علوم الأديان من أجل ثقافة لاعنف/كلمة لويس صليبا في الاحتفال الدولي في اليوم العالمي للاعنف، 2 /10 /2022

علوم الأديان من أجل ثقافة لاعنف/كلمة لويس صليبا في الاحتفال الدولي في اليوم العالمي للاعنف، 2 /10 /2022

“الإنسان عدوّ ما يجهل” يقول المثل العربي، وعداواتنا الدينية في هذا المشرق العربي وسائر أنحاء العالم تعود بأكثرها إلى جهلنا المتبادَل. فنحن نعيش عشرات السنين، بل مئاتها وأجيالاً كاملة متجاورين وجنباً إلى جنب ولا يعرف واحدنا عن الآخر المختلف إلا بعض الأحكام المسبقة والموروثة، وهي بمعظمها خاطئة. وهذا الجهل المتبادل كان ولا يزال مولّداً دائماً ومستمرّاً للعنف. وقد تبيّن لي شخصيّاً وإثر بحوث عديدة أسفرت عن تأليف عدة كتبٍ عن العنف الديني والحروب الدينية وجذورها أن أحد أبرز أسبابها جهل الآخر المختلف. وفي الهند طالما كرّر عددٌ من الحكماء على مسامعي مثلٌ يقول: “قليلٌ من المعرفة أمرٌ خطيرٌ للغاية”  A little knowledge is a very dangerous thing

وهو حالنا اليوم، ولا سيما في هذا المشرق العربي: نعرف القليل عن تقليدنا الديني والروحي، أو بالحري نعرف عنه حصراً وتحديداً ما يكفي كي نتعصّب له ونعتبرُه الحقيقة المطلقة، وكلّ ما عداه باطل، وبالمقابل لا نعرف شيئاً عن تقاليد الآخرين الدينية والروحية.

ورغم نظرته التشاؤمية إلى الحرب، واعتباره أن الإنسانَ عنيفٌ بطبيعته، وقولِه لا نستطيع أن نوقف الحروب، نجد أن سيغموند فرويد يطرح معادلة جديرة بالتأمل والتبصّر، ومن شأنها التخفيف من ويلات الحروب، وتبطئة سرعة المسارات نحوها. يقول فرويد: «كلّ ما يعمل على تنمية الثقافة ونشرها يعمل ضدّ العنف والحرب.»

والثقافة بمختلف وجوهها هي أولى ضحايا الحروب. لذا فالرهان على نشر ثقافة السلام والتسامح من أبرز ما يمكن فعله في مكافحة ظاهرة العنف والحروب. ومن هنا أُطلّ على المشروع الذي سأطرحه أمام وجدانكم الليلة، لا سيما في هذا اليوم العالمي للاعنف. فمنذ نعومة أظفاري وأنا مولعٌ بأمرين: اللاعنف الذي تعلّمته عن المهاتما غاندي أوّلاً، والثقافة ولا سيما في مجال علوم الأديان ومعرفة الآخر المختلف ثانياً. وكانت هوايتي الأولى ولا تزال جمع الكتب، وساعدني على ذلك أنّني عشتُ فتراتٍ طويلة في بلدان عديدة متعدّدة اللغات ومختلفة الثقافات: أقمتُ في باريس للدراسة الجامعية، ومن ثمّ العمل ككُتبي وناشر نحو 11 عاماً، وفي الهند نحو ثلاث سنوات، وفي مصر أكثر من سنة، إضافة إلى إقامتي الطويلة في وطني لبنان وزياراتي العديدة والطويلة لمعظم البلدان العربية والإسلامية كتونس وليبيا والعراق وسوريا وإيران، والأوروبية كإسبانيا وسويسرا وألمانيا وإيطاليا، ومشاركتي كناشر في معارض كبرى للكتب في معظم هذه البلدان وكباحث في مؤتمرات علمية فيها. وكان هاجسي الأوّل طيلة تلك السنوات الطويلة، ولا سيما خلال مشاركتي في معارض ومؤتمرات عديدة في هذه البلدان أن أشتري وأجمع كلّ ما تيسّر لي من كتب وخصوصاً في علوم الأديان وفي المجالات الروحية، لا سيما وأن ذلك من شأنه أن يساعدني في بحوثي ودراساتي الجامعية وتدريسي لعلوم الأديان في أكثر من جامعة. وقد أتاحت لي مهنتي الأخرى كناشر وكُتُبي أن أحصل على هذه الكتب بأسعار مخفّضة، ما يسّر لي شراء كلّ كتاب رزين ورصين وقع تحت يديّ وأثار اهتمامي في هذا المجال وبواحدةٍ من اللغات الثلاث التي أتقنها: العربية والفرنسية والإنكليزية، أو واحدة من اللغات القديمة التي تعلّمتُها: السريانية واللاتينية والعبرية والسنسكريتية. وكنتُ أشحن هذه الكتب بالبحر إلى لبنان، حتى تجمّع عندي اليوم، وفي مكتبتي الخاصّة، نحو أربعين ألف كتاب باللغات الحيّة الثلاث إضافة إلى الإسبانية واللغات القديمة الآنفة الذكر. وهي بمجملها نصوص ومصادر أساسية، أو دراسات جدّية في علوم الأديان. ففي البوذية والهندوسية مثلاً أملك واحدة من أغنى المكتبات في لبنان والمشرق وباللغات الثلاث.

وإضافة إلى هذه الكتب الورقية، فقد جمعتُ بالتعاون مع عدد من الأصدقاء والمتخصّصين مكتبة إلكترونية تضمّ حتى الآن نحو 45 ألف كتاب إلكتروني ومجلّة بصيغة PDF.

فهذه المجموعة النفيسة إن وُضعت بتصرّف الباحثين والمهتمّين أتاحت لهم معرفة ومصادر ومراجع  غير متوفّرة في مكانٍ آخر في هذه المنطقة.

وانطلاقاً من قناعتي الراسخة أن نشر المعرفة وتنمية الثقافة هي خير وسيلة لنشر ثقافة السلام واللاعنف وما أحوجنا إليهما في هذا المشرق العربي الذي لا يزال يتخبّط في دياجير العنف والجهل، أطرحُ اليوم مشروعاً يقضي بتحويل هذه المكتبة الخاصّة والمتخصّصة إلى مكتبة عامّة في مدينتي ومسقط رأسي جبيل/بيبلوس.

لماذا جبيل/بيبلوس تحديداً، ليس لأنّها مدينتي ومسقط رأسي وحسب، بل لأنّها كذلك مدينة الحرف والكتاب، فهي التي صدّرت الأبجدية الفينيقية المقطعية والحرف إلى المدن اليونانية القديمة وسائر حواضر العالم القديم، وهي التي صدّرت كذلك ورق البردي البابيروس Papyrus إلى الإغريق فسمّوها Byblos وهي كلمة مشتقّة من Papyrus، وسمّوا الكتاب Bible اشتقاقاً من بيبلوس ومنها أخذ الكتاب المقدّس اسمه Bible.

وإضافة إلى ذلك فثقافة السلام واللاعنف متجذّرة في جبيل عبر تاريخها. فاسمها القديم “جبيل” يعني جبّ إيل” أي بيت إيل وإيل هو إله جبيل، وإليه تَنْسُبُ الأسطورة بناء جبيل. وقد نقل هذه الأسطورة المؤلّف فيلون الجبيلي (قرن 1 م) ([1]).

واشتهر عن إيل قولُهُ: «الحربُ ضدّ إرادتي، فاْبذروا في الناس المحبّة، وصبّوا السلام في كَبِد الأرض»([2]). إله جبيل وبانيها، إله حبّ وسلام إذاً.

وإله الحب هذا، تبنّته المسيحية، فإنجيل متى (1/23)، ينقلُ عن سِفر أشعيا (7/14) نبوءته: «ها هي العذراء تحبلُ فتلدُ ابناً يدعى عمانوئيل». ويضيف إنجيل متى: «أي إلهُنا معنا». وعلى الصليب صرخ يسوع: «إيلي إيلي لِما شبقتاني أي إلهي إلهي لماذا تركتني» (متى 27/46).

وإيل الجبيلي إلهٌ عادلٌ ورحوم، يحاورُ البشر، ويتعاطفُ معهم، ويشاركُهم همومَهم ويعالجُها، ويخاطب الأبطال عن طريق الحلم، ويوحي إليهم بمشيئته»([3]). وقد تمثّله الجبيليون برأس وأربع أعين، ليشمل بنظره وجهات المعمور الأربع، تأكيداً على وحدة الكون، وتساوي المناطق، وشمولية النظرة الدينية وانفتاحِها.

ومع تقديسها لإيل، فقد عرفت جبيل التعدّدية الدينية، منذ أقدمٍ عصورها. فانقسمَ فينيقيّوها بين أنصارٍ للإله إيل، وأتباعٍ للإله بعل([4])، والذي صار لاحقاً أدونيس. وفي أحدِ هياكل جبيل، نلاحظُ إلهةً مصرية بجانبِ إله جبيل المحلّي السابق للكنعانيين([5]).

وكانت جبيل دوماً منفتحة على أديان الشعوب المجاورة أو التي مرّت على أرضها. ففي عام 1903، عُثر في جبيل في أملاك الرهبان اللبنانيين على تمثالٍ عظيم للإله نبتون إله البحر عند الرومان([6])([7]).

واكتشف الأب رنزڤال في جبيل العام 1908 تمثالاً لجوبيتر الأعظم. كما ورد في كتابة يونانية تحته، وكان الجبيليّون يعبدونه ويعتبرونه بمثابة إلههم ملوخ، إلاّ أنهم أخرجوه في زيّ يوناني روماني»([8]).

يقول الأب لويس شيخو (1859 – 1927) شارحاً هذه الظاهرة اللافتة: «الفينيقيون رضوا بأن يمزجوا نوعاً بين آلهتهم وآلهة اليونان والرومان واعتبروها جميعَها كالآلهة عينِها لا تختلفُ جوهراً بل عَرَضاً. فدعوا البعل باسم جوبيتر (المشتري)، وعشتروت باسم ڤينوس (الزهرة)، إلى غير ذلك من الأسماء التي يخالف ظاهرُها باطنَها. واستمرَّ الفينيقيون على مألوف عاداتهم الدينية الوطنية، لم يغيّروا شيئاً في عباداتهم. وعلى هذا المنوال، ترى المعبدَ الواحد، في لبنان وجبيل خصوصاً، مكرَّماً من اليونان والرومان والفينيقيين. يزعمُ كلٌّ منهم أن فيه يكرّم معبودَه الخاص”.

وقد ساهم موقعُ جبيل الجغرافي الذي كان يتوسّطُ المسافة بين أعظمِ أمبراطوريّتَين في التاريخ القديم، بلاد الرافدَين ووادي النيل في التعدّدية الدينية والتنوّع الثقافي اللذين نلمحهما بوضوحٍ في تاريخها القديم. وهما لا يزالان من أبرز سماتها إلى اليوم.

هذا الانفتاح الثقافي، والتنوّع الحضاري، كان لموقع جبيل على منتصف الطريق بين جبّاري العالم القديم مصر والرافدَين دورٌ أساسيٌّ فيه.

فعلاقات جبيل الوثيقة مع بلاد ما بين النهرين، تعودُ إلى الألف الرابع ق. م، كما تُظهر الحفريات([9]). في حين ترقى علاقات جبيل بمصر إلى زمن السلالة الفرعونية الثانية (3100–2995 ق.م) كما تشهد أسطورة إزيس وأزوريس([10]).

وهذا الموقع الجغرافي الوسطي لجبيل، ساهم في بلورةِ توازنٍ سياسيّ وثقافيّ فينيقي بين الجبّارين: مصر والرافدَين.

ومن وجوهِ التنوّع الثقافي في جبيل تعدّدِ اللغات التي أَتقنها أهلُها. فقد اكتشف الأركيولوجي الفرنسي موريس دونان في حفرياته في المدينة لوحَ طينٍ يعودُ إلى ما بين 2300 و 2200 ق. م. عليه تمرينٌ مدرسي يُظهرُ أن اللغة الآكادية كانت تدرَّس في مدارس جبيل. ويضيف هذا العالِم: «فالمصرية والأكادية وربما السومرية أيضاً كانت لغاتٍ مألوفةً في جبيل وفينيقيا، لا سيما عند الذين تربُطهم علاقاتُهم الخارجية ببلاد هذه اللغات»([11]).

ومدارسُ جبيل تعود أقلّه إلى القرن 23 ق. م. وكانت تعلّم لغات مصر والرافدَين كما تبيّن المصادر التاريخيّة.

وزمن الرومان، شاعت اللغة اليونانية في جميع طبقات الشعب في فينيقيا وخصوصاً في جبيل، وكانت اليونانية لغة معظم بلدان الشرق الأوسط، واستَخدمت الدوائرُ الرسمية اللغة اللاتينية، وكتبَ فيلون الجبيليّ (42–117م) مؤلّفاتِه باليونانية([12]).

فلهذه الأسباب مجتمعة ألا وهي تجذّر ثقافة السلم واللاعنف في جبيل عبر الأزمنة، ورسوخ التعدّدية الدينية والانفتاح على الآخر المختلف في تاريخ هذه المدينة القديم والحديث، وتوطّد تقاليد تعدّد اللغات في الأزمنة الغابرة والمعاصرة فجبيل تبقى مدينة نموذجية لتنفيذ مشروع كالذي نطرحه أي مركز لحوار الأديان والحضارات ومكتبة عامّة في علوم الأديان. وبالطبع يلزم لهذا المشروع كي يرى النور مكاناً مناسباً والبدء بفهرسة الكتب إلكترونياً، ووضع الفهرس العام على الإنترنت كي يتاح للجميع الإفادة من عناوينها ومواضيع أبحاثها، وغير ذلك من المتطلّبات. وقد أسّسنا منظمة غير حكومية ONG حائزة على ترخيص رسمي في لبنان، ومن شأنها أن تتولّى تنظيم وإدارة هذا المركز المنشود. وكلّ مساعدةٍ تقنية أو مادّية مرحّبٌ بها، ومن شأنها أن تدفع بهذا المشروع الفكري والحضاري والحواري إلى الأمام. فصديقنا وأستاذنا الدكتور جاك فينيو Jacques Vigne مثلاً وعدنا أن يعطي هذا المركز المزمَع إنشاءه مكتبته الخاصة، وسيكون لمؤلّفاته ومخطوطاته وإرثه الثقافي جانباً خاصّاً فيها.

وعلى أمل أن تحمل الأيّام المقبلة ما يتيحُ لنا الشروعَ بتنفيذِ هذا المشروع الحيوي فقد وجدتُ من المناسب أن أطرحه في هذا اليوم العالمي للاعنف، فهو مشروع حواري ولاعنفي بامتياز، فعساه يلقى صدى حسناً بين الحاضرين والمستمعين، وتجاوباً ننتظره. «»«»«»«»«»([13])

[1]  – صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية بين العنف والجدل والحوار، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2012، ص 233.

[2]  – صليبا، م. س، ص 234.

[3]  – جبر، م. س، ص 57.

[4]  – بولس، م. س، ص 98.

[5]  – بولس، جواد، م. س، ص 43.

[7] – شيخو، الأب لويس، الآثار القديمة في لبنان، ضمن لبنان مباحث علمية واجتماعية، نشره إسماعيل حقي، بيروت، دار لحد خاطر، ط3، 1993، ص 1/142.

[8]  – شيخو، م. س، ص 2/142.

[9]  – جبر، م. س، ص 17.

[10]  – جبر، م. س، ص 72 – 73.

[11] – Dunand, Maurice, Byblos Grammata, Paris, Adrien-Maisonneuve pp. 9 – 10.

[12]  – جبر، م. س، ص 118 – 121.

[13]

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *