مراجعة لكتاب فردريك معتوق “التنشئة على العصبية”/منتدى المعارف بيروت، بقلم لويس صليبا.
التنشئة على العصبية: بحث نوعي استكشافي سوسيو معرفي، تأليف فردريك معتوق وفادي دقناش، صدر مؤخّراً عن منتدى المعارف في بيروت في 190ص.
مقالة بقلم لويس صليبا، نشرت في مجلّة الأمن/بيروت، عدد نيسان 2023.
كتاب مميّز في طرحه وموضوعه وفي منهجية بحثه والإجابة على ما يعرض من إشكاليّات تهمّ كل إنسانٍ عربي. والسؤال الكبير المطروح: لماذا تبقى مجتمعاتنا العربية وإلى يومنا هذا بعيدة عن ركب الحداثة والتطوّر، وتقليدية في عقليّتها ومتخلّفة في تكنولوجيّاتها، ومجتمعات مستهلِكة، ومحدودة الإنتاجية. أسئلة بديهية وخطيرة في آن طُرحت منذ بداية عصر النهضة: لماذا تقدّم الغرب وبقينا على انحطاطنا وتخلّفنا؟! ويصوغ المؤلّفان هذه الإشكالية بالتعبير التالي (ص180): “جيلٌ اجتماعي واحد ممتدّ يتساءل مثقّفوه بشكلٍ ساذج: لماذا لا نتقدّم؟ ولماذا سوانا أفضل شأناً منّا؟ وذلك منذ قرونٍ عديدة، من دون الجرأة على ربط مسألة التغيير بطرائق التفكير، ونمط المعرفة المعتمد”. وبتعبير آخر ألا يرتبط تخلّفنا ارتباطاً وثيقاً بذهنيّاتنا وعقليّاتنا التقليدية المتشبّثة بكلّ موروثٍ دون تمييز بين مجدٍ وأقلّ جدوى وما لا جدوى منه وما هو عبء ومضرّ؟
وأهمّية الكتاب الذي بين أيدينا تكمن في أنّه وللإجابة عن هذا السؤال القديم المتجدّد يعمد إلى إجراء تحقيق حقلي سوسيولوجي آخذاً لبنان والمجتمع اللبناني نموذجاً ممثّلاً للمجتمعات العربية. وهو تحقيق غطّى مختلف المناطق وكلّ الأطياف اللبنانية.
وفي ذلك جاء في المقدّمة (ص9): “اعتمدنا التوجّه إلى الميدان وتركه يحكي لنا الحقيقة ويكشف لنا عن فهم الناس لسلوكهم وخياراتهم وتبريراتهم لكليهما”
أما موضوع البحث الأساسي فالتنشئة وتأثيرها الحاسم في الذهنيّات والمجتمع عموماً (ص8): “سنقوم في هذه الدراسة بتحليل نوعي وعمودي لظاهرة التنشئة الاجتماعية خاصّتنا، مع الإشارة مباشرة إلى أن منظورنا النظري أي إشكاليّتنا سيميّز بين التنشئة الاجتماعية بمفهومها الغربي، المبنية على خلفية معرفية عُظمى هي الحداثة، والتنشئة الاجتماعية بمفهومها العربي المبنية على خلفية معرفية عظمى هي التقليد. فعلى رغم تشابه التسميات نجد أنفسنا في الواقع المعاش والتطبيق الميداني أمام ظاهرتَين مختلفتَين في المنشأ كما في المرمى النهائي”.
ويطرح الباحثان في رؤيا الحداثة المرجوّة معادلة للعالِم السوسيولوجي الألماني كارل منهايم تقول (ص27): “إن شئتَ أن تُنجح مشروعاً جديداً، عليك في المقام الأوّل توفير جيل جديد يتولّى مهمّة تحقيقه، ذلك أنّه إن سلّمتَ تنفيذ مشروعٍ جديد لجيلٍ قديم، سيقوم هذا الأخير من حيث لا يدري بتعطيله لعدم استعداده المعرفي الضمني لإنجاحه”
معادلة واقعية وليتنا في لبنان نعي أبعادها وخطورتها، فلا زلنا ننتج الطبقة السياسية القديمة إيّاها راجين منها التغيير!! وفي أمثال الحكمة الهندية: “وحدها بذرة جديدة تعطي حصاداً جديداً”.
ويدرس الباحثان في تحقيقهما الظاهرة الدينية في لبنان فيصلان إلى نتائج بالغة الأهمّية من شأنها أن تسلّط أضواء جديدة على الشخصية اللبنانية الأساسية. ومنها (ص81): “المسألة الدينية كما هي معيشة في الإرشادات والتعاليم الدينية التي يقدّمها الزوجان في التربية البيتية لا ترتكز على فهمٍ نصّي للدين، بقدر ما تقوم على مفهومية شعبية عامّة لما يعتبره الأهل مطابقاً لسويّة الدين”.
ويبدو اللبناني في تديّنه اتّباعيّاً تقليديّاً وغير أصولي، بمعنى أنه لا يعود إلى الأصول والنصوص الأساسية، (ص92): “اللافت في المواقف والتصريحات الواردة في الأجوبة على أسئلة المقابلات أن ما من أحدٍ يستشهد بنصّ قرآني، أو بكلمة من الإنجيل. بل يذهب الجميع مباشرة إلى توصيف طرائق التعبير عن الانتماء الديني كما تعلّمها، وكما يكرّرها لأولاده”
وحتى الطلّاب الجامعيين المفترض أن يكونوا على ثقافة دينية تتخطّى تلك التي هي لآبائهم تبيّن بنتيجة التحقيق أنّهم كما أهلهم اتّباعيّون (ص91): “إن مظاهر التديّن لا تترافق عند الطلّاب الجامعيين في لبنان مع عودة إلى النصوص الواردة في الكتب المقدّسة، بل تكتفي باتّباع الطقوس والعبادات الشائعة”.
والدين في المعيش اللبناني انتماء حياتي ولعلّه طبقي كذلك، فمن نتائج التحقيق السيوسيولوجي (ص89): “الدين كما رآه دوركايم قد شكّل أوّل فلسفة وأوّل علم. أمّا في لبنان اليوم، كما أظهرته المقابلات، فإن الدين لا فلسفة ولا علم، ولا خرافة، بل هو انتماء حياتيّ كلّي. والانتماء الحياتي الكلّي يعني أن كلّ شيء يمرّ بالضرورة عبر فلاتر الدين قبل أن يتجلّى في الأعمال والمواقف. من هنا فإن معايشة المسألة الدينية على هذا النحو اللصيق، ومعها المسألة المذهبية، تجعل من سلوكه سلوكاً يخلو من التساؤلات الداخلية الرامية إلى الاستيضاح أو الاستفسار أو المساءلة”.
واضح أن الدين في ممارسة اللبناني هو بالأحرى انتماء خارجي إلى جماعة، أكثر ممّا هو عيش داخلي ووجداني لإيمان. ما يذكرّ بعض الشيء بمقولة الطائفة/الطبقة التي أطلقها عالم الاجتماع كلود دوبار في كتابه “الطبقات الاجتماعية في لبنان” 1976. فالدين هو الذي يحدّد “النحن” و”الهم”. ويلحظ المؤلّفان غياب التفكّر في أمور الدين والتأمّل بها لمصلحة الأفكار الدينية الستاندر (ص90): “فالدين موجود في الهويّة والسلوك، وهو جزء من شخصية الأفراد، ولا حاجة أن يكون الأمر واعياً عند كلّ حركة أو قرار. والميزة الكبرى هنا هي أن التفكير الديني مغيّب لمصلحة الفكر الديني. فالكلّ يُفضّل اللجوء إلى الطقوس والعبادات وما هو منقول من التراث الشفهي الديني من أخلاقيّات عامّة. وتطغى الممارسات الجاهزة، والمنقولة، والمكرّسة”.
وهذه المعرفة “السطحية” والمحدودة في المجال الديني لا بدّ من أن تولّد محدوديّة وتعصّباً يعاني منها المجتمع ككلّ. والمثل الإنكليزي يقول: قليل من المعرفة أمرٌ خطير للغاية”. وبشأن آفة التعصّب يلحظ الباحثان بنتيجة تحقيقهما الحقلي (ص92): “الكلّ يجاهر أنّه غير متعصّب نافياً عن نفسه تهمة العصبية الأمر الذي يعني أنّه مدرك لمضارّ وسلبية هذه الظاهرة. إلا أنّه يضيف لنفيه تأكيد ويأتي هذا التأكيد على متن كلمة “لكن”: أنا إنسان غير متعصّب، لكن مذهبنا هو المذهب الصحيح الأوحد” أو أيضاً من يمشي على مذهبنا يدخل الجنّة، ومن لا يمشي عليه فلن يدخلها”
في هذه ال “ولكن” تكمن المشكلة كلّ المشكلة. “لكن” هذه هي علّة العلل. الجميع يرى في التعصّب آفة الآفات وسبب الشقاق والصراعات، ومع ذلك فالغالبية أو أقلّه الأكثرية غارقة في هذا التعصّب حتى أخمص الأذنَين ودون أن تعي أحياناً. فهذه ال”لكن” حكمٌ مبرمٌ على الآخر، بل هي تكفير ضمني له. وما أوّله تكفير آخره تفجير كما سبق وقلنا مراراً. وهذه الموقف التشاوفي المتغطرس الكامن باحتكار الحقيقة والخلاص مولّد دائمٌ للنزاعات. وخير دواء لمكافحة هذا الداء علوم الأديان التي تعرف تطوّراً وانتشاراً في كل الدول الغربية والحديثة، وهي تنطلق من نظرة محايدة ومقاربة موضوعية تقف على مسافة واحدة من مختلف الأديان والمذاهب وتدرسها كظاهرة إنسانية. ولا بدّ من تدريس هذه العلوم في لبنان فهي دواء ناجعٌ للتعصّب المقيت.
ويدرس الكتاب مواضيع أخرى كالعائلة والمدرسة والمجتمع والقيَم ويناقش نتائج ما توصّلت إليه تحقيقات المؤلّفين الحقلية في هذا المجال.
ومن خلاصات البحث (ص179): “ما نلاحظه لدى المجتمعات التي تقدّمت هو أن لها أجيالاً متعاقبة لا يشبه بعضها بعضاً، بل إن كلّ جيلٍ من هذه الأجيال يقوم بتنمية نفسه معرفيّاً بخبرات وطرائق تفكير جديدة. (…) أما عندنا فالمسألة مختلفة حيث يعلم الجميع، ولكن من دون أن يعترفوا بالحقيقة أن جيلاً معرفيّاً واحداً يمتدّ من الماضي إلى الحاضر. وكأنّي بنا مجتمعات من جيلٍ موروث واحد تعتمد على معرفة واحدة، وطرائق تفكير وتخطيط واحدة”
وكما بدأ البحث بمعادلة للعالِم الألماني منهايم، فهو يختم بمعادلة أخرى له (ص181): “من أجل ديمومة مجتمعنا نحتاج إلى الذاكرة الاجتماعية، بقدر حاجتنا إلى النسيان والعمل التجديدي”
تذكّرنا هذه المعادلة بحكاية أبي نوّاس عندما أراد أن يتعلّم الشعر فطلب منه أستاذه أن يحفظ ألف قصيدة، وبعد أن حفظها بمشقّة طلب منه أن ينساها ويبدأ بقرض الشعر. فكان شاعراً تجديديّاً فطحلاً. وهكذا التراث علينا أن نحسن التمييز بين ما لا يزال نافعاً منه وبين ما انقضى بانقضاء زمانه. أجل علينا أن نحسن النسيان كما نتقن الحفظ. وإلا بقينا نعيش في الماضي ونراوح مكاننا وسط مجتمعاتٍ تلهث راكضة إلى الأمام.
والخلاصة فهو كتاب يضع الإصبع على الجرح، فعساه تكون في تحقيقاته الحقلية الرصينة ونتائجها وتحليلها عبرة لمن يعتبر.