مطالعة لكتاب عبدالإله بلقزيز “ما قبل الاستشراق“/مركز دراسات الوحدة العربية، بقلم لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد تموز 2021
“ما قبل الاستشراق الإسلام في الفكر الديني المسيحي” تأليف د. عبد الإله بلقزيز، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت في 208ص.
كيف تنشأ وتُرسم صورة الآخر المختلف والمعادي في مخيّلة خصمه، ولأيّة أسباب تتمّ شيطنته، إنّها ضرورات المعركة والمواجهة المستمرّة، وفي ذلك يقول المؤلّف في مقدّمته (ص19): “ومع الزمن تتكرّس في الوعي الجمعي للمختلفين في الدين، المتنازعين على النفوذ صور وتمثّلات للخصم/الآخر. وغالباً ما لا تكون الصور تلك مطابقة أو مقاربة للأصل، بل تُرسم ملامحها وقسماتها على النحو الذي تبدو فيه منفّرة، لأن في ذلك ما تقتضيه إرادة تحويل الخصم إلى عدوّ أو شيطان وتحريض الأتباع ضدّه”.
ومن هنا فكلّ من الفريقَين كوّن عن الآخر/الخصم صورة مشوّهة لا تزال تحكم نظرته إليه وتتحكّم في إعادة إنتاج الصراع، ولمعالجة ذلك لا بدّ من العودة نحو الجذور وتفكيك آلية نشوء هذه الصورة، وفي ذلك يقول المؤلّف مشيراً إلى واحد من أهداف دراسته (ص20): “واليوم حين نلحظ مقدار الفجوة القائم بين العرب والمسلمين والغرب، ونظرة الريبة والتوجّس التي يحتفظ بها كلّ فريق في مواجهة الآخر والصور النمطية المتبادلة عنهما لدى كليهما، فنحن لن نستطيع أن ندرك على التحقيق بعض أسبابها التاريخية العميقة إذا لم نلقِ بنظرنا على صفحات ذلك الماضي المديد من النزاعات والسجالات التي دارت بين الجيوش واللاهوتيين والفقهاء من الجانبَين”.
وهنا يسارع بلقزيز إلى لحظ أن أسباب الصراع لم تكن، ولا هي اليوم، الاختلافات الدينية، بل بالحري المصالح السياسية والاقتصادية والصراع الدائم على النفوذ، ومن البيّنات التي يقدّمها على طرحه هذا أنّ مسيحيي الولايات البيزنطية سهّلوا للفاتحين المسلمين مهمّتهم، وكانوا لهم عوناً ضدّ الحكّام البيزنطيين المسيحيين، يقول (ص21): “لم تولد فكرة العدو المسيحي أو المسلم في المتخيّل الجمعي الوسيط من الاختلاف بين الديانتَين في التعاليم، كما قد يُظنّ. بل ولدت من اصطدام مصالح القوّة الجديدة الصاعدة من جزيرة العرب بالأمبراطورية البيزنطية (…) حيث إن سرعة عمليّات الفتح ونجاحاتها بدءاً من نهاية النصف الأوّل من القرن 7م تعود، في جانب كبير منها، إلى تسهيل المسيحيين العرب في البلدان المفتوحة أمرها على ما تقول مصادر التاريخ”
والفكرة الأخيرة هذه تحديداً يعود المؤلّف مراراً إليها ليبني صورة للصراع والفتوحات بعيدة عن الانقسام الديني العمودي، وممّا يقول (ص90-91): “لم يكن تعاون مسيحيي المشرق قصراً على فئة بعينها متضرّرة من الحكم البيزنطي، بل كان عامّاً. (…) ومع أن الروايات الإسلامية عن تعاون المسيحيين تختلف من مصدر إلى آخر، إلا أنها تجمع على القول إن المساعدة التي قدّمها مسيحيو المشرق للفاتحين كانت حاسمة في كسبهم المعارك ودخولهم المدن”
وعن أوضاع المسيحيين في الدولة الإسلامية نجده موضوعيّاً وواقعيّاً في حكمه، وينظر إلى النصفَين الفارغ والمليء من كوب الماء، فيقول (ص95): “وفي الحقّ لم تكن صورة المسيحيين في الإسلام سيئة وبئيسة كما قدّمها كثير من اللاهوتيين القدامى والمستشرقين المحدثين، كما لم تكن ورديّة تماماً، أو تنمّ عن استقرارٍ مكينٍ لحقوقهم على نحو ما حاولت أن توحي به مصادر إسلامية قديمة وحديثة، كانت على التحقيق مزيجاً من هذا وذاك حيث انطوى السلوك الإسلامي تجاههم على العدل والانتصار تارة، وعلى الحيف والبطش تارةً أخرى”
ومن هذا الإرث الثقيل الذي يحكم الوعي واللاوعي الجمعي في كلا البلدان الغربية والإسلامية ينتقل بلقزيز ليلقي نظرة فاحصة على امتداد الصراع وتحوّلاته في يومنا (ص26): :تمدّد الإرهاب إلى الديار الغربية، وإصرار الدعاية الغربية على المماهاة بينه وبين العرب والإسلام (…) مع أن ضربات الجماعات الجهادية في قلب المجتمعات الغربية أتت موجعة وأزهقت أرواح آلاف من الأبرياء إلا أن العرب والمسلمين ليسوا مسؤولين عنها ولا أمروا بها، أو وافقوا عليها”
من المسؤول إذاً؟! وهل تُعوز الكاتب قراءة نقدية أو إقرار بمسؤولية؟ نراه لاحقاً يقرّ بشيء من ذلك في قوله (ص37): “إنها جماعات لم تنزل من السماء، بل خرجت من أحشاء المجتمع والسياسة فهي صناعة للأسرة والتربية وبرامج التكوين”.
وليته يتاح لنا المجال لعرض المزيد من طروحات عبد الإله بلقزيز ومناقشتها. فكتابه أكاديمي أحسن فيه توثيق مصادره، ونجح في اعتماد مقاربة واسعة الأفق ونبرة هادئة رزينة ما يجعل من مصنّفه هذا مرجعاً يوثق به.