“العلاقات العربية الهندية تأليف الشيخ سليمان الندوي (1884 – 1953)، عرّبه عن الأردية صهيب عالم، مراجعة بقلم لويس صليبا، صدر عن مؤسّسة الفكر العربي ومنتدى المعارف في بيروت في 272ص.
مقالة صدرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد كانون الثاني 2024
يستهلّ المؤلف بحثه بالحديث عن القرب الجغرافي بين عالمين ممّا أتاح تفاعلاً على مختلف الصعد بينهما (ص24): “إن العالم العربي والهند هما بمثابة بلدين متجاورَين، حيث لا يفصل بينهما سوى بحرٍ واسع يمتدّ من الهند إلى الجزيرة العربية. وعلى سواحله شوارع طويلة واسعة توصل بينهما، وهما ضفّتان على برّ هذا البحر الواسع”.
وهما ضفّتان ذات طابع مقدّس عند كلّ من السكّان المتجاورين يتابع الندوي معقّباً (ص24): “فإذا كانت إحدى يدَيّ هذا البحر المائج تلامس أرض الحرم للعرب، فإن اليد الأخرى تُمسك بأقدام الأرض المقدّسة لدى الهندوس”.
وبداية العلاقات الوطيدة، وكما في كلّ زمانٍ ومكان التبادل التجاري (ص24): “كان التجّار العرب يتردّدون إلى سواحل الهند منذ آلاف السنين، وينقلون السلع التجاريّة والمنتجات الهندية إلى أسواق أوروبا من طريق مصر والشام، ثم يحملون بضائع أوروبا إلى أسواق الهند وجزرها والصين واليابان”.
وهنا لا يفوت الندوي ذكر الدور الأساسي بل التأسيسي للفيانقة في مجال الاتّجار والإبحار (ص25): “إن أوّل أمّة اشتغلت بالتجارة البحرية هي فينيقيا، وهذا اسم يوناني، وفي العبرانية اسمها كنعانيا، ويقال لها آراميا أيضاً”.
ومن آرامية يجد الندوي أصلاً واسماً قرآنيّاً للفينيقيين وبلادهم: “أما العرب فيدعونهم إرم، والتسمية نفسها وردت في القرآن: “إرم ذات العماد”، وعلى هذا الأساس يستخدم في اللغة الأردية “بهشت إرم” أي جنّة إرم”.
مقولة جديرة بالتفكّر والنقاش. وهو يجد أصولاً عربية للفيانقة ويرى أنّهم هم روّاد العلاقات العربية الهندية (ص25-26): “يعتقد الباحثون أنّهم كانوا من العرب الذين هاجروا من سواحل البحرين واستقرّوا بسواحل الشام، فكانت البحرين ميناءهم في الشرق يتوجّهون منه إلى الدول الشرقية فيصلون إلى إيران والهند والصين. (…) ويرجع الفضل إلى هذه الأمّة في تطوّر العلوم والثقافة في اليونان، ولكن لم يتمّ بعد تقييم نفوذها تماماً في الدول الشرقية”.
إنها أفكار وطروحات عن الدور الرائد لأسلافنا على أرض لبنان جديرة بالبحث والتأمّل وبمزيدٍ من الاهتمام.
ويبحث المؤلف في شهادة التوراة في العلاقات العربية الهندية وجذورها الضاربة في القدم. فيذكر (ص70) آية من سفر حزقيال 27/19: {العرب يأتون إلى أوزال (اليمن) ليشتروا السيوف المصقولة والتوابل} وهنا يعقّب الندوي: “لا توجد السيوف المصقولة والتوابل إلا في الهند، وهي أرضها حتى اليوم”.
والمحصّلة البديهية من التفكّر في هذا النصّ الكتابي (ص71): “يتجلّى من هذه التصريحات أن تاريخ العلاقات التجارية للعرب مع الهند يرجع إلى ما يقلّ عن ألفي عام قبل الميلاد”.
خلاصة جدّ مهمّة وتصلح انطلاقاً لبحوث أكثر تعمّقاً. كما يبحث المؤلّف في الألفاظ الهندية في القرآن، وهو موضوع أثار الكثير من النقاش، وهو يخلص إلى (ص70): “إلا أن أحداً لا يشكّ في أن ثلاثة أطياب من هذه الجنّة الأرضية، التي تذخر بكثير من الخيرات والحسنات قد ورد ذكرها في القرآن وهي المسك والزنجبيل والكافور”.
ويدرس الندوي العلاقة بين البوذيّة والإسلام. وممّا استوقفنا من طروحاته في هذا المجال تحليله لعبارة “الحصرية” التي استخدمها السمعاني (ت562هـ) في كتابه الأنساب اسماً للبوذيّة، وهي بعيدة جدّاً عن التسمية التقليدية التي عرف بها المسلمون والعرب هذه الديانة أي “السمنيّة”. نقرأ (ص167): “وقد فكّرتُ كثيراً في اختلاف هاتَين الكلمتَين السمنية والحصرية حتى وُفّقتُ، بحمدِ الله، بحلّ هذا اللغز، حيث تأكّدتُ من أن الكلمة الأصل في نسخة السمعاني هذ “الخُضرية”، ونسي الناسخ أن يضع النقطة على الحاء والصاد”.
ودليلاً على صحّة فرضيّته هذه يذكر الندوي ما قاله الشهرستاني في الملل والنِحل بشأن بوذا، فهو يجعله خُضر القرآن، نقرأ (167-168): “وممّا هداني إلى هذه النتيجة رأي المحدّث الفيلسوف الشهرستاني الذي كان من معاصري السمعاني، فهو يقول: وليس يشبه البدّ، على ما وصفوه إن صدقوا في ذلك، إلا بالخضر الذي يثبته أهل الإسلام”.
وهنا يعقّب الندوي على محصّلة تحليله هذه قائلاً (ص168): “فاتّضح لي من ذلك أن الناس ظنّوا بأن بوذا هو الخضر. وعلى أساس ذلك سمّوا البوذيين بالخضرية. فكتب السمعاني الخضرية للفرقة نفسها ضمن ذكره لأحوال النظّام المعتزلي. فإذاً لا فرق بين السمنية كما كتبها البغدادي، والخضرية كما جاء في كتاب السمعاني، وكلتا التسميتين تشيران إلى الفرقة نفسها”.
ومن ناحيتنا نجد أن الندوي قد وُفّق وأصاب في تحليله الموجز والحاذق هذا، وفتح بالتالي باباً لدراسة البوذية في الإسلام وعلاقتها بشخصيّة الخضر الغامضة. وهو باب لم يُطرق من قبل، وعسانا نعود لاحقاً إلى هذا “الفتح”.
ويبحث المؤلّف في تسمية أخرى للبوذية في الإسلام ومغزاها (ص168): “وقد جاء في ذكر البوذية في بعض الكتب العربية بتسمية أخرى، وهي المحمرة، ومعناها لابسو الثياب الحمر. ولعلّ المقصود هو اللون الأصفر أو اللون الزعفراني الذي كان يميّز الزعماء الدينيين بين الناس”.
وليت الندوي ذكر أقلّه “بعضاً” من هذه الكتب العربية لنناقش ما ورد فيها بشأن تسمية البوذية. ونحن نرى أنّه قد فاته هنا أن الرهبان البوذيين في التيبت كانوا ولا يزالون يعتمدون بالأحرى اللون الأحمر تحديداً في لباسهم الديني. وكان المسلمون والعرب على علاقة وتفاعل بالتيبت.
ويختم المؤلّف بشأن هذا “التثاقف” البوذي-الإسلامي (ص169): “أسفر هذا التفاعل الديني بين العرب والهنود عن فوائد كثيرة، وأتاح الفرصة لكلا الطرفَين للأخذ والعطاء، وعلى الأقلّ، للاطّلاع على دياناتهم. وأعتقد أن ديانة أغلبية الهنود في تلك الأيّام كانت البوذية، والبوذيّون هم الذين تأثّروا بالإسلام أكثر من غيرهم، ويظهر ذلك جليّاً في تلك المناطق التي تمرّ بها الطرق التجارية للعرب، وهي من كارومندل إلى كتش وغجرات، ومن السند إلى كشمير”.
وممّا يروي الندوي عمّا يجمع بين المسلمين والهندوس والبوذيين أثر مقدّس في جزيرة سريلانكا يحظى بإجلال أبناء الديانات الثلاث ويحجّون إليه من أقاصي الأرض (ص169): “يعتقد الناس بعامّة أنّه توجد على جبل من جبال سرنديب أو سيلان (الأسماء القديمة لسريلانكا) صخرةٌ فيها أثر قدمٍ مقدّس. ولا يعلم إلا الله منذ أي وقتٍ ما زال الناس يقدّسون هذا الأثر ويزورونه. ومن بواعث الاستغراب أنه كان مكاناً مقدّساً مشتركاً لكلّ من المسلمين العرب والبوذيّين وعامّة الهندوس. وهذا ما لا يوجد له نظير في عالم الأديان”.
وبالفعل فأن يُجمِعَ أبناءُ الديانات الثلاث على تقديس مكان واحد بعينه لهو أمرٌ ليس بالمألوف. ولكن لماذا؟ وفي ذلك يتابع المؤلّف راوياً (ص169-170): “فالمسلمون يزعمون بأنّه أثرٌ لقدم النبي آدم عليه السلام، والبوذيّون يعتقدون أنه أثرٌ لقدم شاكيا موني [بوذا] والهندوس يظنّون أنه أثرٌ لقدم شيفا ويقدّسونه. فيشدّون إليه الرحال من كلّ فجّ عميق ويزورونه”.
وعن الرحّالة العرب والصوفيّة الذي يقدّسون هذا المكان يضيف الندوي راوياً (ص170): “وكان الرحّالة العرب ودراويش العراق يشتاقون لزيارته أيّ اشتياق. وقد ذكره كلّ واحد من الرحّالة العرب الذين سافروا عبر البحر، ووصلوا إلى ذلك المكان مشتاقين لزيارته. وهذا ما تسبّب في ورود الدراويش المسلمين بعددٍ كبير إلى هذا المكان”
ومن هؤلاء الرحّالة العرب أشهرهم ألا وهو ابن بطّوطة، ينقل عنه المؤلّف (ص170): “وعندما زار ابن بطّوطة المنطقة كان حاكمها ملك هندوسي، فرأى آثاراً كثيرة للنفوذ الإسلامي في الجزيرة، ومنها كهفٌ بالقرب من الصخرة التي تحمل أثر قدم آدم سمّي بـ “كهف خُضر”.
وكان يجدر بالندوي أن يتوقّف عند هذه التسمية الأخير، فهي دليلٌ آخر على ما ذهب إليه بشأن بوذا/الخضر في الإسلام. فها هو ابن بطّوطة يروي ما يدعم رأي القائلين إن الخضر هو بوذا. فالكهف كهف الخضر في التسمية الإسلامية، في حين أنّها آثار قدم بوذا في المعتقد البوذي. والتقليد البوذي يسبق بالطبع الإسلامي ما يعني، على الأرجح، أن المسلمين عندما وصلوا إلى جزيرة سريلانكا واكتشفوا هذا المكان المقدّس البوذي سمّوه باسم بوذا القرآني أي الخضر!!
وفي الكتاب فوائد عديدة أخرى في مجال التفاعل الهندي العربي لا يسمح لنا ضيق المقام بذكرها وتحليلها.