مراجعة لكتاب خالد لحميدي “الخطاب الديني وأزمة المعنى: بحث في سوسيولوجيا وهيرمينوطيقا التجربة الدينية”/منتدى المعارف، بقلم لويس صليبا
“الخطاب الديني وأزمة المعنى: بحث في سوسيولوجيا وهيرمينوطيقا التجربة الدينية”، تأليف د. خالد لحميدي، صدر عن منتدى المعارف/بيروت، في 256ص.
مقالة نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، زاوية مكتبة الأمن، عدد آب 2023
يطرح المؤلّف إشكالية دراسته كما يلي (ص14): “أحد الأسئلة الكبرى التي يسعى هذا البحث إلى بيانها هي أن مكوّنات الدين من اعتقاد وشرائع وطقوس لا يمكن تصوّرها خارج مفهوم الجماعة والمؤسّسة بالنظر إلى دورها كمكوّنات في إنزال المسألة الدينية من التعالي إلى المحايثة”.
إنّه طرح مجدٍ ويأتي في محلّه، ولكن أيّة منهجية سيعتمد الباحث؟ عن ذلك يجيب (ص15): “القيام بعملٍ تأويلي لهذه التجربة [الدينية]، وذلك من خلال علاقة التجديل (كذا) بين السوسيولوجيا والهرمينوطيقا في نظرتهما إلى التجربة الدينية”.
إنّه إذاً بحثٌ سوسيولوجي تأويلي/فلسفي في الدين. وفي ذلك يلفت الباحث إلى أنّه (ص21): “بعد أن كان الدين حِكراً على اللاهوت والميتافيزيقيا، صار اليوم أمراً يخصّ العلوم الإنسانية بكلّ تفرّعاتها”.
ونحن نوافقه الرأي تماماً، فالدين، وتحديداً علوم الأديان الناشئة التي تدرسه هي جزء لا يتجزّأ من العلوم الإنسانية، وتعتمد منهجيّاتها. كما أنّها في موضوع دراستها تتقاطع مع العديد من علوم الإنسان: السوسيولوجيا والتاريخ وغيره.
وفي مقاربته السوسيولوجية يستند المؤلّف خصوصاً إلى بحوث العالِم الألماني ماكس فيبر، وعنه يقول (ص39): “لا ينظر ماكس فيبر إلى الأديان باعتبارها نظاماً من المعتقدات والطقوس، وإنما كأنساق لتنظيم الحياة الاجتماعية”.
وهذه المقاربة السوسيولوجية للدين فتحت لفيبر أفاقاً غير مسبوقة لدراسته، وأتاحت له بالتالي الخروج بنتائج جديدة. وعن عمل فيبر ينقل الباحث عن ميشال مسلان (ص39): “عبر اختيار ست منظومات دينية: الهندوسية والبوذية والكنفشيوسية واليهودية والمسيحية والإسلام، سعى ماكس فيبر للإحاطة بالأخلاق الاقتصادية لهذه الأديان، إذ المراد ليس تعاليمها العقدية، ولكن حوافزها العملية التي تشحذ بها أفعال الناس اليوميّة، وما يترتّب عليها من آثار نفسية ونفعية على مساعيهم”.
وممّا لحظه فيبر من سمات أساسية للأديان الشرق أقصوية التسامح وقبول الآخر المختلف وهذا ما كنا ولا نزال نفتقده في مجتمعاتنا المشرقية (ص53): “تعايش في آسيا عبر التاريخ الكثير من المعتقدات رغم اختلافها وتباعد ثقافاتها ومرجعيّاتها: الهندوسية جنباً إلى جنب مع البوذية في الهند. وكان من أهمّ المميّزات التي طبعت الثقافة الآسيوية القدرة على تدبير هذه الفسيفساء العقدية والدينية في إطار من التسامح والتعايش وقبول الاختلاف في ما بينها”.
وفيبر محقّ في ملحوظته السوسيولوجية البارزة هذه، وقد أحسن المؤلّف في إشارته إليها، وتركيزه عليها، وعسانا في مجتمعاتنا المشرقية نتعلّم من الهند هذه الأمثولة الجليلة الفائدة.
ويركّز الباحث على وجوب تجاوز النهج الدفاعي عند دراسة الأديان، فهو يؤكّد مثلاً في مبحثه عن فلسفة الدين أنها (ص33): “لا تسعى إلى الدفاع عن المعتقدات، وإنّما غرضها بيان بواعث الدين، ونشأة المقدّس وتجلّياته، في الحياة الاجتماعية، والوقوف على تحوّلاته في الاجتماع البشري”.
وهو يعيد التذكير مراراً (ص56): “لا بدّ من التنبيه إلى أن علم الأديان المقارن لا يهتمّ بمسألة صحّة المعتقدات، أو إن كانت تندرج ضمن الخطاب العقلي أو لا، فذلك أمرٌ صار متجاوزاً الآن، ولا يخدم البحث العلمي في شيء”.
ويبقى الأبرز في هذا المجال: إلى أي مدى نجح المؤلّف في وضع هذه المبادئ الأكاديمية والأسس المنهجية موضع التطبيق؟ وهل استطاع فعلاً أن يقفَ على الحياد عند عرضه ودراسته لمختلف المنظومات الدينية ويضعَ جانباً قناعاته وانتماءاته الدينية؟
نجده مثلاً في مجال المفاهيم الدينية يستخدم مصطلحات علم الكلام الإسلامي: تثليث وتوحيد (ص56 وغيرها) في حين أن المصطلح المسيحي هو الثالوث وكذلك الوحدانية كما بينّا في بحوث عديدة كان آخرها 2020: “الفرق بين وحدانية وتوحيد، والثالوث هو المصطلح المسيحي لا التثليث” (صليبا، لويس، المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم، ص186-190).
وكذلك فمصطلح “أديان سماوية” الذي يستخدمه مراراً مقابل “الديانات الأرضية” (ص56 وغيرها). مصطلح منحاز سبق أن أظهرنا تهافته (صليبا، لويس، عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار، ط1، 2016، فق: الديانات السماوية: أيّها غير سماوي ص46-52). وبمجرّد أن تقول هذا دين أرضي وذاك سماوي فقد أعلنتَ موقفاً مسبقاً قبل أن تباشر أيّة دراسة!!
ومن شطحات لحميدي في هذا المجال (ص74): “نلاحظ أن الغالب على كلّ الديانات سواء كانت توحيدية أو بشرية أرضيّة أن للمخيال فيها نصيباً أساسيّاً في إعادة تشكيل وعيها بوظيفتها وشحن رموزها الثقافية والدينية وفق أنماط عديدة”.
هنا يناقض الباحث نفسه في تصنيفه الأديان بين بشرية وسماوية لا سيما وأن للمخيال فيها جميعاً نصيباً أساسيّاً، وهل المخيال سماويّ أم بشري؟!
وفي عرضه لأديان الهند ومفهوم الخلاص فيها نجده يخبط خبط عشواء. فهو مثلاً يطرح السؤال (ص107): “لماذا شكّل مفهوم الخلاص حضوراً قويّاً داخل الفكر الهندي على الرغم من غياب فكرة الخطيئة عن الثقافة الهندية؟”
ومن قال له إن مفهوم الخطيئة غائب في الفكر الهندي. نراه هنا يجهل أبسط وأهمّ المفاهيم الدينية والاجتماعية التي تُجمع عليها أديان الهند على اختلاف مشاربها وتوجّهاتها أي الكارما Karma وهي العمل بوجهَيه الصالح والطالح.
ونراه ينقض نفسه بنفسه في هذا المجال عندما يعود ويتحدّث مؤكّداً، ونقلاً عن فيبر (ص116): “أن البوذية تعطي الإنسان، قبل كلّ شيء الفرصة من خلال الاستماع إلى خطاياه والاعتراف بها”.
ويبقى خطأ لحميدي المنهجي والبيبلوغرافي الفادح في عرضه لأديان الهند ومفهوم الخلاص فيها أنّه يستند في كلّ ذلك إلى مصنَّف وحيد هو في الحقيقة مجرّد مرجع ثانوي وضعته هالة أبو الفتوح: مفهوم الخلاص في الفكر الهندي، القاهرة [الصحيح: بيروت]، دار التنوير، 2010. وهي ليست مرجعاً في الموضوع، وهو ينقل عنها أخطاءها، فتقع تبعات هذه الأخطاء على عاتقه!!
وفي القسم الثاني من دراسته والمخصّص لتأويل التجربة الدينية ينبّه المؤلّف (ص132): “سأستعمل في هذا البحث كلمة الهيرمينوطيقا بدلاً من التأويل، كما هو شائع، لأن الهيرمينوطيقا أوسع نطاقاً من مجرّد التأويل أو التفسير”.
وهو في خاتمة كتابه يخلص إلى (ص247-248): “هل نحتاج إلى مزيد إيضاح لبيان أهمّية إعمال مكتسبات العلوم الإنسانية والهيرمينوطيقا في مقاربة التجربة الدينية داخل العالم الإسلامي، كي نُخرج الخطاب الديني في عالمنا العربي من دغمائيّته وتحجّره”.
ونحن بدورنا نوافقه الرأي في ما ذهب إليه وفي تشخيصه لأزمة الخطاب الديني. وهو يتابع قائلاً: “هنا لا بدّ من توجيه سؤال إلى من نصّبوا أنفسهم سدنة للخطاب الديني: هل يمكن القبض على المعنى وتأبيده دون إعلان وفاة النصّ واللغة التي كُتب بها؟”
والمؤلّف يتحدّث هنا حصراً وتحديداً عن “تأوين” النصّ وجعله آنيّاً ويخاطب إنسان اليوم. وليته اطّلع على بعض الأبحاث في التأوين، وقد كتبنا العديد منها لا سيما في دراستنا عن أستاذنا الأب لويس خليفة (صليبا، لويس، ثوّار من الجيش الأسود، ط1، 2021، ب2/ف4: تأوين البيبليا، ص177-192). فلو فعل لكان استلهم الكثير ووفّر على قارئه هذا المصطلح المعرَّب ووقعه السيّئ على السمع.
وختاماً فما سقنا من ملاحظات تبيّن أن الباحث لا يزال في أوّل الطريق، لكن باكورته هذه تبشّر بالخير وعساها تكون فاتحة لأعمال أخرى نتمنّى له فيها أن يصيب المزيد من النجاح.