مراجعة لكتاب عبد الإله بلقزيز “الديني والدنيوي” نقد الوساطة والكهنتة“/بقلم لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد كانون الثاني 2022
“الديني والدنيوي: نقد الوساطة والكهنتة” تأليف عبد الإله بلقزيز، صدر عن منتدى المعارف/بيروت في 399ص.
كتاب مميّزُ في طرحه، ثاقبٌ في نظرته هادئ في نبرته وجديدٌ في فكرته. ليست الكهانة أو الكهنتة لباسٌ يرتدى أو لقبٌ أو صفة ولا هي مجرّد تأدية طقوس، إنها وظيفة تتمحور بل تكمن خصوصاً في الوساطة بين المؤمن والله، ولا يخلو منها أيّ دين. والحركات الإسلامية بمختلف أنماطها هي التجسيد المادّي المعاصر للكهنوت. والدين في تاريخه لا في النصّ وحسب. وفي كلّ دين بون شاسعٌ بين نصوصه وتاريخه أي تجسّده في أرض الواقع. وبين “لا رهبانية في الإسلام” وبين الواقع التاريخي آنفاً وراهناً اختلاف. ولا يمكن أن تقرأ الدين، أي دينٍ، بالاكتفاء بالعودة إلى نصوصه. هذا باختصار أبرز ما يُستخلص من طروحات بلقزيز في كتابه.
وفي التفاصيل مهّد المؤلّف لكتابه بمقدّمة تكثّف أفكاره وطروحاته، وهي في الحقيقة نصّ تأسيسي في علوم الأديان والأديان المقارنة بالعربية. وممّا نقرأ فيها (ص9): “أكثر المشكلات التي وقعت في الأديان (التوحيديّة خاصّة) خلال التاريخ مأتاها من المأسسة الدينية الكهنوتية، وبالتالي من المأسسة السياسية للدين”. ويتابع ليستنبط من هذه المأسسة جذور ظاهرة التكفير، فيقول: “هؤلاء ما اكتفوا بتقديم سرديّة خاصّة عن الدين، وفرضها كرواية رسمية والطعن على مخالفيها بالابتداع والهرطقة فحسب، وإنّما زادوا على ذلك بأن سمحوا لاحتكارهم التأويل أن يذهب إلى حيث يضع معايير للإيمان والكفر.”.
وهذه النزعة التوتاليتارية مولّد دائم ومستمرّ للعنف والإرهاب (ص10): “وما كانت الكهنتة، بوصفها سلطة دينية مفروضة بشيء آخر غير الكلّانية (التوتاليتارية) الدينية (…) ويؤدّي ذلك إلى نوعٍ من التنميط الديني يُفرَض بدعوى وحدة الجماعة الدينية. (…) ولكن أخطر ما يؤدّي إليه وأد الاختلاف ومنع التفكير بحرّية، وتسطيح الوعي…إلخ. لذلك لا غرابة في أن تقود الكلّانية الدينية إلى الإرهاب الفكري المؤسّس هو أيضاً للعنف والإرهاب”.
ولا تكمن هذه المشكلة في نصوص الدين (ص11): “هي مشكلة الدين التاريخي أي مشكلة الدين بعد انتقاله من لحظة النصوص والتعاليم إلى لحظة التطبيق التاريخي لها من قبل الجماعة المؤمنة، وخاصّة من قبل الفئات التي تتصدّر الكلام والتقرير في الشأن الديني داخلها وباسمها كجماعة”.
ومن هنا دعوة المؤلّف إلى (ص17): “تحرير الإسلام من المنزع إلى احتكار تمثيله والنطق باسمه. وهو المنزع الذي يكاد يكون سمة غالبة على تاريخ تراث الإسلام. والمشكلة أن ادّعاء التمثيل حصرياً لا يأتيه من فريقٍ واحد وإنّما يأتيه من الجميع”.
وهكذا فكلّ يدّعي عن الله وكالة حصرية، ويزعم الكلام باسمه، ومن هنا تنشأ النزاعات والصراعات.
ويركّز بلقزيز على أهمّية مقاربة الأديان المقارنة والتي لا يمكن فهم الإسلام، بعمقه وبمختلف أبعاده، بمعزلٍ عنها (ص24): لا سبيل إلى معرفة دقيقة بالإسلام ديناً وتراثاً وحضارة إلا بوضعه في سياق التقليد الإبراهيمي بما يفرضه ذلك من حاجة إلى قراءته بعقلٍ مقارن مع الأديان الأخرى التي شاركته الأساسات التوحيدية. وهذه النظرة واحدة من ثمرات المعرفة العلمية التي يوفّرها لنا علم الأديان المقارن”
وهو يرى وجوب التشديد على (ص32): “التمييز بين الدين والتديّن (…) فالتديّن كفعل إيماني، وإن كان اعتناقاً لدين بعينه، هو تمثّل بشري للدين في شروط تاريخية واجتماعية وثقافية ورمزية متمايزة”.
وممّا لا ريب فيه أن المشكلة تكمن في أن أكثر الناس من عامّة وخاصّة لا يميّزون بين الدين والتديّن.
ومن خلاصات البحث (ص261): “المسلمون ليسوا بحاجة إلى وسيط بعد النبي بينهم وبين قرآنهم، وإلا كان الوحي موجّهاً إلى خاصّتهم دون عامّتهم، وليس ذلك من حقائق الإسلام”.
والخلاصة، فهو كتابٌ يغوص إلى عمق المشكلة، ويشخّص الداء بجرأة وصراحة وصدق ودون تمويه، ويضع الإصبع على كثير من الجروح النازفة في مجتمعاتنا، ويسعى دائباً جاهداً وبحذق لاستنباط ما يناسب من حلول. وهو، بنظرته الفاحصة، وسعة أفقه، وتنوّع مصادره، ومقاربته المقارنة والرزينة، حجر زاوية في علوم الأديان بالعربية.