“العرب من مرج دابق إلى سايكس-بيكو”
مراجعة بقلم لويس صليبا لكتاب “العرب من مرج دابق إلى سايكس-بيكو (1516-1916) تحوّلات بُنى السلطة والمجتمع من الكيانات والإمارات السلطانية إلى الكيانات الوطنية”، مجموعة من المؤلّفين، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت في 1279ص وتجليد كرتونيه.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد تشرين الثاني 2023
إنّه عملٌ موسوعي ضخم شارك فيه 36 بين باحث ومؤرخ من مختلف أرجاء العالم العربي في 36 دراسة توزّعت على سبعة أبواب في الكتاب. ونظراً لضيق المجال فسنقصر عرضنا وتحليلنا على القسم الأخير وعنوانه “مآلات جديدة ما بعد العثمانية سايكس-بيكو موضوعاً إشكاليّاً” (ص1087-1222).
والدراسة الأولى (ف33) لمحمد جمال باروت وعنوانها من “من اتّفاقات سايكس-بيكو إلى معاهدة لوزان: عقد من التحوّلات وآثارها البنيويّة في نشوء الدولة في المشرق العربي”.
يدرس باروت الاتّفاقات السابقة لسايكس-بيكو وتلك الممهّدة لها، فيؤكّد أن (ص1091): “ما فعلته اتّفاقية سايكس-بيكو لم يكن في أحد أبرز الوجوه سوى تكريس لمناطق النفوذ تلك التي اشتملت عليها الاتّفاقات العثمانية الأوروبية قبل الحرب”.
ويتابع في هذا الإطار فيُظهر أن (ص1095): “اقتسام اتّفاقات سايكس-بيكو السرّية لآسيا العثمانية سبقه عقد تلك الاتّفاقات بين الدولة العثمانية وكلّ من روسيا وبريطانيا وألمانيا بصورةٍ سرّية أيضاً، واعتراف الدولة العثمانية بمناطق نفوذ اقتصادي سياسي لكلّ منها”.
وهي نقطة تستحقّ وقفة وتأمّلاً فسايكس-بيكو التي تُلعَن صبحاً ومساء في العالم العربي وإليها تُنسب كل المصائب لم تكن سوى تتويج وتكريس لمسار طويل قبل الحرب دخلت بازاره الدولة العثمانية نفسها وقايضت وباعت واشترت مع الدول الأوروبية.
ويتابع باروت موضحاً (ص1095): “لن يتسنّى فهم اتّفاقات 1914-1915 السرّية، واتّفاقات سايكس-بيكو السرّية بمعزل عن الاتّفاق الأنكلو-فرنسي 1904 والاتّفاقات العثمانية الأوروبية اللاحقة التي تلته حتى الحربَين البلقانيّتين”.
والاتّفاق الأنكلو-فرنسي كان تقاسماً لمناطق السيطرة والنفوذ بين الدولتَين اعترفت فيه فرنسا لبريطانيا بموقع ممتاز ومصالح خاصّة في مصر، في مقابل اعتراف إنكلترا بموقع فرنسا ومصالحها الممتازة في مراكش.
ويخلص الباحث في هذا الصدد ونقلاً عن ساطع الحصري (ص1097): ” إن أسس اقتسام البلاد العربية المذكورة قد تقرّرت قبل الحرب العالمية الأولى، تحت علم الحكومة العثمانية نفسها”.
إنّها خلاصة على جانب بالغ من الدلالة والأهمّية وتدعونا إلى تدبّر تاريخنا وأحداثه بمعزل عن الأحكام المسبقة ولا سيما تلك التي حشت الأنظمة الديماغوجية رؤوسنا بها. وهذه الأخيرة جعلت من الاستعمار مشجباً نسبت إليه مختلف أسباب خيباتها وهزائمها. فالدولة العثمانية كانت شريكة أساسية في ما نُسب إلى دول الاستعمار الأوروبي من اقتسامٍ وتقطيع لمنطقتنا!
وممّا استوقفنا في دراسة باروت مقارنته بين الحركَتين الكمالية التركية والفيصليّة العربية. فلماذا نجحت الأولى في رفض ما فُرض عليها في سايكس-بيكو ومعاهدة سيفر وغيرها وفَرْض ما يوافقها من شروط، في حين فشلت الثانية؟ في ذلك يقول الباحث (ص1103): “إن ما قَلَبَ معاهدة سيفر كان الحركة القومية التركية الكمالية التي استثمرت، وبكفاءة، الحركة العربية وثورات الشمال السوري سياسيّاً، لتحقيق أهدافها القوميّة. وفي حين تمكّنت هذه الحركة من تقويض معاهدة سيفر ميدانيّاً في ما يتعلّق بالأراضي العثمانية بالأناضول، فإن الحركة العربية، لم تتمكّن من ذلك. (…) فأرغمت الحركة الكمالية الحلفاء على إبرام معاهدة جديدة (لوزان 24/7/1923) بينما تكرّست أوضاع الحلفاء في المشرق العربي كما نصّ عليها اتّفاق سيفر”.
فشلٌ ذريع هنا ونجاحٌ باهرٌ هناك رغم أن الخصم أو العدو الأوروبي واحد. أما الأسباب فبرسم كلّ قارئ متبصّر. ويبقى أن دراسة باروت جيّدة كمدخل وتمهيد للموضوع.
والدراسة الثانية (ف34) كتبها ياسر جزائرلي وعنوانها “لورنس وبريمون واستراتيجية سايكس-بيكو”. وهو يستهلّ بحثه بتبيان أسباب عودة الحديث عن سايكس-بيكو إلى الواجهة، والجواب يُختَصر بعبارة “داعش”، يقول (ص1111): “منذ ظهور تنظيم داعش وتفاقم الحرب الناجمة عن الثورة السورية والمراقبون يكرّرون الحديث عن اتّفاق سايكس-بيكو جديد. والمؤرخ الأميركي شين مكميكن المختصّ بالحرب العالمية الأولى يقول إن الاتّفاق أصبح أسطورة خصوصاً بعد كثرة الحديث عنه عقب ظهور داعش 2014”.
ويجتهد جزائرلي في: 1-تظهير دور الاستشراق الأوروبي في الوصول بالنتيجة إلى هذا الاتّفاق 2-وكذلك سعيه إلى تطبيقه والذي تجسّد في نشاط لورنس العرب البريطاني وبريمون الفرنسي في الحجاز إبّان الحرب الكونية.
فبالنسبة للنقطة الأولى يقول (ص1112): “عندما ندرس المجريات التاريخية والسياسية التي أدّت إلى سايكس-بيكو يجب في الوقت نفسه درس الخطاب الذي نتج من هذه السياسات، أو جعل هذه السياسات ممكنة”.
أمّا بشأن المسألة الثانية فيؤكّد في خلاصة بحث مطوّل (ص1113): “أن لورنس وبريمون كانا جزءاً من اتّفاق سايكس-بيكو. ودورهما في الحجاز كان ضمان تحقيق الاتّفاق”.
وممّا استوقفنا في دراسة جزائرلي مقارنته المجدية بين عقليّتَين ومقاربتَين غربيّتَين للإسلام يحسن برأينا التبصّر فيهما (ص1117): “الأمبراطور الألماني وليم الثاني عندما زار الدولة العثمانية 1898 وضع إكليلاً ذهبيّاً على قبر صلاح الدين الأيّوبي في دمشق، وأعلن صداقة ألمانيا للدولة العثمانيّة وللمسلمين عموماً (…) ولورنس سرق هذا الإكليل وأرسله إلى لندن بعد دخول جيش الشريف حسين دمشق”.
والمقارنة بين تصرّفَين وتكتيكَين متضادّين لا تعني بالضرورة شيطنة واحد وتقديس آخر، فكلٌّ كان يبحث له في المسألة عن مصلحة. ولكن لا بدّ من الإقرار أن المقاربة الألمانية الودودة كان لها أثر حاسمٌ في اصطفاف غالبية إسلامية وعلى رأسها السلطنة والخلافة إلى جانب دول المحور في الحرب العظمى.
ويضع جزائرلي الاتّفاق في سياق تاريخي طويل من التسابق والتنازع (ص1120): “سايكس-بيكو هو نهاية صراع أنكلو-فرنسي على المنطقة استمرّ أكثر من قرنٍ من الزمن”. وهو يمضي في تحليله ليرى فيه نقطة محورية مثّلت في آن ذروة مسارٍ ماضٍ ووسمت حاضر المنطقة وآتيها بسمتها (ص1146): “إن اتّفاق سايكس-بيكو هو النقطة الفاصلة بين قرنَين، إذ إنّه ختم سباقاً بين فرنسا وبريطانيا للسيطرة على المنطقة، وأسّس لحقيقة جغرافيّة مستمرّة منذ أكثر من قرن. وهو نتيجة مسارٍ بدأ مع حملة نابوليون على مصر، نقطة البداية للصراع الأنكلو-فرنسي، الذي هدف سايكس بيكو إلى إنهائه عبر اعتراف كلّ طرف بمصالح الآخر في المنطقة”.
ويؤكّد الباحث أن دراسة سايكس-بيكو في المسار الذي أوصل إليه وكذلك في ما نتج عنه لا تقتصر جدواها على فهم الأمس وخفاياه بل تنسحب على الراهن والآتي (ص1139): “عندما ندرس استراتيجية لورنس وبريمون، أو استراتيجية سايكس وبيكو، فنحن لا ندرس استراتيجيا اندثرت، بل مبدأ لا يزال يُعمل به، كما نرى في العراق وسوريا اليوم”
ونحن بدورنا لا نملك سوى أن نوافقه على هذا الطرح الأخير فالذهنيّة لمّا تزل إيّاها على اختلافٍ في الظروف والأشخاص. ولكن ليست ذهنية المستعمِر وحسب، بل وعقلية المستعمَر كذلك!
وخلاصة القول فدراسة ياسر جزائرلي رزينة وأكاديميّة ومكتبة بحثها غنيّة وواسعة وشملت معظم المراجع والمصادر الأجنبية في هذا المجال. وهي تضيف جديداً إلى المكتبة العربية من شأنه أن يفتح الباب نحو المزيد من البحوث.
وآخر دراسات الكتاب (ف36) للباحثة مونية آيت كبورة وليت المشرف على الكتاب وناشره ذكرا بوضوح هويّة كلّ باحث وإلى أي بلدٍ ينتمي، فهي معلومة مهمّة ومفيدة! أمّا عنوان هذا البحث الأخير فهو: “الهوية واليوتوبيا في ما بعد سايكس-بيكو: قراءة في الخطابَين القومي والإسلاموي”.
تؤكّد كبورة أن الفكر السياسي العربي القومي والإسلاموي (ص1188): “جعل من سايكس بيكو لحظة قطيعة، ويعود ذلك إلى عدم قدرة هذا الفكر على ملامسة إشكالات النحن وديناميّتها التاريخية التي أفضت إلى الواقع الاستعماري وما تلاه، ومن ثمّ كان عجزه عن فهم هذا الواقع وعن تجاوزه دافعاً غير واعٍ إلى إسقاط تبعات فشله على الآخر”.
وهي برأينا ملحوظة واقعية أتت في محلّها.
كما تؤكّد الباحثة على أن (ص1197): “النظر في تاريخ ما قبل سايكس بيكو يدلّ على عكس ما يعتقده الإسلاميون من أن طبيعة الدولة العثمانية لم تكن وحدة هُلامية جامعة، ولا ذاتاً تعبّر عن هويّة إسلامية واحدة، فهي كانت تتكوّن من أعراق وأجناس وعناصر ليس لها الموقف ذاته ولا النظرة ذاتها ولا الممارسة ذاتها للعقيدة الإسلامية على الرغم من رفعها شعار الخلافة الإسلامية الجامعة. ومن ثمّ لم يكن التآمر بين الشريف حسين والقوى الاستعمارية الأوروبية ما قضى عليها، وإنّما كانت تحمل تناقضات نفيها”.
وهي خلاصة لا تجافي الوقائع التاريخية.
وفي المحصّلة فالكتاب جليل الفائدة ولا غنى عنه لكلّ باحث في الموضوع.