العقل الصامت والتأمّل والدين في فلسفة كريشنامورتي/مقابلة ثانية للبروفسور لويس صليبا مع الكاتب ربيع داغر على Zoom، في 21 /7 /2021
مقابلة ثانية
أجراها البروفسور لويس صليبا مع الكاتب ربيع داغر
بتاريخ 21 تمّوز 2021
مقدّمة البروفسور لويس صليبا
بين مفكّري القرن العشرين ومعلّميه وحكمائه يبقى جدو كريشنامورتي (1895-1986) ظاهرة مميّزة ولافتة. فمؤلّفاته ومحاضراته لا تزال مورداً ومنارة للكثيرين: عمقٌ وبساطة وأصالة وجرأة وصدق، ميّزات بل فضائل جمعها هذا الحكيم في شخصه وجسّدها في تعليمه. “من يعلّم شيئاً ويحيَ بطريقةٍ أخرى معلّمٌ كاذب” يقول القدّيس توما الأكويني (1225-1274). وكريشنامورتي اجتهد دوماً أن يطابق بين عيشه وتعليمه، بل كان تعليمه مرآةً صافية تعكس بشفافية أدب حياته وأسلوب عيشه. ومن هنا أصالته وآنيّته والتجدّد الدائم الذي يعرفه فكره. وهو بصدقه هذا ومصداقيّته وشفافيّته يضعك مباشرة أمام مسؤوليّتك الصريحة بأن لا تكون مجرّد مستمعٍ سلبي passif بل أن تتفاعل مع ما تستمع وتنفعل وتفعل، يقول: “إذا استمعتَ إلى الحقيقة ولم تتصرّف بموجبها فسوف تعمل هي كالسمّ”، وفي آيات الذكر الحكيم ما يوازي معادلة كريشنامورتي الخطيرة هذه، إذ جاء: {الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} (الزمر39/18).
فعسانا نستمع اليوم ونتدبّر ونتّبع.
ولهذه الأسباب مجتمعة، ولغيرها، يبقى كريشنامورتي اليوم وغداً مصدر إلهامٍ للسالكين والباحثين الجادّين والجدّيين في مختلف أرجاء هذا العالم. لا سيما وأنّ مؤلّفاته تُرجمت إلى أكثر من خمسين لغة، ولا تزال تعرف المزيد من الإقبال من القرّاء والمترجمين والدارسين في آن.
وسبق لنا أن التقينا وحاورنا باحثاً نشيطاً، ودارساً جادّاً لفكر كريشنامورتي، وأحد العاملين البارزين على ترجمة تعليمه ووضعه بمتناول القارئ العربي: إنه الصحافي والكاتب ربيع داغر. ولقي حوارنا معه اهتماماً ملحوظاً من المشاهدين والقرّاء في آن. أي ممّن تابع مباشرة هذه المقابلة عندما أجريت وبثّت على تطبيق Zoom في 3/3/2021، أو ممّن قرأ نصّها المكتوب عندما نُشر لاحقاً على موقع دار بيبليون على الإنترنت، أو ممّن شاهد تسجيل الفيديو الكامل للمقابلة عندما وضع على اليوتيوب.
وهذا الاهتمام الملحوظ حدا بنا إلى استكمال الحوار مع الأستاذ داغر. وها نحن نستضيفه مرّة أخرى اليوم لنناقش مسائل ومحاور في فكر كريشنامورتي لم يسبق أن تطرّقنا إليها في اللقاء الأوّل، أو لم تنل حقّها من العرض والشرح كالعقل الصامت والتأمّل ومسائل فلسفية أخرى.
وسبق للأستاذ ربيع داغر أن ألّف كتاباً عن كريشنامورتي بعنوان “جِدو كريشنامورتي معلّم العالم” ونشره منذ فترةٍ قريبة.
وهو اليوم بصدد إصدار كتابٍ ثانٍ عنه.
أستاذ ربيع داغر يقول كريشنامورتي: “في السؤال الصحيح تكمن الإجابة، أما السؤال الخطأ فليس له أيّة إجابة”، فعسى أسئلتنا اليوم تكون من الصنف الأوّل، وتلقى بالتالي ما تستحقّ من عناية وتفكّر وإجابة.
سبق أن تناولنا في حوارنا الأوّل مسألة العقل الصامت بمفهوم كريشنامورتي. بيد أنّ العقل الصامت يحتلّ مركز الصدارة في تعليمه، فهو العقل المتأمّل وهو العقل الديني.
ماذا يعني بمفهومه عموماً العقل الصامت، وبالتالي العقل المتأمّل والعقل الديني؟
أوّلاً، يجب أن نطرح مسألة الدماغ لننتقل بعدها لنفهم ما هو العقل. فعند كريشنامورتي هناك تمييز بين الدماغ والعقل. دماغنا هو مركز الذاكرة ومركز الاستجابات الحسيّة العصبيّة ومركز الفكر.
وتأتي هذه العمليّة من خلال اختبارنا الحسّي العصبي الذي ينشئ لنا صورةً تُخزَّن في الذاكرة على شكل ذكرى، ويأتي الفكر ليستمدّ من هذا التخزين في الذاكرة وقوده ليعمل.
هكذا تعمل أدمغتنا. وفي هذه العمليّة، ليس هناك صمت، بل عمليّة متواصلة للفكر، وسلسلة لا تنتهي. وفي هذه العمليّة أيضاً، تنشأ أغراض للذهن، مثل متابعة اللذّة أو الخوف وما إلى ذلك. هذه الأغراض في الدماغ تُنشئ مساحةً من حولها، وهذه المساحة هي دائماً محدودة وتجعل فكرنا مركّزاً على هذه الأغراض. إذاً، يصبح كلّ شيءٍ محدوداً؛ دماغنا بكلّ عمليّاته هو في نطاق المحدود، وإذن في نطاق الصراع.
إذا تأمّلنا في عمليّة التفكير وفحصناها بكلّ دقّة، ننتقل إلى حالة العقل. بمعنى أن العقل أصبح صامتاً بعد أن تعرّف على بنية الفكر وعمليّته. إذاً، لا مجال للعقل الصامت سوى في خضمّ الثرثرة والصخب للفكر. وبالدخول في هذه الثرثرة وفحصها وتأمّلها، ينشأ العقل الصامت.
وفي هذا العقل الصامت، تصبح المساحة غير محدودة، غير محدّدةٍ بالأغراض؛ لأنّه لم يعد فيه أغراض، فتصبح هناك مساحة بكلّ معنى الكلمة. وفي هذه المساحة الحقيقيّة، ينطلق هذا العقل إلى آفاقٍ لا تنتهي. هنا أيضاً، تتغيّر بنية الخليّة الدماغيّة التي تغيّر نمطها، فبتغيّر أغراضها تتغيّر بنيتها. ويقول كريشنامورتي في ذلك إنّ هذه الخليّة بذاتها تتجدّد وتتفجّر من داخلها وتولد خليّة جديدة. أمّا الخلايا الدماغيّة التي لم تكن تعمل قبلاً، فتنطلق في عملها بكلّ فعاليّة. فيصبح عندها دماغنا فاعلاً بأقصى طاقته.
هذا هو العقل الصامت الذي يصبح لديه وعي جديد وانتباه تامّ ويستيقظ فيه الذكاء. ومع هذه اليقظة للذكاء، يصحو أيضاً الحبّ والتعاطف في القلب (القلب الذي كان ميتاً قبلاً)، ويصحو أيضاً ذكاء الجسد وحساسيّته. فتصبح كلّ هذه الكينونة وحدةً تامّةً ومنسجمة، وتكون هي الإنسان.
-عندما يتحدّث ك م عن تفجّر الخليّة الدماغيّة وولادة خليّةٍ أخرى، إلى ماذا يستند؟ إلى العلم؟
يقول كريشنامورتي إنّه تحاور في هذه المسألة مع كبار المختصّين، وأكّدوا له أنّهم يعملون على ذلك (تغيير الخليّة الدماغيّة) عن طريق عاملٍ خارجيٍّ أي إجراء صدمةٍ كهربائيّةٍ أو عمليّةٍ جراحيّةٍ وغير ذلك.
أمّا رأيه هو فخلاصته أن هذه العمليّة يجب إتمامها داخليّاً، أي أن أقوم بها بنفسي مع نفسي. أي أنّ الخليّة بذاتها تعي نفسها من خلال كسر النمط، وعندما ينكسر النمط تتغيّر بنية الخليّة وطبيعتها. وهو يؤكّد أنّ العلم في يومٍ ما سوف يثبت ذلك.
-هل يعني ذلك أنّ كريشنامورتي بحدسه أو بتجربته رأى ذلك؟
-لا شكّ أنّ كريشنامورتي يتحدّث عمّا شاهده، وهو يستعمل تعبير “المشاهدة الداخليّة”. وهو يقول إنّ العقل (الصامت) يستطيع ليس فقط فهم نفسه لا بل ويستطيع أيضاً فهم الكون بمجمله، كما ويستطيع اكتشاف كلّ الأسرار وفهمها.
-إذاً، كيف يميّز كريشنامورتي تحديداً بين مصطلحَي العقل والدماغ؟
-الدماغ، بحسب كريشنامورتي، هو هذا المخّ الذي تجري فيه هذه العمليّة (الفكرية) منذ مليونَي سنة. وهذه العمليّة تحصل عند كلّ البشر، لأنّ لدينا دماغ واحد. ولكن، عند كسر النمط والتحرّر من المحدوديّة (التي هي كلّ نمطيّة هذه العمليّة)، عندها يتحوّل الدماغ إلى عقل. وبما أنّ هذا العقل تحرّر من محدوديّته الذاتيّة، فلا يعود هناك محدوديّة أيضاً على صعيد الانسجام والوحدة مع الجسد من جهةٍ ومع القلب من جهةٍ أخرى.
-بإشارته إلى فترة المليونَي سنة، هل يقصد بها مرحلة الإنسان العاقل Homo Sapiens؟
-من خلال قراءتي بتمعّنٍ لكتابات كريشنامورتي ومحاوراته، وجدتُ أنّه يوافق تماماً على نظريّة النشوء والارتقاء أي الداروينيّة. نظريّة التطوّر تعيد ظهور الإنسان إلى ما يقرب من سبعة ملايين سنة. وكان هناك قبل الهوموسابيينس عدّة أنواعٍ بشريّةٍ من مثل الأوسترالوبيتيك والهومو إركتوس والهومابيليس وما إلى ذلك.
-ما الذي يميّز تحديداً إذاً بين الإنسان وأكثر الحيوانات تطوّراً بمفهومه؟
ويعتبر كريشنامورتي أنّ دماغنا لا يزال في طور الحيوانيّة ولم يتطوّر إلّا بشكلٍ طفيفٍ جدّاً. أمّأ جسدنا فقد تطوّر خلال تلك الحقبات وأصبح جسداً بشريّاً.
إذاً، دماغ الإنسان لم يتطوّر على الصعيد النفسي مطلقاً. لذلك يطرح كريشنامورتي تحويل العقل البشري إلى عقلٍ صامتٍ من دون الاعتماد على الزمن، لأنّ الزمن غير فاعلٍ على هذا المستوى؛ فالتطوّر الذي استغرق ملايين السنين لم يؤثّر على الدماغ البشري إلّا في حدودٍ دنيا.
ومن هنا، فالتحوّل على مستوى العقل البشري يحتاج ثورةً (وليس تطوّراً)، ثورةً نفسيّةً آنيّة.
تعقيب د. لويس صليبا
هنا أودّ بالأحرى أن أُدخل تفصيلاً علمياً لعلّ من شأنه أن يوضح ما تقول. فقد هيمنت على علم النفس في القرن العشرين نظريّتان كبيرتان هما نظريّة تشارلز داروين (1809-1882) في النشوء والارتقاء ونظريّة سيغموند فرويد (1856-1939) في اللاوعي. وكان لا بدّ من مرور أكثر من قرنٍ كامل كي يقود اندماج النظريّتين العلم إلى رؤية جديدة تماماً حول الدماغ وتوازن الانفعالات. نحن اليوم علميّاً إذا في حقبة الجمع بين النظريّتين الداروينية والفرويديّة. وما ثبت في العلم حاليّاً أن في الدماغ البشري دماغَين بالأحرى. ففي القسم القديم من الدماغ، وهو ما يسمّيه العلماء، وهذا علم لا مجرّد نظرية، دماغ الزواحف Le cerveau des ruptiles وقد تطوّر مع الزمن عند الثدييات Mammiffères ونحن بالحري نتقاسم مع سائر الثدييات تقريباً البنية عينها لهذا الدماغ أي دماغ الزواحف.
أمّا ما تطوّر عند الإنسان وأوصله إلى كنه ذاته ككائن مدرِك وواعٍ مميّز عن سائر الحيوانات فهو ما يسمّى Cortex cérébral أي القشرة الدماغية، وهي الموجودة تحديداً خلف جبينه، وهي المسؤولة عن الكلام وبالتالي التفكير. نلاحظ مثلاً أن هذه القشرة لم تتطوّر عند القرد، فجبينه منحنٍ، وليس عموديّاً شأن جبين الإنسان. وبالتالي فحجم قشرته الدماغية صغير جدّاً مقارنة بحجم هذه القشرة عند الإنسان. إذاً فقسم الدماغ الأكثر تطوّراً عند الإنسان وما يميّزه عن سائر الحيوانات هو القشرة الدماغيّة، أو ما يسمّى الدماغ المعرفي Le Cerveau Cognitive هناك إذاً دماغ الزواحف أو الدماغ الانفعالي، وهذا ما يشترك فيه الإنسان مع سائر الثدييات، بل وحتى مع الزواحف، ومن هنا اسمه إذ أن القسم الأكبر منه موجود عند هذه الأخيرة. أما ما يميّز الإنسان عن غيره من الكائنات أي وعيه فهو بنتيجة عمل القشرة الدماغية أي الدماغ المعرفي.
وأظنّ أن كريشنامورتي يمكن أن يكون قد استبق هذه الاكتشافات التي حصلت في العقد الأوّل والثاني من القرن 21، وذلك لأن نظرته إلى الدماغ البشري تتّفق مع المكتشفات الأخيرة التي دمجت بين نظريتَي داروين وفرويد. علماً أن طروحات داروين لم تعد مجرّد نظرية، بل هي اليوم حقيقة علمية. وكما يقول داروين فإن الإنسان محكوم عليه أن يعمل بدماغٍ يتشارك فيه مع سائر الحيوانات ولا سيما مع الثدييات. فما قاله داروين منذ نحو 130 عاماً هو اليوم علم. وعلم النفس يدخل اليوم في حقبة ثالثة هي حقبة التوافق والتعاون بين البيولوجيا والسيكولوجيا، علم الأحياء من ناحية، وعلم النفس من ناحية أخرى. وهذا ما يتطوّر حالياً ويُعرف بالنظرية الموحّدة في السيكولوجيا.
وهنا أستاذ ربيع أودّ أن أتوقّف عند نقطة في هذا السياق. فكريشنامورتي يؤكّد أن دماغنا مدمن على اللذة. كيف ولماذا؟ وما الطريق للتخلّص من هذا الإدمان؟
إنّ كريشنامورتي يطرح الأسباب ولكن بشكلٍ طفيف، لأنّه يقول إنّنا إذا عرفنا الأسباب التاريخيّة لحدثٍ ما أو أصل الظاهرة، فإنّ ذلك لا يوثّر في تحويل الحدث أو تغيير الظاهرة. المهمّ أن أدرك الشيء الآن.
فبمجرّد طرح السؤال: لماذا دماغنا مدمن على اللذّة؟ ماذا يحصل؟ عادةً ما نطلب اللذّة ونُدمن عليها دون وعي، وكما قال فرويد: “لا أحد يستطيع رفض المتعة”. كريشنامورتي يريد، من سؤاله، أن يُحدث صدمةً في الوعي. فبمجرّد السؤال: “لماذا دماغنا مدمن على اللذّة؟”، تأتي الإجابة من السؤال نفسه. فأعي عندها أنّ دماغي هو بالفعل مدمن على اللذّة (بكلّ أشكالها).
هنا يحدث بطء وتروٍّ في طلب اللذّة والسعي وراءها، ومن هنا يبدأ التحوّل لأنّي أصبحت أعي ذلك.
-إذاً، كيف يستطيع المرء أن يوقف إدمان اللذّة؟
كلّ فلسفة كريشنامورتي المتأتّية من مراقبته للنفس، تقول بأن لا دور للإرادة في التحوّل. فوعي الشيء يحوّله وليس الإرادة. فالإرادة تسبّب ردّة فعلٍ عكسية، ولكن هناك دور لوعي الشيء وفهمه فهماً عميقاً. بفهم ال”ما هو”، يتحوّل.
إذا كان هناك فهم عميق لل”ما هو”، فعندها يحصل تطهّر ذاتي داخلي، بقرارٍ ليس إراديّاً ولكن بقرارٍ طبيعيٍّ وداخليٍّ وتلقائي.
-إذاً المسألة مسألة فهمٍ ولا دور للإرادة في التحوّل؟!
لا بدّ لي هنا من أن أوضّح ميزة الفهم المتأتّي من المراقبة، وهو ميزة العقل الذي تفلّت من محدوديّة الدماغ أي من العقل القديم.
فهذه الميزة هي الوعي اللاإختياري، ما يعني أنّي بوعيي لنفسي ومراقبتها للفهم، يجب أن يكون هذا الفهم لاإختياريّاً، أي لا أختار غرضاً من الأغراض النفسيّة لأراقبه، بينما اعتدنا على إجراء تماثلٍ بين الوعي والاختيار.
-لا دور إذاً للاختيار؟
كريشنامورتي يعتبر أنّ الاختيار هو لاوعي، أو تشوّش في الوعي. ويقول إنّ العقل المشوّش هو الذي يختار. بينما المراقبة للنفس يجب أن تكون بانضباطٍ هائل، وهذا الانضباط غير متأتٍّ من عمل الإرادة أو من طريقةٍ معيّنة، بل من وعيٍ دائم. فكلّ ما يحدث وينشأ في النفس، أراقبه لأفهمه وأتخلّص منه. وهذا هو الوعي اللاإختياري. إنه عمليّة المراقبة والوعي لكلّ الخيارات المتناقضة التي في داخلي. وفي هذه العمليّة بالذات هناك تأمّل، لا بل إنّ هذه العمليّة هي التأمّل.
ها نحن نصل تلقائيّاً إلى محورٍ آخر من حوارنا، ألا وهو التأمّل. فهل تقصد أنّ مراقبتي ووعيي لكلّ الخيارات هي التي تُفضي إلى التأمّل؟
أجل قادنا سياق الحديث تلقائياً إلى التأمّل، فما هو التأمّل بمفهوم كريشنامورتي؟
العقل الصامت هو العقل المتأمّل، التأمّل الحقيقي.
أوّلاً، التأمّل عند كريشنامورتي هو مراقبة عمليّة التفكير، وهو بالتالي إفراغ العقل من هذه العمليّة.
المسألة الأخرى، يصرّ كريشنامورتي على مقاربة الأشياء الصعبة مثل التأمّل والدين والموت والحبّ والله، بنفي ما ليس هو. أي بنفي المزيّف نجد الصحيح. ومن هنا، فهو يعرض لطرق التأمّل كافّةً وأينما وُجدت حول العالم، ويقول إنّ القاسم المشترك بينها كلّها هو تهدئة الفكر.
-هل تعني أنّه يرى أن مختلف أنماط التأمل وتقنيّاته غير مجيدة؟!
ماذا يحصل عند ممارسة هذا النوع من التأمّل (غير الحقيقي)؟ تأخذ فكرة من الأفكار المَهمّة للسيطرة وللتحكّم ولمراقبة بقيّة الأفكار بقصد جعلها هادئة. فتكون هذه الفكرة هي المتحكِّم وبقيّة الأفكار هي المتحكَّم بها، وهي المراقِب والبقيّة المراقَبة. فيسأل كريشنامورتي: هل المتحكِّم غير المتحكَّم به، وهل المتأمِّل غير المتأمَّل به؟ أم أنّ الاثنين فكر؟
ويسأل أيضاً: لماذا الفكرة التي أخذت المَهمّة تعطي لنفسها السلطة للتحكّم ببقيّة الأفكار، عن طريق خلق صورةٍ وترديدها أو خلق مانترا وترديدها أو خلق فكرةٍ وترديدها؟ ويلاحظ أنّه بعمليّة الترداد هذه، قد يتهيَّأ لنا أنّ الفكر قد هدأ، ولكنّ هذا الترداد من شأنه أن يجعل العقل ميكانيكيّاً وكسولاً، وبعد عشرات السنين من الصراع بين هذه الفكرة والأفكار الباقية يصاب المرء بالعصاب. وهكذا يكشف كريشنامورتي زيف كلّ مدارس التأمّل. ويقول: “إذا تأمّلتَ وفقاً لطريقةٍ ما فأنت لستَ متأمّلاً”.
-ما هو التأمّل إذاً بمفهومه؟
التأمّل الحقيقي هو الوعي اللاإختياري الذي له نوعيّة الانتباه، الانتباه الذي بلا حدود، الانتباه الذي هو “تركّز كلّ الطاقة”. وهذا ما لا يحتاج إلى طريقةٍ أو معلّمٍ أو مكانٍ معيّن، بل إنّ التأمّل يحصل في كلّ زمانٍ ومكان.
-يعني من كثرة تلقائيّتها أصبحت عمليّة التأمّل عند كريشنامورتي غير مفهومة، فكيف يمارس الإنسان التأمّل إذن؟
-إن كنتَ راكباً في باص، فتكون متأمّلاً لجملة المشهد الداخلي (النفسي) والخارجي (العالم)، بعمليّةٍ تلقائيّة. فيتبدّى لك كلّ الداخل وكلّ الخارج. وهذه النوعيّة من الوعي المنتبه لا تستثني شيئاً، فلا أقصد منظراً جميلاً لأتأمّل به بل أتأمّل حتّى المنظر العادي وغير الجميل أيضاً، وأتأمّل في الضجيج المحيط بي وما إلى ذلك. ففي كلّ هذا الضجيج هناك التأمّل وهناك الصمت. فمراقبة هذا الضجيج هو التأمّل وهو الصمت.
هل يعني ذلك أنّ التأمّل عند كريشنامورتي هو المراقبة؟
-نعم، التأمّل عند كريشنامورتي غير منفصلٍ عن حياتنا اليوميّة، بل هو حياتنا اليوميّة. فبمراقبة حياتنا اليوميّة بهذه النوعيّة من الانتباه التامّ نرى ما هو وهميّ فنتحوّل إلى ما هو حقيقي، ونراقب الفوضى فينشأ النظام.
ويقول كريشنامورتي: “إنّ التأمّل هو أعظم ما في الحياة، وهو ليس شيئاً يفعله أناس متقدّمون في السنّ ليس لديهم شيء ليفعلوه”.
-أعود إلى قول كريشنامورتي إنّ دماغنا يلحّ في طلب الاختبارات، ألا يمنع ذلك من التأمّل، وهل إن هذا الإلحاح هو جزء من الإدمان الذي يتحدّث عنه؟
كريشنامورتي كعادته، يقول بالدخول في المشكلة وفهمها إلى أقصاها للتحرّر منها. فلا يمكن أبداً البحث عن التحرّر دون الدخول في كلّيّة المشهد.
ومن هنا، فعندما أدرك تماماً أنّ دماغي يلحّ في طلب الاختبارات، الإدراك بمعنى الفهم بكلّ طاقتي، عندها أفحص وأستكشف ماذا يفعل الدماغ: إنه يريد اختباراتٍ فكريّةً واختباراتٍ جسديّةً طوال الوقت.
-هل يمكن أن تضرب مثلاً توضيحيّاً على ما تقول؟
هذا الموضوع واسع جدّاً، ولكن أعطي مثلاً عن الاختبارات الجسديّة التي يطلبها الدماغ، بحسب ما قال كريشنامورتي: فالدماغ، يريد أن يختبر الجسد، فيطلب من الجسد أن يفعل هذا وألّا يفعل ذاك وأن يحرّك عضواً أو يحكّ هنا أو يتقلّب… وهنا يقترح كريشنامورتي طريقةً لتهدئة الفكر وللخلود للنوم، كما يلي: لا تحرّك أيّ جزءٍ من جسدك ولا تقم بأيّ حركةٍ على الإطلاق على مدى دقيقتَين لا أكثر، لئلّا يصبح هذا تمريناً أو طريقةً أو عادة. فماذا يجري عندها في الدماغ، وما الذي يجعل الفكر يهدأ؟
إنّ الدماغ الذي اعتاد على تجربة الجسد، يصبح في حالة ذهولٍ وترقّبٍ وانتباهٍ ومراقبة؛ ومن دون وجود شيءٍ يختبره، عندها يهدأ الفكر فينام الإنسان. هذا مثل واحد على الطريقة التي يعمل بها الدماغ في مجال الاختبارات.
-أجد تطابقاً بين بوذا وكريشنامورتي في مسألة الفهم؛ فبوذا يقول إنّ التحقّق يأتي من الفهم، وكريشنامورتي من جهته يولي عمليّة الفهم الأولويّة في عمارته الفكريّة؟
-نعم، يقول كريشنامورتي: بالفهم يتحوّل ال”ما هو”. ال”ما هو” هو كلّ ما يجري في النفس، كما أنّه كلّ ما يحدث في هذا العالم. بفهم ال”ما هو” يتحوّل، ومن دون الفهم لا يمكن فعل أيّ شيء.
الفهم عند كريشنامورتي هو فهم من دون خلفيّة، وهو المراقبة بلا مراقِب، أي من دون الماضي. وهذا يتحقّق بالانتباه، والانتباه “مثل الشعلة التي تحرق الماضي وتبقيك في الحاضر” بحسب تعبير كريشنامورتي. وهذا الوعي الذي له نوعيّة الانتباه من شأنه أن يحوّل ال”ما هو”، أي أنّي إذا فهمتُ الشيء بكليّته (بنيته وطبيعته) يتحوّل.
أي أنّ ال”ما هو” الذي يقصده كريشنامورتي هو الحالة النفسيّة. هذه الحالة النفسيّة هي عقلنا، وهذا العالم الذي نراه هو امتداد لعقولنا. إذاً، إذا حوّلتُ ال”ما هو” الذي هو عقلي، فهذا العالم يتحوّل.
-عندما يقول إنّ هذا العالم الذي نراه هو امتداد لعقولنا، أيقصد أنّنا لا نرى الواقع كما هو بل صورةً ذهنيّةً عنه؟
-بالضبط. ولكن كيف، والحال هذه، نرى كلّنا الشيء عينه في العالم؟!
والجواب أنّ لنا دماغاً واحداً بالبنية عينها. فبنية الدماغ هذه فيها قوالب، كما طرح إمانويل كانط. فنرى أشياء العالم بالشكل الذي يريه لنا دماغنا، إن دخلت تلك الأشياء في حيّزه أي في قوالبه المعدّة مسبقاً، ولكن لا يمكن أن نرى جوهر الشيء أو طبيعته الأصليّة. ومن هنا، فقد حسم كانط المسألة بأنّ ذاك الميدان أو البعد الذي يتخطّى قدرة عقلنا لا يمكن الدخول فيه مطلقاً، لأنّ أدمغة البشر غير مجهّزة لذلك.
أمّا كريشنامورتي، وإن كان يوافق تماماً على عجز عقلنا القديم (الدماغ) في مجالاتٍ معيّنة، إلّا أنّه يطرح تحويل الدماغ إلى عقل، وعندها يستطيع هذا العقل سبر كلّ الأغوار.
-عندما يؤكّد كريشنامورتي أنّ دماغنا عالق أبداً في مسار الأوهام، فماذا يعني بذلك؟
يقصد أنّي أنا كإنسان، ليس من شيءٍ أدركه وأقوم بالفعل المتناسب تجاهه؛ ولكن كلّ شيءٍ أقاربه بطريقةٍ تجريديّةٍ وليس بطريقةٍ واقعيّة. فيقول إنّ كلّ حدثٍ يواجهني يجب أن أستجيب له بفعلٍ متناسبٍ معه تماماً، دون دخول الزمن أو الصيغة بين الحدث والفعل. أمّا دماغنا فعالق بالصيغة وبالوسيط الزمني بين الحدث والفعل، فيصبح هناك تناقض وعامل وسيط يمنع المواجهة المباشرة بين الحدث والفعل، ويمنع بالتالي إدراك الحدث والتصرّف التامّ تجاهه. فإذا ظهر تحدٍّ أمامي، وبما أنّ دماغي مليء بصدى الماضي (اختباراته) فأحوّل هذا التحدّي (الواقعي) إلى تحليلٍ ما (غير واقعي)؛ وهذا التحليل ليس على مستوى الحدث (التحدّي) بل هو مأخوذ من بعض الخلاصات التي لديّ. فأتصرّف تجاه الحدث على أساس الخلاصة وليس بشكل استجابةٍ مناسبة، وعندها إمّا أن يحطّمني هذا الحدث (التحدّي) وإمّا أنّ يتحوّل من تحدٍّ إلى مشكلةٍ فإلى مأساة.
هنا نعود إلى طرح كريشنامورتي الرئيسي وهو التحرّر من المعلوم، أليس كذلك؟
تماماً، فالمعلوم هو المفهوم أو الصيغة أو الخلاصة التي أحاول أن أستجيب بها مع الواقع، ولكنّها غير متناسبةٍ مع الواقع لأنّ الواقع ببساطةٍ هو في الآن والصيغة هي في الماضي. فالمفهوم الذي لدى كلّ واحدٍ منّا هو بنظر كريشنامورتي وهم، لأنّ المفهوم غير واقعيٍّ بل مجرّد، ولأنّه من الماضي.
في مسألة تدهور الدماغ التي أثارها كريشنامورتي، يبقى السؤال: لماذا يتدهور دماغنا باستمرار؟ وهل ثمّة سبب غير فزيولوجيٍّ وراء ذلك؟
يعرض كريشنامورتي لأسبابٍ وعوامل عديدةٍ من شأنها جعل الخليّة الدماغيّة تتدهور وتَضمُر وتموت. من ذلك: الجرح النفسي الذي يجعل الخليّة الدماغيّة تتضرّر مباشرةً، عن طريق ترك علامةٍ على الخليّة.
كما يذكر عاملَين يؤدّيان إلى تدهور الدماغ، ألا وهما: عيش الإنسان لفترةٍ طويلةٍ أو بشكلٍ مكثّفٍ مع الاختصاص، أي ممارسة اختصاصٍ محدّدٍ إن كان علميّاً أو مهنيّاً أو أكاديميّاً أو عمليّاً. فالاختصاص يؤدّي إلى تدهور الخليّة الدماغيّة، لأنّه ينشئ نمطاً ومساراً واتّجاهاً محدّداً لا تعمل الخليّة إلّا في نطاقه، ما يؤدّي إلى جعل الخليّة كسولةً وميكانيكيّةً فتتباطأ وتبدأ بالاضمحلال.
وهناك عامل آخر لاحظه كريشنامورتي ويؤدّي إلى تدهور الدماغ واضمحلاله، ألا وهو تعايش الإنسان طويلاً مع أوضاع وعادات مجتمعه. فإن لم تحصل ثورة على مستوى الخليّة فإنّ مصيرها هو الانهيار. فالخليّة الدماغيّة يجب أن تطّلع على أمرٍ مغايرٍ وشيءٍ جديد، ما يجعلها تسير في نمطٍ مختلفٍ فتعود بنيتها لتتجدّد.
وماذا عن الجروح النفسيّة وأثرها على خليّة الدماغ؟
إنّ الجرح النفسي يؤثّر على الخليّة الدماغيّة مباشرةً كما سبق وقلنا، فيجعل هذه الخليّة تنطوي على نفسها في حالةٍ من الخوف واللوم والشفقة الذاتيّة، ما يؤدّي في نهاية المطاف إلى موتها.
-وما هو بالتحديد الجرح النفسي، ومن أين يأتينا؟
-يقول كريشنامورتي إنّنا نتعايش مع الجروح النفسيّة وتتراكم في نفوسنا منذ الصغر أي منذ عهد الطفولة. فأوامر الوالدَين وتوجيهات المعلّمين تجرحنا نفسيّاً، ويضاف إليها إهانات الناس لبعضهم وما إلى ذلك. والمقارنة من جهتها، هي أكثر العوامل التي تجرحنا نفسيّاً، وكلّنا يعلم مدى ترسّخ المقارنة في ذواتنا.
-كيف السبيل إذاً إلى الخلاص من هذه الجروح النفسية؟
بعدما يستعرض كريشنتامورتي مسألة الجروح النفسيّة، يسأل هل تريدون حقّاً التخلّص من جروحكم النفسيّة، أم أنّكم تجدون فيها لذّةً عظمى؟
وهنا يقصد كريشنامورتي أنّ هذا الجرح النفسي يُحدث آلية أو سلسلةً كالتالي: الجرح النفسي، تذكّره، المعاناة منه، الرغبة في إنهائه وهكذا دواليك.
فاللذّة والألم، كما يقول كريشنامورتي، هما وجهان لعملةٍ واحدة، والجرح النفسي بما أنّ فيه ألماً ففيه أيضاً لذّة.
-هذا على الصعيد النظري، لكن كيف التخلّص عمليّاً من جرحٍ نفسي؟
يضرب كريشنامورتي مثلاً عمليّاً على التصرّف اللازم لإنهاء الجرح النفسي وعدم تسجيله في الذاكرة أو حفظه في النفس، كالتالي:
“من الآن فصاعداً، إذا أهانك أحدهم، فهل لك أن تصغي إليه بينما هو يهينك وبكلّ انتباه؟”. أي أن تكون واعياً تماماً بينما الآخر يهينك دون تشتّتٍ للانتباه، ودون أن يكون فكرك في حالة تراكمٍ بين هذا الحدث وأحداثٍ سابقة. فعدم الانتباه في هذه الحالة يجعل كلمات الآخر تتجمّع مع غيرها (ممّا سبق) وتتماثل معها في فكرك، فينشأ من ذلك غضب شديد يترك جرحاً نفسيّاً فيك لا ينفكّ يتجدّد. أمّأ في حالة الوعي المنتبّه، فعندما ينتهي المهين من كلامه يكون قد انتهى أثر كلامه فيك أيضاً.
وهذا ما ينطبق على كلّ تجارب الحياة بلا استثناء فبحسب كريشنامورتي إذا كنا في كلّ تجربةٍ ندخل بها في حالة انتباهٍ تامٍّ لها، فعندما تنتهي تكون قد انتهت أيضاً فينا وفي ذاكرتنا.
ولكن، مشكلة البشر، كما يقول، أنّهم لا يُنهون شيئاً أو أيّة تجربةٍ تقريباً، لأنّهم لا ينتبهون إلى كامل بنيتها، فيحملون هذه التجربة إلى التجربة اللاحقة وهكذا.
-هل يعني ما تفضّلت به أنّ المشكلة تكمن في نقص الانتباه؟
-نعم. وهذا الانتباه هو من الميزات الإنسانيّة الفريدة والمقدّرة جدّاً عند كريشنامورتي. هذا الانتباه يكون حيث لا يكون الفكر، أي عندما يتوقّف الفكر، والفكر لا يتوقّف من ذاته بل من جرّاء إيقاف الزمن. ويقول أشياء كثيرةً عن الانتباه، أذكر منها اثنَين:
“إن كنتَ منتبهاً أنّك غير منتبهٍ تصبح منتبهاً”.
“إن مرّ معكَ وقت ليس فيه انتباه فلا مشكلة في ذلك، تكون قد تعبت، فلا تجبر نفسك على الانتباه”.
-هل يعني بذلك أن لا الرغبة ولا الإرادة تستطيعان تنمية الانتباه؟
أجل، لا دور للإرادة في الانتباه، فلا يمكن زرع أو تنمية الانتباه وخاصّةً لدى التلامذة، الذين عادةً ما يقال لهم: “تعلّموا الانتباه!”.
-هنا أرى الكثير من نقاط الالتقاء بين بوذا وكريشنامورتي في مسألة الانتباه! فكأنّه يشرح أو يطوّر تعليم بوذا عن الانتباه، فما رأيك؟
هذا التقاطع بين كريشنامورتي وعددٍ من الحكماء مردّه، على ما ذكره كريشنامورتي مرّةً، إلى أنّه إذا كان لديك مجهر فعّال وكانت عدسته مصقولةً جيّداً، فإنّ ما تراه أنتَ فيه يراه غيرك بالتمام. وهذا يعني أنّ العقل إذا كان ذا نوعيّةٍ مصقولةٍ جيدّاً فإنّ ما يشاهده من حقائق النفس والعالم هو نفس ما يشاهده أيّ حكيم آخر.
-في سياق آخر، فأنت تنقل في كتابك عن كريشنامورتي قوله “إنّ الحقيقة هي أرض بلا طريق، فلا تستطيع الوصول إليها عبر أيّ دينٍ أو أيّة طريقةٍ أو أيّة طائفة، الحقيقة لا تقاس وليس لها من طريقٍ على الإطلاق وهذا جمالها”، كيف الوصول إلى الحقيقة إذن برأيه؟
إنّ مقولة كريشنامورتي الرئيسيّة في رسالته هي “الحقيقة أرض بلا طريق”، وهذا يعني:
أوّلاً، إنّ الحقيقة ليست في مكانٍ ثابتٍ لكي أقصدها عبر طريق، بل هي متحرّكة وحيّة لا بل إنّها الحياة بذاتها، فهل من طريقٍ للحياة؟
ثانياً، كلّ طريقٍ قد أعتمده للوصول إلى الحقيقة لن يوصلني حتماً إليها.
ثالثاً، الحقيقة لا أسعى إليها بل هي التي تسعى إليّ.
ورابعاً الحقيقة لا يمكن تنظيمها، فلا يمكن خلق جمعيّاتٍ وطرقٍ لتنظيمها أو شرحها أو وضع عقائد عنها، لأنّ هذه ليست من طبيعتها.
-في سيرة كريشنامورتي، نعرف أنّ تنشئته كانت تنشئةً تيوزوفيّة، إلى أن انشقّ عن هذه الجمعيّة عام 1929، ولكن ما الذي بقي في كريشنامورتي من التنشئة التيوزوفيّة بعد أن انفصل عنها؟
-يبدو أنّ ما بقي من الفلسفة التيوزوفيّة عند كريشنامورتي هو التالي:
1-أنتَ العالم والعالم أنتَ، أنتَ البشريّة والبشريّة أنتَ، أنتَ المجتمع والمجتمع أنتَ. هذه الوحدة التامّة وغير المنقسمة للفرد مع العالم.
2-الذكاء والتعاطف والمحبّة الكونيّة.
-فأين اختلف إذاً مع التيوزوفيّة؟
أمّا الأمور التي خالف بها الفلسفة التيوزوفيّة، فهي:
1-بمقابل نظريّة التيوزوفيّة التي تقول إنّ كلّ الطرق والأديان تؤدّي إلى الحقيقة، يقول كريشنامورتي أن ليس من طريقٍ يؤدّي إلى الحقيقة، وبذلك فقد نفى كلّ العقائد والأديان.
2-وبخلاف اعتقاد التيوزوفيّة الأساسي القائل بالتقمّص، فقد رفض كريشنامورتي هذا المعتقد تماماً.
-تناول كريشنامورتي مراراً مسألة الدين في حواراته، فما هو الدين بمفهومه؟
-يسمّي كريشنامورتي العقل الصامت “العقل الديني”. وكريشنامورتي يلقَّب ب”الفيلسوف الديني”. وبالمقابل، يرفض كريشنامورتي تعبير “الروحانيّة” معتبراً أن لا معنى لها.
ولاكتشاف الدين (الحقيقي)، يعرض كريشنامورتي ما هو الدين (المزيّف)، وبنفي الأخير يكتشف الأوّل. فيرى أنّ كلّ الاديان المنظّمة ليست ديناً، إن كانت الموجودة اليوم أو التي ستنشأ مستقبلاً. فكلّ ما اخترعه الفكر من عقائد وآلهةٍ وكتبٍ مقدّسةٍ هي محدودة وبالتالي ليست مقدّسة.
-ما هو الدين الحقيقي برأيه إذاً؟!
إنه يعرّف الدين (الحقيقي) كالتالي:
الدين هو أن تجمع كلّ طاقتك لكي تتحرّى وتستقصي عن معنى الحياة وعن معنى الموت وعن إمكانيّة أن يعيش الإنسان بلا مأساة. وهنا، فالذي يتبع عقيدةً أو ديانةً أو معبداً أو يمارس طقساً دينيّاً ما، لا يستطيع أبداً أن يمتلك تلك الطاقة التي تأتي من الحريّة، بل يكون أعمى تماماً.
-بالمختصر والمباشر، ما هو الدين الحقيقي بالنسبة لكريشنامورتي إذن؟
-الدين الحقيقي أن تكون نوراً لذاتك. وأيّ اعتمادٍ على سلطةٍ روحيّةٍ لتضيء لك شمعتك فلن تضيئها، ويقول كريشنامورتي: “لا تستطيع شمعة أن تشعل شمعةً أخرى على الصعيد الروحي”. فلا يمكن أبداً أن يعينك أحد في ذلك ولو كان المسيح أو البوذا أو حتّى كريشنامورتي. وبالتالي فالعقل الصامت هو العقل الديني وهو العقل المتنوّر.
-فكيف يجد إذاً هذا العقل النور إذا كان لا يرى فائدةً من كلّ الطرق التي يمكنه أن يستنير بها؟
-في نفسكَ تقبع حقيقة كلّ الوجود، يقول كريشنامورتي. ويضيف أنّ في نفسكَ كتاباً فيه كلّ تاريخ البشريّة، فإذا فتّشتَ هذا الكتاب دون أيّ قفزٍ وبكلّ انتباه، فسوف تكتشف كلّ شيءٍ في داخلك، وبالتالي ليس عليكَ أن تقرأ أيّ كتابٍ أو تتبع أيّ معلّمٍ فههنا في الداخل يقبع كلّ الوجود.
ألا ترى هنا أنّ كريشنامورتي هو نظريّ وليس عمليّاً؟
-مسألة التنظير هي بحسب عيشنا للمسألة. فإن عشناها وشاهدناها ولمسناها، تصبح واقعاً. ولكن، دماغنا من كثرة ما هو عالق بالأوهام يجد الواقع تنظيراً والتنظير واقعاً. وهناك ناحية أخرى، أنّ هذه الرحلة في النفس، من ذا الذي قام بها ليكتشف هذه الأمور؟ الذين قاموا بها هم قلّة. لذا فهو يقول لمستمعيه: “قلّة من يقولون لكم هذا الكلام، فاصغوا جيّداً!”.
-ممّا تنقل عن كريشنامورتي: “إنّ السبب الرئيسي للاضطراب في نفوسنا هو الواقع الذي وعدنا به الآخرون، نتبع آليّاً من يعدنا بحياةٍ روحيّةٍ مريحة”، سؤالي ما هو هذا الواقع الذي وعدنا الآخرون به، وكيف نكفّ عن اتّباعه؟
اسمح لي هنا أن أعطي مثلاً هو المسيحيّة. المسيحيّة تعدُ المؤمنين بها بخلاصٍ شخصيٍّ وأبديّ. خلاص شخصي عن طريق الإيمان بشخصٍ هو المسيح، وحياة أبديّة بعد الموت. وهذه الوعود وغيرها، يجب أن يتأمّل بها الإنسان جيّداً، ويعرف أنّها أوهام ووعود زائفة. وكريشنامورتي واضح جدّاً في مسائل الأبديّة والاستمراريّة بعد الموت والقيامة والتقمّص، إنّها برأيه اختراعات الفكر. وعندما يفهم الفكر أنّها اختراعاته، يدرك الحقيقة أنّ تلك هي أوهام وينفي كلّ تلك العقائد والحقائق المعلنة ويبدأ الجديد. وهذا الجديد يبدأ مع الحريّة، التي هي عند كريشنامورتي الخطوة الأولى. هذه الحريّة تُحرّر العقل تماماً من الماضي، من تقاليده، من طقوسه ومن العقائد، فينطلق هذا العقل في استقصاء الحقيقة التي فيه.
-وماذا إذاً بعد الموت برأيه؟
–طرح كريشنامورتي مسألة الموت بطريقةٍ مختلفةٍ عن غيره. وهو يقول إنّ الموت هو الإنهاء، إنهاء كلّ شيء. فهو إنهاء تامّ للجسد وللوعي ومعه الفكر والأنا. فإذا ما أدركنا ذلك بالعمق، فهذا بحدّ ذاته ثورة، فلا يعود لدينا أمل أو سعي أو حلم أو إيمان.
-هل هذا يعني أنّ كريشنامورتي قد انتهى بما أنّه مات؟
-بالضبط. ولكن ما الذي يترتّب عن هذا الإنهاء؟
إذا بات لديّ إدراك تامّ للإنهاء، فهذا يتضمّن، معنىً جميلاً جدّاً ومعنىً نظاميّاً جدّاً ومعنىً حيويّاً جدّاً. يقول كريشنامورتي: “إنّ الحياة فوضى فيأتي الموت ويضع لها النظام، إنّ الحياة مأساة لكنّ الموت هو الجمال فيها”.
-كيف يكون الموت جمال الحياة؟
-من فرطِ خوفنا من فكرة الموت، حوّلنا كلّ ما يتعلّق به إلى بشاعة، ولكن واقع الإنهاء فيه جمال. ويطرح كريشنامورتي، لتوضيح قصده، شيئاً طريفاً ألا وهو: أن يذهب الإنسان إلى شجرةٍ ميتةٍ أو حيوانٍ ميتٍ في الطبيعة ويتأمّلهما، ففيهما جمال غريب وفيهما هذا الموت السلس. أمّا موت الإنسان فهو كرب ومحزن ومؤلم ومليء بالصراخ، لأنّه لم يفهم الحياة. وبالتالي فهو لم يفهم الموت. أمّا الطبيعة فهي تفهم الحياة وتقبلها بسلاسةٍ وتفهم الموت وتقبله بسلاسة.
-لن نفهم الحياة إذاً إلا إذا فهمنا الموت؟!
هناك أمر آخر حياتيّ جدّاً في هذه المسألة، إذ يقول كريشنامورتي إنّ الموت والحياة يمشيان معاً يداً بيدٍ إلى الأبد. وهنا يضيف إنّ الموت الإجباري الذي هو في آخر العمر، فلندعُه إلى حياتنا الآن، فيصبح موتاً اختياريّاً، بمعنى أن ننهي كلّ دقيقةٍ كلّ تجربةٍ نمرّ بها وكلّ تعلّقٍ وكلّ رغبةٍ وكلّ خوفٍ وكلّ معاناة؛ فتصبح الحياة مع الموت وتصبح الحياة هي الموت (الإنهاء)، وهو معنى رائع جدّاً، فلا شيء يتراكم بل ينتهي، وإن لم ينتهِ فكيف سينشأ الجديد؟ وكريشنامورتي، عندما يستعرض حياة البشر وعيشهم المأساوي، لا يذرف دموعاً على الموت لا بل على حياة البشر.
-بما أنّ الموت بالنسبة لكريشنامورتي هو الإنهاء، ألا يعني ذلك أنّه فيلسوف عدميّ ومتشائم؟
كريشنامورتي خارج كلّ التصنيفات. ولكن يمكنني أن أذكر بعض تلميحاته إلى مسائل مثل الروح والاستمراريّة بعد الموت للتتوضّح نظرته: ففي حوارٍ له سأله أحدهم: وماذا عن الروح، فأجابه كريشنامورتي: أيّة روح، أتقصد روح الحذاء؟ وفي حوارٍ آخر، سأله أحدهم عن مصير أعماله بعد أن يذهب، فأجابه كريشنامورتي بتهكّم: أذهب إلى أين؟
كلّ ما يقوله كريشنامورتي أنّ هذا الوعي الذي محوره الأنا ينتهي تماماً عند الموت، بانتهاء الجسد والدماغ. ولكن، هناك بُعد آخر عند كريشنامورتي، وأدّعي أنّي دخلت فيه بالعمق.
ما هو هذا البُعد؟
عندما يتحدّث كريشنامورتي عن العقل الصامت، يقول إنّ هذا العقل يأتي إليك عندما تتحرّر من العقل القديم، أي أنّه حقيقة كونيّة ترتكز على: الذكاء (الكوني وليس العلمي أو التكنولوجي) والتعاطف والمحبّة. ويقول: “هذا الذكاء (والتعاطف والمحبّة) هو الذي يحرّك الكوكب”.
ويقول أيضاً: “هذا الذكاء والتعاطف والمحبّة يمشون معاً إلى الأبد”. فهذه حقيقة كونيّة، بمعنى أنّها خلفيّة كلّ شيءٍ من الكائنات المجهريّة إلى أكبر المجرّات. إذاً، كلّ ما في الكون يحرّكه الذكاء الكوني، لكنّه، بحسب كريشنامورتي، ليس ذكاء كائنٍ أعلى مثل ما تذكر الأديان الإبراهيميّة وغيرها، وأيضاً فهذا الذكاء موجود كقانونٍ كونيٍّ وهو بالتالي أعمى.
-ما هو مصير الوجود إذاً برأيه؟!
للتوضيح، أذكر محاورةً لكريشنامورتي مع كاتبة سيرته بوبول جاياكار، غاصا فيها بمسألة أصل أو مصدر الوجود. وبعد عرضٍ مطوّلٍ ورياضيٍّ للمسألة، خلص كريشنامورتي إلى أنّ الوجود هو فوضى نسبيّة، وخلص أيضاً إلى أنّ أصل هذا الوجود هو الفوضى المطلقة. وفي علوم الفيزياء الكونيّة المتقدّمة، وبحسب نظريّات الأوتار والأكوان المتعدّدة وانبثاق الأكوان، نجد تطابقاً مذهلاً بينها وبين ما يقوله كريشنامورتي. فإنّ هذه الأكوان المتعدّدة متسلسلة من بعضها البعض في حركةٍ دائمة، وهنا يقول كريشنامورتي: “إنّ الحياة هي حركة كونيّة متكاملة”. فتنتقل الحياة من وجودٍ إلى وجودٍ إلى ما لا نهاية، ولكن من غير قصدٍ على الصعيدَين الفردي والكوني.
–أنتقل إلى محور آخر في تعليم كريشنامورتي، فهو يقول: “طوال الحياة، من الطفولة، من المدرسة إلى أن نموت، نتعلّم من خلال مقارنة أنفسنا بالآخرين، لكن عندما أقارن نفسي بآخر أُهلك نفسي”،
فلماذا يعتبر أنّ التعلّم هو مجرّد مقارنة؟ ولماذا بالتالي أُهلك نفسي عندما أقارنها بالآخرين؟
-في المناهج الدراسيّة، المقارنة هي الأساس. وأوّل معانيها مقارنة التلاميذ بين بعضهم البعض بتوجيهٍ من المعلّمين، وبتوجيهٍ من الأهل “كن ذكيّاً مثل أخيك، يجب أن تحصل على علاماتٍ بقدر رفيقك، لماذا أنتَ كسول في المدرسة؟!”.وأيضاً هناك مقارنة بين المعلّم والتلميذ! فهل تسنّى للتلميذ أن يعبر مراحل التحصيل التي عبرها معلّمه.
فماذا تنشئ المقارنة؟ إذا قال معلّم أو أهل لتلميذٍ ما إنّك لستَ ذكيّاً أو بارعاً أو مجتهداً بقدر رفيقكَ، فإن لم يكن هناك من مقارنةٍ فكيف يصنَّف هذا التلميذ على أنّه كسول؟ المقارنة إذن هي معيار الكسل، فيصبح كسولاً بالفعل، وهذا ما يؤلم التلميذ ويخجله ويجرحه ويدمّره نفسيّاً، وقد يصل به الحال إلى الفشل التامّ أو حتّى إلى الانتحار.
المسألة الأخرى والعميقة التي طرحها كريشنامورتي على هذا الصعيد التعليمي (والحياتي) هي مسألة النجاح. فيسأل: ألسنا جميعاً نعبد الإله نفسه ألا وهو إله النجاح؟ فلماذا النجاح؟ ولمَ إعطاؤه كلّ هذه القيمة؟
ويحسم كريشنامورتي المسألة بقوله: هل تعلم ما هي الحريّة؟ إنّها حياة بلا مقارنة.
وبعد الطفولة والمدرسة والجامعة، هذه المقارنة التي زُرعت فيّ تعمل طوال الوقت لأقارن بين وظيفتي ووظيفة غيري ومكانتي ومكانة غيري وثروتي وثروة غيري…
هذا النسق من المقارنة ينشئ المنافسة والمنافسة تنشئ العدائيّة والعدائيّة تنشئ العنف. وهذا ما يحصل على صعيد الدول، فتنشأ الحروب وعمليّات القتل والتدمير. هذا كلّه متأتٍّ من المقارنة، فانظر ماذا تفعل المقارنة!
وأيضاً المقارنة الذاتيّة الداخليّة مدمّرة، فإذا ما قارنتُ نفسي بما كنت عليه في الماضي أو بما سأصير عليه في المستقبل سأتأذّى نفسيّاً.
هناك محور آخر من فكر كريشنامورتي وهو السعادة، فهو يقول: “السعادة غريبة تصل عندما لا تبحث عنها، عندما لا تبذل جهداً لكي تكون سعيداً، بشكلٍ غير متوقّع، بشكلٍ غامض، تكون السعادة موجودة، وها هنا ولادة النقاء”،
فما هي السعادة بمفهومه ولماذا يجب أن لا نبحث عنها لنجدها؟
–لقد أوجدنا تماثلاً أو ترادفاً أو تماهياً بين السعادة والرغبة. بنفي العلاقة بينهما، نجد أن لا علاقة للسعادة بالرغبة على الإطلاق. فالسعادة الناتجة عن الرغبة ليست سعادةً بمعنى الفرح العظيم بحسب تعبير كريشنامورتي.
وهذه اللذّة التي تنشئ نوعاً من الاستمتاع والارتواء، نعتمد عليها لأخذ قسطٍ من السعادة المؤقّتة التي تصبح إدماناً فنعود فنطلبها، فنعود مجدّداً إلى الألم والوحدة والمرارة. فهذه ليست سعادةً، ولكنّ السعادة عنده هي الفرح، فرح عميق لا يهتزّ. وهذا الفرح العميق يأتي من إدراك طبيعة الحياة، من خلال مراقبتها وفهمها. وهذه الحقيقة الكبرى، حقيقة الحياة، هي الفرح.
فإذا ما وحّدنا بين الرغبة والسعادة، يصبح طلبنا للسعادة مرهوناً بسعينا وراءها، وكلّ ما نسعى وراءه لا يكون السعادة الحقيقيّة بل يكون هو الرغبة. ولكن، عندما لا نسعى مطلقاً، توجد السعادة. ومن هنا، أذكر مقولة كريشنامورتي: إنّ الفعل ليس الحركة.
-ما الفرق إذاً بين الفعل والحركة؟
-قد لا أقوم بأيّ حركةٍ ويكون فعلي تامّاً. ويقول كريشنامورتي: عدم الفعل هو أعلى أنواع الفعل على الصعيد النفسي.
–أتوقّف أيضاً عند فكرةٍ أساسيّةٍ في تعليم كريشنامورتي، يقول: “عمليّة مكافحة شيءٍ ما تغذّي فقط وتعزّز ما نقاتل ضدّه”،
هل يعني ذلك أنّه علينا أن لا نقاوم وأن نقبل بالأشياء كما تأتي؟
كريشنامورتي يتكلّم على الصعيد النفسي. فعند مواجهتي لحدثٍ نفسيٍّ ينشأ في داخلي، يجب أوّلاً أن لا أسمّيه، لأنّ التسمية هي إدانة مسبقة. ولا أن أضع وشاحاً من الماضي على الحدث، فلا أعود بالتالي أدركه في اللحظة الحاليّة. وثانياً، عليّ أن أبقى مع هذا الحدث. أمّا إذا صارعته فإنّه يقوى. فكريشنامورتي يقول: ما تصارعه تصبح عليه. إذاً بالبقاء مع الحدث دون حركة، دون ضغطٍ أو قبولٍ أو رفضٍ أو هروب. بالبقاء مع حدثي النفسي، أحسّ بكلّ تقلّباته وتفاعلاته ومسيرته في داخلي، وأفهم بنيته وطبيعته، فينتهي في الحال. فنفسي أنا بأفكارها ومشاعرها، بانعكاساتها وميولها وطلباتها، هل لي أن أبقى معها تماماً؟ أي أن تشعر بشعورك، وأن تفكّر بفكرتك، حسب تعبير كريشنامورتي. إلى هذا الحدّ يجب أن يكون البقاء مع الحدث، بانتباهٍ ووعيٍ وتأمّلٍ تامّ، دون أيّ طريقةٍ من الماضي، ودون أيّ خلفيّةٍ للإدانة أو رغبةٍ للتخلّص من الحدث. أي أنّي إذا راقبتُ شعوري المؤلم ولي رغبة في إنهائه، فهذا صراع أيضاً، وههنا يصير انتباهي على الرغبة بالإنهاء وليس على الشعور بذاته. وهذا يحتاج إلى انضباطٍ نفسيٍّ هائل. ولكن، عند تنفيذ ذلك مرّةً واحدة، يصبح تلقائيّاً وطبيعيّاً في ما بعد. وبإنهاء الحدث، يتحوّل ال”ما هو” أي تتحوّل النفس.
-أفهم منك أنّك عوض أن تقاتل أو تصارع، عليك أن تواجه؟
-نعم أن أواجه، مواجهة وجهٍ لوجه، عن قرب، كأنّ هذا الشعور الداخلي صديقك أو جليسك لا بل هو أنت بالذات. ولكن هذه ليست طريقةً أو أسلوباً أو مفهوماً أو اقتراحاً لحلّ مشكلة، بل هي عند كريشنامورتي واقع حقيقي؛ بينما يصوّر لنا فكرنا أنّ هناك مسافةٍ بيني وبين شعوري، ويجب عليّ أن أتصارع معه في هذه المسافة لأغلبه.
-على صعيد آخر، يقول كريشنامورتي: “عندما أُكثر من الأكل يتعب عقلي وعندما ينقصني النوم يتشوّش عقلي، فإذا تنبّه عقلي إلى كلّ ذلك يصير لديه إدراك وبالتالي تصرّف لا قرار بأن ينام أكثر ويأكل أقلّ”، وسؤالي: لماذا تحديداً أكل أقلّ ونوم أكثر؟
تطرّق كريشنامورتي مراراً إلى مسائل الجسد. ومنها مسألة الطعام ومسألة النوم. في ما يتعلّق بالطعام، يقول كريشنامورتي إنّ جسدنا هو أداة مدهشة وقد أفسدناها بالنكهات وبالمخدّرات وبالطعام الزائد. ولا يعني بالمخدّرات ما نعرفه، بل أيضاً كلّ ما يؤدّي إلى إدمان الجسد.
-وماذا عن النوم؟
المسألة الأخرى التي تطرّق إليها هي النوم، فيتساءل لماذا لا نأخذ قسطاً كافياً من النوم؟ وهنا، إذا شئتُ بإرادتي أن أطبّق هذه القواعد الصحيّة، فلن أفلح. فإن قصدت بقرارٍ إرادي أن أقلّل من الأكل فسأتناول المزيد من الطعام، وإن أردت أن أنام فلن أنام. وقد أثبت العلماء أنّ الإنسان إذا أجبر نفسه على النوم، فإنّ الدماغ يقاوم ذلك. فيعود كريشنامورتي إلى مقولته العامّة إنّ الإنسان إذا ما راقب الفوضى في حياته، فمن هذه المراقبة للفوضى ينشأ النظام. فلا أزرع النظام بل أنفي الفوضى.
ومن هنا، فعندما يراقب العقل فوضى الأكل والنوم، يصبح لديه إدراك وفعل بأن ينظّم ذلك. ففي ذلك لا طريقة ولا إلزام ولا معلّم ولا جهد ولا تحكّم، بل فيه تصرّف طبيعي وتلقائي. إذاً، فعلى الصعيد الجسدي أيضاً، يريد كريشنامورتي إنساناً طبيعيّاً للغاية، يشبه الطبيعة لا بل أن يكون هو الطبيعة. ويقول إنّ الإفساد الذي لحق بالجسد مردّه فقداننا اللمسة بالطبيعة. ويقول إنّ الفساد الذي اجتاح أجسادنا (وعقلنا وقلبنا أيضاً) سببه فقداننا الإحساس بالطبيعة.
-سؤالي الأخير في هذه المحور من حديثنا، يقول كريشنامورتي: “إذا بدأت بفهم ما أنت عليه بدون محاولة تغييره، فإنّ ما أنت عليه سيخضع للتحوّل”، فهل يعني ذلك أن نبقى ممتنعين عن أيّ عملٍ كي يحصل التغيّر الذي نريد؟
على الصعيد النفسي نعم. فإذا لم أفهم نفسي فكيف سأتحوّل؟!
فإن كنت منتبهاً تماماً إلى كلّ هذه الحركة النفسيّة بداخلي، من تقلّباتٍ وميولٍ وطلبات اللذّة ومخاوف، أي كلّ هذه الصراعات في داخلي دون أيّة إرادةٍ لإنهائها، ستتحوّل.
ولكن، إن كانت لديّ إرادة لإنهاء الحدث، فلن أكون متنبّهاً للحدث بذاته. بل سيتركّز كلّ انتباهي على الرغبة في الإنهاء وليس على الحدث بذاته، أي أكون مركّزاً على النتيجة وعلى الخلاصة، فلن يكون بوسعي مراقبة الحدث بكلّيّته وبشكلٍ آني. فبهذه المراقبة التي بلا دافعٍ ولا اتّجاهٍ ولا رغبةٍ ولا غاية، أتحوّل. ذلك أنّ كلّ رغبةٍ تنشئ اتّجاهاً وتنشئ دافعاً وتنشئ إرادة.
-يعني أنّ الحلّ الوحيد بالنسبة إليه هو المراقبة؟
نعم، وهذه المراقبة تتمّ من دون أيّ مجهودٍ ومن دون طريقةٍ ومن دون معلّم. لأنّ هذه المراقبة هي نتاج الوعي الذي له خاصيّة الانتباه.
هذه المراقبة ليس فيها راصد يراقب، والراصد هو الأنا. فإذا كانت المراقبة من خلال الراصد، فستكون غير مكتملةٍ بل فيها توجيه ينطلق من الراصد إلى الموضوع المراقَب. وهذا الراصد له رغبة بالتغلّب على المراقَب، فلا أعود أرى كامل المشهد أي كامل بنية الحدث النفسي لكي يتحوّل.
هل يعني ذلك أنّه علينا أن نبقى في حالةٍ من المراقبة البريئة؟
بالضبط، المراقبة البريئة، ويسمّيها كريشنامورتي المراقبة النقيّة. ويمكنني هنا أن أنقل عن كريشنامورتي بسطه للخارطة النفسيّة لدى الإنسان، فاستناداً إلى مَثَل الخارطة: فإن كنت أنظر إلى خارطة العالم، وكانت لديك مثلاً رغبة في التوجّه إلى زوريخ في سويسرا، فهذه الرغبة ستنشئ لديك اتّجاهاً ودافعاً وإرادة، وهذا الاتّجاه سوف يذهب بنظرك مباشرةً إلى زوريخ ولن تستطيع رؤية باقي الخارطة. أمّا إذا لم يكن لديك رغبة أو اتّجاه أو دافع لتحقيق الرغبة، فعندها سوف ترى كامل خارطة العالم.
وهذا ما ينطبق على الصعيد النفسي، فإن أردتُ تحقيق شيءٍ في حياتي ونفسي، فهذه الإرادة تنتج من الرغبة والاتّجاه لتحقيقها، فعندها لن أنتبه إلى مجمل المشهد النفسي. من هنا يقول كريشنامورتي: إنّ صاحب الرغبة رجل خطير.
-في الختام، هل من كلمةٍ أخيرةٍ تودّ قولها؟
-أودّ أن أورد بعضاً من حكَم كريشنامورتي، لأنّها تؤثّر بي تأثيراً شديداً وأردّدها دوماً، وهي نصائح عمليّة لحياتنا. يقول كريشنامورتي:
1-الحياة أعمال غريبة، فسعيد الإنسان الذي هو لا شيء.
2-انعدام الطموح يعني طاقةً هائلة.
3-يقول أيضاً: “عندما يتوقّف كلّ توقّع، يهدأ العقل والقلب معاً”.
خاتمة
ونحن بدورنا نورد بعض ما استوقفنا من حِكم كريشنامورتي علّها تكون مدار تبصّر وتفكّر وتدبّر. يقول هذا المعلّم الذي تُذكّر حِكمه وما تحوي من مفارقات بشطحات الصوفيّة:
“في مشكلتك مع العالم أنت المشكلة”، أجل، فأكثرنا يتمادى في وهمه أن المشاكل تأتيه من الخارج، في حين أنّها في الغالب “جوّانية” المنبع والمصدر.
ويقول: “من اللحظة التي تقول فيها للولد إنه ينتمي إلى دينٍ معيّن يبدأ العنف”، وكم شرذمتنا العقائد والانتماءات، وجعلتنا أحزاباً وأمماً وطوائف متناحرة. وكريشنا مورتي يقول: “الإنسان الذي يسعى لفهم العنف لا ينتمي إلى أيّ بلد”
وممّا لا ريب فيه أن بعض معالم فكر كريشنامورتي تطرح إشكاليّات ومشاكل جمّة، وذلك خلال سعيها لحلّ أخرى. وأوّل ما يحضرنا في هذا المجال عدميّته. فإذا كان الموت هو النهاية لكلّ شيء ولكلّ كائنٍ حيّ وإنسان، فما الفرق عندها بين صالحٍ وطالح، وقدّيس وإبليس طالما أن الكلّ إلى العدم آيل؟!
وتبقى التجربة محكّ مصداقية طروحاته وتعاليمه، ولا سيما العملية والسيكولوجيّة منها. فهل تنفع الإرادة مثلاً في إزالة الغضب ومحو الخوف من النفوس؟ وكم من مرّة عزمنا على إقصاء هذا الانفعال أو ذاك. وأظهرت تجربتنا الواقعية عجزنا عن ذلك! لا دور للإرادة في التحوّل، وإنّما وعي الشيء يحوّله، يقول لنا كريشنامورتي، وهذا ما يخبره معظمنا، وتؤكّده البحوث.
وفي مجال انفعالاتنا، ومعظمها يتحكّم بنا، فثمّة آلية ذهنية تتخطّى الإرادة ولا تنفع هذه الأخيرة معها. وهنا تبدو مقاربة كريشنامورتي واقعية وحاذقة في آن. ويمكن تلخيصها بالصيغة التالية: الفهم يمحو الوهم La .compréhension efface l’illusion أن نفهم كيف نخلق خوفنا بأنفسنا، وكيف نشعل غضبنا. فهذا خطوة حاسمة وخير وسيلة لتفكيك آلية هذين الانفعالين الخطيرين وغيرهما من الانفعالات التي تتحكّم بنا ونعجز عن حكمها.
فهْمنا البريء واللانفعي والذي يتحقّق بالانتباه هو الطريق إلى تحرّرنا. الفهم والانتباه Compréhension et Attention هما الثنائي الكفيل بإخراجنا من حلقة البؤس التي كنّا نتخبّط فيها، ولا نزال، وسنبقى إذا لم نعِ ونتدبّر. فهل ستبقى على القلوبِ أقفالها؟ «»«»«»«»«»([1])
[1] –