مراجعة لكتاب ندى فيّاض “الدولة المدنية: تجربة فؤاد شهاب في لبنان”/منتدى المعارف-بيروت بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد شباط 2023
“الدولة المدنية: تجربة فؤاد شهاب في لبنان” تأليف ندى حسن فيّاض، صدر عن منتدى المعارف في بيروت في 304ص.
الكتاب في الأصل أطروحة جامعية تدرس التجربة الشهابية وبالأخصّ من زاوية بناء الدولة المدنية ومدى نجاحها في ذلك.
قدّم للكتاب بسّام ضو مدير المنظّمة العربية للترجمة. فاعتبر أن ما أُعلن في أيلول 1920 هو قيام سلطة وليس تأسيس دولة. وأضاف (ص17): “إن عاقلاً واحداً لا يجروء على الجزم بأن ما أعلن سنة 1920 كان دولة (…) ولو كانت الدولة عندنا قائمة واقعيّاً لكان لبنان الذي عرفناه غير لبنان الذي عشناه حروباً صغيرة وكبيرة”.
وتابع مؤكّداً أن عهد الرئيس شهاب (ص22): “هو المحاولة الأولى الجادّة واليتيمة من داخل السلطة لبناء دولة مدنية حديثة. (…) فقبله لم يبادر أحدٌ من الرؤساء، وبعده لم يبادر أحد إلى صياغة مشروع لبناء دولة”.
ليخلص في هذا الصدد إلى أنّ (ص22): “ما جاء به اتّفاق الطائف من حديث عن بناء المؤسّسات والإنماء المتوازن لم يتجاوز ما كان رسمه الرئيس فؤاد شهاب”
وتقارن المؤلّفة من ناحيتها بين عملَي جنرالَين هما أبرز إنجازَين تأسيسيَّين في تاريخ لبنان المعاصر. الجنرال غورو الذي أعلن لبنان الكبير 1/9/1920 وضمّ إلى متصرّفية جبل لبنان الأقضية الأربعة ومدناً كبرى كطرابلس وبيروت وصيدا، والجنرال شهاب الذي نقل هذه المناطق من مرحلة الضمّ إلى مرحلة الدمج. تقول (ص31): “وضعت إدارة الرئيس شهاب هدفاً معلناً على رأس برنامجها السياسي والاجتماعي، يتمثّل في تنمية المناطق اللبنانية المتخلّفة، وإعادة صوغ الوحدة الوطنية، أي الانتقال بالمناطق اللبنانية التي ضمّها إعلان غورو ضمن “دولة لبنان الكبير” من مرحلة الضمّ إلى مرحلة الدمج”.
وهذا الهدف الذي وضعه الجنرال الثاني نصب عينَيه تُعيد الباحثة التركيز عليه استناداً إلى عددٍ من المصادر التي درست الحكم الشهابي (ص270): “ظنّ الرئيس شهاب أن عملية إعادة صوغ الوحدة الوطنية، أي إرساء بناء الدولة، يتمّ بالانتقال بالمناطق اللبنانية، التي ضمّها إعلان غورو في دولة لبنان الكبير، من مرحلة الضمّ إلى مرحلة الدمج، كي لا تبقى الأمّة مؤلّفة من مواطنين يدورون في أفلاك، لا تلتقي إلا حين تصطدم، فسعى الرئيس أن يخلقَ مداراً واحداً للأهداف والطموحات الشعبية”
ومن هنا لم يكن فؤاد شهاب مجرّد رئيس كسائر من تولّوا حكم لبنان الكبير، بل هو مؤسّس (ص142): “يُعتبر عهد الرئيس فؤاد شهاب عهداً تأسيسيّاً، لأنّه يعطي للحكم وللحكومة مهمّة الإنماء في الدرجة الأولى”.
إنماء دأب الرئيس الجنرال على أن يغطّي كل المناطق والبلدات ولا سيما النائية منها والأطراف، مردّداً شعاراً يختصر سياسته هذه (ص141): “كلّ قرية يجب أن يكون لديها طريق، وكلّ قرية يجب أن يكون فيها مدرسة ابتدائية، وهاتف، ومياه، وكهرباء. هذا هو الأساس، ومن هنا ننطلق”.
وكان شهاب يعي أهمّية، بل خطورة، هذا العمل التأسيسي الذي نذر نفسه له، فسمّاه بناء دولة الاستقلال، ونسَبَه بالحري إلى الشعب مطلِقاً مقولته الشهيرة (ص72): “فبعد أن صنع الشعب اللبناني استقلال الدولة، ها هو اليوم يصنع دولة الاستقلال”.
والباني الحقيقي كان بالأحرى الحاكم الشهابي، بيد أن هذه “الثورة من فوق” كانت في الوقت عينه نقطة قوّة عهد الرئيس الجنرال ونقطة ضعفه (ص84): “إن نقطة الضعف الرئيسية في التجربة الشهابية، أنها كانت محاولة فوقية غير مرتكزة على إطار سياسي شعبي منظّم. فتقلّصت وانتهى دورها بانتهاء عهده”.
وميزة الثورة الشهابية أنّها كانت سلمية تبني المؤسّسات ولا تهدم (ص246): “فبدلاً من ثورة عنيفة للمؤسّسات السياسية اللبنانية فضّل الرئيس شهاب الإتيان بثورة على مهل قادرة على معالجة الحساسيّات الطائفية، فالثورة ليست بالضرورة حمراء، بل هي أوّلاً وأصلاً انقلاب في المفاهيم”.
ويتكرّر مفهوم شهاب الخاصّ هذا مراراً (ص36): “آمن فؤاد شهاب بالتطوّر Evolution وكان بعيداً كل البعد عن مفاهيم الثورة .Revolution وكان ديموقراطيّاً في تفكيره ونهجه، فلو كان ثوريّاً لما كان استطاع تحقيق تغيير في البنية الاجتماعية اللبنانية بالوسائل السلمية التي انتهجها”.
وأيضاً (ص290): “ظهر هذا الإيمان بالتطوّر جليّاً من خلال مراهنة الرئيس على عامل الزمن للحصول على التطوّر، ورفضه قطعاً مفاهيم ثورية لفرض إسقاطات فوقية على المجتمع اللبناني لا يستطيع هضمها”.
وهنا تحديداً تعيد الباحثة طرح مسألة زهد شهاب بالحكم: “فهل نسي أن ستة أعوام غير كافية لتحقيق ذلك، أم أنّه راهن على الخلَف لإتمامها”.
ومتى كان الحكم استمراريّة في لبنان؟! نقرأ (ص138): “إن الظروف السياسية التي رافقت عهد الرئيس شارل حلو جعلته ينقلب على الشهابية ويشجّع قيام الحلف الثلاثي ضدّها”.
وتدرس الباحثة بإمعان وتأنٍ مفهوم حياد لبنان كما بلوَره الأمير الرئيس وفلسفه وطبّقه خلال عهده. فهو وإن كان قد هادن السياسة الناصريّة وساير سيّدها في ذروة امتداد تيّاره في مختلف الدول العربية وحماس الجماهير له، فإنّه لم يرضَ بتاتاً بأيّة تبعيّة له، أو بأن يكون تحت جناح الزعيم المصري الصاعد. وفي ذلك، وبشأن الاجتماع الثنائي الذي ضمّ الرئيسين في خيمة على الحدود اللبنانية-السورية 1959، تروي فيّاض عن الحدث البالغ الدلالة التالي (ص67): “درس شهاب عادات عبدالناصر قبل لقائه، وعلم أن الزعيم المصري اعتاد على وضع يده على كتف زائره في حركة منه تعني أن الزائر هو تحت جناحَيه. فبادره الجنرال فور دخوله الخيمة بوضع يده على كتف عبدالناصر مستبقاً إيّاه في إشارة واضحة إلى أنّه لن يكون تحت جناحَي أحد”.
وتخلُص في مسألة العلاقات بين الرئيسَين إلى القول (ص276): “أراد الرئيس شهاب في لبنان اجتذاب الناصرية إلى شهابيّته هو، لا انقياد الشهابية إلى الزعيم المصري”.
أمّا مفهوم “الحياد الإيجابي” الذي أرساه الجنرال شهاب وطبّقه فيتمثّل على الصعيد الدولي (ص273) في: “الامتناع عن الاشتراك في أي حلف، أو معسكر، أو معاهدة تستهدف تأزيم علاقات الدول ببعضها البعض، وتاليها نقل حربها عبر سفرائها إلى داخل لبنان”. وقد عبّر شهاب عن سياسته في الحياد الإيجابي في إحدى خطبه قائلاً (ص279): “إنّه في المجال الدولي يؤدّي لبنان قسطه الواجب في العمل على سيادة مبادئ العدل والحقّ والحرّية، وارتفاع راية السلام، في عالم وضعه التقدّم العلمي الجبّار على مفترق طريقَين: طريق للدمار، وطريق لتحقيق أزهى الأحلام الإنسانية”.
وهكذا فإن (ص280): “الانفتاح على الشرق وعلى الدول الكبرى في الغرب، ميّز السياسة الخارجية الشهابية التي لم تقاطع الاتّحاد السوفياتي، معتبرة الدول الاشتراكية دولاً صديقة”.
بيد أن الجنرال شهاب لم يكن محايداً في المسائل والقضايا الكبرى التي واجهها العالم العربي كقضيّتَي فلسطين والجزائر (ص279): “خلال الإشكالات التي رافقت القضية الجزائرية 1962 رفض شهاب طلباً من بيار الجميّل بالحياد اللبناني حول هذا الموضوع، معتبراً أن موضوع الخلاف ليس عربيّاً عربيّاً، لذا على لبنان الالتزام بمقرّرات وتوجّهات الجامعة العربية”.
وضمن رؤيا الحياد الإيجابي هذه تُدرج الباحثة ميزة اختصّ بها عهد فؤاد شهاب دون سائر العهود. فهو الرئيس اللبناني الوحيد الذي امتنع عن القيام بأيّة زيارة إلى خارج لبنان طيلة عهده (ص279): “لم يقُم الرئيس شهاب، بهاجس الحياد، بأي زيارة للخارج خلال فترة حكمه، وكان يتحجّج دائماً بضيق الوقت، ولكن الهدف كان عدم تعريض الداخل اللبناني لأيّة هزّات محتملة”.
والخلاصة فهي دراسة أكاديمية رصينة وموثّقة وعلمية حافلة بالتحاليل والأرقام والجداول وهي تُكثر منها عن سابق تصوّر وتصميم. وموقفها من التجربة التي تتبسّط في عرضها وتحليلها يبقى مثاراً للتأمّل. فهي وإن كانت عميقة القناعة بجدوى التجربة الشهابية وميّزاتها وبتأثيراتها الإيجابية الحاسمة على الوضع اللبناني، إلا أنّها تبقى “مقتصدة وحذرة” في كيل المدائح، تجنّباً ربما لأحكامٍ قيَمية قد تُلام عليها في عمل أكاديمي. علماً أنّها لم تقصّر في إبراز الجوانب الإيجابية والقويّة في السياسة الإنمائية الشهابية وما كان لها من مردودات حاسمة داخليّاً وخارجيّاً.
وهي بكلمة توجز وتكثّف ما أسلفنا قد نجحت في أن تسلّط أضواءً جديدة كاشفة على حقبة مشرقة من تاريخنا يجدر بنا أن نستخلص منها الدروس والعبَر لحاضرنا المأزوم.