مراجعة لكتاب عبد الإله بلقزيز “في الدولة: الأصول الفلسفية“/بقلم لويس صليبا
مقالة بقلم أ. د. لويس صليبا نُشرت في مجلة الأمن الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي/بيروت. عدد أيلول 2021
“في الدولة: الأصول الفلسفية”، تأليف د. عبد الإله بلقزيز، صدر عن منتدى المعارف/بيروت، في 264ص.
يقول بلقزيز عن مقاصد دراسته (ص28): “نحاول في هذا الكتاب أن نعيد بعضاً من الاعتبار إلى منظومة الفلسفة السياسية: قديمها والحديث (…) وفي المسعى إلى ذلك حاولنا أن نقرأ مدوّنة مفاهيم فلسفة السياسة في تاريخيّتها مستندين إلى قاعدة العلاقة التلازمية بين المفاهيم وشروطها التاريخيّة”
ويمضي ليعبّر عن رغبته في تأكيد ضرورة الدولة، ووجوب الدفاع عنها إذ يرى أنها أعظم اختراع إنساني (ص29): “حاولنا في الكتاب، أيضاً، الدفاع عن الحاجة إلى الدولة في وجه من يزري بها وبأدواتها في تنمية الاجتماع الإنساني. (…) وإذا كان لا بدّ من تبرير مثل هذا الدفاع، فلا شيء يلقي ضوءاً على هذه اللابدّية من اللحظات الحرجة، في التاريخ الإنساني، التي تغيب فيها الدولة، أو تضمحلّ قواها: لحظات الفتن والفوضى والحروب الأهلية. إن هذه وحدها تكفي لتطلعنا على حقيقة الحقائق، وهي أن الدولة أعظم اختراعٍ إنسانيّ في التاريخ”.
وما عاشه ويعيشه اللبنانيّون أيام الحرب وما بعدها مصداق لما يذهب إليه الكاتب: ما أن تغيب الدولة أو تضعف حتى تسود شريعة الغاب.
ويختم بلقزيز مقدّمته بالإشارة إلى حاجة المكتبة العربية إلى مثل دراسته (ص29): “وكان في جملة دوافعي إلى تأليف هذا الكتاب ملاحظة ندرة ما كُتب باللسان العربي في هذا المضمار، وفقر المكتبات الجامعية إلى مصادر نظرية عربية معاصرة تعرض نظريّات الدولة والسلطة والحرّية والمعرفة الفلسفية حولها”.
والرحلة في فصول هذا الكتاب ومباحثه طويلة وممتعة، فهذه الأخيرة تبلغ 119 مبحثاً، وليت الكاتب وضع لكلّ مبحث عنواناً عوض الاكتفاء بترقيمه لوفّر على القارئ مشقّة التفتيش عمّا يعنيه أوّلاً.
ولا تتيح لنا حدود هذا العرض أن نطلّ على غالبية المباحث، ولا حتى على أكثرها، لذا نقتصر على القسم الذي تناول المؤلّف فيه الدولة في الفكر السياسي والفقهي الإسلامي والذي عنونه “ضرورات السلطة عند الفقهاء” (ص111-124).
واللافت في عرضه المقارنة التي يجريها بين مفهوم السلطة في الإسلام ونظرية الدولة في الفلسفة الحديثة فهو يدقّق ويضع النقاط على الحروف، وممّا يقول (ص112): “ذهب فقهاء الإسلام إلى مثل ما سيذهب إليه بعدهم فلاسفة السياسة المحدثون في تبريرهم الحاجة إلى الدولة، فكما لا مجتمع من دون دولة في نظرية العقد الاجتماعي، كذلك لا جماعة إلا بإمارة، في وعي المسلمين الأُوّل. لذلك يجد قارئ كتب السياسة الشرعية إلحاحاً على وجوب الإمامة ونصب الإمام لتعذّر انتظام أمور الجماعة من دونهما”
بيد أن هذا الشبه الأوّلي لا يعني توازياً بين عقديَن: البيعة والعقد الاجتماعي، فنقاط الاختلاف عديدة (ص121): “فقهاء الإسلام ينتهون إلى التسليم بأن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين والنص. الاختيار الذي يعود إلى الأمّة من طريق “أهل الحلّ والعقد” الذي يعبّر عنه في عقد البيعة” وهنا يطرح سؤالاً مركزيّاً: “فهل يسعنا أن نعتبر السلطة في الإسلام نظير السلطة في الدول الحديثة تقوم هي أيضاً على عقد اجتماعي؟”
ويتابع مجيباً وباسطاً الفروقات بين النظامين (ص122): “الاختلاف نوعي بين العقد الاجتماعي الحديث وعقد البيعة. لنأخذ سمتين من سمات ذاك الاختلاف مثالاً: أولاهما أن العقد الاجتماعي ابتداءً اتّفاق بين المتعاقدين على نحو يرتّب التزامات متبادلة (…) أما عقد البيعة فليس تتولّد منه حكماً التزامات من قبل المعقود له، وثانيها أن عقد البيعة لا يبرم كما العقد الاجتماعي بين المجتمع والحاكم بل بين جماعة منه بعينها والحاكم”
وهنا يوضح بلقزيز خالصاً (ص123): “لسنا في معرض بيان دونيّة عقد البيعة مقارنة بالعقد الاجتماعي، إذ المقارنة لا تجوز بينهما أصلاً لاختلاف الشروط. ولكنّا وجدنا الحديث مناسبة لتبديد مماثلات مغلوطة يذهب إليها كثير من الإصاليين حين يُسقطون معاني المفاهيم السياسية الحديثة على المفاهيم الإسلامية التقليدية”
والخلاصة فالكتاب رزين في طرحه، واسع في أفقه، ويضيف جديداً إلى المكتبة العربية.