مكتبة الأمن/تموز 2023 بقلم أ. د. لويس صليبا
قراءة نقدية لكتاب إليزابيت تومبسون “كيف سرق الغرب الديموقراطية من العرب“/المركز العربي للأبحاث-بيروت، بقلم لويس صليبا
“كيف سرق الغرب الديموقراطية من العرب: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي-الإسلامي فيه”، تأليف إليزابيث ف. تومبسون، ترجمة محمد م. الأرناؤوط، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت في 600ص.
مقالة نشرت في مجلة الأمن/بيروت، عدد تموز 2023
كتاب يثير إشكاليّات وتساؤلات عديدة لا سيّما بشأن طروحاته، ومنهجيّته الانتقائية والإقصائية في آن، رغم أنه في الأساس أطروحة دكتوراه في التاريخ، ويَنتظر القارئ منه عرضاً أكاديميّاً إن لم نقل موضوعيّاً، ونبرة حياديّة.
تستهلّ المؤلّفة كتابها كما يلي (ص17): “في 8 أذار/مارس 1920 أصدر المؤتمر السوري إعلان الاستقلال باسم غالبيّة السكّان الناطقين بالعربية في سوريا الكبرى، التي تشمل الآن دول لبنان وسوريا والأردن وفلسطين وإسرائيل”.
إنّها ببساطة تبدأ بحثها بكمّ من الأخطاء غير مسموحٍ بها في بحث أكاديمي. فما أسمته إعلان الاستقلال أو بالحري قرار المؤتمر بقيام المملكة السورية، واختيار الشريف فيصل بن الحسين ملكاً عليها صدر بالأحرى في 6 أذار 1920، لا في 8 منه. (صليبا، لويس، لمحات من تاريخ لبنان الحديث 1850-1950، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2022، ص415). أما 8 أذار فهو تاريخ تتويج فيصل ملكاً على سوريا ومن ضمنها فلسطين والأردن ولبنان.
وتعيد المؤلّفة مراراً تكرار هذا الخطأ ففي ص 23 على سبيل المثال لا الحصر تقول: “تصوّر إعلان الاستقلال في 8 أذار/مارس”.
وإذا وضعنا جانباً هذا الخطأ الفادح والمزدوج في التسمية وفي التأريخ، فهي، إلى ذلك، تعتبر قرار المؤتمر السوري هذا، والمؤتمر نفسه مثالاً نموذجيّاً للديموقراطية قضى عليه الغرب وسرقه، وبهذه العبارة تعنون كتابها. وتقول (ص20): “إن القصّة الواردة في صفحات هذا الكتاب أي عن كيفيّة سرقة الأوروبيين الديموقراطية من العرب وإخراج سوريا ممّا يسمّى العالم المتمدّن، لم تروَ حتى الآن في الإنكليزية”.
إنّه ببساطة تبجّحٌ في غير محلّه، وكأنّها اكتشفت المخبوء، وكشفت عن المستور! وأيّة ديموقراطية هذه أن يفرض مجلسٌ غير منتخب، ولا ممثّلون للبنان ولا سيما جبل لبنان فيه، ضمّ لبنان إلى المملكة السوريّة فرضاً؟! وقد تظاهر اللبنانيّون يومها واجتمعوا في بعبدا في 22 أذار 1920 في لقاء ضمّ جماهير ومندوبين لهم من مختلف المناطق وأجمعوا على رفض قرار المؤتمر السوري هذا. وهذا القرار كان مسألة خلافية بامتياز أيّده البعض في سوريا وفلسطين ورفضته الأكثرية الساحقة في لبنان، فهل يصحّ أن يقال عنه إنه قرار ديموقراطي، بل نموذج للممارسة الديموقراطيّة؟!
واضحٌ أن الباحثة منحازة إلى فريق من أفرقاء الصراع المحتدم يومها، وهي تعلن انحيازها في السطر الأوّل من بحثها. فالتسرّع في إعلان فيصل ملكاً اعتبره معظم المؤرّخين خطأً جسيماً أودى بهذه المملكة الناشئة إلى التهلكة.
ويومها نظم الأخطل الصغير، أمير شعراء العرب لاحقاً، قصيدة سخرت من تنصيب فيصل ملكاً على دولة مفلسة فأنشد:
نادوا بفيصل في دمشق مليكا لحكومة لا تملك المتليكا
(حلّاق، عبدالله يوركي، الثورات السورية الكبرى في ربع قرن 1918-1945، دمشق، دار طلاس، ط1، 1990، ص81). والمتليك قطعة نقد نحاسية صغيرة والمقصود أنها حكومة لا تملك ولا حتى قرشاً واحداً!!
والقصيدة خير تعبير عن مدى استهجان الكثيرين وسخريّتهم من قرار المؤتمر السوري هذا بإعلان قيام دولة وملَكيّة لا تملك شيئاً من مقوّمات الدولة واستمرارها!!
وحتى والد فيصل الشريف حسين نفسه كان معارضاً لهذه الخطوة واعتبر أنّها لا يجب أن تحصل قبل توقيع المعاهدة بين الحلفاء والدولة العثمانية المهزومة والتي فيها تعلن تخلّيها رسمياً عن سوريا. وقد وُقّعت لاحقاً في سيفر في 10 آب 1920. (صليبا، لويس، لمحات، م. س، ص417). وكلّ ذلك عرضناه بالتفصيل في كتابنا سوريا الكبرى أم لبنان الكبير.
وتومبسون الباحثة المنحازة إلى هذا القرار والتي تغدق عليه المدائح والنعوت الطنّانة لم يكن بوسعها أن تغفل معارضة الشريف حسين له، إلا أنّها شكّكت بهذا الرفض، فكتبت (ص279): “أما ردّات الفعل في الجزيرة العربية فقد كانت متناقضة. كان رئيس المؤتمر هاشم الأتاسي قد أعلم الشريف حسين رسميّاً بإعلان الاستقلال في 9 أذار إلا أن ملك العرب رفضه كما قيل. وربّما هذا ما يفسّر تأخّر فيصل في إعلام والده شخصيّاً حتى 20 أذار”.
وتتابع المؤلفة تشكيكها فتقول (ص279): “عارض الشريف حسين كما قيل إعلان الاستقلال”.
إنّه بالحري إعلان ملكية فيصل، فالتسمية بحدّ ذاتها خطأ. أيّاً يكن فهل يجوز ويُقبل من باحثة أكاديمية تجهيل الفاعل والقائل؟ لا سيما في مسألة هي في صُلب موضوعها؟! فمن هو الذي قال ذلك عن الحسين!؟ وماذا قال تحديداً؟ وهذا التجهيل إنما هو خطأ مقصود بهدف التمويه بل التعمية.
ولا يتيح لنا ضيق المجال ومحدودية المساحة المخصّصة لهذه المقالة التوقّف عند معظم أخطاء الباحثة ولا حتى أكثرها، لذا فنحن مضطرّون إلى الاكتفاء ببعضها كنماذج معبّرة، وإلا لاضطّررنا إلى تأليف مصنّف لا يقلّ حجماً عن كتابها!!
تتحدّث تومبسون (ص446) عن أنّه: “في 5 آب [1920] رفضت عصبة الأمم طلب الشريف حسين لحماية حقوق المسؤولين السوريين الذين انتُخبوا بشكل شرعي، وهو الأمر الذي تأسّست لأجله العصبة. وكان السكرتير الأوّل للعصبة السير إريك دروموند (…) وردّ دروموند بأن العصبة لا يحقّ لها أن تتدخّل لأن سوريا لا تزال جزءاً من الإمبراطورية العثمانية (…) عمليّاً كانت رسالة دروموند تعني إلغاء وجود المملكة العربية السوريّة”.
وبكلمة موجزة مكثّفة فالمؤلّفة تستند إلى رسالة الشريف حسين وردّ أمين عام عصبة الأمم لتبني ركناً أساسيّاً من أركان مزاعمها عن سرقة الغرب للديموقراطية من العرب. والرسالتان هاتان نعرفهما جيّداً وقد قمنا بتعريبهما عن الفرنسية نقلاً عن المصدر عينه الذي ذكرته الباحثة Hokayem pp578-579. ونشرنا نصّا الترجمة مع تحليل وتعقيب في دراستنا “من سايكس بيكو إلى لبنان الكبير” (الحلقة 33)، لذا نحيل الراغب بالتوسّع في البحث إليها. وواقع الأمر أن كلا الرسالتَين لا علاقة لهما البتّة بالنوّاب السوريين لا سيّما وأنّهم غير منتخبَين! بل هما تتعلّقان حصراً بقضيّة نوّاب مجلس إدارة لبنان موقّعي مضبطة 10 تموز 1920 وحادثة اعتقالهم من جانب السلطات الفرنسية في ذلك التاريخ!!! فهل إن تومبسون لا تفهم ما تقرأ من وثائق؟ أم أنّها تزوّر الحقائق؟ سيّما وأنّها تبني على قراءتها المغلوطة لهاتَين الوثيقتَين الكثير من نتائج بحثها ومزاعمها!!
ونواصل مع المؤلّفة مزاعمها وتلفيقاتها. نقرأ (ص396): “أرسل ميلّران توجيهاً جديداً إلى غورو: ألغِ اتّفاق 6 كانون الثاني/يناير [1920] ودمّر المملكة العربية السورية. لم يَعُد ميلّران يرى أي نقطة ممكنة في المفاوضات مع الشريفيّين العدائيين”.
ونعود نحن إلى رسالة ميلّران المذكورة هذه إلى غورو وهي مؤرّخة في 12/6/1920، ومأخوذة من مجموعة الوثائق عينها Hokayem, pp 416-417. فنجد أن ميلّران يطرح فيها ما ينقض مزاعم الباحثة من إلغاء وتدمير. فهو يتحدّث عن أن الأمير فيصل: “كان موقفه يتناقض دوماً مع محاولة المصالحة التي عبّر عنها الاتّفاق المؤقّت في 6/1/1920”. Hokayem, op. cit, p417
ويتابع ميّلران مؤكّداً لغورو: “علاقاتنا مع الحكومة الشريفية لا بدّ من أن تسوّى باتّجاه أو بآخر قريباً” Ibid
ويضيف آملاً بالوصول إلى: “اتّفاق مقبول مع الشريفيين” Ibid
وميلّران على مدى هذه الرسالة/الوثيقة التي نعرفها جيّداً لا يأتي على ذكر إلغاء ولا تدمير، وإن كان يوصّف الوضع المفتوح على كلّ الاحتمالات كما هو. فكيف تقوّله المؤلّفة المنحازة إلى أخصامه ما لم يقُل؟!
وهكذا فطريقة الباحثة تومبسون العامّة في الإشارة إلى الوثائق، من دون نقلٍ أمينٍ لمحتواها ليست أكاديميّة ولا حتى بريئة أو تهدف إلى الاختصار كما قد يُظنّ. فهي في أحسن الحالات إن لم تكتفي بالإشارة تقتطع ما تشاء ويحلو لها من جمل وعبارات من الوثيقة، وتعزلها عن سياقها ومتنها لتجعلها تعبّر عمّا هي تريد، لا عمّا شاءت هذه العبارات في الأصل أن تعبّر عنه!
وبعض الأخطاء مضحكٌ مبكٍ، كتلك التي نقرأ ص370 عن اجتماع بعبدا 22/3/1920 الآنف الذكر: “رفض المشاركون سلطة المؤتمر السوري، وأعلنوا دولة لبنان الكبير المستقلّة (…) كما وأدانوا النوّاب اللبنانيين [في المؤتمر السوري] الذين كان من بينهم اثنان من الموارنة: جورج حرفوش وعارف النعماني”.
والنعماني وجيه سنّي معروف من بيروت، وليس مارونيّاً. وتستند تومبسون في روايتها المغلوطة هذه إلى مائير زامير في كتابه الإنكليزي The ، Formation of modern Lebanon ص86-89. ولمّا كنا نعرف هذا المرجع الرصين جيّداً واستندنا إليه في عددٍ من أبحاثنا، شكّينا بصحة إسناد هذه الرواية غير الصحيحة إليه. فعدنا وقرأنا بتمعّن الصفحات المشار إليها فيه، فلم نجد فيها أيّ ذكر لما تقول الباحثة، بل ورد فيها ما ينقض روايتها، إذ يقول زامير في كتابه ص86: “وجاء ضمّ لبنان إلى المملكة السورية الذي أعلنه مجلس النوّاب السوري بمشاركة نوّاب مسلمين من القطاع الغربي”!!
وإلى ذلك فلم يرد في كتاب زامير بطوله وعرضه أي ذكر للنعماني ولا لجورج حرفوش!! فمن أين جاءت المؤلّفة بهذه المزاعم؟! أما استنادها إلى أربع صفحات بكاملها من كتاب زامير سنداً لرواية لا تتجاوز ثلاثة أسطر فهي مجرّد عملية تموية مفضوحة!
وعن مضبطة مجلس الإدارة الآنفة الذكر تروي تومبسون (ص384): “في 10 تموز صوّتت غالبية أعضاء المجلس الإداري لجبل لبنان على الانضمام إلى حكومة دمشق. وقد سافر هؤلاء برئاسة سعدالله الحويّك، شقيق البطريرك الماروني الحوّيك، في تلك الليلة إلى دمشق لمبايعة فيصل. كانوا يريدون بعد ذلك السفر إلى باريس للتعبير عن تأييدهم للمملكة العربية السورية أمام المجلس الأعلى. ولكن عند توقّف قطارهم في مركز تفتيش جبلي قام جندي سنغالي باعتقالهم بتهمة الخيانة”.
وفي هذه الأسطر القليلة كمّ هائل من الأخطاء والمغالطات. وهذه الحادثة ومضبطتها خصّيناها بدراسة وكتاب كامل. فالأعضاء لم يصوّتوا على الانضمام إلى حكومة دمشق بل على استقلال لبنان التامّ والمطلق، وإعادة المسلوب منه سابقاً بموجب اتّفاق يتمّ بينه وبين حكومة سوريا. وهذا ما نصّت عليه مضبطتهم المؤرّخة في 10/7/1920 حرفيّاً. وسعدالله الحويّك لم يكن رئيساً لهذا الوفد بل أحد أعضائه، وتسمية المؤلفة له رئيساً للوفد محاولة واضحة لتضخيم الحدث وتداعياته. والسفر إلى باريس لم يكن لتأييد المملكة السورية، وإنّما لعرض قضية لبنان. والأعضاء الذين اعتُقلوا كانوا مسافرين بسيّاراتهم وليس بالقطار، وقد اعتقلتهم مفرزة كاملة من الجنود، وهل بمقدور جنديّ واحد أن يعتقل 12 مسافراً!!
إنها فعلاً مجزرة للحقائق والوقائع التاريخيّة، اقترفتها الكاتبة بأسطر قليلة، وكعادتها في التمويه فقد أسندت روايتها الملفّقة هذه إلى أربعة مراجع في 10 صفحات!! ويبدو أنها اقتطعت منها ما يحلو لها، وقوّلتها ما لم تقل، لتصل إلى هدفها المحدّد سلفاً.
وتروي المؤلّفة في صفحات مطوّلة وعديدة وفصل كامل (ف13، ص327-342) تفاصيل النقاش الحامي في المؤتمر السوري حول حقّ المرأة في التصويت، ووجوب إقرار ذلك أم لا. وهذا النقاش الحامي والخلاف بشأن هذا الحقّ جرى، كما تذكر ص342، إبّان انعقاد مؤتمر سان ريمو وإقراره انتداب فرنسا على سوريا في 26/4/1920. فوسط خطر الحرب الداهم، وقرع طبولها، كان نوّاب المؤتمر السوري منشغلين بمسألة “جنس المنتخِبين” ومن يُعطى حق التصويت في انتخابات لاحقة لن تجري. ما يذكّر بانشغال البيزنطيين ولا سيما أعضاء مجلسهم ورجال دينهم، بالنقاش والخلاف حول جنس الملائكة، يوم كان الأتراك العثمانيّون يحاصرون عاصمتهم القسطنطينية، وقد سقطت هذه الأخيرة وهم في حمأة الخلاف والنقاش!!
ويستوقفنا رأي الباحثة ورواياتها بشأن المجاعة في الحرب الكونيّة. نقرأ تعليقاً لها على صورة للمجاعة في جبل لبنان جاء فيه: “مجاعة سنوات الحرب بسبب حصار الحلفاء وحاجات الجيش العثماني، وأدّت إلى وفاة حوالي 500 ألف شخص في سوريا الكبرى”.
وهي في روايتها هذه تغفل حقيقة تاريخية ثابتة تؤكّد أن المجاعة طالت أساساً جبل لبنان دون سائر أنحاء ما تسمّيه سوريا الكبرى. فدمشق مثلاً، وكانت مركز قيادة السفّاح جمال باشا، لم تتأثّر بهذه المجاعة.
وفي السياق عينه تروي المؤلّفة (ص368): “في نهاية الحرب تجاهل [البطريرك] الحويّك حقيقة أن المجاعة لم يتسبّب بها العثمانيّون فقط بسوء إدارتهم، وإنّما حصار الحلفاء واحتكار الحبوب من قبل النخبة المارونية، وأبرزهم من أسرة سرسق”.
وهي تسند روايتها المغلوطة هذه إلى مرجع يقع في 23صMouawad, pp143-165 !!!
وهذه الرواية المقتضبة تضمّنت كمّاً هائلاً من المغالطات!! وأوّلها وأكثرها فداحة وفضاحة أن آل سرسق ليسوا موارنة!! وأيّ لبناني يعرف هذه الحقيقة. بل هم من الروم الأرثوذكس، وكان بعض أفراد هذه الأسرة شركاء جمال باشا والضبّاط الأتراك في الحرب الكونية في الاتّجار بالقمح واحتكاره ورفع أسعاره.
وقد بيّن عدد من الأبحاث الأكاديمية المعاصرة، وبالاستناد إلى الوثائق، أن الحصار البرّي التركي لجبل لبنان كان العامل الأساسي والحاسم للمجاعة. (صليبا، لويس، لمحات، م. س، ص275-277). فمهما حاول الأتراك ومعهم هذه الكاتبة التنصّل من هذه المسؤولية فجرمهم في هذا المجال ثابت!!
وتقع تومبسون في أخطاء تبيّن بالحري أنّها غير متمرّسة بتاريخ المنطقة وأنّها تطأ أرضاً ومجالاً لم تألفه بعد. كمثل قولها (ص84): “خلال 500 سنة كان السلطان العثماني يحكم بلقب الخليفة، أي وريث خلافة الرسول محمد”
وقد طاش سهمها في تحديد هذا التاريخ المهمّ وهذه الحقبة من الخلافة. فالدولة العثمانية حكمت المشرق العربي كسلطنة منذ معركة العثمانيين وسلطانهم سليم الأوّل مع المماليك في 24/8/1516، وحتى انسحاب الأتراك من لبنان وسوريا إثر هجوم الحلفاء في أيلول 1918. (صليبا، لويس، لمحات، م. س، ص390 وص412). أمّا حُكم العثمانيين كخلفاء فهو في أقصى الحالات لا يتخطّى الأربعة قرون وسبع سنوات، أي منذ دخول العثمانيين مصر 1517 وحتى إلغاء أتاتورك للخلافة في 3/3/1924 (صليبا، م. س، ص419). في حين يؤكّد عدد من المؤرّخين الآخرين أن أوّل سلطان عثماني اتّخذ لقب خليفة المسلمين كان عبد الحميد الأوّل (1724-1789)، وذلك سنة 1774م. (فليفل، باسم مروان، العثمانيون وحماية لبنان في عصر الأمير فخر الدين الكبير، بيروت، دار نلسن، ط1، 2019، ص29-30). وفي هذه الحالة تكون الخلافة العثمانية لم تدم سوى 150 سنة!!
ومن أخطائها المشابهة قولها (ص315) عن حكومة الركابي المشكّلة في أذار 1920: “وزير المالية فارس الخوري المسيحي الوحيد فيها”، وذلك رغم أنّها تسمّي بعده وزير التجارة والزراعة والأشغال العامّة يوسف الحكيم، وكلّ المطّلعين يعرفون أنه هو الآخر مسيحي!!!
وكلمة موجزة عن الترجمة العربية للكتاب، وتبدو عموماً دقيقة، لا سيما وأن المترجم محمد الأرناؤوط مؤرّخ متخصّص في تاريخ بلاد الشام الحديث، وقد بذل جهوداً مشكورة في تصحيح العديد من أخطاء المؤلّفة كمثل تسميتها المغلوطة والمتكرّرة لاتّفاق 6/1/1920 بـِ “إتّفاق كليمنصو” (ص389، وص394 وغيرها)، فكان يصحّح دوماً التسمية كما يلي: اتفاقية [فيصل]-كليمنصو.
ومن تصحيحات المترجم الصائبة الأخرى قول المؤلّفة (ص374): “عيّن فيصل رجل الدين الماروني حبيب أسطفان في منصب مهمّ في وزارة الثقافة”. فعقّب المعرّب في الهامش: “لم يكن في العهد الفيصلي وزارة للثقافة (…)”.
وممّا سجّلنا على المعرّب من ملاحظات ما جاء ص400 من ترجمة لرسالة من رئيس الحكومة الفرنسي ميلّران إلى غورو في 27/5/1920 إذ وردت العبارة التالية: “لمنعِ فيصل من دعم الزعران الذين يرتكبون مجازر ضدّ المسيحيين”. وبالعودة إلى نصّ الرسالة الأصلي في مجموعة محفوظات الخارجية الفرنسية Hokayem, op. cit, p358 تبيّن لنا أن عبارة ميلّران بالفرنسية هي التالية Bandes de brigants qui massacrent les chrétiens أي “عصابات المجرمين الذي يرتكبون مجازر …” وكان المترجم بغنى عن استخدام هذا التعبير العامّي السمج في تعريبه لهذه العبارة. ولا نستبعد أن يكون قد تواطأ مع المؤلّفة لإظهار أن الرئيس الفرنسي كما زعمت (ص400): “استخدم اللغة الشعبوية المأخوذة من الصحف الصفراء”.
والخلاصة فهذا الكتاب يعبّر عن رؤية منحازة وأحاديّة الجانب تنطلق من مواقف مسبقة للكاتبة، وهي تسعى بدأب مستمرّ إلى ليّ عنق النصوص في محاولة للوصول إلى إثباتها. وقد نجحت أقلّه في تقديم نموذج “غربي أميركي” فاقع للكتابة الديماغوجية التي غالباً ما يُتّهم العالم الثالث بالحري بها، كتابة توجّهها الأحكام المسبقة Préjugésبل هي تسيطر عليها وتتحكّم بها!
«»«»«»«»«»([1])
[1] –