مراجعة لكتاب عبدالإله بلقزيز”نقد التراث“/مركز دراسات الوحدة العربية، بقلم د. لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد تشرين الثاني 2021
“نقد التراث” تأليف د. عبد الإله بلقزيز صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت في 464ص.
عملٌ موسوعيّ ضخمٌ ومميّز يغطّي نتاج أبرز المفكّرين والكتّاب المعاصرين من ناقدي التراث، ويكاد لا يهمل أحداً أو يستثني مساهماً فمن فرح أنطون وجرجي زيدان وطه حسين إلى ناصيف نصّار ومحمد عابد الجابري مروراً بعبدالرحمن بدوي وحسين مروّة وكثيرين غيرهم.
نقرأ للمؤلّف عن موضوع كتابه ومنهجيّته (ص15): “اهتمّ هذا الكتاب بقراءة عشرات المصادر من الكتب والدراسات التي ألّفت خلال ما يزيد على مئة وعشرة أعوام في موضوع التراث والدراسات الإسلامية في نطاق الثقافة العربية (…) ويعرف كلّ من لديه دراية بمجال الإسلاميّات ذلك الكمّ الهائل من الكتب التي وضعت في موضوع التراث، ولكنّنا لم نعتنِ في هذه الدراسة إلا بما كُتب من موقع خطاب الحداثة”. ويتابع بلقزيز محدّداً موضوع دراسته (ص16): “والأمر هنا يتعلّق بمساهمات أربعة أجيال من الباحثين والدارسين العرب مثلما يتعلّق بأهمّ العرب المحدثين الذين تفرّغوا لدراسة الموضوع منذ ما يزيد على المئة عام، وبعشرات الدراسات التي وضعوها في المسألة”.
وعن أسباب اختياره هذا الموضوع ومدى أهمّيته وراهنيّته يقول (ص17): “إن نقد التراث جزء من فاعليّات الحداثة ومن تاريخها. ولعلّه الأهمّ في فاعليّاتها تلك، لأنه يطلعنا على معدّل انفصالها عن منظومته وإقامتها منظومتها الخاصّة. إنّه مثلما كرّرتُ القول: المرآة التي ترى فيها الحداثة صورتها”.
كيف عالج الكاتب موضوعه؟ وبأيّة ذهنية ومنهجيّة قارب نتاج عشرات المؤلّفين المحدثين؟ للإضاءة على هذه المسألة نكتفي بعرضٍ نقدي لنموذج ممّا درس، وهو البحث الذي خصّصه لعبد الرحمن بدوي.
يقول بلقزيز ممهّداً (ص100): “ما عرفنا تاريخاً للفكر متخصّصاً يجمع بين التاريخ الجزئي والشامل في الآن عينه إلا مع عبد الرحمن بدوي”.
ولا يفوت الباحث الرصين أن يشير إلى نقاط ضعف في عمارة بدوي الفكرية، وأبرزها ما يسمّيه (ص102) نزعته الطاوسية، والتي جعلته يتجاهل، بل يزدري، مساهمات أقرانه ومعاصريه (ص101): “غير أن بدوي المسكون بتقاليد البحث العلمي وقيَمه، والحريص على التمسّك بها منهجيّاً وأثناء الدرس، يهدر أهمّ تلك القيَم والتقاليد، حين لا يشير إلى غيره معترفاً له بسبقٍ أو بفضل”. ويضرب الباحث أمثلة على هذه النزعة الطاوسيّة، ومنها (ص102): “ومن علامات تجاهله للمعاصرين وعدم الاعتراف بهم أنّه لم يُدرج من أسماء المعاصرين في موسوعة الفلسفة التي وضعها غير اسمه فحسب في مادّة عبد الرحمن بدوي التي كتبها بنفسه”.
ويتوقّف بلقزيز عند تناقضات بدوي عبر مسيرته الفكرية (ص102): “من الانبهار الأعمى بالغرب (…) إلى نزعة العداء الأقصى للغرب والتبجيل الأبعد للشرق والإسلام. وانتقاله الدراماتيكي الرديف من تبجيل المستشرقين والترجمة لهم وعنهم، إلى لعنهم والقدح فيهم دفاعاً عن الإسلام”.
بيد أن كلّ هذه الشوائب لا تمنع بلقزيز من الإقرار بفضل بدوي وريادته وأصالة مساهماته (ص115): “إن الفكر العربي المعاصر وأجيالاً من متعلّمي التراث الإسلامي ومن دارسيه ومدرّسيه تدين جميعها لعبد الرحمن بدوي وجهده المذهل المبذول للتعريف بتيّاراته ونصوصه التعريف المدرسي التكويني”.
وبكلمة توجز وتكثّف نقول: أنصف بلقزيز بدوي وبوّأه المقام الذي يستحق، من دون أن يتغاضى عمّا يمكن أن يوجّه إليه من نقد وملاحظات. وهكذا يفعل كلّ باحثٍ موضوعي رزين.
وتبقى لنا ملاحظات على هذا العمل نذكر بعضاً منها، وأوّلها ليت البحث في كلّ مفكّر قُرن أقلّه بنبذة موجزة عنه تحدّد تاريخيّ ميلاده ووفاته وأبرز آثاره وتواريخها. وفي الفصل المعقود لمحمد عابد الجابري مبحث نقدي مطوّل بعنوان: “تراث الجابري في ضوءٍ نقدي”. (ص354-365). وهنا نجد بلقزيز يتجاهل أحد أبرز ناقدي الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي ألا وهو جورج طرابيشي الذي كتب 4 مؤلّفات في “نقد نقد العقل العربي”، بل هو من العاملين في نقد التراث المميّزين. فهل وقع بلقزيز في ما عابه على بدوي؟!
والخلاصة فالكتاب عملٌ موسوعي ضخم موثّق ومحترم، وتطلّب إنجازه سنواتٍ من البحث والتقميش والفهرسة، ولا تعوزه المقاربة النقدية التحليلية الرصينة، خالفه القارئ في أحكامه أم وافقه.