قراءة في كتاب عبد الإله بلقزيز “من الإصلاح إلى النهضة“/مركز دراسات الوحدة العربية، بقلم لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد كانون الأوّل 2021
“من الإصلاح إلى النهضة” تأليف البروفسور عبد الإله بلقزيز، صدر في ط2 عن مركز دراسات الوحدة العربية في 222ص.
واضح أن المؤلّف يقف إلى جانب الحداثة، وإن كان لا يعلن ذلك بنبرة حماسية مغالية، وهو بالمقابل لا يريد أن يقطع مع التراث. ويعلن في مقدّمته أن المشكلة لا تكمن في الحداثة بل في مناوئيها (ص10): “إن أكبر خطرٍ يتهدّد “ذاتيّتنا الحضاريّة” وأصالتنا ليس الحداثة، وإنّما المزيد من التشرنق على الذات والانكفاء إلى فكرة الأصالة: ولقد أشبعتنا الفكرة الأصالية حديثاً أيديولوجيّاً دسماً في مباهاة العالم بأمجادنا في الماضي، من دون أن تصنع مجداً في الحاضر”.
ويبقى بلقزيز متفائلاً في نظرته، رغم ما يكتنف حاضرنا من لُبس، فمصير الحداثة لا بدّ أن يكون الظفر (ص11): “الحداثة ما انقرضت في ثقافتنا، وإن أصابها الضمور والهزال. والذين يعيدون الاعتبار إلى تراثها من موقع نظرٍ نقدي ما راهنوا يوماً على الفكرة الأصالية في الثقافة والفكر كي يعودوا اليوم عن هذا الرهان إلى غيره”.
ولا يفوت المؤلّف أن يحذّر ويدعو إلى التمييز بين تيّار حداثيّ حقيقيّ والتقليد الأعمى للغرب أو ما يسمّيه التغربن (ص38): “لكن الفارق عظيمٌ بين الحداثة وبين التقليد الرثّ للغرب (التغربن). الحداثة إبداعٌ واقتحامٌ يجدّف ببطولةٍ ضدّ التيّار كي يؤسّس للنفس مكاناً. أما التغربن فيرادف التبعية الفكرية والكسل المعرفي، والتعيّش من إبداع الآخرين، وتحويل المعرفة من إنتاجٍ إلى ترجمة وترداد مملّ لما قاله الآخرون”.
ويرى بلقزيز أن أبرز تجلّيات الحداثة العربية كمنت خاصّة في مجالات الإبداع الفنّي والأدبي، وهو لا يغفل هنا مساهمة اللبنانيين الأساسية (ص66): “طرقت الحداثة أبوابنا من مدخلٍ أدبي وفنّي. يشهد على ذلك مسرح توفيق الحكيم، وروايات نجيب محفوظ، وشعر نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب، وموسيقى الأخوَين رحباني، وسينما يوسف شاهين”.
بيد أن ذلك لا يعني بالنسبة إليه أن الحداثة العربية انحصرت في هذا الجانب، بل: “إن الحداثة أنتجت معها جمهورها العريض الذي انتصر لها وتوّجها مرجعاً وسلطة، وأخرجها إلى جماهيرية تحتاج في العادة ردحاً من الزمن”.
ولا يفوت بلقزيز أن ينوّه بالتيّار العلماني ودوره الحاسم في إخراج الحداثة إلى النور، فهذا التيّار هو الحداثة عينها، واللافت هنا أن معظم روّاده من اللبنانيين، يقول (ص82): “مع الشدياق والشميّل وأديب إسحق وفرح أنطون ستخرج مقالة علمانية عربية إلى الوجود خروجها، وهو عينه ميلاد الخطاب الحداثي العربي، عن سمة ميّزت ولادة ذلك الخطاب هي الاندفاعة التي تجترئ على نقد كلّ شيء بدا لها قرينة على الانحطاط بما في ذلك الدين”.
ويتوقّف الكاتب عند نموذج لبناني في الحداثة، عارضاً ومحلّلاً ومقيّماً تجربته الرائدة والمميّزة (ص12): “لم أجد أفضل من أحمد فارس الشدياق تمثيلاً لمسألة إشكالية الآخر في الثقافة العربية، وتعبيراً عن تلك الجدليّات في وعي الصلة بين الأنا والآخر”. وميزة الشدياق أنّه (ص109): “كان في وسعه أن يبشّر بأوروبا ومدنيّتها وفكره، وأن ينتقدها في الوقت عينه”.
ويمضي بلقزيز محلّلاً تجربة الشدياق الغنيّة والعميقة الدلالة، فيقارنه بسائر الحداثيين من اللاحقين، فيبدو له أنه تميّز عنهم (ص118): “لكن الفارق بينه وبين مثقّفي الليبرالية العربية اللاحقين أنه سلّط لسانه النقدي على مجتمعات الغرب في عزّ انحيازه إلى مشروع الحداثة، وفي عنفوان النطق باسمه ثقافيّاً. أما غيره من الناقدين فما دخلوا ساحة نقد الغرب ومنظوماته إلا بعد أن انفصلوا عن مشروع الحداثة”.
وينوّه الباحث بحياد الشدياق ورزانته في التنويه بميّزات الغرب وفي نقده كذلك (ص124): “كان أكثر النهضويين العرب التزاماً بالموضوعيّة وتحلّياً بالنزاهة (…) وبهذا المعنى يرتفع تدوين الشدياق إلى مستوى الوثيقة التاريخية”.
ونلحظ أن بلقزيز في دراسته نماذج الحداثيين ولا سيما الشدياق يهمل العودة إلى من سبقه إلى ذلك كمصنّف مارون عبّود في الشدياق وغيره.
ويبقى أن كتاب بلقزيز هذا رزين وحسن التوثيق ولا تفوته الأحكام المنصفة.