“مذكّراتي على هامش القضية العربية”، تأليف أسعد داغر (1893-1958)، تحقيق خالد زيادة، مراجعة بقلم لويس صليبا، صدر عن المركز العربي للأبحاث

“مذكّراتي على هامش القضية العربية”، تأليف أسعد داغر (1893-1958)، تحقيق وتقديم خالد زيادة، مراجعة بقلم لويس صليبا، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت في 464ص.

مقالة نشرت في مجلّة الأمن الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي-بيروت، عدد كانون الثاني، 2024

المؤلّف أسعد مفلح داغر لبناني من بلدة تنورين/قضاء البترون. وقد لعب دوراً رائداً في القضيّة العربية منذ مؤتمر باريس 1913 الذي شارك فيه، مروراً بثورة العرب 1916 وقيام الحكومة العربية الفيصلية في دمشق 1918-1920 وصولاً إلى إنشاء جامعة الدول العربية (22/3/1945) التي كان من الداعين إليها وعيّن فيها مديراً عامّاً للدعاية والنشر (1945-1952).

ومذكّراته هذه توفّي داغر (26/11/1958) قبيل صدورها بأسابيع قليلة في القاهرة في مطلع 1959 وقبل أن يكمل كتابة مقدّمتها كما يذكر المحقّق. (ص15). ومن هنا فإعادة نشرها بادرة يُشكر ويهنّأ عليها المحقّق الكاتب خالد زيادة سفيرنا السابق في القاهرة. وهو يقول في ذلك (ص13): “ترسّخت عندي فكرة نشر هذه المذكّرات لأهمّية ما تشتمل عليه من معطيات ووقائع، ولأهمّية أسعد داغر، ودوره خلال نصف قرن”. وهو يحسن تصنيف هذا الكتاب وذكر ميّزاته إذ يقول (ص15): “ينتمي كتاب أسعد داغر إلى مجموعة كبيرة من الأعمال والمؤلّفات التي تتراوح بين المذكّرات الشخصيّة والدراسات التاريخية. (…) وبدا لنا من خلال التحقيق أنه احتفظ بملاحظات ووثائق ومراسلات استخدمها في صوغ مذكّراته”.

كما يتوقّف زيادة عند مناقبيّة داغر المناضل العروبي وتجرّده وزهده في المراكز التي يتصارع عليها الكثير من أمثاله ويتهافتون، بل وأحياناً يتكالبون، فيقول (ص15): “من خلال مسار حياته نكتشف أنّنا إزاء شخصيّة نذرت حياتها لهذه القضيّة، من دون أن يكون لديه مطمعٌ في منصب، أو نفوذ، أو مجد شخصي”.

وعن إخلاص داغر الدائم والمستمرّ لقضيّته يقول المحقّق (ص28): “بقي أسعد داغر مؤمناً بالعروبة التي اكتشف انتماءه إليها مبكراً، وهو المولود في بيئة تتحدّث بالعربية، من دون أن تسمع بالعروبة”.

وهذه القناعة الفاعلة والراسخة بالعروبة وقضيّتها لم تعكّر الرؤية الواضحة عند داغر، ومن هنا أهمّية شهادته، وفي ذلك يقول زيادة (ص13): “لا يتوانى [داغر] عن ذكر الأخطاء ونقد التجربة، على الرغم من إيمانه العميق بعدالتها وضرورتها التاريخية”.

وجهد خالد زيادة في تحقيق مذكّرات داغر والتقديم لها والتعريف بالأعلام المذكورين فيها، وما أكثرهم، بما قلّ ودلّ جدير بالتنويه. ولكن يبقى لنا على عمله عدد من الملاحظات نكتفي بذكر اثنتين منها:

1-يذكر المحقّق من بين مؤلّفات داغر (ص27) كتاب شهير صدر 1916 باسم مؤلّف مستعار: أحد أعضاء الجمعيّات السرّية العربية، ويحيل إلى طبعة دار التضامن في بيروت 1994 [1993] وبالعودة إلى هذه الطبعة نرى أن المحقّق عصام شبارو يؤكّد مراراً وتكراراً في مقدّمته وعلى الغلاف أن مؤلّف “ثورة العرب” ما زال اسمه مجهولاً، وهو ليس أسعد مفلح داغر، كما ذكر البعض، لأنّه لم يثبت ذلك فعليّاً”. ويتبسّط شبارو في إيراد الأدلّة على ما يقول في 5 صفحات (ص9-14)، ممّا لا مجال في هذه العجالة للخوض فيه. فكان يجدر بخالد زيادة المحقّق أن “يحقّق” في هذه المسألة، ولا يكتفي بتأكيد نسبة “ثورة العرب” لأسعد داغر، دون أيّة بيّنة على ما يقول. أو أقلّه أن يشير إلى أن هذه النسبة كانت موضع نقاش وهي غير محسومة، وهذا أضعف الإيمان!!

2-يخلط خالد زيادة بين أسعد مفلح داغر ابن تنّورين وكاتب هذه المذكّرات وأسعد خليل داغر (1860-1935) ابن كفرشيما. فينسب إلى الأوّل (ص27) ترجمة رواية “عمر وجميلة، أو في ربى لبنان” المطبوعة في مصر 1924، وهي بالأحرى للثاني كما يؤكّد الأب كميل حشيمة في موسوعته “المؤلّفون العرب المسيحيّون” ج4، بيروت، دار المشرق، 2012، ص171، وقد حذّر من هذا اللبس الواقع بين الأسعدين. وقبله نسب يوسف أسعد داغر هذه الرواية المترجمة إلى أسعد خليل داغر (مصادر الدراسة الأدبية، ص2/343)، كما حذّر الزركلي من هذا اللُبس الحاصل (الأعلام، ص1/301).

والخلاصة فالمحقّق خدم الكتاب “مذكّراتي” وقصّر عن خدمة الكاتب!!

وتستوقفنا في مذكّرات داغر معطيات عديدة لا سيما وأنّها تتناول حقبة مفصلية من تاريخنا. وأوّلها تواضع الكاتب وواقعيّته، يقول في مقدّمته (ص31): “لا أريد أن يتطرّق إلى ذهن أحد أنّني أهدف من هذه المذكّرات إلى إبراز أهمّية دوري في تاريخ القضية العربية، فأنا لستُ إلا واحداً من الملايين الذين ساهموا في صنع هذا التاريخ”.

بيد أن تواضعه الملحوظ هذا لا يجعله يغفل أهمّية الموقع الذي احتلّه والدور الذي لعبه، فهو يتابع قائلاً (ص32): “عرفتُ رجال العرب كباراً وصغاراً، مدنيين وعسكريين، ملوكاً ورؤساء، قادة وأمراء. وصادقتُ الكثير منهم. وكنتُ دائماً موضع ثقتهم، وأحياناً مستودع أسرارهم”.

وعن هدفه من سرد الوقائع التي كان فيها مشاركاً أو عليها شاهداً يقول داغر (ص44-45): “إن هذه الفترة، وهي الحلقة المفقودة من تاريخنا الحديث، يجب أن تُعاد كتابتها بأيدي من عاصر نشوءها وساير تطوّرها، لا أن تترك لخيال الأجانب يشرحون حقائقها، ويزوّرون وقائعها بما يتّفق ومصالحهم الاستعمارية”.

وعن طريقته ومنهجه في الكتابة والتذكّر والتدوين يقول داغر في خاتمة مقدّمته (ص45): “لقد اتّسمت هذه المذكّرات بالصراحة، ولا أجامل فيها أيّ شخص، وإنّما أسرد فيها ما دار حولي وما سمعته من أحداث تستلزم التسجيل”.

وعن طفولته يروي داغر حكاية صداقته مع رياض الصلح وكانا زميلان على مقاعد الدراسة في مدرسة اللعازاريين في عينطورا/كسروان، وما كان يدور بينهما من حوارات وأبرزها ذاك الذي تناول الهويّة (ص56): “لقد حان الوقت لأن أعرف ماذا أنت، فقل لي الحقيقة مهما تكن. قل ماذا أنت يا صلح؟ (…) ثم التفتُّ إلى محدّثي، وقلتُ بلهجة مشبعة بالثقة والإيمان والحزم: وأنا أيضاً عربي مثلك يا صلح”

ويعقّب داغر على هذا الحوار بين صبيّين ومدى تأثيره في مسيرة حياة، وكفاحٍ استمرّ سحابة عمر: “وهكذا وُضع الحجر الأوّل في بناء حياتي السياسية بتوجيه طفلٍ مثلي، أصبح فيما بعد علماً من أعلام الأمّة العربية هو المغفور له رياض الصلح”.

ويؤكّد داغر المشارك الفاعل في الحركة العربية أن المناضلين العرب خلال الحرب الكونية لم يكن في نيّة أحدٍ منهم الانقلاب على العثمانيين (ص141): “وأستطيع أن أجزم بأنّه لم يكن بين العرب يوم إعلان الحرب العالمية الأولى من فكّر في الانتقاض على الترك أو الإساءة إليهم. بل كان تفكيرهم كلّه منصبّاً على محاولة منعهم من الاشتراك فيها، والتعاون معهم على اجتناب ويلاتها ودرء أخطارها”.

ويجزم داغر، وهو الشاهد والمراقب النبيه بأن الأتراك وسفّاحهم جمال باشا هم المسؤولون عن المجاعة في لبنان خلال الحرب (ص142): “نصب جمال باشا المشانق، وملأ السجون والمعتقلات، وبدأ بتهجير العرب إلى الأناضول، ومنع عنهم الغذاء حتى مات مئات الألوف جوعاً، وخصوصاً في لبنان”.

وهو يركّز على الدور الملتبس للإنكليز تجاه الثورة العربية، فكان هدفهم منذ البداية الإفادة منها والعمل على تحجيمها كي لا تصل إلى أهدافها (ص168): “وقد تعمّد الإنكليز إثارة جميع العقبات في طريق الثورة فلم يكتفوا بالسياسة التي قرّروا انتهاجها نحوها، وهي سياسة تموينها وإمدادها بأقلّ ما يمكن من السلاح لكي لا تموت، والحيلولة دون تقويتها وتنظيمها (…) بل نظّموا السلطات التي تتعاون معها تنظيماً غريباً لا يمكن أن يُرجى منه أيّ نجاح”.

ويحلّل داغر أسباب سقوط الحكومة الفيصلية في دمشق تموز 1920 فيرى (ص243): “يجب الاعتراف أن سوريا ذهبت ضحيّة مجاملتها لتركيا الكمالية من دون أيّ مقابل. وهذا الخطأ تقع تبعته على المسؤولين عن السياسة السورية (…) وقد كان عمل سوريا هذا أعظم خدمة يمكن أن تقدّم للترك لكن سوء السياسة حال دون حصول سوريا على أيّ مقابل”.

وتطول الوقفات والتحليلات والقراءات النقدية لمذكّرات أسعد داغر، وهو بكلمة تختصر وتكثّف ما سبق: رجلٌ تُجلّه، ومصدر يُركَن إليه.

 

شاهد أيضاً

د. لويس صليبا/الترجمات العربية القديمة للإنجيل والتوراة وإشكالية علاقتها بالنصّ القرآني

د. لويس صليبا/الترجمات العربية القديمة للإنجيل والتوراة وإشكالية علاقتها بالنصّ القرآني لا بدّ لي بادئَ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *