قراة نقدية في كتاب العميد جان ناصيف “سيرة عسكرية وعبر وطنية”، بقلم لويس صليبا 

قراة نقدية في كتاب العميد جان ناصيف “سيرة عسكرية وعبر وطنية”، بقلم لويس صليبا

مقالة نشرت في مجلّة الأمن، زاوية مكتبة الأمن/عدد نيسان – 2024/ بقلم أ. د. لويس صليبا

1-“سيرة عسكريّة وعِبَر وطنية”

“سيرة عسكرية وعِبَر وطنية: الرئيس فؤاد شهاب، المكتب الثاني، اللجنة الأمنيّة الرباعية”، بقلم العميد الركن جان ناصيف، صدر مؤخّراً عن المطبعة العربية/بيروت في 424ص و24 ص من الصور الملوّنة.

مذكّرات العميد ناصيف شهادة تاريخيّة موثّقة عن حقبة بالغة الأهمّية من تاريخ لبنان كثُرت بشأنها الأقاويل والمواقف المتضاربة، وتتركّز بالأخصّ حول ما سمّاه الكثيرون “حقبة حكم المكتب الثاني” الممتدّة بالحري منذ الانقلاب الفاشل على حكم الرئيس فؤاد شهاب ليلة 30-31/12/1961 وحتى نهاية حكم الرئيس شارل حلو في 23/9/1970. والمؤلّف صاحب المذكّرات كان من رجالات الشعبة الثانية في الجيش، فعمل مع رئيس هذه الشعبة العميد أنطون سعد ثم مع خلفه العميد غابي لحّود وكان اسمه مطروحاً لخلافة هذا الأخير في رئاسة هذه الشعبة كما يذكر مراراً. وأهمّية مذكّرات العميد ناصيف تكمن في أن أكثر ما كُتب عن المكتب الثاني جاء بالحري من أخصامه بل وأعدائه الشرسين من السياسيين وغيرهم. في حين لزم قادته وموجّهوه ورؤساؤه غالباً الصمت.

ويذكر المؤلّف أن الكثيرين من أقرباء وأصدقاء ألحّوا عليه أن يدوّن مذكّراته وينشرها كي لا يضيع الكثير من الحقائق التاريخية، ومنهم قائد الجيش العماد إبراهيم طنّوس الذي قال له بما يشبه الوصيّة (هامش ص266): “جان، إنت لازم تكتب… عنك [عندك] كتير إشيا تقولها”.

وممّا يستوقف القارئ في هذه المذكّرات أن صاحبها ينقل عن الرئيس شهاب الذي كان يجتمع به مرّتين في الأسبوع في حقبة 1964-1970 الكثير من الأقوال والمواقف والتحليلات للوضع اللبناني تضع الإصبع على الجرح ولا تزال تصلح في أيّ مسار إصلاحي. فعن المحتكرين والمتحكّمين بشرايين الحركة الاقتصادية والمالية يقول (ص136): “غالباً ما كان الرئيس شهاب يتطرّق في لقاءاتنا لموضوع الاحتكارات مستعملاً عبارة جماعة ال4% للدلالة على الفئة الصغيرة من اللبنانيين المسيطرة بقوّة على الحياة الاقتصادية في البلاد، أي رجال المال والأعمال والمصرفيين المتحكّمين بالاقتصاد والتجارة، أصحاب الوكالات الحصرية، والمتمتّعين بحرّية التحكّم بأسعار السلع المستوردة. وكان هؤلاء حسب وصف الرئيس شهاب: محتكرين كل شيء على حساب المواطن العادي والفقير. وكانوا أشرس معارضي النهج الشهابي وبالأخصّ ورشة إصلاحات بعثة إيرفد”.

وكلام الرئيس شهاب هذا يحسُن أن يكون مدعاة تفكّر وتبصّر لكلّ لبناني. فالعلّة لمّا تزل إيّاها! ولا نزال حتى اليوم نقع ضحيّة المحتكرين والمصرفيين، لا بل ها هو الوضع قد تفاقم حتى سُرقت الأموال من جيب المواطن، ومن حساباته!!

بيد أنّ واقعية الرئيس شهاب وثقابة نظرته للأمور وحسّه المرهف، كل ذلك جعله لا ينخدع ويحصر المسؤولية برمّتها بهذه الفئة دون غيرها، فالشعب بذهنيّته النفعية وعقليّته الطائفية وممارساته المركانتيلية كلّه مسؤول (ص113): “كان شهاب بعيد النظر في تخطيطه، ولديه فهم وإدراك عميق للطبيعة البشرية وضعفها، فلم ينسج أيّة أوهام حول الشعب اللبناني وقدرته على الانتقال من عقلية المصلحة الفردية والطائفية إلى الاقتناع بوجوب إعطاء الأولوية للمصلحة العامّة”.

ومن هنا كان الأمير اللواء يَسخر ممّا يردَّد من شعارات وكليشهات عن لبنان واللبنانيين (ص113): “عندما تُذكَر أمام الرئيس شهاب عبارة لبنان سويسرا الشرق كان يعلّق بلكنة ساخرة: نعم سويسرا، بس سويسرا بلا السويسريين”.

ورغم أن الرئيس شهاب كان عسكريّاً في نشأته وعقليّته وانضباطه، فقد كان، وخلافاً لكلّ العسكريين الذين تولّوا الحكم في البلدان العربية، ديموقراطيّاً حتى العظم (ص84): “أما العبرة الأهمّ من تجربة عهد الرئيس شهاب [فهي] أنّه كان متمسّكاً بالنظام الديموقراطي اللبناني أشدّ التمسّك، وحريصاً على صيانته خدمة للحاضر والمستقبل. وكانت الشعبوية والمتاجرة بالعواطف الطائفية الغرائزية تثير اشمئزازه”

والغريب اللافت في هذا القائد العسكري الأصيل أنّه كان لاعنفيّاً بامتياز، وكأنّه تلميذ لغاندي. فليلة محاولة الانقلاب عليه آخر سنة 1961، يشهد العميد ناصيف (ص59): “أدهشني هدوؤه المميّز واستنتاجاته الواضحة في تقييمه للوضع: ماذا يريدون؟ يريدون اعتقالي؟ أنا جاهز. أهمّ شيء بالنسبة لي أن لا تراق نقطة دم”

وبقي شهاب حريصاً دوماً على عدم إراقة الدم اللبناني. ففي جلسة انتخاب رئيس للجمهورية في 17 آب 1970، وفي الدورة الثالثة (ص138): “أتت النتيجة 50 إلى 49 لصالح فرنجية. دستوريّاً لم يحصل أيّ من المرشّحين على النصف زائد واحد المطلوب في النصّ [الدستوري] إذ إن نصف الـ 99 هو 49 ونصف زائد واحد 50 ونصف أي 51 صوتاً. فدعا رئيس المجلس صبري حماده إلى دورة رابعة”.

وهنا يروي ناصيف ما حصل إذ اتّصل بالرئيس شهاب في منزله ووضعه في جوّ التوتّر الحاصل فأجابه بهدوء ورويّة (139): “يا إبني ما بدّي دم! قول لرنيه معوّض أن يطلب من حماده إعلان فوز فرنجية”. ويختم ناصيف روايته: “فأوصلت الرسالة إلى النائب معوّض، واستجاب الرئيس حمادة لنصيحة شهاب، فأعلن فوز فرنجية بالرغم من عدم دستورية النتيجة لعدم توفّر النصف زائد واحد المطلوب”.

وتبقى لنا بضع ملاحظات على هذا الكتاب القيّم:

فمن حيث الشكل يعاني إخراج الكتاب من بعض الهنّات كصغر حجم الخطّ وضيق المسافة بين السطور ما يجعل القراءة مسألة متعبة! أما خطوط الهوامش وتعليقات الصور فتكاد لا تُقرأ من فرط صِغرها!!

بيد أن أبرز ما يوجَّه لهذا الكتاب من نقدٍ من حيث الشكل يبقى الأخطاء اللغوية والإملائية التي تجوب مختلف صفحاته بل سطوره، رغم وجود مُراجع لغوي للنص ذُكر اسمه ص5. وقد أشرنا أعلاه إلى بعضها بين حاصرتين [] ونذكر في التالي بعضاً آخر:

مختومة بإمضاءه [بإمضائه]، (ص57). خاض مرشّحين شهابيين [مرشّحون شهابيّون] (ص76). لم يخلو [يخلُ]، (ص77). كان معظم رجال السياسة مقتنعون [مقتنعين]، (ص80). فالأخير وهو موظّفاً سابقاً في وزارة [وهو موظّفٌ سابق]، (ص82). صاحب القيم الأعلى [العليا]، (ص85). على ما كان قد يكون مذكّرات، [على ما أمكن أن يكون]، (هامش ص96). أوردوا بعض منها، [بعضاً منها]، (هامش ص96). دون إثارت [إثارة]، (ص122). الذين بقيوا [بقوا]، (ص198). بوظيفة مديراً [مدير]، (ص261). فلم أُدعى [أدعَ]، (ص278). كان جوابه لبق [لبقاً]، (ص291).

فحسدني الجميع (بالمعنى الإيجابي) (ص53). ومتى كان للحسد معنى إيجابي؟! الأولى أن يقال: فغار منّي الجميع.

وما هذه سوى نماذج وغيضٍ من فيض ما نجد من أخطاء!!

وتعاني هذه المذكّرات من آفةٍ نجدها في الكثير من مثيلاتها، ألا وهي نرجسية الكاتب، وتتجلّى بالأخصّ في الصور العديدة، وقد أحصينا في هذا الكتاب نحو 202 صورة تتخلّل النص، و 41 صورة ملوّنة مدرجة في ملحق في آخره. والصور هذه مقسومة إلى فئتين، فالأولى ذات طابع عام، وهي بالتالي تخدم سياق البحث، لا سيما وأنها مرفقة بتعليقات توضح محتواها. أما الفئة الثانية فصور شخصيّة وعائلية تعطي القارئ أحياناً انطباعاً كأنه يتصفّح ألبوم صور فردية أو عائلية، ومنها على سبيل المثال:

ص150: صورة للمؤلف بالجُبة والإسكيم الرهباني: ما الفائدة منها والكاتب لم يكن راهباً في يومٍ من الأيّام، وكانت هذه الصورة مجرّد مزحة!!

ص242: صورة للمؤلّف يمارس الرياضة ويلعب الكرة، وكلّ الضباط يمارسون الرياضة في روتينهم اليومي!!

صور للمؤلف مع عائلته ص154، ص157، ص245، ص23 ملوّن، وفي كثير غيرها.

فالإكثار من الصور الشخصية والعائلية يجعل الخاصّ يختلط بالعام، في حين أن المذكّرات ذات طابع عامّ وتاريخي بحت ومن هنا أهمّيتها. والمؤلّف يزعم أنّه تعلّم من الرئيس شهاب الفصل بين الشأنين العام والخاصّ (ص12)، فليته طبّق ما تعلّم في كتابه هذا!!

وآخر ما يختم به العميد جان ناصيف مذكّراته الشيّقة قوله (ص401): “أتمنّى أن يكون قارئ هذه المذكّرات قد ثبتت قناعاته بأن ما يفيد لبنان هي الحكمة والاتّزان وروح التضحية وليس التهوّر والشعبوية وروح الاستفادة والاستغلال”.

ونحن بدورنا لا نملك سوى أن نشاركه أمنيته المخلصة هذه وأن نعبّر له عن عميق شكرنا وامتناننا لما أشركنا به من ذكريات مؤثّرة ووصايا وخواطر بنّاءة. فالرئيس شهاب إرثٌ نفيسٌ لهذا الوطن الصغير بمختلف أطياف أبنائه. ولا بدّ لهم أن يستوحوا من تجربته الخصبة ما يعينهم على تجاوز أزمة حاضرهم والإعداد الجيّد لغدهم.

شاهد أيضاً

مراجعة نقدية لكتاب فاروق يوسف “رسّامون من العالم العربي”/ منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا

مراجعة نقدية لكتاب فاروق يوسف “رسّامون من العالم العربي”/ منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا مقالة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *