“سوسيولوجيا الدين: مقاربات كلاسيكية”
مراجعة بقلم لويس صليبا لكتاب “سوسيولوجيا الدين: 1-مقاربات كلاسيكية” تأليف هيرفيو ليجيه وجان بول وليم، ترجمة يوسف طاهر الصدّيق، منشورات هيئة البحرين للثقافة والآثار في المنامة ومنتدى المعارف في بيروت صدر ضمن سلسلة “مشروع نقل المعارف” في ط2، 2022، في 447ص.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد تشرين الثاني 2023
هو مشروع جليل الفائدة تقوم به هيئة البحرين للثقافة والآثار ويقضي بتعريب العديد من المراجع والمصادر المهمّة في علوم الإنسان من الفرنسية والإنكليزية وإغناء المكتبة العربية بها، وهي في الحقيقة بأمسّ الحاجة إلى أمثال هذه الدراسات والبحوث ومنهجيّاتها. ومنها هذا الكتاب.
ويتحدّث المؤلّفان في المقدّمة عن (ص8): “الحاجة إلى امتلاك عرضٍ نسقي للتحليلات التي قدّمها آباء السوسيولوجيا المؤسّسون عن الظاهرة الدينية”.
ويتابع المؤلّفان: “لقد تبيّن أن إعادة قراءة الكلاسيكيين في ضوء تحليلهم للواقعة الدينية طريقة ممتازة لولوج إشكاليّتهم العامّة وعرض منهجهم. (…) إن كلاسيكيي السوسيولوجيا الكبار جميعاً واجهوا تحليل الشأن الديني، واحتلّ هذا التحليل في الغالب حيّزاً لا يستهان به من مجمل أعمالهم. ومردّ ذلك أن ولادة السوسيولوجيا بوصفها تخصّصاً علمياً كانت وثيقة الصلة بالسؤال عن مصير الديني في المجتمعات الحديثة”.
إنها خلاصة على جانب كبير من الأهمّية وعميقة الدلالة، فعلم الاجتماع إذاً كان، ومنذ نشأته، ليس معنياً بالظاهرة الدينية وحسب، بل إن دراستها كانت من أبرز مواضيعه. وسوسيولوجيا الدين ليست مجرّد قسم من علم الاجتماع أو فرع منه، بل هي في صلبه، وكان لها دور تأسيسي في نشأته.
ومن هم هؤلاء الآباء المؤسّسون؟ أسماء كبرى من العلماء والفلاسفة، ولا تتيح لنا حدود هذه المقالة أن نخصّ كلّ عالمٍ بوقفة وتحليل، فلا بدّ لنا من أن نكون انتقائيين!
فبشأن كارل ماركس (1818-1883) موضوع الفصل الأول (ف1، ص17-51) ينقل عنه المؤلّفان (ص21): “نقد الدين شرطٌ أوّلي لكلّ نقد (…) وأساس النقد اللاديني أن الإنسان هو من يصنع الدين، وليس الدين ما يصنع الإنسان. والدين هو الإنجاز الخيالي للكائن البشري (…). والدين هو زفرة المخلوق المضطهَد ومهجة عالمٍ بلا قلب، وهو أيضاً روح الظروف الاجتماعية التي أُقصيت منها الروح، والدين أفيون الشعب”.
ولسنا في مقام يخوّلنا مناقشة مؤسّس الماركسية طروحاته في الدين. وجلّ ما نبتغيه تفهّمها لا سيما وأنّه كان لها، ولا يزال، بالغ الأثر على شريحة كبرى من سكّان كوكبنا. والعبارة الأخيرة “الدين أفيون الشعوب” لا تزال ملايين البشر تردّدها في أيّامنا في نقد الظاهرة الدينية. وتأكيد ماركس أن نقد الدين شرطٌ أوّلي لكل نقد قاعدة أساسية لقيام علوم الأديان، إذ لا بدّ لها أن تنطلق من أن الدين، بالمفهوم العلمي، وبغضّ النظر عن الاعتبارات الإيمانية، صناعة بشرية وهي تقارب الظاهرة الدينية من هذا المنظور.
ونتابع عرض المقاربة الماركسية للدين (ص21-22): “إن إلغاء الدين بوصفه سعادة وهمية للشعب هو الشرط الذي تقتضيه سعادته الواقعية. إن اشتراط إقلاع الشعب عن الأوهام في ما يتعلّق بوضعه إنّما يعني اشتراط إقلاعه عن وضعٍ يحتاج إلى الأوهام”.
ويخلص ماركس في هذا المجال إلى (ص22): “خلَقَ الإنسان قوّةً خارجة عنه لا يُعدّها قوّته الخاصّة، وهي تستعبده”.
أصرّ ماركس على إلغاء الدين شرطاً أساسيّاً لسعادة حقيقية للإنسان! ولكن ما الذي فعله هو في هذا السبيل؟! أليست الماركسية نمطاً آخر من الدين في العصر الحديث؟ إنه النقد الأساسي الذي يوجّهه المؤلّفان لسوسيولوجيا الدين الماركسية، فهي لم تفعل سوى أنّها أحلّت ديناً أي الماركسية محلّ دين، وبهذا يُختم ف1 (ص50): “يفسَّر تأثير الماركسية نفسُه بوصفها إيديولوجيا، بهذا الطابع المزدوج اليوتوبي والعلمي. وإنها لسخرية إضافية من التاريخ أن ندرك أن هذه الإيديولوجيا التي كانت تتّهم الدين بوصفه [بأنه أو وتصفه] أفيون الشعب، إنّما كانت بسبب طابعها ذاته النبوئي والألفي، قد أثّرت أيّما تأثير في تاريخ البشر”.
وف3 (ص91-163) مخصّص للسوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864-1920). والبداية مع المفهوم الفيبري للدين (ص96): “كان فيبر ينظر بالأحرى إلى الظاهرة الدينية بوصفهاً بُعداً متّصلاً بوضعٍ إنساني يواجه لامعقولية العالم، لكنه بُعدٌ يتّخذُ أشكالاً شديدة التنوّع بحسب العصور والحضارات، فهو إذاً بعدٌ تاريخيّ بعمق”.
إنه تحديد ديناميكي جليل الفائدة لأنّه يركّز على ظاهرة التحوّل والتغيّر في الدين عينه عبر الأزمنة والأمكنة، فهل مسيحية اليوم هي عينها مسيحية العصور الوسطى؟ وهل مسيحية أميركا الجنوبية اليوم هي عينها مسيحية المشرق؟!
ويركّز فيبر على أن الدين هو أوّلاً أدب حياة (ص107): “الدين بالنسبة إلى ماكس فيبر نوعٌ مخصوص من طرائق التصرّف ضمن الجماعة تنبغي دراسة شروطه وآثاره. لا يقارب فيبر الأديان بكونها نظم اعتقاد في المقام الأوّل، وإنّما بوصفها أنساق تنظيم للحياة استطاعت أن تجمع حولها حشوداً من المؤمنين غفيرة بنوعٍ خاص”.
ومن ميّزات علم الاجتماع الديني عند فيبر تركيزه على دراسة المجموعات أو بالحري الطوائف والفئات الاجتماعية داخل كلّ دين وأهمّية كلّ منها كوحدة سوسيولوجية (ص133): “تبدي السوسيولوجيا الفيبرية للأديان أهمّية بالغة لدراسة الظواهر الطائفيّة ليس لأن فيبر هو صاحب ذلك التعريف المثال نمطي الشهير للطائفة فحسب، بل لأنّه واعٍ أيضاً بما يمكن لهذا النمط من الوجود الاجتماعي للدين أن يقدّمه إلى بعض فئات السكّان”
ومن هنا فالسوسيولوجيا الفيبرية تبقى بلا ريب جليلة الفائدة في دراسة المجتمعات المتعدّدة الطوائف والمذاهب كما في لبنان وسائر دول الشرق الأوسط لما تُقدّم من عناصر وتقنيّات ومناهج مفيدة في مقاربة هذه المجتمعات، وكذلك في فهم ديناميكيّتها وجدليّة العلاقات بين مكوّناتها وأطيافها.
ويتناول ف5 عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858-1917) وطروحاته في سوسيولوجيا الدين. ويعتبر المؤلّفان أن (ص215): “لا أحد من بين كلاسيكييّ السوسيولوجيا أجدر من دروكايم بلقب مؤسّس: بمشروعه بتأسيس السوسيولوجيا علماً وضعياً مستقلّاً بذاته في آن عن فلسفة التاريخ وعلم النفس. وكان مؤسّساً بتشكيله مدرسة حقيقية حول مجلّة الحوليّة السوسيولوجية التي أنشأها 1897، وكان مؤسّساً من خلال شهرة منجَزه اللاحقة شهرة هائلة في فرنسا كما في الخارج”
ويعتبر دوركايم (ص243): “الدين نسق متعاضد من المعتقدات المتعلّقة بأشياء مقدّسة أي منفصلة ومحرّمة، وهو معتقدات وممارسات توحّد جميع من يعتنقونه ضمن جماعة أخلاقيّة واحدة تسمّى كنيسة”.
ولعلّ أبرز ما في طروحات دوركايم بشأن الدين أنّه كان من الروّاد القائلين بوجوب دراسته من الداخل يقول (ص245-246): “علينا التمكّن من أن نضع أنفسنا في مواجهة الدين بحالة المؤمن الذهنية في موقف تفهّمي لا يمتّ بصلة إلى الاعتناق، غير أنّه يتيح الدخول في ما يقبل الإدراك من التجربة التي يعيشها المنتسبون”
ويحذّر دوركايم من أن مقاربة الدين بذهنية لادينية قد تكون شبيهة بأعمى يُحدّث عن الألوان، ويضيف (ص247): “لا يمكن أن يوجد تأويلٌ عقلي للدين يكون لادينيّاً في أساسه، فقد يكون التأويل اللاديني للدين أشبه بتأويل الأمر الذي يتعيّن بيانه. ولا شيء أشدّ من ذلك نقضاً للمنهج العلمي”
ويبقى أن عرض رؤيا دوركايم للظاهرة الدينية ومنهجيّته في مقاربتها أمر جليل الفائدة للقارئ العربي.
وختاماً كلمة في ترجمة الكتاب. وقد لاحظنا أن المترجم يعمد في مجال المصطلحات إلى تعريبها عوضاً عن ترجمتها أي تقديم المصطلح العربي الموازي. كمثل استخدامه مصطلح باراديغم (ص22) عوضاً عن نموذج أو مثال يحتذى، “بَلترة” تعريباً لـِ Prolétarisation(ص132) وهي بالعربية “إكداح” أي تحويل المنتجين المستقلّين إلى كادحين أو بروليتاريا (حلو، عبده، معجم المصطلحات الفلسفية، 1994، ص138). “الدين الإيتيقي”، علماً أن Ethique بالعربية فلسفة الأخلاق (حلو، م. س، ص59). أو الأخلاق فلماذا لا يقول الدين الخُلقي أو الأخلاقي؟! المادّة الإمبيريقية (ص216) لماذا لا يستخدم “المادّة التجريبية”. تعويض [عوض]، تتشكلن [تتشكّل] ص229. الواقع الإمبيريقي [التجريبي]. وبعض تعابيره المعرّبة تكاد أحياناً تكون سمجة!!
ولو كلّف المترجم نفسه عناء العودة إلى معجم للمصطلحات الفلسفية أو السوسيولوجية لوفّر على نفسه هذا الإغراق في التعريب واستخدام المصطلحات الغريبة. وممّا لحظناه في هذا الصدد أنّه تفرّد إلى درجة التعسّف في ابتداع مصطلحات وكان من المفترض أن يُعرَض عمله على مُراجِع ومدقّق كما في سائر كتب هذه السلسلة.