أستاذ الرياضيّات عبدالله سرور: مدرسة في نقل المعرفة والعلاقة بين المعلّم والتلميذ/بقلم لويس صليبا

أستاذ الرياضيّات عبدالله سرور: مدرسة في نقل المعرفة والعلاقة بين المعلّم والتلميذ/بقلم لويس صليبا

الأستاذ عبدالله سرور مع عدد من تلامذته في الثالث ثانوي 1980، ويبدو في الخلف ومن اليمين: (الدكتور) وليد بشارة، عبدالله سرور، (المهندس) أنطوان خوري، (العميد الركن) زخيا خوري، وفي الصف الثاني: (المهندس) برنلي نصّور، (المهندس) نبيل غانم، إيلي تارك، وفي الصفّ الأمامي (المهندس) بشارة مونّس

عبدالله سرور([1]) (10/11/1945-10/1/1985). من أنجح الأساتذة الذين تتلمذتُ عليهم طيلة مساري الدراسي، وأقربهم إلى القلب، وأعمقهم تأثيراً وإشعاعاً. جمع في شخصه وفي علمه ومعارفه الأكاديمية والحدْسية كلّ ما يحتاجه الأستاذ الناجح، بل المميّز والمتفوّق. متعمّق بمادّته، ومتمكّنٌ منها إلى درجة البراعة والإتقان التامّ. وإلى ذلك فهو خبير متمرّس بالطريقة التربوية البداغوجية لتدريس هذه المادّة، يعرف تماماً كيف يشرحها ويبسّطها ما أمكن، ويوصلها للتلامذة ويجعلهم يستوعبونها رغم أنّها المادّة الدراسية الأكثر تجريداً، والأكثر صعوبة بين الأخريات، فهي لغة العلوم البحتة، ومن الأدوات الأساسية في الفلسفة والعلوم الإنسانية، وهي أبجدية الروح العلمية Esprit Scientifique وقاعدتها.

وإضافة إلى كلّ هذه الصفات والمناقب كان عبدالله سرور ذا شخصيّة ساحرة جذّابة وجد مميّزة، ويعرف كيف يتعامل مع تلامذته: جدّي إلى أقصى حدود الجدّية في الشرح والتدريس، ويعرف كيف يضبط صفّه، ويمنع أن يفلت “المِلقّ”([2]). وفي الوقت عينه لا تفوته النكتة وإشاعة جوّ من المرح حيث يجب، ممّا يُضفي على دروسه طابعاً من الودّ والانفراج Détente ويُبعدها عن كلّ تشنّجٍ وتوتّر.

وعبدالله سرور منهجيّ في عرضه أكاديميّ في شرحه، يعرف بحدسه وذكائه وفراسته ميّزات كلّ تلميذٍ وإمكاناته الفكرية والعلمية وقدراته الدراسية، فيستطيعُ أن يكيّفُ عرضه لكل مبحث مع المستوى العامّ للصفّ. ويعلم كذلك كيف يثير اهتمام التلميذ بمادّته، ويرغّبه بدراستها، حتى إن بعض الطلاب كان يبدي المزيد من الاهتمام بالرياضيّات ومراجعتها كي لا “يزعل”([3]) منه الأستاذ.

يتقن التخطيط وبرمجة تدريس المنهج المطلوب وتوزيع فصوله وأقسامه على مدى العام الدراسي بحِرَفيّة واضحة. فيعطي كل مبحثٍ وفصل وكل مادّة من جبر وهندسة وعلم مثلّثات Trigonométrie وحساب وغيرها ما تستحقّ من اهتمام ووقت لازم كي يُنهي تعليم البرنامج المطلوب في الامتحانات الرسمية ضمن الفسحة الزمنية المتاحة.

وكان زعيم الأساتذة ومرشد التلامذة، يهتمّ بكلّ المسائل والمشاكل، ولكلّ عقدةٍ عنده حلّ.

والمصطلحات التي جمعتُها له في آخر السنة تُظهر العديد من ميّزاته، كمثل مقدرته على ضبط صفّه بالتي هي أحسن: استحوا بقا، خلصنا بقا، سِكتوا ولوو…وعلى ترغيب تلامذته بالإصغاء والانتباه: سمعولي شوي، بقصف عمركن (يقولها بتحبّب وشيء من المزاح)، “مظبوط هيك؟!” و”يلّلا يا شباب” و”يللا عيني”، ليشرك الصفّ بالتفكّر والبحث عن حلّ لمسألة. “وين كنت سارح”: ينبّه بها بلباقة ويدعو لمتابعته. “بلا طولة سيرة”: يختصر بها بعض الشروحات التي تبدو له غير ضرورية حرصاً على عدم إضاعة الوقت. ويعرف كيف يخلط المزح بالجدّ. و”نصف المزح جدّ” يقول المثل اللبناني. “شو يا طونا”، “لك شِبنا”، “ليكا”، تعابير كان يردّدها على مسامعنا بلهجته الطرابلسية الشمالية المحبّبة، فيضفي جوّاً من المرح يكسر به حدّة وصعوبة بعض المسائل الرياضيّة. “ولوو ضعنا” يستعيد بها الجدّية والانتباه، إثر استطراد.

وما كان ليسمح بأن يفقد للحظة تحكّمه بصفّه وحُسن تنظيمه وضبطه له.

وعبدالله سرور محبّ ودود يعرف كيف يجعل التلميذ الرصين والجدّي صديقاً له، ويقرّبه، على أن تبقى العلاقة علاقة أستاذٍ بتلميذ، طالما كان هذا هو الوضع. ولا يبدأ بالشرح حتى يكتمل حضور كلّ التلامذة، ويسأل عن كلّ غائب وسبب غيابه. يدوزن غضبه: قد يرفع صوته، لكنّه قلّما يغضب. وإن فعل لا يتجاوز ما يضعه من حدود مسبقة لذلك.

وكان ذا مقدرة استخلاصية synthétique كبيرة: يعرف أن يبيّن ويوضح ما الذي يجب أن يبقى من كلّ شرح ومبحث من أساسي وجوهري essential وما لا يجوز أن يُنتسى. فيجعل التلامذة يكتبونه على دفتر ملاحظات صغير Aide Mémoire وهو ما أسميناه “شبيّة سرور”([4]) وكان زخيا خوري أوّل من أطلق هذا التعبير الاصطلاحي، ثم درج استخدامه بين أجيال الطلّاب التالين.

وبين أساتذة الموادّ العلمية كان عبدالله سرور على رأس من يتقن الفرنسية، كما كان ذا خبرة وباعٍ طويل في الامتحانات الرسمية وبرامجها وكيفيّة طرح الأسئلة فيها. فيعرف كيف يُعِدّ تلامذته للتحضير لها، وتقديمها، والنجاح فيها. ولا يتعب طيلة السنة الدراسية من التنبيه إلى ما يمكن أن يُطرح في هذه الامتحانات من هذا الفصل أو ذاك، وكيفيّة الإجابة عنه.

ومن الناحية الاجتماعية في علاقاته مع الأهل، ومع الإدارة، ومع زملائه الأساتذة كان ناجحاً جدّاً وعميق التأثير، وكثير “المونة”([5])، لا يُرفض له طلب، لا سيّما وأنّه يعرف حدود الطلب والتمنّي والمونة. وكان أهل التلامذة يحبّونه، ويتأثّرون ممّا يبديه من اهتمام بأبنائهم. أذكر في هذا الصدد أن أمّي كانت تحبّ أن تلتقيه وتحاوره وتسأله عنّي وعن شقيقتيّ وتستمتع بحديثه عنّا، رغم أنّنا ما كنّا في تلك الصفوف العالية نحتاج إلى متابعة الأهل. وكانت تكرّر على مسامعي عنه:

-قدّيشو([6]) مهضوم([7]) هالإستاذ وبيفهم.

وكان الأستاذ عبدالله صاحب فكر منفتح، بيد أنّه لا يساير ولا يحابي ولا يتزلّف. لم يكن يشارك قوى الأمر الواقع في مناطقنا قناعاتها وخياراتها، لكنه بالمقابل كان ليّناً لا يعادي، بل يعرف كيف يجعل الكلّ صديقاً له.

وكان عبدالله سرور خدوماً إلى أقصى حدّ. لا يبخل بنصيحة مجدية، ولا يقصّر في خدمة ممكنة. كان مثلاً يحمل علامات الامتحانات الرسمية لكلّ طلّابه، فنقصده إلى بيته على شاطئ بعشتا لنحصل على علاماتنا ونتأكّد من نجاحنا. فنختصر الطريق، ويجنّبنا نزولاً مرهقاً إلى بيروت أيّام الحرب، وانتظاراً و”حرقصة”([8]) لمعرفة نتائجنا والتأكّد منها. وكان دقيقاً في هذه المهمّة المجّانية التي يقوم بها، والوحيد تقريباً من بين زملائه الذي يُتعب نفسه، بل يرهقها في هذا المجال. وأذكر له في هذا المجال المأثرة التالية:

كانت نتائج الامتحانات الرسمية في أيّامنا تُعلَن عبر الإذاعة اللبنانية وبالأرقام لا بالأسماء لضيق الوقت. فيسهل الخطأ. كمثل أن يُقرأ الرقم ٣ عوضاً عن ٢ لتشابههما. وغير ذلك من الالتباسات. وكنّا ننتظر هذه النتائج على أحرّ من الجمر، فهي تحدّد المصير. وحدث أن بعد دقائق قليلة من إذاعة نتائج امتحانات المتلام صيف 1980 جاءني صديقي مروان غاريّوس متجهّم الوجه أسود السحنة، وقال لي بصوتٍ متهدّج يكان يختنق:

-يظهر أنّني رسبتُ في المتلام.

-مش معقول إنتَ تسقط.

وكنتُ أعرف مروان تماماً، فهو من المجتهدين والرصينين، وقد درسنا معاً إعداداً لامتحانات المتلام Retraite. وتابعتُ يوماً بيوم ما فعله في كلّ مسابقة. لذا كنت شبه أكيدٍ من نجاحه. بيد أنّه بادرني:

-ما طلع رقمي، وقالوا رقم نبيل يللي قبلي.

-مش معقول أنت تسقط وهوّي ينجح، أكيد فيه غلط.

وكادت الدمعة تطفر من عين مروان. فقلتُ له:

-لا تقلق يا عزيزي وهيّا بنا إلى منزل الأستاذ عبدالله سرور لنتبيّن الخبر الصحيح.

وصلنا إلى منزل سرور على شاطئ بعشتا، قبل أن يصل هو راجعاً من الامتحانات وحاملاً معه النتائج. ولم يتأخّر حتى يصل. وما أن نزل من سيّارته ورآنا حتى بادرنا بتحيّة التهنئة:

-مبروك لويس، مبروك مروان.

وما كان مروان ليستطيع أن يردّ عليه ويخبره، فتولّيتُ أنا ذلك.

-لم يُقرأ رقم مروان، وقُرئ رقم نبيل بين الناجحين.

-غير صحيح قال الأستاذ عبدالله. وقبل أن يدخل منزله ويتناول ما يسدّ به رمقه بعد نهارٍ طويل مرهق من التصحيح وجمع العلامات، جلس على كرسيّ كانت على مدخل منزله، وفتح أوراقه وتلا على مسامعنا نتيجة مروان علامة إثر أخرى، وعلى كلّ مادّة من موادّ الامتحان. فإذا به ناجحاً نجاحاً جيّداً، في حين بيّنت نتيجة نبيل وعلاماته أنّه راسب. فتنفّس مروان الصعداء وكفْكَفَ دموعه وسرّي عنه. والملاحظ هنا أن الأستاذ عبدالله كان يعرف نتائجنا غيباً: من نجح ومن رسب، ومن حاز على علامات جيّدة، ولا سيما في مادّته الرياضيّات. وهذا لوحده دليل على حرصه على تلامذته واهتمامه الشخصيّ بكلّ واحدٍ منهم.

وكان الشباب من رفاق الصفّ في ذلك الوقت قد قصدوا زميلنا نبيل في مخمر الموز الذي يملكه والده بعد أن سمعوا رقمه يذاع، وباركوا له نجاحه، وحصلوا على “قرط موز” هديّة النجاح المزعوم. وكم ضحكنا يومها على هذه المفارقة الغريبة، وعلى سوء حظّ زميلنا الذي دفع ثمن خبرٍ كاذب، ويا فرحة ما تمّت!!

 

ومن ناحيتي الشخصية، كان عبدالله سرور لا يفرّق في المحبّة والتقدير بيني زميلي وشريكي في مقعد الدراسة وليد بشارة. وكان يساوي في ما بيننا في حبّه واهتمامه. حتى إنّه كثيراً ما كان يناديني وليد، وينادي زميلي باسمي!!

وأذكر أنّه في المسابقة الأخيرة في صف المتلام وضع لكلّ منّا العلامة إيّاها: 19/20، أي 76/80. وذلك رغم أنّه شاب إجابتي بعض الأخطاء، وما كنتُ أستحقّ هذه العلامة. ولم تكن هذه حال وليد.

وضع لي علامة محبّة وتقدير وحُسن وداع. لم يشأ أن يصحّح هذه المسابقة الأخيرة، ولم يردّها لنا، كما كان يفعل في سائر المسابقات كي نعرف أخطاءنا ولا نكرّرها في امتحانات أخرى. وعندما سألناه عنها أجاب:

-شو بدكن فيها. سيجد كلّ منكم علامته مدوّنة على دفتر علاماته.

وهكذا وضع لكلّ منا نحن تلامذته العلامة التي يقدّر أنّه يستحقّها طبقاً لجهده ومثابرته طيلة السنة الدراسية، بغضّ النظر عن أجابته في المسابقة. وودّعنا بهذه العلامة التقديرية، فكانت ذكرى غالية منه، وأحسستُ أنّها لي بمثابة وسام. وبقي متكتّماً ولم يصرّح بما فعل. وقليلٌ، بل نادرٌ هم أولئك الذين فطنوا و”اشتلقوا” على استراتيجية سرور الوداعية هذه، وكنتُ من هذا القليل.

وعبدالله سرور لم يكن مجرّد أستاذٍ وحسب، بل كان مدرسة بحدّ ذاتها. وهذا ما بيّنته في خطابٍ لي في احتفال تكريمي للمجازين الجامعيين من خرّيجي ثانوية راهبات الوردية/جبيل 1987، إذ قلتُ مستذكراً هذا المعلّم الحبيب: “وأقفُ وقفةَ إجلالٍ وإكبار والدمعة تترقرق في مقلتيّ، ولا أرى من ذرفها مفرّ. أمام ذكرى من له في قلبي وقلوب سائر الطّلاب مكانة عزيزة، ومطرحاً احتلّه هو وتربّع فيه. إنه الأستاذ عبدالله سرور.

لم يكن عبدالله سرور مجرّد مدرّسٍ عاديّ لمادّة الرياضيّات. بل كان أيضاً أسلوباً مميّزاً وفريداً في وعي المعرفة ونقلها إلى طلّابه. وكان مدرسةً قائمة بذاتها بين الأستاذ والتلميذ. والعلاقة الحيّة التي أقامها مع تلامذته تبقى أساساً لذكرى عطرة في قلب كلّ تلميذٍ وضميره لا تمحوها الأيّام”([9])

 

ورحل عبدالله سرور وهو في ربيع العمر وأوج العطاء. وكما كان طيلة حياته مميّزاً بسرعة بديهته ويلتقط الأشياء “على الطاير” هكذا استمرّ طايراً وعلا تحليقه، وكحلمٍ رائعٍ عبر ليوقظنا على مرارة فقده وحرقة الغياب.

كنّا في بداية سنتنا الجامعية الخامسة Bac+5 عندما سمعنا بتدهور حالته الصحّية. فمضينا أنا ورفيقي الدائم وليد بشارة نعوده في منزله. كان ذلك في خريف 1984، وكانت هذه الزيارة آخر عهدنا به. جلسنا معه في منزله الجديد والسؤال الأوّل والأساسي الذي جئنا نبحث عن جوابٍ عنه كان صحّته. فطمأننا إلى وضعه الصحّي، وأنّ الأمور تتحسّن وتعود تدريجيّاً إلى طبيعتها!!

-ماذا عن الحنجرة وصوته المجرّح؟! سألناه.

-ذاك من أثر الآلة التي أدخلت في المجرى الهوائي للفحص.

وكان لكلّ سؤالٍ عنده جواب. رغم أنّه شاب كلامه غصّة يصعب على غير اللبيب أن يلحظها!

ولم نقتنع تماماً بما رواه لنا، لا سيما وأن ما كنّا سمعناه عن حالته وخطورتها يخالف ما قاله لنا. بيد أن تطميناته خدّرت بعض الشيء ما كنّا نشعر به من قلقٍ عليه!

وبين منتصف كانون الأوّل 84 ومنتصف كانون الثاني 85 تغيّبتُ عن المنطقة والبلاد فترة شهر. وفي عودتي نحو 15/1/85  لا أعرف ما الذي جعلني، وخلافاً للعادة، أصعد سيراً على الأقدام من مفرق جسر جبيل على الأتوستراد نحو منزلي سالكاً طريق الفرير. وعندما لاحت لي هذه المدرسة الحبيبة وبوّابة مدخلها الصغرى الحديدية، لمحتُ من بعيد ورقة بيضاء وسوداء معلّقة على حائط باب المدخل. فاختلج القلب في صدري وشعرتُ بشيء من الانقباض، وكأنّني تشاءمت من هذه الورقة وأحسستُ أنّها ستعلن لي نبأً حزيناً. فسارعتُ في الصعود لأتحقّق من هذا الشعور. ولمّا وصلتُ أيقنت أن ما أوجستُ خيفة منه هو الآن حقيقة واقعة، فالورقة التي أخافتني هي ورقة نعي الأستاذ الحبيب عبدالله سرور. وقفتُ أمام ذاك الحائط الصغير أقرأ ما كُتب، وارتسمت في مخيّلتي صور متسلسلة تتتابع وكأنّها مسرحية متواصلة أو فليم أميركي طويل:

-عبدالله سرور يشرح الدرس ويرسم Graphe على اللوح.

-عبدالله حاملاً المسطرة الخشبية الكبيرة التي يستخدمها للرسم، يداعب بها كلّ متأخّر في الوصول إلى الصف ومعبّراً بذلك عن لومه وعتبه.

-عبدالله جالساً على المقعد الأخير في الصفّ بعد أن أتمّ الكتابة والرسم على اللوح قارئاً وشارحاً ما كتبه ورسمه، ومدخّناً سيكارته التي تكاد لا تفارق يده أو فمه.

-عبدالله وسط حلقة منا نحن التلامذة خلال فرصة الاستراحة Récréation يتابع النقاش وتوضيح ما بقي ملتبساً في ذهننا من شرحه.

-عبدالله حاملاً مسابقات الرياضيّات التي صحّحها مبيّناً لكلّ طالبٍ حيث أخطأ وحيث أصاب.

وصور أخرى عديدة من مشاهد تلك السنة الدراسية المباركة، مرّت بذهني مرور شهبٍ في الفضاء.

أهكذا يغدرُ الأحبّة يا “عبّودي” ويرحلون؟!؟!

وجمد الدم في عروقي، وشعرتُ ب”تشّة برد”([10])، بفعل هذا النبأ الحزين المحزن الذي وقع عليّ وقوع صاعقةٍ في زمهرير كانون. وشعرتُ أنّني فقدتُ أخاً وأباً، وأن العالم بعد رحيل عبدالله يشوبه الصقيع، لا سيما في غياب دفء صوته المحبّ، وحرارة المحبّة المشعشعة من عينَيه. ورغرغت دمعةٌ في العين، جهدتُ أن أحبسها لا سيما وأنّني أقفُ في شارعٍ عامّ، فما استطعت!

وأطرقتُ لدقائق متأمّلاً في هذا العالم الذي يحكمه قانون التغيّر الدائم والمستمرّ Anicca. وأحسستُ أن بصمات هذا المعلّم الحبيب في النفس لمّا تزل حاضرة وفاعلة. فالنجمُ وإن لمع لبرهة قصيرة في الفضاء تبقى شعاعاته منيرة سابحة، وتستمرّ وتأثيراته لدهور. ومتعة المشاركة في المعرفة والعلم التي أشعَرَنا بها عبدالله سرور وأشعلها بداخلنا ستبقى لنا واحة رجاء ومنارة في الطريق.

وإثر هذه اللمعة الخاطرة كنتُ وكأنّني صحوت من هذا الحلم المزعج بل الكابوس، ونظرتُ من حولي فإذا حقيبة سفري على قارعة الطريق، وكنتُ قد أرخيتُها من هول المفاجأة، ثم نسيتُها. فحملتها من جديد، وخطوتُ خطوة في دربٍ سبق ل”عبّودي” أن رافقني فيه خطوات، وستبقى ذكراه وإشراقة وجهه الصبوح، وتوجيهاته لي فيه خير رفيق

[1]-عبدالله عازار سرور ولد في طرابلس/لبنان في 10/11/1945، وفيها نشأ وتابع دراسته الابتدائية والثانويّة. نال شهادة البكالوريا القسم الثاني فرع الرياضيّات بتفوّق سنة 1963. ثم التحق بالجامعة اللبنانية ونال الإجازة التعليمية في الرياضيّات. ثم دبلوم الدراسات المعمّقة من مركز الرياضيّات العالي التابع للبعثة الثقافية الفرنسية/بيروت. تزوّج من زميلته في التعليم حنان فريد فرح وله منها ولدان: جورج وشادي.

مارس عبدالله سرور التعليم وهو لا يزال على مقاعد الدراسة. وأبرز المدارس التي علّم فيها هي التالية: 1-مدرسة الليسه الحديثة/فرن الشبّاك، 2-مدرسة راهبات الحبل بلا دنس/جونية، 3-دار المعلّمين والمعلّمات/جونية، 4-ثانوية جبيل الرسمية، 5-معهد العلوم التطبيقية/الجامعة اللبنانية لأربع سنوات. 6-ساهم في تأسيس القسم الثانوي في مدرسة راهبات الوردية/جبيل، وبقي يدرّس فيه حتى وفاته. 7-ثانوية مار يوسف لراهبات العائلة المقدّسة/جبيل. 8-أشرف على تدريس الرياضيّات في مدرسة الفرير ماريست/جبيل. 9-أشرف على تدريس الرياضيّات في مدرسة مار يوحنا/البوار. 10-أشرف على تدريس الرياضيّات في مدرسة الليسه عمشيت. 11-كان عضواً بارزاً في اللجنة الفاحصة (مادّة الرياضيات) في الامتحانات الرسمية اللبنانية. مؤلّفاته: 1-سلسلة كتب مدرسية لتعليم الرياضيّات بالعربية في المرحلة الابتدائية، وقد تُرجمت إلى الفرنسية. 2-Solutionnaire (حلول مسائل) للصفّ الرابع متوسّط بالاشتراك مع اثنين من زملائه. 3-Solutionnaire للصفّ الثالث ثانوي بالاشتراك مع اثنين من زملائه. 4-Aide Mémoire مجموعة معادلات Formulaire في الرياضيّات بمختلف فروعها الصف الثالث ثانوي، وهي ما اصطلح التلامذة على تسميتها “شبيّة سرور”.

توفيّ عبدالله سرور إثر صراع أليم مع مرض سرطان الحنجرة في 10 كانون الثاني 1985.

أقامت رابطة خرّيجي ثانوية الوردية/جبيل احتفالاً تكريمياً له بعد وفاته وذلك في جبيل في 9/9/1988. قال فيه إمام جبيل الشيخ غسّان اللقيس: “عرفتُ الأستاذ سرور من خلال ما أخبرني عنه تلامذته. فلم يكن بالنسبة إليهم مدرّساً ومربّياً فحسب، بل كان إنساناً يحمل في أعماقه كافّة معاني الإنسانية بما تعنيه من خلق وآداب وفضائل ومكارم”. وقال فيه زميله الأستاذ يوسف مخايل مدير الفرع الثانوي في الوردية متوجّهاً إليه: “من ثبات الكون وطلوع الشمس والقمر كانت قناعتُك بأن الحظّ فرصة، فيما المصاعب كثيرة متتالية، فانطلقتَ في إبحارك، قاربُك الصدق، وشراعُك حكمةٌ في المواجهة، فما ثنتْك الرياحُ عن المسير. من زادك بسطتَ الإخلاص والشجاعة وليمةً لمن أجاعته غربةُ الحياة وأوجعته مرارتُها. وقفتَ قريباً من العقل والقلب، فلاصقتَ الروح، وغمرتَ رفيق رحلتك بصفاءِ صداقتك ووسع آفاقها.

شابهتَ العصافير بصمتِ طيرانها، والقمرَ بعمق السكون ساعة طلوعه، وانسكابه الهادئ يبدّد الظلمات فتنجلي الأشياء، ويَبعُد الالتباس. شابهتَ البحر باتّساعه، يفتحُ المجالَ رحباً أمام متأمّلي الحياة.

كنتَ وهموم الحياة في سباق، فما شكوتَ ولا قصّرتَ، فحمِلْتَها وهمومَ الآخرين، فزرعتَ السعادة حيثما حلَلْتَ. طرحتَ سؤالك الكبير: إن في الإنسان جيلاً بحاجةٍ لمن يكتشفه، وغامرتَ بانتظار الجواب. لكن انتظارك لم يطُل، وامتلأت بيادرُ الخير بالحصاد المرتجى. وسألتَ عمّا يلذّ من وجع ربّ البيت، وكان الجواب في قرارة ذاتك: تتفتّح البراعم وفق طبيعتها والمناخ. وكانت براعمُك عزاءَ من أوجعتَ برحيلك الصامت المبكر.

ليتك أكملتَ كتاب حياتك، وضعتَ المقدّمة المفعمة بعَبَقِ التضحيةِ والعطاء، فعطّرتَ باقي صفحات الكتاب، وتركتنا نقرأ في بياضها أسرار الحياة. أما الإهداء فإلى كلّ من عرف عبدالله سرور أو تتلمذ على يدَيه.

السحابةُ الكثيفة التي لفّتك بضبابها كانت أعجز من أن تُخفي العطرَ الذي تركتَه يلفحُ جباه طلّاب مدرسة الحياة. والطريقُ الخريفية التي كُتب عليك أن تسيرها، أبيتَ إلا أن تزرع جنباتها أشجار حورٍ تردّدُ وقعَ حنينِ الفراق.

لنا عليك أنّك رحلتَ وتركتنا في حيرةٍ وتلهّف. عفوك إن خالفناك اليوم وكرّمناك، ففي وفائنا لك بعضٌ من وفائك لأصدقائك” (يوسف مخايل).

[2]-مِلَقّ: كلمة فصيحة، طبطابة، مضرب.

[3]-زعل: غضب وحرد (فريحة، معجم، م. س، ص72).

[4]-شبيّة: كلمة سريانية، وهي كتاب صلوات صغير يستخدمه الكاهن كلّ يوم، ويضعه غالباً في جيبه، فيبقى مرافقاً دائماً له، نظراً لكثرة استخدامه.

[5]-مانَ فلان على فلان: تكفّل بإرضائه، أو جعله ينزل عند إرادته. (فريحة، معجم، ص177).

[6]-قدّيش: أي قدر أي شيء. (فريحة، معجم، م. س، ص136).

[7]-مهضوم: خفيف الدم (الجمع مهضومين). (خطاب، الهادي، م. س، ص274). أي سهل الهضم فكريّاً بالطبع.

[8]-حرقص فلاناً: عذّبه وآلمه فتحرقص، والمصدر حرقصة. (فريحة، معجم، م. س، ص33).

[9]-صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية بين العنف والجدل والحوار مع بحوث في اليوغا والتصوّفَين الإسلامي والهندوسي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2019، ملحق 1: في المعرفة والإجازة الجامعيّة، ص259.

[10]-تشّ: ابتلّ، وتشّني البرد شعرتُ به، وبرد جسمي. وتشّة برد: قشعريرة باردة. (فريحة، معجم، م. س، ص21).

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *