علوم الأديان من أجل تفعيل السياحة الدينية في لبنان وترسيخ السلم الأهلي/بقلم أ. د. لويس صليبا، دراسة نشرت في مجلّة الدراسات الأمنية (المحكّمة)-بيروت، عدد 94، نيسان 2023

علوم الأديان من أجل تفعيل السياحة الدينية في لبنان وترسيخ السلم الأهلي/بقلم أ. د. لويس صليبا، دراسة نشرت في مجلّة الدراسات الأمنية (المحكّمة)-بيروت، عدد 94، نيسان 2023

 

السياحة الدينية جانب تطبيقي لعلوم الأديان

إشكالية البحث: الإنسان عدوّ ما يجهل، يقول المثل العربي. ونحن في لبنان نعيش عشرات السنين جنباً إلى جنب، ولا يعرف واحدنا عن الآخر سوى بعض الأحكام المسبقة Préjugés الخاطئة. وهنا يأتي دور علوم الأديان إذ تتيح معرفة للآخر كما هو والسياحة الدينية كجانبٍ تطبيقي لهذه العلوم.

والبحث التالي محاولة تأسيسية ونموذج أكاديمي يُظهر كيف يمكن لعلوم الأديان أن تكون الجانب النظري والفلسفي للسياحة الدينية وأن تنشّط هذه الأخيرة وتفعّلها في بلدٍ تعدّدي كلبنان، فيجتمع اللبنانيّون بمختلف أطيافهم على ممارستها وتفعيلها، فتعمل بالتالي على ترسيخ السلم الأهلي ومعرفة الآخر المختلف كما هو. والسياحة تعتبر صناعة وتصديراً غير منظور بمفهوم علماء الاقتصاد.([1])

السياحة بالمفهوم العربي سياحة دينيّة

والسياحة بالمفهوم العربي والإسلامي هي حُكماً وحصراً سياحة دينية. فمن الناحية اللغوية والقاموسيّة، وإذا عدنا إلى أقدم معاجم اللغة وأحدثها في آن فإنّنا نجد التالي. ففي لسان العرب لابن منظور: “السياحة: الذهاب في الأرض للعبادة”([2])

وفي بعض المعاجم الحديثة: ساح الرجل: سَيحاً وسُيُوحاً وسِياحةً وسَيَحاناً: ذهب في الأرض متعبّداً([3]). والسياحة: الضرب في الأرض بقصد العبادة([4])

والسائح: الصائم الملازم للمساجد لأنّه يسيح في النهار بلا زاد([5])

والسائح: الذي أكثر تفكيره في الله وعظمته([6]). أي أن السائح هو المتأمّل المتبصّر Méditant

المسيح في الإسلام هو إمام السائحين

ويضيف لسان العرب معنى ذا دلالات عميقة في بحثنا: ساح وسياحة ومنه المسيح ابن مريم في بعض الأقاويل: كان يذهب في الأرض، فأينما أدركه الليل صفّ قدميه وصلّى حتى الصباح” (ابن منظور، م. س، ص1953-1954). وكثيراً ما سمّى علماء المسلمين ولا سيما المفسّرين ومؤرّخي سيَر الأنبياء والصوفيّة منهم المسيح “إمام السائحين”([7]). وهو ما سنعود إلى عرضه وتحليله.

ويضيف لسان العرب مفسّراً آية الذكر {الحامدون السائحون} (سورة التوبة 112): “قال الزجّاج: السائحون في قول أهل التفسير واللغة جميعاً الصائمون. وقيل إنّهم الذين يديمون الصيام، وهو ممّا في الكتب الأُول. وقيل إنّما قيل للصائم سائح لأنّ الذي يسيح متعبّداً يسيحُ ولا زاد معه، إنّما يَطْعَمُ إذا وَجَد الزاد. والصائم لا يَطْعَم أيضاً فلشبهه به سُمّي سائحاً”. (ابن منظور، م. س، ص1594).

السائح هو أوّلاً الحاجّ

وفي القواميس المزدوجة اللغة: Pèlerin: سائح، زائر([8])و Pilgrim: سائح، رحّال.([9])

وممّا لمّا أزل أذكره من مطالعاتي في الصبا التحفة الروحية في التراث الأرثوذكسي ([10])Récits d’un Pèlerin Russe، وقد عُرّبت بعنوان: “سائح روسي على دروب الربّ”([11]). يقول هذا السائح/الحاجّ معرّفاً عن نفسه: “أنا بنعمة الله إنسان ومسيحي، وأمّا بأعمالي فخاطئ كبير و”سائح” من أدنى المراتب، دائم التجوال من مكانٍ إلى مكان” (سائح روسي، م. س، ص17). وفي النصّ الفرنسي الذي عنّه نُقلت الترجمة العربية: Je suis un pèlerin sans abri. (Récits, op. cit, p19).

سيّدة السوّاح أي سيّدة الحجّاج

وحتى بالعامّية اللبنانية أو اللغة المحكية كثيراً ما نستخدم لفظة سائح بمعنى حاجّ، والمثل القاطع على ذلك يأتي من جبيل فكنيسة “سيدة السُوّاح” في بلاط/جبيل هي بالأحرى Notre dame des Pèlerins. ([12]). وهي واحدة من أقدم 15 كنيسة في جبيل، وكانت، على الأرجح، معبداً فينيقيّاً في السابق. ولم يستخدم التعبير الشعبي سيّدة الحجّاج، ولا حتى جمع التكسير “سُيّاح” كما في الفصحى. (المنجد، م. س، ص731). ولا جمع المذكّر السالم: سائحون وسائحين (البستاني، البستان، م. س، ص534). بل استعمل صيغة الجمع المعتمدة في اللغة المحكيّة اللبنانية سُوّاح”. و”سيدة السُوّاح” هو الاسم الذي تُعرف به هذه الكنيسة العريقة القدم.

السياحة الدينية والمشي على الأقدام

لماذا السياحة بالمفهوم العربي والإسلامي كانت حصراً سياحة دينيّة؟!

الحجّ يعني حصراً بالمفهوم العربي الإسلامي زيارة البيت الحرام. يقول ابن منظور: “الحجّ القصد، هذا الأصل، ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكّة للنُسك والحجّ إلى البيت خاصّة. تقول حجّ يحجّ حجّاً، الحجّ قصد التوجّه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً وسُنّة” (ابن منظور، م. س، ص753).

تبقى إذاً أنماطٌ من القصد والحجّ إلى الجوامع والأماكن المقدّسة الأخرى، فتلك سياحة. وهي بالأخصّ سياحة سيراً على الأقدام. ففي حديث الملأ الأعلى

وتفسيراً للآية: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (سورة ص 38/69). يورد القرطبي في تفسير هذه الآية حديثاً عن أبي شهب عن الحسن قال رسول الله، صلعم، سألني ربّي فقال: ما الكفّارات؟ قلتُ المشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السَبَرَات، والتعقيب في المساجد بانتظار الصلاة بعد الصلاة”([13]).

لماذا المشي على الأقدام إلى الجماعات؟! نجدُ في أحاديث شريفة أخرى تفسيراً لهذه الممارسة الدينية المستحبّة أي السُنّة لا الفريضة. أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن أبي مُوسى الأشعريِّ، قال: قال النبيُّ: {أعظمُ الناسِ أجرًا في الصَّلاة أبعدُهم فأبعدُهم ممشًى}([14]).

المشي التأمّلي سياحة دينية بامتياز

وأخرج مسلم عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: كانتْ دِيارُنا نائيةً عن المسجدِ فأردْنا أن نَبيعَ بُيوتَنا، فنقْرُبَ من المسجدِ، فنهانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: {إنَّ لكم بكلِّ خُطوةٍ درجةً}([15]). هنا نقرب بالحري من مفهوم المشي/الصلاة، أو المشي التأمّلي La Marche Méditative الذي يكثر الحديث عنه في اليوغا وفي البوذيّة. وتزداد هذه القربى وضوحاً في الحديث الشريف التالي: عن أبي هُرَيرَة، قال: قال رَسولُ الله: {مَن تَوضَّأ ثم خرَجَ يُريدُ الصَّلاةَ، فهو في صلاةٍ حتَّى يَرجِعَ إلى بيتِه}([16]).

المشي التأمّلي إذاً صلاة. وفي حديثٍ شريفٍ آخر وأخير ذكرٌ واضحٌ لمفعول المشي التأمّلي هذا وتأثيره النفساني والعلاجي. أخرج مسلم عن أبي هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ اللهِ: {مَن تطهَّرَ في بيتِه، ثم مَشَى إلى بيتٍ من بيوتِ اللهِ، ليقضيَ فريضةً مِن فرائضِ اللهِ، كانتْ خُطواتُه: إحداهما تحطُّ خطيئةً، والأخرى ترفع درجةً}([17]).

إنّه تحديداً ما تقوله اليوغا وتعلّمه عن مفعول المشي العلاجي:

La Marche Méditative fait descendre les tensions de la tête aux pieds, et fait monter l’énergie au niveau de l’axe central c à d la colonne vertébrale

المشي التأمّلي يُنزل التوتّرات من الرأس إلى القدمَين، ويُصعد الطاقة على مستوى المحور المركزي أي العمود الفقري.

تقليد الحجّ إلى مكّة سيراً على الأقدام

وهذا التركيز على أهمّية المشي نحو مراكز العبادة في العديد من الأحاديث الشريفة الصحيحة كان له، على الأرجح، الأثر البارز في نشوء وتطوّر ورسوخ تقليد السفر إلى الحجّ سيراً على الأقدام. يصفُ المؤرّخ الشيخ أبو العباس القلقشندي (756-821هـ/1355-1418م) مسيرة الحجّاج على القدمَين من القاهرة إلى مكّة وما تستغرقه من زمن وجهد كما يلي: “وعادة الحجّاج أنّهم يقطعون في كلّ يومٍ وليلة مرحلتَين بسير الأثقال ودبيب الأقدام، ويقطعونها كلّها في شهر، بما فيه أيام الإقامة في العقبة والينبع نحو ستّة أيّام”([18])

ويردف القلقشندي مقارناً بين الحجّاج الماشيين وأولئك الراكبين على البعير، فيقول: “أما من يسافر على النُجُب مُخِفّاً مع الجِدّ السير فإنّه يقطعها في نحو أحد عشر” (القلقشندي، م. س، ص14/386).

إمام السائحين في التقليدَين الإسلامي والمسيحي

عودة إلى المسيح إمام السائحين كما عُرف في التقليد الإسلامي. فلماذا إمام السائحين؟ وما هي دلالات هذه التسمية. قال العديد من المفسّرين إن اسم المسيح مشتقّ من فعل ساح، وهو ما سبق أن ذكرنا نقلاً عن ابن منظور. وذلك لأنّ المسيح كان في زعمهم سَيّاحاً أي كثير السياحة (البستاني، البستان، م. س، ص534).، يجوب الأماكن القفراء يقول الثعلبي في عرائس المجالس: “كان المسيح سيّاحاً في الأرض”([19]). وقد يرافقه في جولانه ابن خالته يحيا (أي يوحنا المعمدان) فيتغايران في الزهد ونكران الذات ونجوى الله. وقد يلحق به الحواريّون أصحابُه وتلاميذُه، يسألونه ويسمعون له ويتعلّمون منه أمثولات الجهاد الأكبر. (الحايك، ميشال، م. س، ص175).

وهذه الصورة الإسلامية للمسيح السَيَّاح وإمام السائحين والمرسومة في عدد من التفاسير القرآنية وقصص الأنبياء ليست بغريبة عن التقليد الإنجيلي إذ نقرأ في الأناجيل الإزائية ولا سيما متّى 8/20 ولوقا 9/58: {للثعالب أوجرةٌ ولطيور السماء أوكار. أما ابن البشر فليس لديه موضعٌ يسنُد إليه رأسَه}

وينقل الثعلبي في عرائس المجالس رواية عن كعب الأحبار: “وكان عيسى يمشي حافياً، ولم يتّخذْ بيتاً ولا حِلية ولا مِتاعاً ولا ثياباً ولا رزقاً إلا قوتَ يومِه. وكان حيثما غابت الشمس صفّ قدمَيه وصلّى حتى يصبح، (…) وكان سَيَّاحاً في الأرض”. (الثعلبي، م. س، ص437-438).

ويستوقفنا في هذه الرواية التأسيسية للصورة التقليدية العامّة والنمطية للمسيح في الإسلام توصيفان: كان سَيّاحاً أي كثير السياحة وكبير السائحين وإمامهم، بيد أنّه إلى ذلك كان سائحاً مميّزاً يمشي حافياً. وسنعود إلى هذه الميزة.

ونقرأ لمرتضى الزبيدي في شرحه لإحياء علوم الدين رواية لابن عساكر عن كعب الأحبار جاء فيها: “كان عيسى عليه السلام يأكلُ الشعير، ويمشي على رجلَيه ولا يركبُ الدواب، ولا يسكنُ البيوت، ولا يصطبحُ بالسراج”([20])

المسيح السائح في التقاليد الإماميّة

سائحٌ يمشي على رجلَيه، وفي رواية أخرى نقرأ عن المسيح إمام السائحين “رجلاه دابّتُه” (الحايك، م. س، ص175). وهو ما نقرأه تحديداً في المصادر الشيعية الإمامية عن عيسى بن مريم. فالصورة النمطية للمسيح المرسومة في الأحاديث والتقاليد الشيعية لا تختلف عمّا في مصادر أهل السنّة والجماعة ورواياتهم. أخرج الشريف الرضي (359-406هـ/969-1015م) في نهج البلاغة خطبة للإمام علي بن أبي طالب يتحدّث فيها عن الأنبياء فيصف عيسى بن مريم كما يلي: “كان [عيسى بن مريم] يتوسّد الحجر، ويأكل الجشِب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها (…) دابّته رجلاه، وخادمه يداه”([21])

وجاء في شرح الإمام محمد عبده لهذه الخطبة: “ظلاله: جمع ظلّ، بمعنى الكِنّ والمأوى. ومن كان كِنّه المشرق والمغرب فلا كِنّ له”([22])

وأخرج الكُليني في الكافي حديثاً للإمام أبي عبدالله جعفر الصادق جاء فيه: “إن عيسى بن مريم كان من شرائعه السِيح في البلاد”([23])

وجاء في شرح هذا الحديث: “السِيح بالكسر الذهاب في الأرض للعبادة”([24])

الحجّ في المسيحية مفهوماً وممارسةً

المسيح إذاً سيّاحٌ في الأرض، دابّته رجلاه. إنها تحديداً السياحة أو الحجّ Pèlerinage بالمفهوم المسيحي. كمثل الحجّ الأوروبي الشهيرPèlerinage de Saint Jacques de Compostelle حيث يقطع الحجّاج أو بالحري السوّاح مسافة نحو 1200 كلم سيراً على الأقدام، وكم من مرّة شاهدتهم يسيرون في Rue St Jacques([25]) وهي أطول طريق في باريس قاصدين محجّتهم في مقام القدّيس يعقوب بن زبدى في مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا في إسبانيا([26]).

وكما هو الحال مع معظم طقوس الحجّ، فإن طريق القديس يعقوب يبدأ تقليدياً من منزل السائح وينتهي في موقع الحج. ومع ذلك، فإن طرقاً قليلة هي التي تُعتبر الرئيسية. كان الطريق/المسار مقصد الحجّاج خلال العصور الوسطى. ومع ذلك، أدّت عوامل تاريخية، مثل الموت الأسود (الطاعون) والإصلاح البروتستانتي والاضطرابات السياسية في أوروبا القرن السادس عشر، إلى تراجع أهميته.

إحياء تقاليد الحجّ مشياً في أوروبا

بيد أنّ اللافت في الأمر وما يهمّنا بالأخصّ من هذه التجربة الرائدة، هو تحديداً كيف نجح الأوروبيّون في إعادة إحياء هذا التقليد الروحي والسياحي القديم العريق وإنقاذه من الاندثار. فبحلول الثمانينيات، لم يكن هناك سوى بضع مئات من الحجّاج المسجّلين في مكتب الحج في سانتياغو. لكن عندما أعلن المجلس الأوروبي في أكتوبر/ت1- 1987 هذا الطريق طريقاً ثقافياً أوروبياً. وتمّ تسجيله ضمن مواقع التراث العالمي للأونسكو. اجتذب هذا الطريق وهذا التقليد الروحي والسياحي عدداً متزايداً من الحجّاج المعاصرين من مختلف أنحاء العالم منذ حقبة الثمانينات. وللتسجيل قبل سلوك طريق الحجّ ميزة خاصّة. إذ يمنح الحاجّ وثيقة تكون بمثابة جواز سفر تفتح المجال لحاملها كي يستخدم فنادق الحجّاج أو أنّ ينعم بوجبة غذاء أو عشاء بِسعرٍ زهيد. ومن المهمّ أن يتمّ ختمُها عِند كل قريةٍ/بلدة يمُرُّ بِها الحاجّ، كدليل على أنّه قطع هذه المسافة([27]).

وهكذا استقبلت مدينة “سانتياغو”، عام 2012 أكثر من 198 ألف حاجّ حصل كل منهم على شهادة خاصة بالحجّاج إثر اجتيازهم 100 كلم سيراً على الأقدام أو 200 كلم على الدرّاجة الهوائية، هذا إلى جانب آلاف الأشخاص الذين يزورون المقام بالسيارة أو بالنقل العام أو الذين يعبرون مسافة أقصر من 100 كلم سيراً ممّا لا يؤهّلهم للحصول على الشهادة، ونصف هؤلاء الحجّاج كانوا من الإسبان فيما كان النصف الآخر من بلدان مختلفة. وبلغ عدد الحُجّاج الذين أتمّوا الحجّ خلال تموز 2018/ 50,868 حاجاً، بالمقابل، أتمّ الحج في حزيران 45,685 حاجّاً. أمّا في تموز 2017 فقد حجّ 47,470 ، بينما بلغ عدد الحجّاج في حزيران 2017/ 41,619 حاجاً.

ألسنا نجد في هذه التجربة الناجحة في إحياء تقليدٍ قديمٍ وعريق ما يحفزنا على إعادة إحياء تقاليد قديمة من الحجّ في بلادنا، أو ترسيخ تقاليد حديثة كالمشي من جبيل نحو ضريح القدّيس شربل في عنّايا ممّا سيأتي ذكره؟

تجربة حاجّ مسلمٍ في كومبوستيلّا

ويروي أحد الحجّاج العرب التونسيين تجربته في مسيرة كومبوستيلّا هذه كما يلي: تعرّفت إلى طريق الحجّ إلى سانتياغو من خلال كتابات الروائي البرازيلي پاولو كويلو([28])، فعزمتُ على سلوكها بنفسي. وفي رحلة الحّج هذه، عليك أن تستيقظ في الصباح (قُبيل الشروق)، تغتسل بمياهٍ باردة، تحمل حقيبتك، تقبِضُ على عُكّازك… تبتهِلُ إلى الخالق بِبِضع أدعيةٍ، ثم تستأنف المسير، وخلاله تُعاين شروق الشمس من خلف الهِضاب، أو من بين الغيوم أو حتى من وراء المروج الخضراء. وتختلط بالطبيعة، تُعايشها، تُساكنها… وكثيراً ما ينهكك التعب إثر مسيرة ساعتين، فتتوقّف لتستريح، وقد تتناول بعضاً من الخبز أو ترتشف القهوة، ومن ثمّ تُتابع السير…. أما عند ساعات الظهيرة، وما أن ترى نبع مياهٍ يشق الصخر، حتى تسارع الخُطى كي تغتسل بمياهه العذبة الباردة. فتخلع حقيبتك عن ظهرك، تغتسل بثيابك… فالظهيرة وأوج أشعة الشمس حِملٌ أضافيٌّ على كتفيك، وفوق رأسك. ومن ثمّ تعاودَ المسير مرّة أخرى. وغالباً ما تختلف خطّةُ سيرك من يومٍ إلى آخر، قد تسعى إلى أنّ تقطع 24 أو 28 كم (أو حتى 33 كلم كما حدث معنا في أحد الأيّام)، بين الجبال والسهول والوديان والغابات. قد تكون طريقك صخريّة فيها شيءٌ من صعود الجبل أو وعرةً عند الهبوط في وادٍ أو المرور بطريقٍ ترابية يسلكها الرعيان وأبقارهم بين المروج. قد تُباغتك الغيوم بعد التحافها للشمس، فتبدأ زخّات المطر بالهطول، فتدفعك إلى حَثّ الخُطى لتصل إلى أقرب نُزلٍ أو مَشربٍ، في انتظار توقّف الأمطار. ومن بعدها تسارع الخُطى كي لا تباغتك الأمطار مرّة أخرى. وما أن تصل إلى القريّة التي سعيت إليها عند الفجر، حتى يكون التعب قد أنهك جسدك، فتدخل مضافة الحجّاج، وتستأجر سريراً، وتستغرقُ في نومٍ يُنسيك جزءاً من التعب، فالتعضّلات والتشنّجنات وبعضاً من الدمامل في قدمَيك يرافقونك خلال المسير. تدلّكهما وتدهنهما بِبَعضٍ من الزيوت، ثم تعمل على البحث عن طعام الغداء أو العشاء. وخلال أربعة عشر يوماً من المسير يكون نمطُ الحياة كما ذكرنا. أضف إلى ذلك، فما من أجهزة خليويّة، إذ يلتزم الحجّاج بإزالة تطبيقات الواتس أب، الفيسبوك، الإنستغرام، وتطبيقات الأخبار (بي بي سي، مونتي كارلو، وغيرها)، وبمحو صناديق البريد الإلكترونية (الشخصية والبريد الخاص بالعمل)، ويمتنعون عن الاتّصال بالأقارب أو الأصدقاء، وأجمل ما في ذلك أنّك قد تسمع بعضاً من الأخبار وهي تُتناقل على ألسنة الحُجاج، فعلى سبيل المثال، عَلِمنا بِخسارة تونس في مباريات كأس العالم بعد يومين. هذا المشهد، بِحدّ ذاته ينقلك إلى زمن ما قبل الصُحف أو المذياع: عندما كان أفراد المجتمع البشري يتناقلون أخبارهم عند عيون الماء أو على الطرقات. وتلتقي مع أناسٍ لا تعرفهم، فتتجاذب أطراف الحديث، تسألهم، من أين بدأوا المسير، ثمّ تتعرّف على دوافعهم للسير: هل هو حجٌ أم مغامرةٌ؟ وما يدفعهم إلى قطع المسافة مشياً على الأقدام. وإذا ما سألوك، ما هو سبب مسيرك، تتوقّف للحظة، تتفكّر… تُجيب: مسيرة الحج هذه مسيرةٌ روحانيّة، أرغب فيها في الانقطاع عن العالم وعصريّته… أبحث فيها عن الذات التي أضعتُها خلال سنوات الانغماس بمشاغل الحياة.

السياحة مشياً في الهندوسية والبوذيّة

والسياحة مشياً على الأقدام لمّا تزل تقليداً راسخاً حتى اليوم في الهندوسية والبوذيّة. كالحج إلى منابع نهر الغانج في الهملايا (غانغوتريGangotri ) حيث يشدّ السوّاح الرحيل من أقصى جنوب الهند أو من المصبّ الأخير لنهر الغانج نحو الشمال متتبّعين مجرى النهر المقدّس في رحلة سيراً على الأقدام تستغرق ما لا يقلّ عن ستة أشهر. وكان لي أن أعاينَ هؤلاء السيّاح وألتقيَهم عندما أقمتُ فترة شهر كامل في دير أشرم شيفانندا في UttarKashi في أواخر الطريق نحو نبع الغانج. وأكثرهم كانوا يقطعون مسافة 2704 كلم هذه، أو معظمها حفاة.

وإن أنسى فلا أنسى مشهداً، وحدثاً لمّا يزل إلى اليوم محفوراً في مخيّلتي وراسخاً في وجداني. ففي ليلة ليلاء عاصِفة وماطرة وشديدة الزمهرير، وقبل أن أودّع سوامي بريماننادا Swami Premananda مؤسّس الدير أو شيفانندا أشرم ورئيسه، لأذهب إلى غرفتي وأخلد إلى النوم. طرق أحدهم الباب، وكنّا وحيدَين بعد أن غادر العاملان في المطبخ وفي الاستقبال كلّ إلى منزله. فأشار سوامي جي إليّ أن أفتح الباب، ففعلت. فإذا أنا في مواجهة حاجٍّ فقير معدمٍ حافٍ أسنانه تصطكّ من البرد وجسمه يرتجف وفرائصه ترتعد، ومياه المطر الغزير تسقسق من أعلى رأسه إلى أخمصِ قدمَيه. مشهدٌ موجع لم يسبق لي أن رأيتٌ شبيهاً له. فأشار سوامي جي إليه بالدخول، وأسرع إلى غرفة في الداخل وأتى بمنشفةٍ كبيرة جفّف له بها جسمه المبلّل، فهدأ رجفانه قليلاً. فهرع سوامي جي عندها إلى غرفة نومه، وجاء باللحاف الذي يتغطّى به، ولفّ به جسد هذا الحاجّ الفقير، وعندما أحسّ هذا الأخير بشيء من الدفء توقّف ارتعاش بدنه. فأخذه هذا الراهب البارّ إلى غرفة السفرة وقدّم له طعاماً يسدّ به رمقه، فاستعاد بعضاً من حيويّةٍ افتقدها. واستبقاه تلك الليلة في الدير.

وعند الصباح عرفنا أن العاصفة الشديدة فاجأته في الطريق، فعجز أن يحتمي بسقفٍ قبل أن يلوح له ضوء ديرنا، فسارع كي يلتجئ إليه. وعلمتُ منه أنّه انطلق من جنوب الهند في مسيرة حجّ على قدمَيه إلى غانغوتري منبع الغانج منذ نحو ستة أشهر، وقد شارف على الوصول إلى محجّته. فحمّله سوامي بريمانندا ما استطاع أن يحمل من زاد إضافة إلى لحافه الذي صار رداءه وغطاءه في آن، ومضى هذا الحاجّ الفقير المعدم متابعاً طريقه بفرح وحماس وخشوع نحو منبع الغانج.

تجربة مسيحيّ في حجّ هندوسي

ويروي لنا أحد الحجّاج الفرنسيين المعاصرين تجربته الروحيّة والسياحية في حجّ سيراً على القدمَين استغرق سبعة أشهر قطع فيها مسافة 2600 كلم على ضفاف الغانج وصولاً إلى منبعه في غانغوتري، وذلك في كتاب يسرد فيه في 420 ص أخبار مغامرته الفردية هذه، ويقارنها بأخرى قام بها وهي الحجّ سيراً على القدمين من فرنسا إلى سانتياغو دي كومبوستيلا. يقول غولييه Tanneguy Gaullier مقارناً بين تجربتَيه: “كان هذا البحث عن التعمّق يختلف جذريّاً عن السابق: فالمسار هنا لم يتمّ تحديده. ذلك أن الطبيعة البرّية والمناخ الصعب وواقع مسح نهرٍ عملاق يصل عرضه أحياناً إلى 7 كلم ليس بالمهمّة السهلة. وعلاوةً على كلّ ذلك فالفقر يؤثّر، والغرابة تذهل والتديّن يغيّر المرء من الداخل. والتشابهات تكمن في البحث في الهدف الذي يكوّن السعي الداخلي. وإذا ما التقى اثنان من الحجّاج فأنّهما يتعارفان، وهذا ما حصل لي مع العديد من الباحثين الروحيين Sadhus. ([29])

وعن تجربته كحاجّ مسيحي أوروبي في الهند يقول غولييه: “لدى الهند تقليدٌ مهمّ في الحجّ. وهذه الممارسة الروحيّة تحظى باهتمامٍ فائق. وكان الهنود يسجدون أحياناً أمامي، ليس إجلالاً لمسيرتي، بل لأنّهم يعتقدون أن الله يرافق دوماً الحاجّ. ولم يسبق لي أن حزتُ على ترحيب رائعٍ كما في الهند. فقد دُعيتُ للمبيت في كلّ مكانٍ تقريباً. فالتقليد العريق المتمثّل باعتبار الحاجّ إلهاً لا يزال سارياً في الأرياف. وإلى ذلك فقد أحببتُ أن أغذّي أحلامي بأصوات الغابة ووميض النجوم.

مفهوما الحجّ في المسيحية والهندوسية

وعن الاختلاف في مفهوم الحجّ بين الهند والغرب يقول: “لا تتعامل الهند مع الحجّ بطريقة مختلفة، حتى ولو كانت دراسته أكثر تقدّماً ومثاله أكثر سموّاً. وما من شأن الحجّاج الهنود أن يعلّموننا إيّاه فهو هذه الحماسة وهذا التسليم. ومع ذلك فليس من المستحبّ نقل المثالية الهندية إلى الغرب، ولا الديكارتية الغربية إلى الهند”.

وعن أثر تجربته هذه على حياته الروحية كمسيحي يقول غولييه: “ما حصل لي تخطّى كلّ توقّعاتي. ولستُ واثقاً من أنّني سأتمكّن من عيش تجربة غنيّة كهذه مرّة أخرى. وبفضل الهند أصبحت ممارستي المسيحية أكثر هدوءاً. وصرتُ أخصّص المزيد من الوقت للصمت والصلاة والتأمّل. وأخصّ الجسم بمزيدٍ من الاهتمام. وجعلتني الكتابات الدينية الهندية، والبراهمة الذي التقيتهم أفهم ما هو العمل غير الأناني، وأعي وحدة الأشياء وحضور الله في العالم. وأتاحت لي الهند قبل كلّ شيء القيام برحلة روحية تقود إلى ذكاء القلب.

المشي وتأثيره العلاجي

لماذا الحجّ أو السياحة بالحري سيراً على القدمَين؟! ولماذا أيضاً يسير الكثير من الحجّاج حفاة؟!

من المنظور اليوغي وكذلك النفساني العلاجي Psychothérapeutiqu:

La marche est un bercement thérapeutique

المشي هدهدة (أو هزاز) علاجية

On est bercé par notre proper marche

إنّنا نتهدهد بمشينا. ومفعول الهدهدة العلاجي معروف: يغيّر مزاج الطفل، فيتوقّف مثلاً عن البكاء. بيد أن هذا المفعول لا يقتصر حصراً على الأطفال كما قد يظنّ، والمشي نمط من الهدهدة. هذا إضافة إلى مفاعيل فيزيولوجية ونفسانية أخرى كإفراز الأندورفين وغير ذلك ممّا لا يتّسع المجال لعرضه.

وإضافة إلى ذلك فمن مفاعيل المشي العلاجية والفيزيوسيكولوجية أنّه يفضي إلى تزامنٍ وتناغم بين قسمَي الدماغ الأيمن والأيسر Synchronisation des 2 parts du cerveau

أهمّية المشي بقدمَين حافيتَين

وماذا الآن عن نموذج المسيح إمام السائحين والسائر حافياً في التقليد الإسلامي. وهو ما نجده عند الكثير من الحجّاج والسوّاح قديماً وحديثاً.

تشرح تعاليم اليوغا القصد من ذلك. فهو ليس مجرّد إجلال للأماكن المقدّسة وحسب، وإنّما له وظيفة علاجية Thérapeutique أبعد من ذلك، وتُفهم من خلال عنصر البرانا Prana. والبرانا كما يحدّدها العالِم الأندوكرينولوجي د. ميشرا Mishra هي مجموع كلّ طاقة في الكون أكان ذلك على المستوى غير الظاهر للنواة، أم على المستويات الظاهرة للمادّة من غازي وسائل وجامد.

ومصادر الطاقة الأساسية ثلاثة:

1-الشمس شرط عدم التعرّض لها لفترة طويلة.

2-الهواء: نلتقط البرانا بالتنفّس لا سيما من الأنف وفي الأماكن البعيدة عن التلوّث. ومن هنا أهمّية السير على القدمَين في الهواء الطلق والغابات والجبال وشاطئ البحر وغيرها.

3-الأرض: ولا سيما في الأماكن المقدّسة المشحونة بالكثير من الطاقة العلاجية والشافية المتراكمة. ومن هنا أهمّية السير حفاة القدمَين في الأماكن المقدّسة، إذ يتيح ذلك التقاط ما تيسّر من برانا شافية من الأرض.

ومن الناحية الطبّية والفيزيولوجية ففي كعب القدم ريسيفرات خاصة (أعصاب مستقبِلة) Récepteurs spéciaux وهي تعمل على إعلام الدماغ عن نوعيّة الأرض التي تطؤها القدمان وغير ذلك. وهذه الأعصاب المستقبِلة تشتغل كما يجب عندما يمشي المرء حافي القدمَين في حين أن الأحذية على أنواعها تعيق عملها!

وهكذا فالمرء يتحسّس بصورة أفضل الأرض عندما يمشي حافياً، فيمشي مشية أكثر خفّة. وإضافة إلى ذلك فالمشي الحافي ينشّط إفراز هرمون الأوسيتوسين ممّا سيلي ذكره.

ومن تقاليد الشانكارا شاريا Shankara Sharya أي الرؤساء الدينيين وخلفاء شانكارا في الهند زيارة القرى حفاة كعلامة فقر وتجرّد. وهذا ما فعله أحد كبار المعلّمين الجايين في مقاطعة غوجرات في الهند عندما شهدت هذه المقاطعة توتّرات بين الهندوس والمسلمين، فلتهدئة الخواطر قام بزيارة القرى وهو يمشي حافياً ممّا كان له الأثر العميق في السكّان إذ رأوا هذا الراهب المتصوّف المتجرّد يزورهم حافياً فأبدوا استعداداً للعمل بنصائحه وإرشاداته فاستطاع أن ينزع فتيل الانفجار.

المشي علاجٌ في الفلسفة العياديّة

وفي الفلسفة العيادية Philosophie Clinique وهي نمط حديث وتطبيقي من الفلسفة يعرف انتشاراً واسعاً منذ أكثر من عقدَين([30])، يتحدّثون أيضاً ويمتدحون فوائد المشي التأمّلي والمشي العلاجي Marche Méditative et Marche Thérapeutique.

أرسطو نفسه، المعلّم الأوّل كما سمّاه فلاسفة العرب والإسلام، عُرفت مدرسته الفلسفية بالفلسفة المشّائية، لأنّه كان يُلقي دروسه ومحاضراته وهو يمشي. يروي الشهرستاني في الملل والنِحَل: “وكان أفلاطون يلقِّن الحكمة ماشياً تعظيماً لها، وتابعه على ذلك أرسطوطاليس، ويسمّى هو وأصحابه “المشاّئين”.([31])

ويستوقفنا نصّ الشهرستاني المقتضَب هذا إذ يثير عدداً من النقاط التي تهمّنا وتسلّط المزيد من الأضواء على ما نطرح من إشكالية. فأرسطو لم يكن أوّل من علّم الحكمة ماشياً، بل فعل ذلك أسوة بأستاذه أفلاطون وتشبّهاً به. أمّا أفلاطون فكان يعلّم الحكمة ماشياً تعظيماً لها، إي إن إجلال الحكمة وتوقيرها يكمن في تلقينها ونقلها إلى الأتباع والتلامذة لا جلوساً، ولا حتى وقوفاً، بل بالحري سيراً على القدمَين.

وكان من عادة أرسطو أن يلجأ إلى ممشى بجانب ملعب لوقيون الذي أنشأ فيه مدرسته (325 ق م)، فيحضر إليه التلاميذ هناك، فيلقي عليهم دروسه وهو يتمشّى، وهم يسيرون من حوله، فأُطلق عليه هو وأتباعه “المشّاؤون”. (الشهرستاني، م. س، هامش ص2/109). بيد أن أرسطو إضافة إلى توقير الفلسفة عبر تعليمها مشياً، كان يحبّ هذه الرياضة تحديداً، ولم يكن يريد أن يحرم نفسه منها لقاء أن يحاضر، فجمع بين المحاضرة والرياضة، وعلّم الأذهان وأفاد الأبدان. ([32])

وهي الصورة عينها التي رسمها مؤرّخو سيرة المسيح من الكتّاب المسلمين كما سبق وأشرنا: المسيح السائح السائر وحوله حواريّوه يسألونه، وهو يجيبهم ويعلّمهم الحكمة. وهكذا نرى كبار الحكماء القدماء والمعلّمين والفلاسفة ومن بينهم بل على رأسهم غوتاما بوذا يعلّمون تلاميذهم الحكمة بالأحرى مشياً على الأقدام لا وقوفاً ولا جلوساً.

فوائد المشي التأمّلي

وكان غوتاما بوذا قد لخّص فوائد المشي التأمّلي بخمسة:

1-يجعل المرء أكثر استعداداً وقدرة على السفر الطويل سيراً على الأقدام

2-يمنح المرء المقدرة على التأمّل لفترات أطول.

3-يحسّن الصحّة ويضعف احتمالات الإصابة بالأمراض

4-ينشّط الهضم ويحسّنه.

5-التركيز الذي يصل إليه المرء بالمشي التأمّلي يتواصل مفعوله لفترة طويلة بعده.

وهذه الفوائد التي يجنيها المرء من المشي التأمّلي يرتبط أكثرها بإفراز الأندورفين. فبعد نحو نصف ساعة من المشي يبدأ إفراز الأندورفين، ما يقوّي جهاز المناعة، ويحسّن الهضم، ويزيد من القدرة على التركيز وغير ذلك.

وكلّ مشي، أو رياضة ولا سيما رياضات Endurance أي التحمّل والتكبّد تفرز الأندورفين، ويبقى أن المشي التأمّلي شأنه شأن الصلاة Prière Oraison أو التأمّل Méditation يفرز إضافة إلى الأندورفين هرمون الأوسيتوسين Ocitocine وهو هرمون مشاعر الحبّ والمودّة والتعاطف والغيريّة. والجدير ذكره هنا أن المشي الحافي خير منشّطٍ لإفراز الأوسيتوسين وذلك بفعل ملامسة القدم العارية للأرض، فحاسّة اللمس أبرز مسبّب ومفعّل لإفراز هذا الهرمون.

ولا بدّ من أن نذكر هنا أن هرمونات التوتّر والتشنّجات Stress كالسمّ الذي يفرزه الجسم في حالة الغضب تُفرز بصورة لاإرادية، أما الهرمونات ذات التأثير أو المفعول الإيجابي كالأوسيتوسين فنحن من يقرّر إفرازها.

منافع المشي عند نيتشه وكانط

ونيتشه الفيلسوف الألماني الشهير من أبرز ممارسي المشي التأمّلي. يقول شاهداً: “أمشي كثيراً في الغابات، وقد أجريتُ فيها مقابلاتٍ شهيرةً مع نفسي”([33]).

وعن أهمّية ما يستوحي المرء لا سيما الفيلسوف من أفكار خلال المشي يقول نيتشه ناصحاً: “لا تثق بأيّة فكرة لم تتكوّن في الهواء الطلق، ولا بأيّة خاطرة لم تشارك فيها العضلات”.

Ne prêtez foi à aucune pensée qui n’ai été composée au grand air, à aucune idée où les muscles n’aient été aussi de la fête. (Vigne, op. cit, p141).

ويلخّص نيتشه تجربته الفكرية في الصيغة اللافتة التالية:

On n’écrit pas avec les mains, on n’écrit bien qu’avec les pieds” (Vigne, op. cit, p143).

نحن لا نكتب بأيدينا، نحن لا نكتب جيّداً إلا بأقدامنا فقط.

ومن كبار الفلاسفة المشّائين كذلك إيمّانويل كنط، فطيلة حياته وأيّاً تكن حالة الطقس كان يمشي ساعة كلّ يومٍ مقفل الفم أي يتنفّس من منخاريه في مكانٍ ووقت معيّن من النهار، فسُمّي ذاك المكان طريق الفيلسوف. Vigne, op. cit, p140. إنّه مشي تأمّلي بامتياز، فإضافة إلى تسخين الهواء الداخل إلى الرئتَين وتنقيته من الغبار فالتنفّس الأنفي ينشّط إفراز الأندورفين Endorphines ممّا يستحثّ انتباهاً أكثر تركيزاً وبهجة ويخفّف من الأوجاع في الجسم. إنها ممارسة مشابهة تماماً لما يقوم به الرهبان البوذيّون في أديرتهم.

ويلخّص أحد حكماء الصين أثر المشي التأمّلي بالمعادلة التالية:

Le plus grand miracle ce n’est pas de marcher sur les eaux mais de marcher consciemment sur terre

المعجزة الكبرى ليست في أن نمشي على المياه بل بالحري أن نمشي واعين متنبّهين على الأرض.

والخلاصة، فنحن لا نزعم بتاتاً أنّه لا يمكن تفعيل السياحة الدينية أو تنشيطها إلا بممارسة المشي التأمّلي حصراً أو المشي عموماً. ولكن، وكما تُظهر أبرز التقاليد السياحية الدينيّة وأشهرها في العالم، فما من سياحة دينية ناشطة ومثمرة لم يكن في أساسها تقليد راسخٌ من السير على القدمَين، وبعدها تأتي طرق النقل التقليدية أو الحديثة لتفعّل هذه السياحة وتنمّيها كالتلفريك وغيرها.

السياحة الدينية في لبنان بين الأمس واليوم

ماذا الآن عن وضع السياحة الدينية في بلادنا؟!

لا نذيع سرّاً إذا قلنا إن السياحة الدينية متخلّفة في بلادنا، رغم ما فيها من معالم روحيّة ودينية كثيرة لا مجال لتعدادها في هذه العجالة. ومن أبرز أسباب هذا التخلّف أنّنا حُزْنا وبتفوّق على بطولة العالم في تضييع التقاليد المفيدة والعريقة وإهمالها ونسيانها.

جبيل مثلاً، كانت وكما يسمّيها المؤرّخ والعالِم هنري لامنس كعبة الفينيقيين ومكّتَهم، وكانوا يقصدونها، وسيراً على الأقدام في الغالب، من مختلف أرجاء فينيقيا وسائر أنحاء العالم القديم، ويقدّمون الأضاحي في معابدها.

وبقيت حتى في العهد الصليبي الذي استمرّ نحو قرنين (1104-1292) مدينة مقدّسة. فحكّامها الصليبيّون من أمثال هوغ أمبرياكوس وذرّيته سكّوا النقود وكتبوا عليها جبيل المدينة المقدّسة. وقبلهم بقرون كان السلوقيّون خلفاء الإسكندر المقدوني الذين حكموا جبيل قد سكّوا نقوداً في جبيل حملت اسم “جبيل المقدّسة”([34]).

ومن تقاليد السياحة الدينية القديمة في جبيل الصعود سيراً على الأقدام من جبيل ولا سيما من مصبّ نهر إبراهيم أو بالحري نهر أدونيس كما كان يُعرف يومها، وعلى مدى مجرى هذا النهر أو ما يعرف بوادي أدونيس مروراً بكلّ القرى المحازية للمجرى، وحتى معبد عشتروت عند منبع هذا النهر في مغارة أفقا، وما يرافق هذه المسيرة من طقوس كانت تُعرف بالأدونيّات([35]).

تجارب معاصرة في سياحة المشي في لبنان

وفي الزمن المعاصر أكتفي بذكر بعض البادرات في هذا الإطار.

كمثل النشاط الذي نظّمه أستاذي ومعلّمي الأب لويس خليفة (1930-1997) عند إعلان مار شربل قدّيساً في 9/10/1977. ففي الليلة التي سبقت هذا الاحتفال في روما نظّم مسيرة على الأقدام من كنيسة مار جرجس في جبيل إلى دير مار مارون ومحبسة شربل([36]). وأذكر أنّني شاركتُ فيها مع المئات من الشباب يومها، وذلك على الرغم من الأوضاع الأمنية التي لم تكن مشجّعة آنذاك. وكان هدف الأب خليفة أن يجعل من هذه المسيرة تقليداً سنويّاً. وهو وإن كان لم يترسّخ بعد كما يجب ويؤمل، فإنّه لم يندثر، ويؤمل أن يستمرّ بمشاركة عنصر الشبيبة. ومثله ما ينظَّم من مسيرات درب الصليب يوم الجمعة العظيمة من جونية ولا سيما الملعب البلدي إلى معبد سيدة لبنان في حريصا، أو من مسيرات في الشهر المريمي على أمل أن تترسّخ مسيرة منها تقليداً سنويّاً شعبيّاً يشارك فيه الألوف.

وهكذا فلا تزال هذه الأنشطة بمجموعها بادرات خجولة تحتاج إلى تضافر الجهود والمزيد من المشاركة الشعبية كي تترسّخ، وتكون بالتالي الدعامة الكبرى لسياحة دينية ناشطة ومثمرة في لبنان. وهذا يحتاج إلى حكمةَ الشيوخ من مختلف الأطياف ونُصحَهم ومباركتَهم، وحماس الشباب ومبادرتَهم.

«»«»«»«»«»([37])

[1] -المنجد في اللغة العربية المعاصرة، إشراف صبحي حموي، بيروت، دار المشرق، ط3، 2008، ص731.

[2] -ابن منظور، الإمام العلّامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، تحقيق يوسف البقاعي وآخرين، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، ط1، 2005، ج1، ص1953.

[3] -البستاني، العلّامة الشيخ عبدالله، البستان معجم لغوي مطوّل، بيروت، مكتبة لبنان، ط1، 1992، ص534.

[4] -البستاني، المعلّم بطرس، محيط المحيط قاموس مطوّل للغة العربية، بيروت، مكتبة لبنان، 1977، ص445.

[5] -الباشا، محمد خليل، الكافي معجم عربي عربي، بيروت، شركة المطبوعات، ط4، 1999، ص532.

[6] -رضا، د. يوسف محمد، معجم العربية الكلاسيكية والمعاصرة معجم ألفبائي موسّع، بيروت، مكتبة لبنان، ط1، 2006، ص841.

[7] -الحايك ميشال، المسيح في الإسلام، بيروت، المطبعة الكاثوليكية، ط1، 1961، ص173 و ص183.

[8] -Idriss, Souheil, Al-Manhal Dictionnaire Français-Arabe, Beyrouth, Dar AlAdab, 2006, p889.

[9] -Karmi, Hasan, New Al-Mughni Al-Akbar English-Arabic Dictionary, Beirut, Librairie Du Liban, 2007, p908.

[10] -Récits d’un pèlerins russe, Traduits et présentés par Jean Laloy, Collection Points Sagesse, Paris, Seuil, Nouvelle édition mise à jour, 1978.

[11] -سائح روسي على دروب الرب، تعريب أنطوان جرجي، طرابلس/لبنان، تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر، د. ت.

[12] -Sauma, Victor, Sur les pas de la Vierge et du Christ au Liban, La Vierge, Beyrouth, Imprimerie Chemaly, 2014, p338.

[13] -صليبا، د. لويس، معراج محمّد/المخطوطة الأندلسية الضائعة، ترجمة لنصّها اللاتيني مع دراسة وتعليقات وبحث في جذور نظرة الغرب إلى الإسلام، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط4، 2016، ب1/ف4، فق: حديث الملأ الأعلى، ص107-108.

[14] -حديث أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، حديث651. البخاري، الإمام عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري (194-256هـ)، صحيح البخاري، تحقيق خليل مأمون شيحا، بيروت، دار المعرفة، ط1، 2004، ص224.

[15] -حديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، ح1516. مسلم بن الحجّاج النيسابوري، الإمام الحافظ (ت261هـ)، صحيح مسلم، تحقيق الشيخ خليل مأمون شيحا، بيروت، دار المعرفة، ط1، 2005، ص312.

[16] -أخرجه ابن خزيمة ح437، والحاكم ح744، وصحّحه الألباني وخرّجه في صحيح الترغيب والترهيب.

[17] -حديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب المشي إلى الصلاة تُمحى به الخطايا وتُرفع به الدرجات، ح1519، صحيح مسلم، م. س، ص312.

[18] -القلقشندي، الشيخ أبو العبّاس شهاب الدين أحمد بن علي (ت821هـ)، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة، دار الكتب السلطانية، ط1، 1919، ج14، ص385-386.

[19] – الثعلبي، أبو إسحق أحمد بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالثعلبي (ت427هـ)، قصص الأنبياء المسمّى عرائس المجالس، المنصورة/مصر، مكتبة الإيمان، د. ت، ص438.

[20] -الزبيدي، محمد بن محمد الحسيني الزبيدي المعروف بمرتضى (1145-1205هـ)، اتحاف السادة المتّقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، القاهرة، 1311هـ، ج9، ص335.

[21] -الشريف الرضي، أبو الحسن محمد بين الحسين بن موسى (ت406هـ)، نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وبهامشه اللغات المشروحة، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، ط1، 1990، خطبة 160، ص161.

[22] -محمد عبده، الشيخ الإمام (1849-1905م)، شرح نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب، بيروت، مؤسسة الخرسان للمطبوعات، ط1، 2006، ص206.

[23] -الكُليني، أبو جعفر محمد بن يعقوب (ت329هـ)، الكافي، تحقيق صادق برزك بفروئي، قمّ/إيران، مؤسسة أنصاريان للطباعة، ط3، 2007، ج2، باب الحسد (306)، ح2560، ص234، والحديث رواه عِدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن ابن محبوب عن داود الرَقّي قال سمعتُ أبا عبدالله يقول…

[24] -الكليني، الكافي، م. س، الأصول من الكافي، الهوامش 1206، ص333.

[25] -طريق سان جاك Rue Saint Jacques في باريس وهي الطريق التي استخدمها الحجّاج السائرون على أقدامهم من كنيسة Saint Jacques في باريس إلى سانتياغو دي كومبوستيلا في إسبانيا. وهي موازية لبولفار سان ميشال لكنها في الاتّجاه المعاكس لاتّجاهه. وتجتاز الحيّ اللاتيني ولا تزال تحتفظ إلى اليوم باتّجاه سير وحيد وهو اتّجاه الحجّاج نحو سانتياغو.

[26] -طريق القديس يعقوب أو كامينيو دي سانتياغو (بالإسبانية (Camiño de Santiago‏ أو حج كومبوستيلا وباللاتينية: Peregrinatio Compostellana، ويعرف رسمياً في الأونسكو باسم طرق سانتياغو دي كومبوستيلا، هو شبكة من طرق الحجّاج إلى مقام الرسول القديس يعقوب بن زبدى أو يعقوب الكبير شقيق القدّيس يوحنا الإنجيلي، في كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا في إقليم غالسيا في شمال غرب إسبانيا وتُعرف في التاريخ الإسلامي بمدينة شانت ياقب عاصمة المملكة الجليقيّة. وتروي الحكايات أن القديس يعقوب تمّ دفنه هناك. كما أن الطريق شهير لدى عشّاق رحلات الهواء الطلق وركوب الدرّاجات في الجبال والطريق الفرنسي Camino Francés  وطرق شمال إسبانيا أدرجتها الأونسكو في قائمة التراث العالمي.

وكان طريق القديس يعقوب أحد أهمّ مسارات الحج المسيحي لنيل الغفران خلال العصور الوسطى إلى جانب روما وأورشليم، وتشمل طرق الحج الرئيسية الأخرى طريق فيا فرانتشيجينا إلى روما والحج إلى القدس. وتقول الأسطورة إن رفات الرسول يعقوب بن زبدى نُقلت في قارب من القدس إلى شمال إسبانيا حيث دفن في مدينة سانتياغو، واسمها هو تحريف غاليسي محلي لللاتينية Sancti Iacobi أو “القديس يعقوب.”

وللوصول إلى سانتياغو دي كومبوستيلا هناك عِدة طرق، منها الطريق الفرنسيّ Camino de Frances، والطريق البرتغالي Camino Portugues، والطريق القديمCamino Primitivo  والطريق الإنكليزي Camino de Ingleze. علماً أنّ أكثر الطُرق شُهرةً هو الطريق الفرنسي، والذي يبدأ من بلدة سان جان بييه في الباسك الفرنسي، مروراً بالباسك الإسباني، ومن ثمّ قشتالة وليون، حتى مدينة سانتياغو دي كومبوستيلا في غاليسيا، حيث يبلغ طول المسار 786 كم. وبإمكان السائح أن يأخذ أحدى عشرات طرق الحج ليصل إلى طريق سانتياغو. وعندما يقع عيد القديس يعقوب الكبير (25 تمّوز/يوليو) في يوم أحد، تعلن الكاتدرائية تلك السنة مقدسة أو يوبيلية. واعتمادا على تداول السنوات الكبيسة، تقع السنوات المقدسة في فترات من خمس وست إلى أحد عشرة سنة. كان آخرها أعوام 1982 و1993 و1999 و2004 و2010، و2021. ستكون القادمة في أعوام و2027 و2032.

[27] -عيراني، مارسيل، طريق سانتياغو دي كوبمبوستيلا قيمة ثقافية وروحية كبيرة تستقطب آلاف الأشخاص سنويّاً، مقالة في 24/9/2013، على موقع النشرة www.elnashra.com.

[28] -أشار الروائي البرازيلي الشهير باولو كويلو Paulo Coelho (مولود في ريو دي جنيرو 24/8/1947) في معظم رواياته إلى طريق كومبوستيلا، ذاكراً مَن قصدها، ومن أين تبدأ وأين تمرّ. كما قام بنفسه سنة 1986 بالحجّ سيراً على الأقدام إلى كومبوستيلا، ووثّق مسيرته هذه في روايته سائح كومبوستيلا Pèlerin de Compostelle، وهي أولى رواياته، وفيها يقول مشيراً إلى تجربته السائحيّة هذه: “عندما تسافر، فأنت تختبر فعل ولادة جديدة”.

[29] -Gaullier, Tanneguy, L’âme du Gange: Un pèlerinage aux sources, Paris, Transboreal Editions, 2016,

[30] -الفلسفة العيادية من شأنها أن تعيدنا إلى المفهوم القديم والتقليدي للفلسفة إن في الشرق الأقصى أو عند الإغريق. فالمدارس الفلسفية من المنظور الهندوي، وبتأثير من غوتاما بوذا وغيره من المعلّمين، كانت تُعتبر في الأساس طرقاً ووسائل للخروج من المعاناة. والفلسفة اليونانية نفسها كانت أصلاً حكمة عملية قبل أن تكون أو تصير لعبة أو أحجية فكرية بين المدارس المتناحرة والمتنافسة. وهذا ما ركّز عليه مثلاً الفيلسوف ومؤرّخ الفلسفة الفرنسي بيار هادو (1922-2010 Pierre Hadot (وهو واحدٌ من أولئك الذين أصرّوا على حقيقة فلسفية وتاريخية مفادها أن الفلسفة القديمة كانت قبل كلّ شيء أدب حياة، وتمريناً روحيّاً وبكلمة مختصرة كانت ممارسة عملية لا مجرّد نظرية ومجال جامعي أكاديمي كما هي اليوم.. Tardieu, Michel, Pierre Hadot, Article in Encyclopédie Universalis, sur www.universalis.com, consulté 24/11/2022.

وبحسب هادو فإن فلاسفة العصور القديمة لم يسعوا إلى وضع نظامٍ لفهم العالم، ولا إلى تطوير خطابات تأمّلية ومفاهيمية كما هو بالحري حال الفلسفة الحديثة والمعاصرة. بل إن الفلسفة القديمة كانت بالأحرى ممارسة للوجود وتمريناً روحيّاً وطريقة للعيش والموت. وهكذا فإن نقل المعرفة الذي غالباً ما كان يتمّ بطريقة شفوية أكثر ممّا هي كتابية، كان يعتمد على تقديم حلول لمشكلات محدّدة للتلاميذ في سياقٍ معيّن، أكثر ممّا كان تطويراً لأطروحة. وكان يستهدف التطبيق والجانب العملي أكثر ممّا كان يبغي وضع نظرية، ولكن من دون إقصاء الاحتمال الأخير هذا، إذ لا يمكن أن تكون هناك ممارسة من دون خطابٍ فلسفي وجانبٍ نظري يشرحها. وإن جعل ممارسة الوجود هذه روحانية وتحويلية هو، برأي هادو، ما يفسّر التناقضات العديدة التي يمكن أن نجدها في كتابات العصور القديمة، لأنّها تستجيب لمتطلّبات واحتياجات خاصّة وملموسة وغالباً ما تكون عملية. Pol Droit, Roger, Pierre Hadot m’a fait voir la philo autrement, Article in www.cles.com consulté 24/11/2022

[31] -الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبدالكريم (579-648هـ/1153م)، الملل والنِحل، تحقيق محمد بن فتح الله بدران، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1956، ج2، ص109.

[32] -الحفني، د. عبدالمنعم، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة، مكتبة مدبولي، ط3، 2000، ص801.

[33] -Vigne, Dr Jacques, Pratique de la méditation laïque, Paris, Le Relié, 2016, p139.

[34] -صليبا، د. لويس، لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي نزاعات على الكيان نشأة وهويّة، تقديم عبدالرؤوف سنّو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط8، ذيل: جبيل مدينة السلم الأهلي والتنوّع الثقافي-الديني، ص371.

[35] -معبد عشتروت في أفقا ذكره أوسابيوس القيصري (260-340م) في تاريخه الكنسي، وأشار إلى أن الأمبراطور قسطنطين الكبير حوّله سنة 337 إلى كنيسة مسيحية على اسم العذراء. وتحدّث المؤرّخ سوزومين (375-450م) عن تدمير المعابد الوثنية، ومنها معبد عشتروت. وأخبر المؤرّخ اليوناني زوسيموس (ق5م) أن أفقا مكان في منتصف الطريق بين هيليوبوليس (بعلبك) وجبيل حيث أسّس معبد لأفروديت المحلّية. وأعاد الأمبراطور يوليانس الملقّب بالجاحد كنيسة العذراء في أفقا إلى أصلها الوثني سنة 363. ولمّا ارتقى أركاديوس العرش أمر سنة 399م بتقويض الهياكل الوثنية، فأعيد هيكل الزهرة (عشتروت) في أفقا إلى معبد مسيحي. (الزغبي، جورج، قرية أفقا ومعبد عشتار فيها، مقالة في 30/12/2021). وكان أباطرة الرومان يحجّون إلى معبد عشتروت ويخصّونه بعطفهم وحمايتهم ويحرّمون ما يحيطه من غابات. وحجّ إليه الأمبراطور أدريانوس، وماركوس كراسوس. (م. ن). وبلدة أدونيس في قضاء جبيل كانت على الأرجح إحدى المحطّات الفينيقية للقوافل المنتقلة من جبيل إلى أفقا. وذُكر أن النائحات على الإله أدونيس كن ينتقلن من محطّة إلى أخرى عندما يحين موعد انتقالهن إلى أفقا. والمعروف أنّه كانت تقام في معبد عشتروت مهرجانات سنوية للاحتفال بذكراه. وممّا لا شكّ فيه أن الرومان جعلوا من بلدة أدونيس طريقهم من الساحل اللبناني إلى بعلبك. والمنطقة الممتدّة على ضفاف نهر إبراهيم تكثر فيها الطرقات المرصوفة والتي تعود إلى العصر الروماني. (مرهج، عفيف بطرس، إعرف لبنان موسوعة المدن والقرى اللبنانية، بيروت، ط3، 1985، ج1، ص312-313). ومن البلدات/المحطّات على طريق جبيل أفقا نصل إليها من نهر إبراهيم، بير الهيت فعين الدلبة. (مرعب، نخله، بلاد جبيل في القرن العشرين، مفكّرون ومبدعون رسموا تاريخها 1900-2000، جبيل/لبنان، مركز بيبلوراما، ط1، 2000، ج2، ص49). وتضمّ مجموعة واسعة من الآثار وأبرزها بقايا معبد فينيقي بني عليه هيكل روماني في شير الميدان (كوع المشنقة) وهو قائم في موقع مهيب على مسار طريق الحجّ من مدينة بيبلوس إلى هيكل ومغارة أفقا، وتحيط به منحدرات مجرى نهر أدونيس. وعلى بعد نحو 100 متر شمال الهيكل تنتصب كنيسة سيدة الميدان. والطريق الفينيقية تمرّ من أسفل بلدة أدونيس على ضفاف نهر أدونيس صعوداً إلى بلدة مشّان وحتى كوع المشنقة. وجميع المواقع المحيطة بنهر أدونيس لا تزال تحفظ بتسمياتها الأثر والمآثر وتروي حكاية أدونيس والمسيرة نحو معبد أفقا تخليداً لذكراه.

[36] -صليبا، لويس، ثوّار من الجيش الأسود/رهبان لبنانيّون مشوا عكس السير سِيَر وآراء مخالفة في المسيحية والإسلام والمرأة والأديان وغيرها، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2023، ب2/ف1: لويس خليفة (1930-1997): ملامح سيرة راهب ثائر، ص150.

[37]

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *