الكبير بين الكنيستَين الكاثوليكية والأرثوذكسية وقع سنة 1054 كما يعرف الجميع وليس في منتصف القرن التاسع كما يذكر الباحث (ص88).
-صحيح أن إنجيل يوحنّا قد خلا من ذكر اسم مريم كما يرد (ص73)، بيد أن ذلك، وخلافاً لما يوحي الباحث، كان بالأحرى تعظيماً لها. فإنجيل يوحنا إنجيلٌ مريميّ بامتياز يبدأ بذكر عملها في عرس قانا، وبها ينتهي وهي عند الصليب. وعندما يستخدم يوحنا عبارة “يا امرأة” فالمقصود يا امرأة العهد الجديد وهي التي لعبت الدور المعاكس لحوّاء كما علّم آباء الكنيسة والمجمع الفاتيكاني الثاني.
وننتقل إلى عرض تحليلي نقدي للقسم الثاني من الكتاب والذي يتناول السلطة في تراث الإسلام تحديداً. والباحث يلحظ في المقدّمة (ص18): “يكاد كلّ شيء في الإسلام ينطلق من السياسة وينتهي إليها. ديناميّاته الدافعة منذ لحظة الدعوة سياسية في ما وراء قشور عوامل أخرى”.
وهي بلا ريب ملحوظة واقعية، ويتابع بلقزيز مشيراً إلى مفارقة في هذا المجال (ص19): “هكذا إذاً نلفي أنفسنا أمام ما قد يبدو مفارقة مثيرة: انعدام أو غياب التشريع الديني للسياسي، مقابل حضور كثيف للسياسة في علاقات الاجتماع السياسي في أطواره التاريخية كافّة”.
إنّها حقّاً ظاهرة لافتة وقد أحسن المؤلّف صنعاً في التركيز عليها، فالفقهاء دخلوا في كلّ كبيرة وصغيرة من مسائل العبادات والمعاملات في حين أنّنا لا نجد لهم كبير إسهام في مجال التشريع السياسي! بيد أنّ بلقزيز لا يرى في الأمر مفارقة حقيقيّة، فهو ينهي مقدّمته بالتأكيد على أن (ص19): “الظواهر التي تنتمي إلى مجال الدنيوي تجد لنفسها ما يسوّغها في عالم الدنيوي نفسه وعلاقاته (…) وهكذا فإن حضور السياسة ومكانتها المميّزة في تاريخ الاجتماع الإسلامي مستمدّان من حاجة موضوعيّة إليها في ذلك الاجتماع قبل أيّ سببٍ آخر، وهذا ما حاولنا بيانه في هذا الكتاب”.
فهل إن مقدرة الديني على التشريع للحقل السياسي تبقى محدودة؟ سؤال يُطرح إثر قراءة هذه المقدّمة، وهي تُشعر بأن الكاتب لن يألو جهداً في تقديم الجواب. وهو يقول مثلاً في ختام عرضه لتجربة المسيحية والسلطة (ص100): “وعندي أن كلّ مداخلة للسياسة في الدين، وكلّ مداخلة للدين في السياسة ذاهبة بهما إلى سوء المآل، فيكون الضرر لاحقاً بالدولة والدين حينها”.
واضحٌ أنه يؤثر الفصل بين الشأنين، ولكن هل هذا ما نجده في المسيحية التاريخية وفي إسلام التاريخ؟ يقارن الباحث بين الثقافتين والتقليدَين في تفاعلهما مع الشأن السياسي، فيرى (ص101): “يشبه الإسلام المسيحية في عدم انصراف تعاليمه إلى التشريع للسياسي أو للسلطة، ولكن يشبه تاريخ ما بعد النبوّة فيه في الوقت عينه تاريخ ما بعد المسيح وتلامذته من حيث انغمار الجماعة الإسلامية في شؤون السياسة وشجونها إلى حدّ بعيد”.
وهذه الملاحظة تأتي في محلّها، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن بلقزيز يقصد بالأخصّ بعبارة ما بعد المسيح وتلامذته عصر اهتداء قسطنطين 325م وما بعده، مع تحوّل المسيحية إلى دين رسمي للدولة، فمعه بدأ “انغمار” الجماعة المسيحية أو الكنيسة بالشأن السياسي. وبذلك صارت المسيحية في انغماسها بالسياسة هي والإسلام سواسية.
ويتوقّف المؤلّف عند بعض التعابير القرآنية المفتاحية، والتي يرى أنّها حُملت على غير ما تحمله من معانٍ أصلاً. وأبرزها (ص103): “يعني الحُكم في اللسان العربي القضاء، هذا ما تسجّله معاجم اللغة الكلاسيكية وما تعنيه العبارة في مجالها التداولي للعهود الإسلامية الأولى”.
ويتابع مناقشاً ومحاججاً (ص105): “واضح سياق آيات الحكم ومعناها القضاء بينهم في ما اختلفوا فيه، وبالتالي ليس فيها أمر بإقامة سلطة سياسية وممارستها السلطة بمقتضى ما أنزل الله (الشريعة) كما يفترض ذلك حَمَلَةُ مقولة “الإسلام دين ودولة”.
ويخلص الكاتب بعد استعراضٍ لجملة من المصطلحات ومعانيها في المعاجم وكتب التفسير إلى (ص108): “تسمح لنا هذه الجولة بين القواميس العربية الكلاسيكية وبعض كتب التفسير بأن نستدلّ بها على خلوّ التعاليم القرآنية من أيّ تشريع سياسي”.
وهي خلاصة جديرة بالتفكّر والنقاش، وإن كانت تثير حفيظة دعاة الإسلام السياسي على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم! ويبدي بلقزيز في هذا السياق اهتماماً ملحوظاً بطرح الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الذي أثار عاصفة كبرى من الجدل والنقد (ص111-112): “إذا كان الشيخ علي عبد الرازق من أبكر من نظر من المفكّرين العرب المعاصرين إلى الإسلام بوصفه ديناً فحسب، وإلى المملكة النبوية بما هي حكومة سياسية وعمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود الرسالة. فإن معاصرين آخرين يشاطرونه الرأي في ذلك. هشام جعيّط نفسه من هذا الرأي: رسالة الإسلام عنده رسالة دينية، ورسول الإسلام ما كان صاحب دعوة سياسية في ابتداء أمره، ليس في مكّة فحسب، بل حتى في بداية الهجرة إلى المدينة”.
وواضح أن بلقزيز يشارك عبد الرازق عموماً رأيه ويحشد لطرح هذا الأخير المؤيّدين من المعاصرين وفي طليعتهم جعيّط. وهم جميعاً باتوا يكوّنون تيّاراً وازناً من شأنه أن يعرف المزيد من الانتشار والاتّساع!
ويصرّ بلقزيز على أن ينزع عن الخلافة هالة القداسة التي أضفاها عليها العديد من المؤرّخين من القدامى والمحدثين، يقول (ص125): “ينبغي أن لا يغرب عن البال أن الخلافة مؤسّسة في المقام الأوّل أحدثها المسلمون لتنظيم اجتماعهم السياسي. وأن النظر إليها كمثال مرجعي لإخضاع السياسة للشريعة وإقامة نظام العدل هو من التأويل الذي ينتمي إلى معتقد المماهاة بين السياسي والديني، والذي يصرّ على طمس مضمونها الزمني الذي لم يكن يخفى على الخلفاء الراشدين ولا على مسلمي الصدر الأوّل”.
وتستوقفنا جملته الأخيرة هذه بما تنمّ عن فطنة وبعد نظر. وتحليله هذا يعبّر بلا ريب عن نظرة مؤرّخ واقعي يقرأ الأحداث ويتبيّن خلفيّاتها بشيء من الموضوعية، فلا يحمّلها أكثر ممّا تحتمل، وهو بالتالي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه.
وكما نظر بواقعية إلى الخلافة الراشدة، كذلك كانت نظرته إلى الدولة الأمويّة (ص127): “الانتقال من دولة المدينة إلى الدولة الأمويّة انتقال من نظام الخلافة إلى نظام المُلك. لم يطلق الحاكم الأموي على نفسه لقب الملك رسميّاً، بل ظلّ يحمل لقب الخليفة للإيحاء باستمرار التقليد الخليفي الإسلامي من جهة، واجتناباً لما في عبارة الملك من معنى سلبي لدى العرب والمسلمين من جهة ثانية”.
والملاحظ في هذا المجال أن نظام الملكية وتوريث العرش الذي افتتحه معاوية وعارضه فيه الكثيرون، عاد أشدّ معارضيه وخصومه أي بنو العبّاس واعتمدوه في دولتهم!! وبلقزيز لا يرى في الحقيقة كبير فارق بين الدولتَين (ص138): “لقد قال منطق السياسة والسلطة كلمته، ومن حينها أسفرت سلطة بين العبّاس خاصّة بعد عهدي المهدي والهادي، وبدءاً بعهد هارون الرشيد عن وجهها السياسي المتخفّف من قناع الدين لتشكّل نسخة ثانية معدّلة من سلطة بني أميّة”.
والباحث برزانته المعهودة وأحكامه المتأنّية والرصينة يسعى إلى أن يكون واقعيّاً في نظرته إلى بني أميّة، ومنصفاً في حكمه عليهم، فيشير عن حقّ (ص133): “من سوء حظّ تاريخ الأمويين أنّه كُتب في العهد العبّاسي، وأكثر كتّابه كان من الإخباريين والمؤرّخين العراقيين، وبعض هؤلاء كان موالياً لبني العبّاس أو للشيعة، لذلك أصابه ما أصابه من حيف وقلّة موضوعية ونزاهة”.
وهنا نجده يأخذ بملحوظة أحد أبرز من أرّخ للأمويين من المستشرقين (ص133): “والمفارقة كما يشير فلهوزن أن صور الأمويين في الكتب النصرانية تَظهر أحسن بكثير من الصورة التي اعتدنا أن نراهم عليها. وما ذلك إلا لأنّه في مصادر التاريخ العربي كانت الكلمة الأخيرة لأعدائهم، وقد ألحق ذلك بتاريخهم ضرراً كبيراً”.
وهي ملحوظة تنمّ عن كثير من الاتّزان والاعتدال في الأحكام. ونحن لا نرى أن بلقزيز عن جافى الوقائع التاريخية وحقيقة الأمور في حكمه المقارِن بين الدولتين (ص138): “الدين لم يكن في سياسات الدولة العبّاسية أكثر ممّا كانه في سياسات الأمويين: سلاح إيديولوجي للاستيلاء وللتسخير السياسي”.
وإنّنا في الحقيقة لنثمّن سعي الكاتب في عرضه التاريخي وتحليله إلى تجنّب تعابير درج عليها غيره ممّن أرّخ مثل: الظلم والقسوة والخلاعة والانتهازية وغيرها، فهي في الحقيقة تعابير أدبية، وليست حقائق أدبية تدخل في النسيج الموضوعي للأحداث.
وبلقزيز في عمله التاريخي والتحليلي يذكّرنا عن حقّ بمقولة المؤرّخ الإيطالي بنديتو كروتشه (ت1952): “أما أولئك الذين يستندون إلى دعوى سرد التاريخ لكي يصبحوا كالقضاة ويوزّعوا الإدانات هنا والغفرانات هناك، وذلك لأنّهم يعتقدون أن تلك هي وظيفة التاريخ، فيُعتَبرون إجمالاً مجرّدين من الحسّ التاريخي”. (عُلبي، أحمد، العهد السرّي للدعو العبّاسية، بيروت، 2010، ص26).
وختاماً فكتاب عبدالإله بلقزيز هذا هو حقّاً حدثٌ في دنيا الكتاب العربي وعلوم الأديان. فتوثيقه ومراجعه العربية والأجنبية وأسانيده أكثر من جيّدة. ومقارناته، وكما بينّا مراراً، بعيدة تماماً عن المفاضلة، ونبرته محايدة تحاكي حياد مراقبي الأمم المتّحدة وحكّام الكرة الدوليين، وهذا ما لم نألفه غالباً في البحوث العربية في الأديان. وتحليلاته تنمّ عن نظرٍ ثاقب ورؤيا واضحة ومقدرة مميّزة على الاستخلاص. وهو برأينا المتواضع من أبرز ما كُتب في موضوعه بالعربية. لذا لا يسعنا إلا أن نقول لهذا الباحث الغزير الإنتاج: سَلِمت يداك.