في حضرة أبي يزيد البسطامي وأبي الحسن الخَرَقاني/محاضرة لويس صليبا على Zoom، الأربعاء 30 /3 /2022
حكايتي مع أبي يزيد البسطامي هي بالحري قصّة صُحبةٍ قديمة وطويلة، وتمتدّ سحابة عمرٍ. وسأكتفي في ما يلي بأن أروي خبر لقاءٍ لطيفٍ لي به في مقامه في بسطام. وكم حلمتُ بأنّ أحجّ إليه. وبعد شوقٍ دائمٍ، وطولِ انتظار إذا بالحلم يتحقّق ذات يوم. وكان ذلك في رحلةٍ علمية إلى إيران في أيار 2009. ([1]).
سافرتُ من مشهد حيث مقام الإمام الرضا بالقطار صباح 24 أيار 2009، في الساعة السابعة وعشر دقائق صباحاً لأصل إلى شهرود عند الحادية عشرة والنصف ق ظ. وبسطام([2]) تبعد نحو عشرة كلم عن شهرود. وهذه الأخيرة هي المحطّة الأقرب إلى بسطام. أخذتُ التاكسي نحو بسطام، ودلّني السائق على مقام أبي يزيد البسطامي حيث عاش وحيث ضريحه اليوم. ولكن ما قرأته على الباب يذكر أنه مقام إمام زاده أي محمّد ابن الإمام جعفر الصادق. لم أصدّق ما قاله السائق بعد أن رأيتُ الكتابة، فنزل من السيّارة واصطحبني إلى الداخل وأراني مقام أبي يزيد البسطامي وضريحه داخل حرم إمام زاده. ولا أزال أذكر إلى اليوم هذه النظرة الأولى التي ألقيتُها على الضريح البايزيدي. كان هناك مجموعة من الزوّار وخدّام المقام يتحلّقون حول هذا الضريح وقد كُتب عليه ما معناه: هنا يرقد مولانا أبو يزيد البسطامي. ويشقُّ عليّ أن أصف شعوري بعد أن قرأتُ الاسم وأيقنتُ أنّني أمام مثوى أبي يزيد. هلّلتُ فرحاً، وانشرح صدري وأحسستُ بموجةٍ من الغبطة تجتاح كياني. بيد أن السائق لا ينتظر، فكان عليّ أن أمضي معه إلى الفندق، لنُنزل حقائبي وأستلمَ غرفتي، وآخذَ استراحةً قصيرة بدأتها بحمّامٍ ووضوء. ثم سِرت نحو المقام مشياً على الأقدام، وهو ليس ببعيد عن الفندق.
وكم يصعبُ عليّ أن أصفَ شعوري وأنا أقفُ أمام مقام المعلّم الطيفوري فهي وقفة طالما حلمتُ بها ومنذ سنين طويلة! وها هي تتاحُ لي بعد طول انتظار. دخلتُ مسجد أبي يزيد البسطامي والمسجد والمقام لأهل السنّة، في حين أن الساحة الخارجية ومقام إمام زادة أي ابن الإمام جعفر الصادق للشيعة. صلّيتُ في مسجد أبي يزيد، ثم جلستُ جلسة تأمّل، وتأمّلت لنحو نصف ساعة. وخرجتُ فدُعيت للدخول إلى صومعةِ أبي يزيد البسطامي، وهي لا تُفتح إلا قبل الصلاة. صومعة صغيرة رائعة، فدخلتُ وصلّيتُ فيها. وكم تمنّيتُ لو أن مقامي في تلك الصومعةِ يطول، بيد أن الزوّار كثرٌ، وعلّي أن أُفسح المجال للآخرين، فالصومعة لا تسع سوى عددٍ قليل من الزائرين لا يتخطّى عدد أصابع اليد الواحدة.
تركتُ مقام أبي يزيد لأزور مقام أبي الحسن الخَرقاني الذي يبعد عنه نحو نصف ساعةٍ بالتاكسي. ثم عدتُ إليه. فوجدتُ جماعة من الشباب التركمان وهم أعضاء في طريقة صوفية هي النقشبندية، دخلوا مسجد أبي يزيد وأرادوا أن يقيموا صلاة المغرب فيه، ودعوني كي أصلّي معهم، فلبّيتُ، وسرّوا بمشاركتي سروراً عظيماً. المسجد كما أسلفتُ لأهل السنّة وفيه يقيمون صلواتهم، والمقام لهم كذلك. أما الساحة الخارجية ومقام الإمام محمّد بن الإمام جعفر الصادق فللشيعة، وكلّ يصلّي على حدة، فلا السنّة يشاركون الشيعة صلواتهم، ولا هؤلاء يفعلون ما لا يفعله أولئك. خرجت إلى الساحة، وكان الشيعة يعدّون لإقامة صلاة المغرب، وذلك بعد دقائق تلت إقامة السنّة لهذه الصلاة في المسجد. وكما في مقام الإمام الرضا في مشهد بسطوا السجّاد وتقاطر الناس من كلّ حدبٍ وصوب للصلاة، فدخلتُ بين الصفوف وأقمتُ الصلاة معهم. وكنتُ قد تعلّمتُ أن أقيم الصلاة مع كلّ فريقٍ على طريقته. وبعد أن انتهت صلاة الجماعة في الساحة عدتُ نحو صومعة أبي يزيد وكان يقف بالقرب منها الشباب التركمان الذين شاركتهم صلاتهم داخل المسجد. وكانوا ينظرون إليّ باستياء كبير وخيبة أمل أكبر، بعد أن رأوني أصلّي مع إخوانهم. لقد تبدّدت تماماً فرحتهم التي أبدوها منذ دقائق عندما شاركتهم صلاتهم. وها هم يحارون في تصنيفي مع أيّ فريق!! ابتسمتُ وبشَشْتُ لهم، وضحكتُ بداخلي قائلاً بيني وبين نفسي: وماذا لو عرفوا أن لا دخل لي بتاتاً في هذه الانتماءات وهذه الاختلافات والخلافات المذهبية!! ثم أقفلتُ راجعاً إلى الفندق سيراً على الأقدام.
والآن إذ أتأمّل في هذه الحادثة، وأعود إلى الروايات الثلاث القديمة المتوفّرة عن بسطام، والمذكورة بنصّها الكامل في الهامش، والتي كتبها ياقوت الحموي 574-626هـ/1178-1229م)، والقزويني (605-682هـ/1208-1283م)، وابن بطّوطة (703-779هـ/1304-1377م)، فما الذي يمكن استخلاصه؟
الثلاثة هؤلاء رحّالة. ياقوت ذكر مشاهداته تحديداً في بسطام كما بينّا في الهامش. ولو رأى مقاماً للإمام محمد بن جعفر الصادق لكان أشار إليه وتحدّث عنه. والوحيد الذي تحدّث عن مقام لهذا الإمام هو الأخير بين الثلاثة أي ابن بطّوطة فقال كما نقلنا عنه في الهامش: ” وبهذه المدينة قبره، ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه”. ما يجعلنا نرجّح أن هذا المقام متأخّر، ولم يكن له وجود أيام ياقوت ولا أيام القزويني.
وممّا يؤكّد استنتاجنا هذا أن دارس رحلة ابن بطّوطة ومحقّق نصّها المؤرّخ المغربي عبد الهادي التازي (15/6/1921-2/4/2015) يؤكّد بعد مقارنة نصّ ابن بطّوطة بنصوص سائر الرحّالة أن هذا الأخير تفرّد دون سواه بذكر مقام الإمام ابن جعفر الصادق بمحاذاة مقام أبي يزيد، يقول التازي معلّقاً على ما ذكره ابن بطّوطة في هذا الصدد: “هذا ممّا استأثر بذكره الرحّالة المغربي بيد أن عدداً من أضرحةِ أبناء الأئمّة التي تحمل اسم إمام زاده توجد متناثرة في إيران، ومن بينها ضريح محمد ابن جعفر الصادق الإمام السادس الذي يوجد في جرجان شمال بسطام”. (ابن بطوطة، م. س، ص3/58).
فالمقام الذي يجاور مقام أبي يزيد ليس المقام الوحيد لمحمّد بن جعفر الصادق، بل ثمّة مقام آخر في جرجان. والمقام الذي له في بسطام متأخّر على ما يبدو.
وفي اليوم التالي 25 أيار 2009 اخترتُ أن أصوم في هذا النهار الطيفوري الثاني والأخير. مستلهماً قول أبي يزيد عندما سئل: بأيّ شيء وجدتَ هذه المعرفة، فأجاب: ببطنٍ جائعٍ، وبدنٍ عارٍ”([3]) وذهبتُ إلى المقام عاقداً النيّة على أن أزور صومعة بايزيد مرّة أخرى، وأُمضي فيها ما تيسّر لي من وقت. فدخلتها قبل الصلاة، والصومعة من غرفتَين في كليهما محراب. الجوّ فيها لطيف ومنعش، لأن الجدران سميكة وعازلة. والانتعاش هذا لامس الفكر والنفس، وكأنّ شيئاً من بركات أبي يزيد قد حلّت عليّ. وكنتُ من فرطِ تأثّري على وشك أن أبكي. صلّيت ركعتَين، ثمّ جلستُ قبالة المحراب. ولم أستطع أن أطيل المقام لأن بعض الشبّان دخلوا الصومعة يريدون أن يقيموا الصلاة، والمكان ضيّق، فكان لا بدّ لي من أن أغادر. ثمّ عدتُ مرّة ثانية فصلّيتُ ركعتَين، وخرجتُ فثمّة امرأة كانت تنتظر مغادرتي لتدخل بدورها وتصلّي.
وها أنا للمرّة الثالثة والأخيرة اليوم في صومعةِ أبي يزيد. فتّشت عن المسؤول عن الصومعة، ففتح لي، وقال أمامك أربع دقائق لا غير. فرجوته بإلحاح أن يجعلها عشر دقائق. وكنّا نتحدّث بالإشارات، فهو لا يعرف سوى الفارسيّة، فقَبِل وأقفلَ عليّ باب الصومعة. صلّيتُ ركعتين ثم تربّعتُ وبدأت جلسة تأمّل. وكان تأمّلاً عميقاً يصعبُ وصفه. وغرفةُ الصومعة الداخليّة جوّهاً منعشٌ، ربّما لسماكة الحيطان. بيد أن الأهمّ يكمن في أنّها تحفظ الكثير من البركات ومنذ زمن أبي يزيد. فهل هي الصومعة نفسها التي عاش فيه طيفور البسطامي؟
ربّما، بيد أنّها قد جُدّدت منذ زمنه. والتأمّل فيها مثالي، لحفظها التردّدات والذبذبات. أغمضتُ عينيّ واستغرقتُ في التأمّل. وهنا حصل لي ما لم أستطع أن أفهمه، أو أن أشرحه. رأيتُ نفسي في جسدٍ غير هذا الجسد وفي ثيابٍ أخرى، وفي زمنِ أبي يزيد وكأنّني كنتُ خادم أبي يزيد، أو كأنّي كنتُ ذاك الصبي الذي لا يستطيع أن يحفظ سرّ أبي يزيد، فأوصاه هذا الأخير أن يكتفي بأن يذهب ويحدّث الجِمال في الصحراء عمّا يرى ويسمع، ويمتنع من أن يبوح بذلك للآدميين.
فما الذي تعنيه هذه الرؤيا التأمّلية؟! وهل تفسّر بعضاً ممّا أشعر به من رابطٍ عميق يجمعني بهذا المقام وبصاحبه؟! ربّماً. أيّاً يكن، فتأمّلي لم يطل، مع الأسف الشديد، ذلك لأن الفُسحة الزمنية التي أتاحها لي المسؤول عن الصومعة لا تتجاوز الدقائق العشر، وخلال هذا التأمّل تفقّدوني مراراً طالبين أن أخرج، فكان لا بدّ لي من أغادر هذه الصومعة الحبيبة وأنا لم أُنهِ بعد تأمّلي. فتوجّهتُ نحو الباب والغبطة تملأ القلب والنفس. وكان الشعور الذي ينتابني حينها أنّني اكتشفتُ شيئاً من ماضيّ السحيق، وسبرتُ بعضاً من خفايا ما أشعر أنّه يربطني بأبي يزيد. وهذا الانطباع الذي خرجتُ به أشعرني بانشراحٍ عميقٍ في الصدر. فشاركتُ في صلاة الجماعة عند الظهر، والشيعة يصلّونها جمعاً، أي الفجر والظهر معاً، وعدتُ إلى الفندق عند نحو الثانية بعد الظهر لأعدّ حقائبي.
الخرَقاني تلميذ أبي يزيد ومقامه
وقبل أن أنهي حديثي عن بسطام ووليّها معلّمي أبي يزيد البسطامي، يحسن أن أذكر تلميذه أبو الحسن علي بن جعفر الخَرَقاني (351-425هـ/963-1033م) ([4]) ومقامه هو الآخر في خَرَقان ضاحية بسطام([5]) وعلى مسافة نحو نصف ساعة في السيّارة كما أسلفتُ.
وكان الخرَقاني كثير التعظيم لأبي يزيد في حياته، وشاء أن يبقى على إكباره له حتى بعد مماته. فأثناء حياته كان يأبى أن يغادر مقام البسطامي ويدير ظهره إليه كما ذكرنا عنه في الهامش نقلاً عن العطّار حتى صار سلوكه التكريمي هذا تقليداً متّبعاً عند الصوفيّة. أما بعد وفاته فشاء أن لا يكون ضريحه، وهو على ربوة، أعلى من ضريح أبي يزيد في بسطام، روى العطّار: “ونُقل أنّه حين حضرته الوفاة، وصّى أصحابه أن يحفروا في قبره ثلاثين ذراعاً، قال لأن أرضنا أعلى من أرض بسطام، والأدب أن لا يكون مرقدُ أبي يزيد البسطامي أسفلَ من قبري، فامتثلوا أمره” (العطّار، م. س، ص608-609).
وأبو الحسن في إجلاله لمعلّمه أبي يزيد وتقديمه له على نفسه يذكّر بتعليم المسيح القائل: {ما من تلميذٍ أعظم من معلّمه. كلّ تلميذٍ أكمل تعليمه يكون مثل معلّمه} (لوقا6/40).
والخلاصة فقد كان أبو الحسن الخرَقاني مثالاً نموذجيّاً للمريد الوفي والمخلص لشيخه وتعاليمه على بُعدٍ في الزمن بينه وبين ذاك المعلّم. وبتوقيره لمعلّمه وإجلاله الدائم له طيلة حياته وبعد مماته استحقّ كلّ إجلالٍ وتوقير.
فلهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها شعرتُ أن زيارة أبي يزيد في مقامه لا تكتمل من دون حجٍّ إلى مقام مريده أبي الحسن الخرقاني.
وكانت لي زيارتان متواليتان إلى هذا المقام، الأولى في 24/5/2009، والثانية في اليوم التالي، ومباشرة قبل ذهابي إلى محطّة القطار في شهرود مغادراً بسطام. وعن هاتين الزيارتَين أنقل عن يوميّات السفر ما يلي: “حدّثني بعض من لقيتُ في مقام أبي يزيد عن مقام أبي الحسن الخَرَقاني القريب من مقام البسطامي، واقترح عليّ أن أذهب لزيارته بالتاكسي. وهذا ما فعلتُه. وكان مع سائق التاكسي مرافق. وأُقرّ أنّني وسط الطريق المقفرة والمنعزلة خفتُ وخشيتُ أن ينفردا بي ويسلباني بل وحتى يقضيان عليّ. وبقيت هذه الخشية تراودني ذهاباً وإياباً. ولو عرفتُ أن مقام الخرقاني منعزل ومنفرد لكنتُ طلبتُ من مدير الفندق أن يستدعي تاكسي يعرفه، فيكون سفري معه بالتالي على مسؤوليّته. وهذا ما فعلته في اليوم التالي عندما عدتُ إلى محطّة شهرود كي أستقلّ القطار نحو طهران.
ولكن، وفي ما هو أبعد من السبب الظاهر والمباشر لهذا الخوف، فقد عرفتُ لاحقاً، وإثر تفكّري واستبصاري بوقائع هذه الزيارة أن تجربة الخوف التي مررتُ بها، تتصّل بسيرة أبي الحسن الخَرَقاني وتعليمه بأسبابٍ عميقة. فلهذا الوليّ الصوفيّ مع الخوف، ولا سيما الخوف الأكبر ومصدر كل المخاوف، أي خوف الموت شؤون وشجون. وكأنّه كان لي في زيارتي له أن أذكر وأخبر خوف الموت كي أعي وأتدبّر ذوقيّاً ما عاش وعلّم في هذا المجال.
فلا يُموت خوف الموت في ابن آدم إلا إذا مات هو عن دنياه، وأمات أناه. قيل لأبي الحسن: “أتخاف من الموت؟ قال: الميت لا يخاف من الموت”([6])
وعن خوف الموت وتعليم الخرقاني بشأنه، روى العطّار في التذكرة ما يلي: “نُقل عن الشيخ محمّد بن الحسين رحمه الله أنّه قال: مرضتُ نوبةً، وكان لي حزنٌ عظيم، وغمٌّ أليم من خوف الخاتمة. فعادني الشيخ أبو الحسن رحمه الله، وقال: إنّك خائفٌ من الموت؟ قلتُ: نعم. قال: لا تخف، فإنّي إن متُّ قبلك أحضر عندك عند موتك، وأسأل الله أن يخفّف عليك. ثم رزقني الله الصحّة، وتوفّي الشيخ. ومضى زمانٌ. ثم مرض الشيخ محمد بن الحسين مرض الموت. ونُقل عن ابنه أنّه قال: كنتُ عند أبي وقت النزع، إذ رأيتُه نهض قائماً، وقال: وعليك السلام، ادخل. قلتُ: يا أبي من الذي تراه؟ قال الشيخ أبا الحسن الخَرَقاني رحمه الله، فإنّه وعدني من زمان أن يحضرني عند الوفاة. والآن قد وفى بوعده، وحضرني، ومعه جماعة من أولياء الله لئلا أخاف الموت. قال هذا وسلّم الروح” (العطّار، تذكرة، م. س، ص609).
فعسى خوف الموت هذا الذي خبرتُه في طريقي لزيارة الشيخ أبي الحسن يشفع لي عنده حضوراً له في ساعة موتي!
ومقام الخرقاني في مكانٍ جميلٍ منعزل وعلى ربوة. يُصعَد إليه بالدرج. وعند المدخل يستقبلُك نُصبٌ تذكاري لهذا الصوفي حاملاً كتاباً وجالساً بين أسدَين كانا رفيقَين له في عزلته هذه كما يُروى. ولم يكن له سواهما من رفيق. وفي المقام حيث الضريح صورة للخرقاني مع هذين الأسدين.
ولأبي الحسن حكايات عديدة مع الأسود روى بعضها العطّار في التذكرة. وممّا قيل عنه إنّه كان يدجّن الأسود ويستخدمها استخدام سائر الناس للدواب. روى العطّار حكاية لافتة عن زيارة لابن سينا لهذا الوليّ فقال: “نُقل أن أبا علي بن سينا لمّا سمع أخبار أبي الحسن قصده، وجاء إليه، فلمّا وصل الباب ودقّه، خرجت إليه امرأته وقالت: ما تريد؟ قال أبو علي: أريد الشيخ أبا الحسن. قالت المرأة: ذلك الزنديق الكذّاب، فلِمَ تعبتَ لأجله؟ قال أبو علي لا غنى لي من صحبته. قالت المرأة: ذهب يحتطب. فخرج أبو علي إلى الصحراء في طلبه، فرآه يجيء وقد حمل الحطب، على أسدٍ ويسوقه، فحصل لأبي علي من ذلك حالٌ وتعجّب في شأنه، فلمّا وصل إليه، قال أبو الحسن: لا تعجب من هذا، حملنا على أنفسنا حمل ذلك الذئب، يعني المرأة، فلا جرم أنّه حمّل الأسد حملنا وكارتنا” (العطّار، م. س، ص578-579).
تبدو المبالغة واضحة في هذه الحكاية، فهي من صنف الأخبار الآجيوغرافية التي تدخل في أكثر سيَر الأولياء من مختلف التقاليد. وقد حشد العطّار الكثير منها في التذكرة. ويبقى الأهمّ ما يُستخلص من رواية فريد الدين هذه من عبرة. فأبو الحسن بدأ حياته مكاريّاً يحمّل على الحمير، يروي السمعاني عنه، وهو ما سبق ونقلناه في الهامش: “كان ابتداء أمره يكري الحمار ويحمّل الأثقال عليه، وكان يقول وجدتُ الله في صُحبة حمار”([7])
فبفعل رياضة النفس التي تحدّث عنها السمعاني في روايته انتقل الخرقاني من تحميل الحمير إلى تحمّل الذئب أي امرأته طبقاً لتعبير العطّار، وانتهى بأن صار جديراً بتحميل الأسود أحماله! لكأنّه خيميائي نجح في تحويل الحمير إلى ليوث!!
ورافقت الأسود أبا الحسن في حياته وبعد مماته. روى العطّار: “ثم بعد دفن الشيخ أبي الحسن رأوا أسداً إزاء قبره واقفاً. وفي اليوم الثاني رأوا حجراً كبيراً موضوعاً على قبره، وعليها أثر قدم الأسد، فعلموا أن ذلك كان فعلاً لذلك الأسد” (العطّار، م. س، ص609).
ويضيف العطّار إلى ذلك حكاية أخرى: “ونُقل أيضاً أنّهم رأوا أسداً يطوف بقبره” (م. ن).
فعيش الخرقاني إلى جانب الأسود، وضريحه الذي صار مزاراً لها جعل من الليوث رمزاً له وشعاراً، فصُوّر غالباً معها.
والمقام جميل في الداخل والخارج. ولاحظتُ أن بعض النسوة قد نصبن خيمةً بالقرب من حائط هذا المقام لينمن فيها. وكنّ يصلّين عندما مررتُ بهنّ. وكنتُ أودّ أن أُمضي المزيد من الوقت في ذاك المقام أتأمّلُ وأصلّي. لكن مع اقتراب حلول الظلام، وخشيتي من العتمة وما يمكن أن يُفعل فيها منعاني من ذلك. فاكتفيتُ بأن صلّيتُ ركعتَين في المقام. وأقفلتُ راجعاً بالتاكسي عينه الذي أقلّني، وكان الرجلان ينتظرانني.
ولم تُشبع هذه الزيارة القصيرة نهمي وحشريّتي في أن أعرف ذوقيّاً شيئاً عن ذاك الذي أحبّ أبا يزيد وتتلمذ عليه، وإن باعدت الأزمنة بينهما. فعدتُ إليه في اليوم التالي. إذ اشترطتُ على السائق الذي سيقلّني إلى محطّة شهرود أن يمر بي أولاً على مقام الخرقاني. وكان من حسن حظّي أنّني التقيت في زيارتي الثانية لذاك المقام بمجموعة التركمان إيّاها التي صلّيت معها في مسجد أبي يزيد!! فأقاموا الصلاة، وصلّيتُ مجدّداً معهم. فسرّوا بي مرّة أخرى، وكأنّهم غفروا لي “خطأي” البارحة. وأخذ واحد منهم يتلو بعض آيات الذكر الحكيم بصوتٍ شجيّ فيه مسحة من الحزن. وجلسوا حول ضريح الخرقاني وجلستُ معهم. وكانت جلسة رائعة لا تنتسى، فترتيل القرآن، والذي أُتبع بتلاوة بعض الأدعية حرّك فيّ مشاعر هاجعة وعميقة. بيد أن ما أسفتُ له هو أنّني لم أُطِل المقام، إذ كنتُ مضطرّاً إلى المغادرة نحو محطّة القطار.
وهكذا فزيارتي الأولى لأبي الحسن الخرقاني المحفوفة بالخوف والقبْض، والثانية المتوّجة بالبسط والانشراح كانتا نموذجاً تطبيقيّاً وذوقيّاً عمّا تحدّث عنه هذا الولي الصوفي بشأن الطريق إذ قال: “الطريق طريقان: طريق الضلالة، وطريق الهداية. فطريق الضلالة هو طريق العبد إلى الله، وطريق الهداية هو طريق الله إلى العبد. وكلّ من يقول وصلتُ لم يصل. وكلّ من يقول أوصلوني، وصل.” ([8])
فزيارتي الأولى كانت طريقي إليه، فيها رغبتُ أن أحجّ إلى مقامه، وأتعرّف إليه، فكان لا بدّ لهذا الفعل الإرادي أن يكون محفوفاً بالهواجس والمخاوف. أمّا الثانية فكانت طريقه هو إليّ، اذ استدعاني كي أعود، وأقضي هذه البرهة الموجزة في دياره وبصحبته مع هذا الفريق من المنشدين والصوفيين الذي أسمعني من شجيّ التراتيل وخاشع الأدعية ما بسط القلب وجعل الصدر ينشرح. فذقتُ ببركته شيئاً من الغبطة في مقامه. والخرَقاني مشهورٌ بكرمه بإكرامه للضيف، وقد أُثر عنه قوله: “لو كانت الدنيا لي، وجعلتُها لقمةً في فمِ الضيف، ما أدّيتُ حقّ الضيف” (العطّار، م. س، ص607).
وما يُنتظرُ من وليّ مثله كرَمٌ روحيّ، وما البسط والغبطة التي شعرتُ بها في مقامه وفي حضرته سوى نذرٍ من تجلّيات هذا الكرم.
وممّا أسفتُ له يومها أنّني لم أجد في مقام أبي يزيد، ولا في مقام الخرَقاني وإن نبذة موجزة عن كلّ منهما تروي شيئاً من تاريخ كلّ من هذين المزارين الصوفيّين الشهيرين!!
وتبقى الأمثولة الأولى والعبرة الأهمّ من زيارة هذا الوليّ الحبيب تعليمه الأساسي وما جسّده في أدب حياته من مجاهدةٍ للنفس بدأها بالتبصّر بأحوالها لمعرفتها حقّ المعرفة، وهو القائل: “العالِم يشتغل بتفسير القرآن، والعارف بتفسير نفسه وشرح أحواله” (العطّار، م. س، ص605).
وعن مجاهدة النفس وصرف العمر في تطهير اللسان والوجدان يشهد الخرَقاني قائلاً: “لئن سأل الله عنّي يوم القيامة وقال ما جئتَ به في الدنيا، فأقول: إلهي قيّضتَ عليّ كلباً (اللسان) يعضّني ويعضّ غيري، وأنا كنتُ متحيّراً في شأنه كيف أدفعه عنّي وعن غيري. وأعطيتني نفساً نجسة صرفتُ جميع أيّامي في تطهيرها” (العطّار، م. س، ص608).
والنفس بالمفهوم الصوفي هي الفكر والذهن([9]) الذي يقضي السالك سحابة عمرٍ في تنقيته وتطهيره من الانفعالات والرغبات والشهوات!
وكانت لي إطلالة أخيرة وقصيرة على مقام أبي يزيد وأنا ماضٍ في التاكسي نحو محطّة القطار في مدينة شهرود. زيارة ختاميّة سريعة كانت وكأن صاحب المقام يدعوني للقيام بها. إذ رجاني سائق التاكسي أن يصطحب زوجته معه إلى تلك المدينة فوافقتُ. ولحسن الحظّ كانت هذه الأخيرة صاحبة متجرٍ صغير عند مدخل مقام أبي يزيد. فما أن توقّف السائق ليأخذها معنا حتى اغتنمتها فرصةً ذهبية، فنزلتُ من التاكسي، وركضتُ نحو المقام لأودّعه وأشكر صاحبه على أويقاتٍ من العمر قضيتها فيه. وكانت سفرةٌ ليليّة بالقطار من شهرود إلى العاصمة طهران ببركةِ أبي يزيد وحضوره المرهف الذي يفعم النفس والوجدان فرحاً وغبطة وفهماً ويقيناً.
وفي الختام مقطوعة أو بالحري قصيدة نثرية من وحي زيارة مقام أبي يزيد، كتبتها مستحضراً القول المتداول في الهند: “عندما يترك المعلّم Guru جسده، ويمضي في رحلته الأخيرة، يصير مقامه ومثواه الأخير هو جسده، وفيه يخبر المريد والزائر حضور المعلّم”:
أبو يزيد… أيا شيخيَ الحبيب
وأخيراً التقيتُك في مقامِكَ
لقاؤنا سَفرةً في الزمن كان
بين الآن وذاك الأوان
عينان لدقائق مغمضتان
شطحتا بي عبر الزمان
في رحلةٍ أعادتني إلى أيّامك.
أو ربما إلى أيّامنا الخوالي.
*******
أبو يزيد هذه الجدران
لمّا تزل تحفظُ ذبذباتك
وهذا المحراب لمّا يزل يحكي
لكلّ زائرٍ عن حضورك القديم
وعن حضورٍ لك باقٍ
بين الكثيف واللطيف
وتفصح عنه الحيطان
*******
أبو يزيد:
دقائقُ تأمّلٍ في صومعتك
كانت برهةً بين الأزل والأبد
ولحظةً مستقطعة
حلّقتُ فيها خارج الزمان
مسافراً نحوك في معراج
سَفرةٌ أعادتني إلى البدايات
وكأنّني خادمُك الأمين ذاك
الذي أدهشه ما رأى.
فما أطاق الكتمان
فمضى بأمرٍ منك إلى الصحراء
يحكي للجِمال ما يعرف عنك من أسرار.
***********
أبو يزيد جئتُك ملتمساً صحبتك
صحبةً أريدها
لسائر ما بقي لي من أيّام
بحثتُ عنك وكأنّني أبحثُ عن ذاتي
وعندما التقيتُك في محرابك
لقيتُ شيئاً من نفسي التائهة
********
أبو يزيد: حججتُ إلى مقامك
وفي اليوم الأوّل رأيتُ المقام
وفي الثاني صاحبَ المقام
وغاب عن ناظري المقام
فعساني في يوم ثالثٍ قريب
لا أرى المقامَ ولا صاحب المقام
بسطام/إيران في 25/5/2009.
«»«»«»«»«»([10])
[1] -هذا النصّ مأخوذٌ بمعظمه من يوميّات السفر إلى إيران:
Saliba, Lwiis, Traveller’s Diary, Book No 29, Beirut-Teheran, 2009, pp109-113.
[2] -بسطام: بِسْطام هي مدينة إيرانية تقع في محافظة سمنان. يبلغ عدد سكانها 7,382 نسمة بحسب إحصاء عام 2006 م. وفيها يقول ياقوت الحموي (ت626هـ) في معجم البلدان: “بِسْطام بلدة كبيرة بقومس على جادّة الطريق إلى نيسابور بعد دامغان بمرحلتين، قال مسعر بن مهلهل: بسطام قرية كبيرة شبيهة بالمدينة الصغيرة، منها أبو يزيد البسطامي الزاهد، وبها تفاح حسن الصّبغ مشرق اللون يُحمَل إلى العراق يُعرف بالبسطامي، وبها خاصيّتان عجيبتان: إحداهما أنه لم يُرَ بها عاشق من أهلها قطّ، ومتى دخلها إنسان في قلبه هوى وشرب من مائها زال العشق عنه، والأخرى أنه لم ير بها رمد قطّ، ولها ماء مُرّ ينفع إذا شرب منه على الريق من البخر، وإذا احتقن به أبرأ البواسير الباطنة، وتنقطع بها رائحة العود ولو أنه من أجود الهندي، وتذكو بها رائحة المسك والعنبر وسائر أصناف الطيب إلا العود، وبها حيّات صغار وثّابات وذباب كثير مؤذ، وعلى تلّ بإزائها قصر مفرط السعة على السور كثير الأبنية والمقاصير، ويقال إنه من بناء سابور ذي الأكتاف، ودجاجها لا يأكل العذرة”. وبعد أن ينقل كلّ هذه الروايات يضيف ياقوت إليها مشاهداته هو قائلاً: “قلتُ أنا: وقد رأيتُ بسطام هذه، وهي مدينة كبيرة ذات أسواق إلا أن أبنيتها مقتصدة ليست من أبنية الأغنياء، وهي في فضاء من الأرض، وبالقرب منها جبال عظام مشرفة عليها، ولها نهر كبير جار، ورأيت قبر أبي يزيد البسطامي، رحمه الله، في وسط البلد في طرف السوق، وهو أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان الزاهد البسطامي، ومنها أبو يزيد طيفور بن عيسى بن آدم بن عيسى ابن علي الزاهد البسطامي الأصغر، ومن المتأخّرين أحمد بن الحسن بن محمد الشعيري أبو المظفّر بن أبي العباس البسطامي المعروف بالكافي سبط أبي الفضل محمد ابن علي بن أحمد بن الحسين بن سهل السهلكي البسطامي، سمع جدّه لأمّه وأجاز لأبي سعد، ومات في حدود سنة 530، وكان عُمَر أنفذ إلى الرّيّ وقومس نعيم بن مقرّن وعلى مقدّمته سويد بن مقرّن وعلى مجنبته عيينة بن النحاس، وذلك في سنة 19 أو 18، فلم يقم له أحد، وصالحهم وكتب لهم كتاباً، وقال أبو نجيد:
فنحن، لعمري، غير شكّ قرارنا أحقّ وأملى بالحروب وأنجب
إذا ما دعا داعي الصباح أجابه فوارس منّا كلّ يوم مجرّب
ويوم ببسطام العريضة، إذ حوت، شددنا لهم أوزارنا بالتلبّب
ونقلبها زوراً، كأنّ صدورها من الطّعن تطلى بالسنى المتخضّب
(الحموي، شهاب الدين أبي عبدالله ياقوت بن عبدالله (574-626هـ/1178-1229م)، معجم البلدان، بيروت، دار صادر، 1977، ج1، ص421-422).
وقال القزويني (ت682هـ) عن بسطام: “نسب إليها سلطان العارفين أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي صاحب العجائب؛ قيل له: ما أشدّ ما لقيت في سبيل الله من نفسك؟ قال: لا يمكن وصفه. فقيل: ما أهون ما لقيت نفسك منك في سبيل الله؟ قال: أما هذا فنعم. دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني، فمنعتها الماء سنة. وحكي أن أبا يزيد رأى في طريق مكة رجلاً معه حمل ثقيل، فقال لأبي يزيد: ما أصنع بهذا الحمل؟ فقال له: احمله على بعيرك واركب أنت فوقه. ففعل الرجل ذلك وفي قلبه شيء، فقال له أبو يزيد: افعل ولا تمارِ، فإن الله هو الحامل لا البعير! فلم يقنع الرجل بذلك. فقال أبو يزيد: انظر ماذا ترى؟ فقال: أرى نفسي والحمل يمشي في الهواء والبعير يمشي فارغاً. فقال له: أما قلت لك إن الله هو الحامل فما صدقت حتى رأيت! وحكي انه سمع أن بعض مريديه شرب الخمر، فقال له: اخرج معي حتى أعلّمك شرب الخمر! فخرج معه فأدخله بعض المواخير وشرب جميع ما في دنانها، ثم تنكس فجعل رأسه على الأرض ورجليه نحو الهواء، وقرأ القرآن من أوله إلى آخره وقال للمريد: إذا أردت شرب الخمر فهكذا! مات سنة إحدى وستين ومائتين ببسطام، وكان له هناك مشهد مزار متبرك به، وذكر بعض الصوفية أن من نام في مشهد أبي يزيد، فإذا استيقظ يرى نفسه خارجاً من المشهد. (القزويني، زكريّا بن محمد بن محمود (605-682هـ/1208-1283م)، آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت، دار صادر، 1984، ص308).
وقال ابن بطوطة (ت779هـ) في رحلته ذاكراً مروره ببسطام: “وسافرتُ من (مدينة) نيسابور إلى مدينة بسطام التي ينسب إليها الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي الشهير، رضي الله عنه. وبهذه المدينة قبره، ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه. وببسطام أيضاً قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني. وكان نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه”. (ابن بطوطة، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة (703-779هـ/1304-1369م)، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار المعروف برحلة ابن بطوطة، تحقيق عبد الهادي التازي، الرباط، منشورات أكاديمية المملكة المغربية، ط1، 1997، ج3، ص57-58).
وقال عبد الهادي التازي محقّق رحلة ابن بطّوطة: “بِسطام تقع على منتصف الطريق الذي يربط طهران بمشهد، كانت مدينة زاهرة على عهد ياقوت الحموي”. وأضاف التازي: يعرف البسطامي تحت اسم بايزيد، وهو من أشهر رجال التصوّف في الإسلام يوجد على رأس لائحة الملامتية وقد توفي في سنة 260هـ=874، ضريحه مشهور ومقصود، ونقل التازي عن ابن عربي في الفتوحات المكّية: والبسطامي هو الذي سُئل: أيعصى العارف؟ فأجاب: وكان أمر الله قدراً مقدوراً! يعني أن معصيتهم بحكم القدر النافذ فيهم. (ابن عربي، الفتوحات المكّية، القاهرة، الهيئة المصرية، ط1، 1974، ج3، ص410).
[3] -آل قيس، قيس، الإيرانيّون والأدب العربي: رجال التصوّف والعرفان، طهران، مؤسسة البحوث والتحقيقات الثقافية، ط1، 2000، ج7، ص96، نقلاً عن الرسالة القشيرية للقشيري، ص14
[4] -أبو الحسن علي بن جعفر الخرقاني (351-425هـ/963-1033م): يقول عنه فريد الدين العطّار في التذكرة: كان رحمه الله سلطان المشايخ، وقطب الأوتاد والأبدال، ومقتدى أهل الطريقة والحقيقة. متمكّناً في أحواله، متعيّناً بالمعرفة، لا زال في المشاهدة بقلبه، والمجاهدة بجسده، ذا خضوعٍ وخشوع ورياضة، وصاحب أسرارٍ ومكاشفات، وهمّةٍ عالية، ومرتبة سامية، وله مع الله مقام الانبساط” (العطّار، فريد الدين النيسابوري، تذكرة الأولياء، نقله عن الفارسية محمد الأصيلي الوسطاني، حقّقه محمّد أديب الجادر، دمشق، ط1، 2008، ص573).
وربط العطّار بينه وبين أبي يزيد البسطامي عبر رواية تجعل من هذا الأخير يتنبّأ بمجيء الخرقاني. فنقل في التذكرة أن أبا يزيد كان يزور كلّ سنة قبور الشهداء في قرية اسمها دهستان، ويكون عبوره بخرقان قرية أبي الحسن، ومتى وصلها وقف وتنفّس. فسأله بعض الأصحاب عن ذلك، فأجاب: إني أشمّ رائحة من هذه القرية، التي هي مكان اللصوص، سيظهر فيها رجلٌ اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن، ويكون سابقاً عليّ بثلاث درجات، يحمل ثقل العيال والأهل، ويزرع ويغرس”. (العطّار، م. س، ص573).
وروى مولانا جلال الدين الرومي هذا الخبر في المثنوي كما يلي: “خرج أبو يزيد البسطامي يوماً هو وأصحابه إلى الصحراء، ففي أثناء سيره حصل له حال عظيم بلغ ما بلغ واندهش أصحابه. فلمّا رجع إلى نفسه سألوه عن سبب ذلك فقال: جاءني نفسٌ عجيب كالذي جاء للنبي، ص، من قبل اليمن يبشّرني بظهور رجلٍ من كبار الأولياء، فسألوه عن اسمه، فقال اسمه أبو الحسن. ثم ظهر أبو الحسن بعد وفاة أبي يزيد”. (الطعمي، محيي الدين، الطبقات الكبرى، بيروت، المكتبة الثقافية، ط1، 1994، ص2/289).
وترجم السمعاني في الأنساب للخرقاني، وممّا وروى خبر زيارة السلطان محمود الغزنوي له، فقال: “الخَرَقاني بفتح الخاء المعجمة والراء والقاف المفتوحات وفي آخرها النون. هذه النسبة إلى خرقان، وهي قرية في جبال بسطام كبيرة كثيرة الخير على طريق أستراباذ. منها شيخ عصره وفريد وقته أبو الحسن علي بن أحمد الخرقاني، له الكرامات الظاهرة والأحوال السنيّة. كان قد راض نفسه وأجهدها. وكان ابتداء أمره أنّه كان خربنده جا يكري الحمار، ويحمّل الأثقال عليه. وكان يقول وجدتُ الله في صحبة حمار يعني كنت خربنده جا لمّا فتح لي هذا الأمر وسلك لي في هذا الطريق. قصده السلطان محمود وجرت بينه وبينه حكايات عجيبة. وهو أنّه لما أراد أن يدخل عليه مسجده قدم بعض أقربائه ليتقدّم إلى الشيخ وهل يعرف الشيخ أنّه محمود أم لا؟ فلمّا رآه الشيخ أبو الحسن نادى: يا محمود! قدم من قدّمه الله. ثمّ جلس محمود بين يديه ووعظه ونصحه” (السمعاني، الإمام عبدالكريم بن محمد بن منصور التميمي (ت562هـ)، الأنساب، تقديم وتحقيق عبدالله عمر البارودي، بيروت، دار الجنان، ط1، 1988، ج2، ص347.)
ويروي العطّار من دعاء الخرَقاني عند زيارة قبر البسطامي: “أللهم اسقني ممّا سقيت أبا يزيد، وارزقني رائحة ممّا أنعمتَ عليه”. ويضيف العطّار أن الخَرقاني كان كثير التعظيم لأبي يزيد، فلم يكن يدير ظهره لضريحه وهو عائد من زيارته. بل كان يأتي ضريحه، ويرجع إلى خَرَقان ووجهه إلى القبر ويستمرّ على هذا المنوال حتى يصل إلى خرقان. وذلك تعظيماً لضريح طيفور. وهو تقليد لا يزال المتصوّفة عليه إلى اليوم، ويمكن معاينته عند زيارة أضرحة الأولياء. (العطّار، م. س، ص573-574).
[5] -ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان (ج2، ص424): “خرقان قرية من قرى بسطام على طريق أسترآباد بها قبر أبي الحسن علي بن أحمد. له كرامات. مات 425 هـ”
[6] -العطّار، فريد الدين النيسابوري، تذكرة الأولياء، نقله عن الفارسية محمد الأصيلي الوسطاني، تحقيق وتقديم محمد أديب الجادر، دمشق، ط1، 2008، ص606.
[7] – السمعاني، الإمام عبدالكريم بن محمد بن منصور التميمي (ت562هـ)، الأنساب، تقديم وتحقيق عبدالله عمر البارودي، بيروت، دار الجنان، ط1، 1988، ج2، ص347.
[8] -الهوجويري، أبو الحسن علي بن عثمان بن أبي علي الجلابي (ت نحو 465ه/1072)، كشف المحجوب، ترجمة إسعاد عبدالهادي قنديل، بيروت، دار النهضة، ط1، 1980، ص278.
[9] -صليبا، لويس، اليوغا في الإسلام مع دراسة وتحقيق وشرح لكتاب باتنجلِ الهندي للبيروني، جبيل/لبنان، ط3، 2020، ب1/ف2: الفكر chiita في المصطلح اليوغي هو النفس بالتعبير الصوفي، ص177-180.
[10] –