علوم الأديان وإشكالية المصطلحات/ أ. د. لويس صليبا/كلمة في افتتاح مؤتمر علوم الأديان والتنشئة على المواطنية، جبيل، مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية، الجمعة 19 أيار 2023
من ينظرُ إلى حالِ علوم الأديان راهناً في عالمَينا العربي والإسلامي ويقارنها بمنجزات الثقافة الإسلامية منذ البيروني والشهرستاني وابن كمّونة يستنتج أنّنا نتطوّرُ ونتقدّمُ بالحري بالتراجع إلى الوراء Marche arrière. فالمؤلّفات العربية في القرن الماضي في هذا المجال هي مجرّدُ مفاضلة، ولا تمتُّ إلى المقارنة الموضوعية بصلة. ولا نزال إلى اليوم ندرس الأديان الأخرى ونقاربها من منظور ديننا ومفاهيمه حصراً، وبديهي أن تكون النتائج والحال هذه كارثيّة، وتنعكس على نظرتنا وأحكامنا على أديان الآخرين وانتماءاتهم.
وحتى مسألة التسميات والمفاهيم والمصطلحات، فنحن لم نخرج بعد بحلولٍ ناجعة لمعضلتها، وهذا لوحده مؤشّر مهمّ على عمق المشكلة التي لمّا نزل نتخبّط فيها. ومن الأمثلة البالغة الدلالة على ذلك أنّنا ابتدعنا بالعربية، ومنذ عصر النهضة، مصطلحاً لا مثيل له ولا مرادف في اللغات الأخرى، ودأبَ رجال الدين والسياسة وحتى العلماء والبحّاثة مذّاك على استخدامه ألا وهو الأديان السماوية!! وعبثاً حاولتُ في دراسات آنفة لي أن أجد لهذا المصطلح العجيب الغريب أصلاً بالعربية أو مصدراً أو مرادفاً في اللغات الأجنبية من نمط Les Religions Célestes فلم أُفلح. ويقابل هذا المصطلح في الاستخدام العربي تعبيرٌ آخر مضاد ألا وهو: الأديان الوضعية، فيكتمل النِقل بالزعرور كما يقول المثل اللبناني. أديان أوحت بها السماء، وأخرى من وضع الإنسان!!
وهل يمكن أن تُبنى علومٌ على أحكامٍ قيمية، أو بالحري على إدانة مسبقة كهذه؟ بل وحتى على تكفيرٍ ضمني كهذا؟! نعم نحن نربّي أنفسنا وأبناءنا وأحياناً بغفلةٍ منّا على التكفير: تكفير ضمني ومبطّن كمثلِ هذا المصطلح الذي يُدين أديان الآخرين، ونصحو متأخّرين على مطبّات ومخاطر ما تربّينا وربّينا عليه ونقع ضحيّة له، والمفارقة تكمن في أنّنا نحن غالباً من أيقظه ونمّاه في النفوس. فكلّ الديانات تزعم أصلاً سماويّاً أو إلهيّاً لها وليس الديانات الإبراهيمية وحسب، فهذه حال الهندوسية والزرادشتية والسيخية وغيرها ممّا كانت لي فيها بحوث ودراسات ولا فرق بين ديانة عربي وأعجمي إلا من حيث ما تؤدّيه من خدمة تطويرية للإنسان.
La meilleure religion est celle qui vous rend meilleur
يقول الدلاي لاما، أي أفضل دين هو ذاك الذي يجعلك في وضعٍ أفضل. ولا يغربنّ عن بالنا هنا الحقيقة المرّة التي عبّر عنها المهاتما غاندي بقوله: إن أبشع وأفظع الجرائم التي دوّنها التاريخ ارتُكبت باسم الدين أو باسم دوافع إنسانية”.
وممّا لحظته خلال إقامتي الطويلة ودراستي في الغرب ولا سيما في باريس أنّه ليس من المألوف أو المحمود أن تسأل مثلاً فرنسيّاً عرفتَه للتوّ عن دينه، فهو أمر يُعتبر في الغالب تدخّلاً في خصوصيّاته. وبالمقابل، فهذا أوّل ما يسألك هو عنه، لا حشرية منه، بل لأنّه يعي تماماً أهمّية هذا الانتماء في بنية شخصيّتك ومكوّناتها. والدين والطائفة في لبنان وسائر البلدان العربية كالطبقة Caste في الهند والشرق الأقصى. وفي لبنان مثلٌ سائر معبِّر يقول: سِبّني بس ما تسبّلي ديني. فالدين مجالٌ حميم مقدّس وخطٌّ أحمر يفوق العرْض وسائر المقدّسات أو المحرّمات في مشرقنا.
بيد أنّنا في مسار حياتنا لا نكتشف الحقيقة، بل بالحري نتربّى عليها في البيت كما في المدرسة وغيرها، أو حتى نتناقلها بالوراثة أباً عن جدّ. وهنا تبرز أهمّية علوم الأديان، ودورها المركزي في بناء المواطن وتنشئته فمن شأنها أن تجعله يعتاد على الوقوف على مسافة واحدة Equidistant من الأديان، وهي مقاربة ضرورية على صعيد الوطن، وإن كنّا لم نألفها بعد.
قلنا إن مسألة التسميات والمصطلحات في موضوع هذا المؤتمر، لمّا تزل مثار نقاشٍ وجدل، ومثلٌ دالّ آخر على ذلك تعبيرا علوم الأديان وتاريخ الأديان، وكثيراً ما يُخلط بين هذين المصطلحين. لا سيّما وأن حال الأديان وتاريخها كحال الفلسفة وتاريخها. فلا يمكن فهم الفلسفة وتدريسها بمعزل عن الإلمام العميق والمفصّل بتاريخها وتطوّرها، وكبار الفلاسفة من أمثال هيغل وغيره كانوا من كبار مؤرّخي الفلسفة. وذلك خلافاً للعلوم البحتة كالرياضيّات والفيزياء والكيمياء بل وحتى الطبّ، إذ نجد متخصّصين كباراً في هذه المجالات لا يعرفون الكثير عن تاريخ العلم الذي تخصّصوا فيه.
لا يمكن الفصل بن الدين وتاريخه قلت، وإشكالية التمييز بين إسلام النصّ وإسلام التاريخ أو الإسلام التاريخي مثل على ما أقول، وكثيراً ما ينأى الدين في تجسّده التاريخي وتطوّره عن النصّ المؤسِّس، فيتوجّب على الباحث أن لا يغفل ذلك ولا يُقصر دراسته ومقاربته على النصّ المقدّس وحسب.
وعلوم الأديان، كما أشرنا، لمّا تزل في زمننا ومنطقتنا تتلمّسُ طريقاً لها وموقعاً فيهما، وذلك في حين يبدو دورها أساسيّاً ولا غنى عنه في عملية الانتقال العسيرة من الانتماء الطائفي والعصبي إلى عصر الدولة المدنية وزمن المواطنية. ومن هنا كانت فكرة هذا المؤتمر وظهرت الحاجة إليه. وستدور بحوثه كما يتّضح من البرنامج حول محورَين أساسيّين:
1-علوم الأديان تعريفاً وموضوعاً ومناهجُها الأكاديمية والعلمية ودورها في التنشئة على المواطنية.
2-الوضع الراهن لتدريس علوم الأديان في لبنان وفي العالمَين العربي والإسلامي وما يواجه من صعوبات، ودور عدد من الجامعات اللبنانية والعربية في إعداد جيلٍ من الباحثين والمتخصّصين في علوم الأديان يتولّون تدريسها وتعميم فائدتها.
وإنّني إذ أشكر مركز تمّوز بشخص رئيسه د. أدونيس العكره وسائر الأعضاء ومؤسّسة هانز زايدل على تجاوبهما وتبنّي فكرة هذا المؤتمر، آمل أن يرسّخ مؤتمرنا حقيقة أهمّية دراسة علوم الأديان ودور ذلك في حلّ العديد من المشاكل الوطنية والدينية والطائفية التي يعاني منها لبنان وسائر البلدان العربية. فنعمل معاً من خلال علوم الأديان ونشرها، على إحلال تنشئة على المواطنية تجمع بين أبناء الوطن الواحد محلّ التنشئة الدينية والعصبية التقليدية التي دأبت ولا تزال على التفرقة.