بيار شديد/مسيرة رسّام ونحّات مبدع من لبنان/بقلم أ. د. لويس صليبا
بيار الخوري سمعان شديد: رسّامٌ ونحّاتٌ من لبنان طَرَق أبواب العالميّة بإبداعاته الفنّية.
بيار شديد بريشة بيار شديد
وبيار شديد الذي أولع ردحاً طويلاً من الزمن بالدائرة، وبما أسماه الحقيقة الدائرية للكون، وعبّر عنها مراراً وتكراراً في لوحاته، رسم بالحري دائرة حياته انطلاقاً من نقطة الوصول في بلدة عمشيت/قضاء جبيل في 4 نيسان 1955، وختاماً بنقطة الرحيل في جبيل في 22 تشرين الأوّل 2022. وبين هاتين النقطتَين الأولى والأخيرة كانت لبيار مسيرة حافلة في دنيا الرسم والنحت وفي والإبداع عموماً
وانطلاقة بيار في عالم الفنّ كانت مبكرة. تعرّف إلى الفنّان سمعان سمعان، فكان يمشي من بيته في عمشيت إلى مَرْسَم سمعان في جبيل ويبقى مسمّراً على شبّاكه لساعات ينظر إليه وهو يرسم، ويتأمّل في لوحاته. وعندما بلغ بيار التاسعة من العمر قرّر أن يخوض التجربة بنفسه، فأحضر قطعة قديمة من القماش، ورسم عليها بمزيج من الألوان التي توفّرت له في المنزل مستعيناً بفرشاة صَنَعها من شعر شقيقته سهام، ومن هنا كانت نقطة بدايته مع عالم الألوان.
عندما أنهى دراسته الثانويّة تردّد بيار بين التخصّص في هندسة الديكور أو الفنون التشكيلية، ثم توجّه نحو الديكور 1972-1975. بيد أن الحرب اللبنانية حالت دون متابعة دراسته هذه. فسافر إلى باريس للتخصّص في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، وأمضى ثلاث سنوات في الدراسة وعمل في محترف الفنّان الفرنسي ماراندر، كما عمل رسّام كاريكاتور في الجريدة الفرنسية La Vérité خلال فترة دراسته، وكان كذلك يرسم في ساحة مون مارتر الشهيرة. وتابع تجاربه الفنّية في ألمانيا الغربية عند الرسّام الألماني كونار كلمان 1983-1985.
عاد بيار إلى لبنان سنة 1978، واستأنف مسيرته الفنّية في وطنه. ونظّم عدداً من المعارض فيه. وقام بجولة في أوروبا فعرض في هانو في ألمانيا، وفي باريس ثم في إسبانيا. وسافر سنة 1983 إلى أبو ظبي حيث عرض لوحاته.
تنقّل بيار في مسيرته الفنّية الطويلة من مدرسة إلى أخرى حتى كوّن لنفسه مدرسة خاصّة ومميّزة. وموهبته التي ظهرت منذ الصغر قادته من ضيعته الصغيرة شامات إلى عواصم الفنّ الكبرى: باريس وروما ومدن في إسبانيا وألمانيا وغيرها. درس في الأولى، وعرض في الثانية. طرق أبواب العالمية فانفتحت بوّاباتها الموصَدة بوجه لوحاته المبدعة: معارض وغاليريات كبرى تستضيف أعماله.
وهو كلاسيكيّ في نشأته الفنّية. ولكنه بالمقابل لم يترك مدرسة أخرى كالسريالية والانطباعية والتكعيبية والفنّ المقدّس وغيرها، إلا وانخرط في تجربتها. وبقي فيها كلّها لا يشبه إلا نفسه، ذلك أنه أضاف إلى عالم الفنّ أربعة تيّارات خاصّة به وهي الفنّ الغرافيكي، والحركة الدائرية، والتيّار العمودي الأفقي، والدمج بين التجريد والكلاسيك.
وأبرز معارض بيار شديد الأخرى هي التالية:
1-معرض فردي في مونبارناس/باريس 1978
2-معرض في غاليري كرافت في قبرص 1983
3-معرض في هانو/ألمانيا، 1983.
4-معرض في الشارقة أوتيل ميرديان، 1990.
5-معرض فردي في Coin d’artفي أنطلياس. سنة 1996.
6-معرض عالمي نظّمه الفاتيكان، 2001.
7-معرض في مدينة كانّ الفرنسية، 2013.
نال بيار شديد جوائز محلّية وعربية وعالمية عديدة منها: 1-الجائزة الأولى في المعرض السادس للاتّحاد الثقافي في أبو ظبي للعام 1990. 2-درع الإمارات العربية للفنّانين التشكيليين 1990. 3-الميدالية الذهبية في المهرجان الدولي في زحلة/لبنان، 2000. 4-جائزة سعيد عقل 2001. 5-شهادة تقدير من الفاتيكان على تحفته الفنّية “القدّيسة رفقا” مع هدية خاصّة من البابا يوحنا بولس الثاني. وعشرات الجوائز الأوروبية والعربية، وله ثلاثة أعمال في متاحف إيطاليا، ومئات اللوحات الموزّعة في جميع أنحاء العالم.
وكان بيار محبّاً للفنّ بمختلف أشكاله وأنماطه ولا سيما الموسيقى والغناء: يعزف الغيتار والهارمونيكا، وكانت والدته بهية الخوري مطربة اشتهرت بلقب شحرورة الأرز، لكنها اعتزلت الفنّ إثر زواجها سنة1949، وقد ورث بيار عنها الصوتَ الجميل.
ومن الناحية الشخصية والعائلية تزوّج بيار في 15 تموز 1989 من ماغي عبدو صفير وأنجبا ولدَين: دانا، مُجازة في الحقوق. وسيمون مهندس معماري، وموسيقيّ.
وعام 2008 أصيب بيار بجلطة في الدماغ سبّبت له شللاً نصفياً بيد أنّه استعاد قواه تدريجيّاً ليستأنف، إثر تعافيه بعد نحو ستّة أشهر، مسيرته الفنّية.
وعلّم بيار الرسم في مدارس ومعاهد جامعيّة وفي محترفات للرسم نُظّمت في جبيل وعمشيت وغيرها.
مرّ بيار شديد في مسيرته الفنّية بمراحل عديدة، أبرزها التالي:
1-المرحلة الكلاسيكية: وهي مرحلة البدايات، تأثّر فيها بكبار الفنّانين أمثال مايكل أنجلو ودافنشي ورفايال ولاكروا وغيرهم. فبدأ يرسم كلَّ ما حوله من أشكال ووجوه ومناظر طبيعية. ونقل الرسومات المعروفة بإتقان. ويوم طرح أستاذه الفرنسي عليه إشكالية أساسية صاغها بالسؤال التالي: ماذا تريد أنت أن تضيف على ما قاله سابقوك تشكيليّاً؟! كان هذا السؤال نقطة التحوّل في مسيرته الفنّية، فبدأت المرحلة التالية.
نابوليون بريشة بيار شديد
مينا جبيل بريشة بيار شديد
2-مرحلة الغرافيسم (1975-1978). وهو يعتمد على الخطوط الدائرية ويرسم الشكل أي النموذج بطريقة عفوية جدّاً فلا يعتمد على منطق الأشياء كما هو في المألوف، بل على الانفعال المباشر من دون إلغاء أي خطّ، حتى لو كان متفلّتاً من الشكل، ثم يتمّ التلوين. ثم تطوّرت هذه الطريقة من الغرافيك إلى الحركة الدائرية.
3-المرحلة الدائرية (1978-1989)
نقطة البداية لهذه المرحلة كانت سؤالاً طرحه بيار على نفسه: هل إن ما نراه حولنا من أشكال وأجسام هو الحقيقة بعينها أم أن حواسنا مركّبة بطريقة ترينا الأشياء كما نراها؟ وإلا لماذا نرى عبر المجهر ما لا نراه بالعين المجرّدة. وعندها أصبح بيار لا يرى في عمق الأجسام وفي الطبيعة وأشكال الكواكب والنجوم والمجرّات وحتى الذرّات إلا حقيقة واحدة وهي دائرية الشكل.
وقد تساءل هذا الفنّان المرهف بعد هذه التجربة الطويلة التي أرهقته لِمَ خُلِقنا على هذه المحدودية، وتوصّل عبر لوحاته إلى القول إن هذه المحدودية هي جزء لا يتجزّأ من الحقيقة الكبرى لأنّها ليست وليدة إرادة الإنسان بل صنيعة الخالق، وأن الطبيعة بشكلها وألوانها وإنسانها وحيوانها هي الأقرب إلى الحواس من أيّ بعدٍ آخر فيها. ومن هنا كان قوله لا بدّ من الرجوع إلى الطبيعة، ولكن رجوعه إليها لم يكن بالطريقة المعهودة لدى العامّة بل اختزال لكلِّ عناصرها، وعندها بدأت مرحلة جديدة في حياته الفنّية أطلق عليها تسميته المعروفة: العمودية والأفقية.
عازف العود لوحة من المرحلة الدائرية
4-المرحلة العمودية والأفقية (1989-2022). ومضمونها اختصار للطبيعة بإيقاعاتٍ وألوان على مساحة أفقية بشكلٍ مجرّد يتناقض تارة لونيّاً، ويتناغم طوراً بضربات لونية مشحونة ومكثّفة تعبّر عن مادّة الطبيعة المحسوسة بسماكة اللون. أمّا الخط أو المساحة العمودية فتمثّل الانعتاق والحالة الروحية التي تسمو وتعلو نحو خالقها، فتتلاشى فيها المادّة لتصبح شفّافة رقراقة نورانية.
5-المرحلة التفسيرية، أو الجمع بين الكلاسيكية والتجريد
في فنّه التجريدي كان رهان بيار شديد الكبير أن يجمع بين الكلاسيكية والتجريد. هل كانت مجرّد محاولةٍ منه لجمع الصيف والشتاء على سطحٍ واحدٍ قام بها هذا المبدع الجبيلي؟! يقول بيار في ردّه على المشكّكين بجدوى محاولته هذه: وقد نجحتُ في جمعهما. بل حتى ومن قال إن الصيف والشتاء لا يجتمعان وقد تمطر أحياناً في تمّوز وآب!؟ فما من عجب، فكلّما سما الإنسان بفكره وتعالى وجد الأضداد تتلاقى وتتلاشى. وقد توقّف عددٌ من النقّاد الفنيين في لبنان والخارج عند هذه الظاهرة المميّزة في تجربته الفنّية، وممّا قاله ناقد مصري في هذا الصدد: “ربما استطاع شديد عبر تلك الازدواجية التشكيلية أن يخلق عالماً لا يدرك غيره مفاتيح منظومته السحرية وجماليّته الإبداعية”.
6-البورتريه أو رسم الوجوه
وإبداعات بيار شديد في البورتريه عديدة وطالما قصده المشاهير للإفادة من موهبته المميّزة وتمرّسه في هذا المجال. ويقول عن ميّزات فنّه هذا: الهدف ليس رسم الخطوط في البورتريه أو الوجوه أو الجسد، بقدر ما هو إظهار وجدان الباطن للشخص الذي يُكسِب اللوحة روحاً تستمرّ بها عبر الزمن”.
ومن الوجوه التي رسمها بيار: الرئيس الياس الهراوي، الأباتي بولس نعمان، الشاعر أنيس الفغالي، د. جورج زكي الحاج، د. نبيل خليفة، السيدة ميّ الخليل، الممثلة ناديا لطفي، ملكة جمال إسبانيا Anna Maria Iniesta وغيرهم.
مي الخليل بريشة بيار شديد
7-الفن المقدّس Art Sacré
ومن نجاحات بيار شديد الكبرى في الرسم لوحاته في الفنّ المقدّس Art Sacré. وأشهرها الأيقونة التي رسمها بين عامي 2000 و2001 للقديسة رفقا. وقد اختيرت من بين عشرات غيرها لتكون أيقونة إعلان قداستها. وعنها قال سعيد عقل: “نظرتُ إلى هذه اللوحة، فأحسَسْتُ أنّني أريدُ أن أصلّي”.
ومن لوحاته الأخرى في هذا المجال وتعدّ بالمئات: أكويلينا الشهيدة الجبيلية، والقدّيسة ألفونسينا مؤسّسة راهبات الوردية، وسيدة إيليج، وجه القدّيس يوحنا الإنجيلي لوحة شارك بها في معرض عالمي نظّمه الفاتيكان بعنوان الإنجيليّون الأربعة، وهي اليوم معروضة في متحف تُورّينياري في إيطاليا.
وبيار شديد مسيحاني الهوى والتجربة في فنّه المقدّس، وفي سيرته كذلك. رسم العديد من الأيقونات للمسيح كانت بمجملها نتاج تفتيشه الدائم عن حقيقة الوجود التي رأى في شخصية يسوع ووجهه تعبيراً عنها.
8-منحوتات بيار شديد
وإلى جانب الرسم كان بيار شديد نحّاتاً محترفاً وبارعاً. ومن منحوتاته نُصُب الجندي الشهيد في ساحة ساسين/الأشرفية بيروت حيث استُشهد العميد فرنسوا الحاج. وتمثال الشاعر ميشال سليمان على مدخل البترون. وتماثيل عائلة القدّيس نعمة الله الحرديني في حردين، وغيرها.
نصب تذكاري لبيار شديد حيث استشهد العميد فرنسوا الحاج
خاتمة المسار
والحقبة الأخيرة من حياة بيار شديد كانت حافلة. نظّم معرضاً خاصّاً له في غاليري Exode في الأشرفية استمرّ من 11 إلى 18 تشرين الأوّل 2022، أي قبل نحو شهر من رحيله.
ومسك الختام في هذه المسيرة الفنّية الحاشدة كان بآخر لوحة رسمها: مسيح الرحمة الإلهية، أنجز معظمها وبقي بعض اللمسات الأخيرة والتوقيع.
وكأن هذه الرحمة الإلهية أبَتْ إلا أن تشمله بعنايتها وعطفها فحلّت محلّه في مهمّة التوقيع.
ويبقى في الختام أن بيار شديد وضع أسسَ لغةٍ فنّية جديدة خاطب بها ذاتَه أوّلاً لأنّ اللوحة، كما قال وردّد، هي النافذة التي توصلني إلى أعماق الذات. وخاطب تالياً إنسان اليوم القَلِق على مصيره.
وأيّاً يكن حكم الجمهور والنقّاد على تجربته الفنّية الغنيّة، يصعب على المرء أن ينكر أنّه نجح بأن يضفي على نتاجه، وفي مختلف مراحله، مسحةً مميّزة من جمال وإبداع ترجمت انطباعاته بصدق وعشقه للفنّ وسعيه لتطوير ذاته، وعبّرت عن بحثه الدؤوب عن سرّ وجوده والوجود.