الخوري داود كوكباني مدرسة في الروحانية وتأوين البيبليا وفي الظُرف/بقلم لويس صليبا
مع الخوري داود كوكباني، صورة من أيام مخيّم غوسطا (22/8/1978)
الخوري داود كوكباني مقرّبا الذبيحة الإلهية في المخيّم
الخوري داود كوكباني مع السفير البابوي ألفردو بونييرا آب 1975
أبونا داود كوكباني([1]) كان “دينامو”([2]) هذا المخيّم (مخيّم غوسطا للحركة الرسولية المريمية آب 1978) ومحرّكه ومرجعه الأساسي. نجتمع يوميّاً حول تأمّله وإرشاده الصباحي. ورغم جدّيته في العمل، وروحانيّته العميقة ومرضه المزمن (ضعف نظر قويّ منذ الولادة جعل منه أعشى) كان محبّاً للفكاهة والنكتة. وهذا الجانب من شخصيّته أضفى عليها المزيد من السحر والجاذبية. وكان يروي لنا، في سهراتنا كلّ مساء، نكتة أو أكثر، وكنّا نستغرق في الضحك إثرها. أمّا “بطل” نكاته المفضّل فكان مطرانه إغناطيوس زيادة. كان يقلّد صوته بإتقانٍ واضح حتى تخاله هو. وكان يكرّر على مسامعنا قول ذاك الحبر الجليل وبنبرته:
-يا إبني في تنين بسّ بحبّو صوتي: إمّي وأنا، ماتت إمّي، وبعد في أنا.
وممّا أذكره من نكاته عنه حكايات لعب طاولة النرد (الزهر) والورق مع كهنة أبرشيّته. فذات مرّة وخلال لعب الورق، قال كاهن لزميله وكان ينتظر منه أن يرمي بورقة معيّنة تساعده على ربح “الدقّ”([3]):
-كِنتْ زِتّا هال”خِرية”.
فأجابه زميله على الفور: بياكلها سيّدنا.
وخلال لعبة النرد (طاولة الزهر) مع المطران زيادة، صرخ أحد الكهنة مرّة مغتاظاً:
-شو هالزهر الـ ع ك
فبادره المطران: شو هالحكي العلماني يابني.
فأجاب الكاهن فوراً وبسرعةِ بديهةٍ واضحة:
-ما هويّ الزهر عضمة كلب سيّدنا.
وروى أبونا داود مرّة لنا عن زميله الخوري عبدو واكد أنّه قال في عظةٍ له:
-وشو بقلّكن عن الناس اللي كانوا حول يسوع. أكترن بيتصرّف فيهن فعل عَكَرَ على وزن فَعلوت فعاليت.
فسأله كوكباني: وهل فهموا عليك ما قصدت قوله. فأجاب:
-اللي فهموا ابتسموا وضحكوا عالسكّيت، واللي ما فهموا بيكونوا قالوا:
-يا لطيف هالخوري شو بيفهم لاهوت!!
وليتَ الذاكرة تسعفني باسترجاع المزيد من نكات الخوري داود كوكباني. فقد كان مدرسة في سردها، بل وفي تمثيل المشهد المروي ممّا كان يضحكُ مئات الحاضرين، ويضفي على المخيّم جوّاً من الإلفة والروحانيّة المحبّبة.
وكانت تأمّلات الخوري كوكباني الصباحية وعظاته في القدّاس اليومي من نمط الارتجالي غالباً. فنظره لا يسعفه كي يقرأ حين يتكلّم. فكان يكتفي بتدوين بعض المحاور بخطّ كبير، وينطلق منها ليبني عظته أو تأمّله. وكان يتخلّل كلّ تأمّل له وقفات صمت تفصل بين الفكرة وأختها، أو بين محورٍ وآخر، ممّا يضفي على عظته جوّاً محبّباً من الخشوع، يتيح العودة إلى الذات، فيبدو صوته وكأنّه نداء جوّاني ينبع من داخل المستمع.
وكان أبونا داود بارعاً جدّاً في تأوين النصّ الإنجيلي، واستخلاص عِبرٍ منه ورسالة آنيّة تجيب على العديد من التساؤلات الراهنة. وهو ما كان يسمّيه “تقاسم الكلمة”، يقول عن تجربته في المخيّم: “كنّا نتقاسم الكلمة بكلّ بساطة ونقول حقيقتنا بكلّ جرأة، لا يخاف واحدنا الآخر. أيمكن أن نعيش هذه الصراحة والصداقة بهذه السهولة والسرعة؟! أجل يمكن لأنّك يا ربّ عمّانوئيل” أي الله معنا”([4])
وعن أثر التأمّلات والصلوات المشتركة في صهر المشاركين في المخيّم في بوتقة روحية واحدة رغم اختلاف مشاربهم وأطباعهم وتوجّهاتهم يقول أبونا داود: “في داخل المخيّم، كنّا كلّ يومٍ نصلّي ونفكّر ونتأمّل معاً. جوّ المحبّة كان اللُحمة بيننا”([5])
أجل هذا ما كنّا نفعله، بيد أن ما لم يذكره الخوري كوكباني في روايته هذه، تواضعاً منه على الأرجح، أنّه هو من كان يوجّه هذه التأملات صبيحة كلّ يوم، وهو من كان يعمّق الصلوات، فيجعل منها، بصوته المؤثّر، وشهادته الطافحة بالصدق والحيويّة، هتافاً حيّاً ومستمرّاً للخالق.
ونتابع مع أبونا داود حديثه عن التعدّدية في المخيّم والتي لم تكن بعائقٍ بتاتاً بل كانت حافزاً على الاندماج: “من كلّ صوبٍ جئنا، من كلّ عقلية نحن، فينا العصبي وصاحب الأطباع الهادئة، فينا المتعلّم الجامعي، وفينا من لم ينل من الشهادات كبير نصيب، فينا من تعمّق بعلم اللاهوت، وفينا من كان اللاهوت إيمانه. كلّنا التقينا وتفاهمنا. كلّنا شعرنا بالمحبّة الواحدة. هذه الرسالة كانت عنصرة جديدة عشناها” (كوكباني، م. س، ص68).
كلماتٌ بسيطة، مشعّة، واقعيّة، وصادقة في آن. واللُحمة التي يتحدّث عنها أبونا داود، كان هو بهدوئه وصمته وبصيرته النيّرة أبرز مولّد لها.
سبق لنا أن توقّفنا عند دور الخوري داود كوكباني في الحوار المسيحي الإسلامي([6]). وعسانا نعود لاحقاً إلى بعضٍ من معالم فكره وروحانيّته.
فللّه درّك يا أبونا داود كم كان حضورك مفعماً بالمحبّة والظُرف والخشوع، وكم كانت كلماتك تحمل السلام والنور لمستمعيك، رغم الظلمة المستمرّة التي كانت تغرق فيها عيناك!
[1]-الخوري داود كوكباني (1/10/1944-5/10/2012). ولد في بلدة عيتنيت/البقاع. تلقّى دروسه الابتدائية والتكميلية والثانوية في مدرسة الحكمة بيروت. تابع دروسه الفلسفية واللاهوتية في كلّية اللاهوت في الجامعة اليسوعية. سيم كاهناً بوضع يد المطران إغناطيوس زيادة في 11 نيسان 1970. ومذّاك عُيّن معاوناً لكاهن رعيّة القدّيسة تقلا في سدّ البوشرية أي عمّه الخوأسقف يوحنا كوكباني، وخلفه مدبّراً لهذه الرعية عند وفاته 1998. اهتمّ بالتعليم الديني والتوجيه الروحي في مدرسة الحكمة/الأشرفية، ثم في الحكمة/الحازمية. وعُيّن 1989 مسؤولاً عن التعليم الديني والتوجيه الروحي في مدرسة الحكمة فرع مار يوحنا/برازيليا-بعبدا واستمرّ في عمله هذا حتى 2001. كان والمرشد العام في الحركة الرسولية المريمية في لبنان، والمرشد في العمل الرعوي الجامعي. درّس اللاهوت الكتابي والنظري والإسلاميّات في معهد سيّدة العطايا للتعليم الديني والرعوي، وفي المعهد العالي للثقافة الدينية في أنطلياس. ونظّم بالتعاون مع العمل الرعوي الجامعي لقاءات حوار مع الجامعيين المسلمين. عُيّن مرشداً في المدرسة الإكليريكيّة في دير مار أغوسطينوس/عين سعادة التابعة لأبرشية بيروت المارونية، 2001. له عدّة برامج تلفيزيونية على تيلي لوميار، وإذاعية على إذاعتَي صوت المحبّة وصوت الإنجيل. من مؤلّفاته: 1-الكلمة… به كانت الحياة، بيروت، 1995. 2-مجموعة من المقالات في عدد من المجلّات المسيحية، ولا سيما الرعية، رابطة الأخويّات، نور وحياة، حياتنا الليتورجية، البشرى، وغيرها. 3-الخوري داود كوكباني… شهادة تبقى، كتاب تذكاري في 60 ص، صدر عن أبرشية بيروت المارونية والحركة الرسولية المريمية في ذكرى أربعين الخوري داود كوكباني في 11/11/2012.
[2]-دينامو Dynamo كلمة فرنسية الأصل وتعني مولّد أو محرّك كهربائي.
[3]-الدقّ: جمع: دقوق. اللعبة الواحدة، يقولون: دقّ طاولة، ودقّ ورق، ودق شطرنج. (فريحة، معجم، م. س، ص56).
[4]-كوكباني، الأب داود، لقائي مع المسيح، مقالة ضمن كتاب: الحركة الرسولية المريمية في مخيّماتها الرسولية 1973-1977، بيروت، المطبعة الأنطونية، ط1، 1978، ص36.
[5]-كوكباني، الأب داود، من قلوب الناس إلى قلب الله، مقالة ضمن كتاب: الحركة الرسولية المريمية، م. س، ص68.
[6]-صليبا، د. لويس، عابرٌ يلبس كهنوت المسيح: سيرة الأب عفيف عسيران وروحانيّته، جبيل/بيبليون، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2014، فق: عفيف يخرّج روّاداً في الحوار المسيحي الإسلامي، ص362-363.