أستاذ التاريخ كميل الرقيبي والاستعمار الذي خرج من الباب ليعود من النافذة/بقلم لويس صليبا
كميل الرقيبي([1]) درّسنا مادّتي التاريخ والجغرافيا في السنتَين الثانية والثالثة ثانوي.
كان دقيقاً خبيراً عالماً بما يدرّس. يعرف تماماً كيف يميّز بين الأهمّ والمهمّ والأقلّ أهمّية في البرنامج. ويتقن توجيه تلامذته لدراسة ما هو أساسي في المنهج. والتاريخ مادّة مثيرة للاهتمام، وغالباً ما يعتبرها التلامذة معيناً لهم على النجاح، إذ لا يصعب الحصول على علامة عالية في هذه المادّة. ورقيبي يعرف كيف يروي أحداث التاريخ ووقائعه كقصّة مشوّقة ومتسلسلة، فيحوذ على اهتمام طلّابه وانتباههم دون كبير مجهود. وممّا لمّا يزل عالقاً في الذاكرة نهفة حصلت يوم كان يروي لنا قصّة معركة ستالينغراد في الحرب العالمية الثانية، وكيف خسرها هتلر وكانت بداية تراجعه وهزيمته النكراء. وحدّثنا رقيبي يومها عن الجنرال “شتاء” Général Hiver الذي حسم المعركة لصالح السوفيات. فكان الجندي الروسي يهجم على الألمان فيجد عدوّه الجندي الألماني قد تجمّد في أرضه من فرط البرد القارص الذي لم يكن معتاداً على تحمّله والعيش في جوّه، فيقضي على هذا العدوّ بسهولة. وكان قائد الحملة الألمانية على ستالينغراد الجنرال الألماني فون باولوس. وقد انتهى بأن استسلم للروس كي يجنّب جيشه مجزرة لا طائل تحتها، وستودي حتماً بحياة ألوف الجنود الألمان.
ففي 18 كانون الثاني 1943 خاطب فون باولوس هتلر قائلاً له إن استمرار المقاومة لا معنى له، فهناك 18 ألف جريح طُرحوا في الأقبية من غير علاج، وقد بدأ التيفوس المتفشّي يحدث أضراراً بالغة، ولم يبقَ من الذخائر والمؤن ما يكفي، وأصرّ هتلر على الصمود حتى النهاية! ([2]) ومنح فون باولوس عشية المعركة الفاصلة رتبة مارشال تشجيعاً له، وبالأخصّ لأن التقليد الألماني كان يقضي بأن لا يستسلم من هو برتبة مارشال لأعدائه، بل يموت وهو يحارب حتى الرمق الأخير. بيد أن فون باولوس لم يعبأ كثيراً برتبة مارشال وهذا الشرف الذي سيكلّفه حياته، وحياة ألوف المتبقّين من جنوده. فاستسلم مع جيشه للمهاجمين الروس في 2 شباط 1943.
وخلال متابعتنا لهذه الرواية الشيّقة والتي لم أنسها حتى اليوم صاح أنطوان خوري:
-أيشو ولِد فون باولوس؟! قلّو لهتلر ما رح فينا نكفّي وما اقتنع.
وهنا علا صهيل الصفّ برمّته ضاحكاً على هذه الملاحظة، وعلى عبارة “أيشو” الجبيلية الصرف.
وما جمعنا من مصطلحات للأستاذ رقيبي في نهاية تلك السنة يُظهر ما كان يبذل من جهد لضبط صفّه، وللحفاظ على الهدوء فيه: ييي علينا، خلصنا بقا. ويتسوقفني خصوصاً قوله مستهجناً الفوضى التي كان يحدثها بعض التلامذة: هون صفّ مش مجلس نوّاب! وكم هي عميقة وبالغة الدلالة هذه العبارة الموجزة. إنها بكلمة مختصرة مفيدة تضع الإصبع على الجرح، وتذكّرنا بدور هذه الطبقة السياسية المشبوه والتي كانت يومها ولمّا تزل تتحكّم بمفاصل القرار في هذا البلد وتقوده إلى الهاوية.
وممّا حفظنا من كلماته، لا سيما في حديثه عن نزعة الإمبريالية التي لمّا تزل تحكم الدول الكبرى وتجعلها تتحكّم بالدول الصغرى: خرج الاستعمار من الباب ليعود من النافذة. وهي ملاحظة مؤرّخٍ واقعية وفي محلّها.
والخلاصة، فكميل رقيبي أستاذ أمتعنا برواياته وطريقة عرضه الجذّابة والدقيقة للتاريخ، وكان خير دليلٍ لنا للنجاح بمادّته في الامتحانات الرسمية.
[1]-كميل يوسف الرقيبي: ولد في ترتج/قضاء جبيل 1949، حاصل على إجازة تعليمية في الجغرافيا. درّس الجغرافيا والتاريخ في ثانوية جبيل الرسمية، وفي ثانوية راهبات الوردية من سنة 78-79، ولغاية 2013-2014
[2]-جحا، شفيق، والبعلبكي منير، المصوّر في التاريخ، ج11: تاريخ العالم المعاصر، صفّ البكالوريا القسم الثاني فرع الفلسفة وفرع الرياضيّات، بيروت، دار العلم للملايين، ط4، 1975، ص248.