الخوري أنطوان كامل: كاهن شبعان بالله/بقلم لويس صليبا

الخوري أنطوان كامل: كاهن شبعان بالله/بقلم لويس صليبا

الخوري أنطوان كامل، 1986، 1994

ومن حصاد تلك السنة المباركة (73-74، الصف السادس) علاقتي بالأخ أنطوان كامل (1956-2005) ([1]) (أبونا طوني كامل لاحقاً). جاءني إلى مدرستي (فرير جبيل)، وكان تلميذاً في ثانوية جبيل الرسمية جارة مدرستنا، وقال لي سمعتُ عن نشاطاتكم المسيحية البنّاءة، وأُحبّ أن نتعاون لنشر الكلمة وبشرى يسوع. وكان يقوم بنشاطات مماثلة لنشاطات جمعية أبناء مريم في الثانويّة.

وعندما انتقلنا إلى الحركة الرسولية المريمية وإلى الاجتماع في أنطش جبيل كان يرافق في الغالب اجتماعاتنا، ويُغْنيها بحضوره المحبّ وبكلماته الوديعة والملهمة. كان شابّاً تقيّاً غيوراً يكرّس ذاته للنشاطات الروحية ولخدمة الأنفس. ومن ذكرياتي عنه في تلك الحقبة الأولى من علاقتنا، أنّنا لعبنا دوراً عليه، لما عرفناه عنه من غيرة على النشاط المسيحي وعلاقة المحبّة التي يجب أن تسود بين أعضاء الحركة الرسولية المريمية. فاتّفقتُ مع زميلي متى سعادة على أن نوهمه أنّنا على خلافٍ. فجمَعَنا على جناح السرعة، وطفقنا نمشي سويّاً ونتجاذب أطراف الحديث. وهمّه الأوّل كان معرفة أسباب الخلاف، لتسويته بالتالي. فسأل:

-هل تختلفان على رئاسة الفرقة؟!

فسكتنا، فاستنتج ما قصدنا نحن أن يستنتج. وكنّا نشرئبّ بين الفينة والأخرى كلٌّ يتّهم الآخر بالسعي إلى الزعامة، وبتجييش الآخرين ضدّه، فيحاول أنطوان كامل، أو الأخ طوني كما كنّا ندعوه، أن يهدّئ الأجواء الحامية بيننا. وكم ردّد يومها:

-لعن الله الرئاسة كم تفرّق القلوب.

وكان يأخذ بيد الواحد منّا محاولاً أن يقرّبه من الآخر، فيبتعد الثاني رافضاً حتى بقينا أكثر من ساعة على هذا النحو من الجدل، وتراشق التهم. فأعياه التعب. وعندها، وإشفاقاً عليه بُحنا له معاً  بالحقيقة، وبأنّنا كنّا نمثّل عليه دور المختلفين، فافترّ ثغره عن ابتسامة عريضة، وبدا وكأنّه قد ربح كنزاً، وعلا صهيل ضحكته الودودة المميّزة. ولا أزال أذكر وجهه المشرق فرحاً يومها، وقوله لنا:

-أيّها الشقّيان، عرفتما نقطة ضعفي، ونجحتما في لعب دورٍ عليّ.

وهكذا كنّا نمزج الولدنة بالعمل الرسولي، أمّا الأخ طوني فكان غريباً عن هذه الأساليب. وكانت طيبته اللامتناهية تتيح لنا أن نمرّر لعبة كهذه عليه. وكان منذ زمن الصبا يعاني من مشاكل صحّية أضعفت كبده، وهي التي أودت بحياته شابّاً في النهاية.

وتطوّرت علاقتي بالأخ طوني، وهو من بلدة أمّي أي العقيبة، فكنتُ أذهب إلى بيت خالي، وأمضي عندهم عطلة نهاية الأسبوع (ويك أند) أحياناً كي يتاح لي أن ألتقيه ونتحاور في الأمور الروحية. كنا نجلس على سطيحة منزله. فأمّه جانيت كانت مشهورة بأنّها موسوسة بالنظافة، فلا تدع أحداً يدخل الدار كي تحافظ عليه نظيفاً، وما كان ذلك يهمّنا، فالمهمّ بالأحرى أن نجلس ما شاء الله لنا أن نجلس مع الأخ طوني، ونتحاور في ما نحبّ من المواضيع الروحيّة التي تهمّنا وتجمعنا. وكان مثل أمّه محبّاً للنظافة، أمّا الحشمة فمن أولويّاته، وهو القائل: “أيّها الإنسان احتشم بنقاء، وافعل ما تشاء”([2])

كان مثلاً يحرص عندما ينحني وهو يدير ظهره على الشرفة أن لا يظهر وإن طرف من ثيابه الداخلية: “كي لا يشكّك أحداً من إخوته”. وكنّا نضحكُ من حرصه المغالي هذا.

وعندما بدأتُ بممارسة التأمّل واليوغا، واشتهر أمري، أتاني زائراً، وكان قد صار كاهناً (سيم في 10/5/1986)، وكان يرافقه عدد من أعضاء الحركة الرسولية المريمية في نهر إبراهيم/قضاء جبيل. ودار بيننا حوارٌ عميق في اليوغا والتأمّل. فلم يُقنع أيّ فريق الآخر، بيد أنّه كان حواراً مجدياً تلاقحت فيه الأفكار.

وعندما صار خادماً لرعيّة بطحا/قضاء كسروان (في بداية التسعينات) جاءني إلى دار ومكتبة بيبليون في جبيل تجاه الأمن العام مقترحاً التعاون في نشاط الكرمس في الضيعة، فأقمنا معرضاً للكتاب يومها ضمن هذا الكرمس.

والتقيته لاحقاً فسألته عن بطحا، فأجاب أنه ترك الرعية والعمل الرعوي عموماً. قلتُ لماذا؟ فروى لي أنّه كان يرفض دخول النساء والصبايا عموماً إلى الكنيسة في ثيابٍ يعتبرها غير محتشمة، حتى ولو في الأعراس. وكانت الأعراس، ولا تزال، مناسبة عند النساء لعرض الأزياء، دون أن يأخذن بعين الاعتبار وجوب مراعاة قواعد الحشمة في الكنائس، وهذا ما لم يكن أبونا طوني ليقبل به. فكان يؤنّب، وقد يصل به الأمر إلى منع امرأة غير محتشمة من دخول الكنيسة. فشكوه إلى المطران (شكرالله حرب) فاستدعاه ليسأله عن ذلك. وبعد نقاش طويل بين الأسقف وكاهنه قال له المطران:

-أطلبُ منك بأمر الطاعة أن تسمح لكل النساء بالدخول إلى الكنيسة في الأعراس بغضّ النظر عن لباسهن.

عندها انبطح أبونا طوني أمام مطرانه، كما ينبطح الرهبان في المطّانية، وقال له:

-أمرك مطاع سيّدنا، لكن اعفني من خدمة هذه الرعية ومن العمل الرعوي عموماً.

وهكذا كان. فعاد أبونا طوني كامل إلى بيته، وترك رعيّة بطحا وسائر الرعايا. هذا ما أخبرنيه يومها بالحرف وبالتفصيل.

وموقف الخوري أنطوان كامل المميّز هذا يستحقّ وقفة وتبصّراً. فهو لم يشأ مخالفة رئيسه المباشر ومطرانه، بيد أنّه، وفي الوقت عينه، لم يستطع أن يقوم بما لا يُرضي ضميره، وبما يخالف قناعته، فاستعفى، غير آسفٍ على عملٍ وعلى مورد رزق كان بحاجةٍ إليه. وليت المتكالبين على السلطة في أيّامنا وفي بلدنا يصغون إلى هذه الرواية ويتدبّرونها!

وبعدها كان لي لقاء ومسار مع أبونا طوني في فرنسا، وكنت قد هاجرتُ إلى باريس منذ 1991. ذهب الخوري كامل ليقيم في دير للراهبات في منطقة Corrèze الجبلية الباردة، وعرفتُ من أختي بسفره هذا فاتّصلتُ به. كان في وضعٍ صعبٍ يومها: كاهنٌ بلا مرتّب، وجلّ ما يحصل عليه ما يُقيته. فبدأتُ أرسل له مساعدات دوريّة، فأطلب من أصدقاء ومعارف أن يحرّروا لي شيكّات وأجعلها باسمه، وأرسلها إليه في البريد زاعماً أنّها تبرّعاتٍ له من مؤمنين. وما كان ليقبل بأيّ تبرعٍ أو مساعدة عن غير هذه الطريق!

وجاءني إلى باريس في طريق العودة إلى لبنان، بعد أن أمضى سنة أو اثنتين في ذاك الدير قاسى فيها الأمرّين من البرد الذي يؤذي صحّته، فأمضى عندي ليلة ليسافر إلى بيروت في اليوم التالي. وعرف عن طريق الصدفة، ولا أذكر كيف، أنّني أنا من كان يرسل له هذه الشيكّات ومن مالي، فقال لي معاتباً، وبنبرته الودودة التي تمزج بين الجد والمزاح:

-بدّك تعمل قدّيس عَ ضهري.

وكانت رفقتنا في باريس، على قصرها، أيّاماً من العمر. وضعنا حقائبه في سيّارتي وهي سيّارة نقل صغيرة Fourgonette سيتوران C15. وأبقى حقيبة من الحقائب في هذه السيّارة، وكانت ظاهرة للعيان من زجاج السيّارة. وخلال الليل نُهبت السيّارة، رغم أنّها كانت متوقّفة في وسط باريس، وتحديداً Rue d’Ulm. وعند الصباح لاحظتُ أمراً غير طبيعيّ فيها، فتبيّن لي أن أحداً دخلها، وأظنّ أنّني كنت قد نسيت أن أحكم إقفال الصندوق بالمفتاح. ولم يُسرَق من السيارة سوى حقيبته، ذلك أنّه لم يكن فيها شيء يذكر غيرها. وعندما أحسّ بما أشعر به من حرج بادرني قائلاً:

-لا تقلق لم يكن في الحقيبة سوى أمتعةٍ وأحذية قديمة لي، وإنّني محرجٌ فعلاً وخجلٌ ممّن تنكّب مشقّة حملها وأخذها. فقد أراحني منها ومن حملها معي إلى لبنان، وأستحي من خيبة الأمل التي سيشعر بها عند فتحه لها!!

فانفجرتُ ضاحكاً من قوله هذا، وضحك بدوره معي. وكان هذا شأنه دوماً إذ يتقن تحويل المواقف الحرجة إلى فُرص للفكاهة والضحك. وشرّ البليّة ما يضحك، يقول المثل العربي!

وفي مطار شارل دو غول، رغب في أن يخفّف ممّا يحمل في حقيبته، مخافة أن يتجاوز الوزن ما هو مسموحٌ به. وممّا أخرجه منشفة زرقاء استحلفني أن أرميها في سلّة النفايات، فأجبته:

-ما تعتل همّ.

أما أنا فكنتُ أطمح أن أبقيها ذخيرة منه، منشفة زرقاء جديدة بقيتُ أتبرّك بها حقبة طويلة.

وعندما توفّي عمّي الخوري فرنسيس صليبا في أيار 1996، وقف إلى جانبي، وانتظر وصولي إلى لبنان لإحياء ذكرى الأربعين. فأقمنا قدّاساً في كنيسة مار يعقوب/جبيل احتفل به هو بصوته الصادح الجميل. وبعد القدّاس توجّهنا نحو الضريح لنصلّي الأبانا والسلام على روح الكاهن الراحل. فبدأ والدي طانيوس صليبا يتلو الأبانا بصوتٍ مرتفع:

-أبانا الذي في السماوات ليتقدّس اسمك ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، لكن نجّنا من الشرّير آمين.

وهكذا اختصر والدي الأبانا، بل ابتلع أكثر من نصفها، دون أن يعي ويدري. وكان يقف بكلّ خشوعٍ رافعاً يديه. وفرطنا كلّنا ضحكاً على هذه “القادوميّة” المختصرة، رغم أن الموقف موقف حزنٍ وعزاء، فالضحكُ معدٍ وكنّا أكثر من عشرين شخصاً متحلّقين حول الضريح، فبدأ واحدٌ منّا بضحكةٍ حاول جهده ليكبتها، فما استطاع، فتلاه ثانٍ وثالث فرابع، ولم يبقَ في النهاية أحدٌ من مجموعة الأقارب هذه إلا وضحك. وحتى أبونا طوني لم يتمالك في آخر الأمر نفسه، فضحك مع الضاحكين. وبقي زمناً طويلاً يذكّرني بهذه النهفة ويسألني عن والدي الذي “ابتكر” مختصراً و”قادومية”([3]) للأبانا. وهكذا فرغم جدّيته التامّة في الأمور الروحية، لم تكن روح النكتة لتفوته.

في أوائل القرن 21 استلم الخوري كامل مسؤولية المتابعة الروحية للمرضى في مستشفى سيدة المعونات الجامعي في جبيل. فقرّبت بيننا المسافات، وكنتُ قد عدتُ من باريس في صيف 2001، فكان في طريق إيابه إلى منزله، يمرّ لزيارتي في البيت أو في المكتبة، ويطّلع على جديد الكتب، ولا سيما الروحية منها. وكان مولعاً بالكتب شأنه شأني، ويمضي ساعاتٍ أمام رفوفها. وكان من عادته أن يرفض الهدايا ولا سبيل لأن تقدّم له شيئاً أو مساعدة أياً تكن، باستثناء الكتب، فهي الهدية الوحيدة التي لم يكن يعترض عليها، وكنتُ أفرح بأن أقدّم له جديد الكتب، ونتحاور لساعات في مضمونها. وكان مولعاً بالكتابة، منذ الصفوف الثانوية، بيد أن ما نشره ممّا كتب كان نادراً. وكان بصدد مشروع تأليف كتابٍ عزيز عليه وموضوعه الحشمة: فضيلة محبّبة لديه، ولا يملّ من الحديث عنها، وقد ضحّى بخدمة الرعايا لأنّه لم يساير في مسألة الحشمة كما أسلفنا. وقال لي ذات يوم أنّه سأل عدداً من المطابع عن تكاليف طباعة هذا الكتاب، فتبيّن له أنّها تفوق إمكاناته المادّية. فقلتُ له لا تقلق سأتولّى عنك ذلك، ويمكن عن نُصدر الكتاب عن دار ومكتبة بيبليون التي أملك. فأعجبته الفكرة. فطفقتُ ألاحقه بشأن إتمام الكتاب، ولا مطمع تجاري لي في كتابٍ كهذا، بل طمحت بالتبرّك بأن يكون فاتحة منشوراتنا. وكان يجيبني دوماً أنّه بصدد تنقيحه.

أمّا موضوع حواراتنا الثاني فكان الصحّة وأساليب التغذية الطبيعية. وكان ذلك مدخلاً لي لأحدّثه عن اليوغا والأيورفيدا (الطب الهندي)، ولأنّه كان يعاني من مشاكل صحّية عديدة تراجعت معارضته القديمة لليوغا، ووافقني على أهمّيتها من الناحية الصحّية والرياضية. وكنّا نتشارك في عرض اختباراتنا يحدّثني عن تأمّلاته، والصلاة العقلية التي يمارس، وماذا كان يفعل في نهاراته عندما كان حبيساً في القطّارة، وكنت أحدّثه عن اختباراتي في التأمّل اليوغي، وعن رحلاتي إلى الهند ولقاءاتي بكبار الحكماء وحواراتي معهم، وهكذا وجد كلانا قاسماً مشتركاً، وابتعدت شقّة الخلاف القديمة بيننا بشأن اليوغا والتراث الهندوي. وكنت ألحّ عليه بأن يسافر معي يوماً إلى الهند ويمضي فترة استجمام واستشفاء في بعض المستشفيات الأيورفيدية، وبعد نقاشٍ طويلٍ في هذا المجال وافق على المشروع، لا سيما وأن مسألة صحّته كانت قد غدت ملحّة. لكن القدر كان أسرع ممّا نخطّط له، فخطفه ذات يوم في 17 نيسان 2005. صدمتُ عندما علمت بالنبأ الحزين، وكان قد مضى لي بعض الوقت لم أسمع عنه خبراً. رحل أبونا طوني في شرخ الشباب عن ثمان وأربعين عاماً وثمانية أشهر، أمضى تسعة عشر سنة منها في الخدمة الكهنوتية منذ سيامته في 10 أيار 1986.

غادرنا أبونا طوني باكراً، وشربت والدته جانيت وسائر أفراد الأسرة الحرقة. أمّا كتابه في الحشمة، فلا أعرف ما الذي حلّ به. فخلال التعازي بعد مراسم الدفن وقد ترأسها المطران أنطوان نبيل عنداري في كنيسة مار ضومط العقيبة يوم الثلاثاء 19/4/2005، حدّثت شقيقه شربل كامل عن هذا الكتاب ووجوب طبعه، فهو ذكرى غالية ويخلّد حضور الخوري أنطوان كامل بيننا. فأبدى كلّ تجاوب واهتمام. ورغم متابعتي للموضوع لم أستطع الحصول على مخطوطة الكتاب. كان شربل كامل يعدُني بالبحث عنه بين أوراق ومتروكات أبونا طوني. وبعد سنوات قليلة توفّي شربل بدوره (في تموز 2013)، ولم أعد أعرف شيئاً عن مخطوطة كتاب الحشمة للأب أنطوان كامل، ولا عن سائر أوراقه، وانقطعت صلتي بمن بقي من أسرته. وكلّ ما وصلني عنه ما طبعه بعض الأحبّة في ذكرى الأربعين، وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيل هذا الكاهن البتول الذي سار بجدّ وصدق على درب القداسة.

 

نظرة في بعض طروحات الخوري أنطوان كامل

وقبل أن أنهي حديثي وذكرياتي عن أبونا طوني، يحسن بي أن أقف لبرهة صغيرة متأمّلاً في بعض ما كتب، وترك من إرثٍ روحي.

والبداية مع شعاره الآنف الذكر: “أيّها الإنسان، احتشم بنقاء، وافعل ما تشاء”.

وفي الأمثال العربية واللبنانية: “الحشمة حكمة”. بيد أن صرخة الخوري كامل في سبيل الحفاظ على الحشمة كانت مجرّد صيحةٍ في واد. لقد سبقنا الزمن، ونحن في “َسعْدَنتنا” للغرب وسعينا الدائم لمحاكاته في أزيائه وما يلبس، فقدنا طوعاً تقاليدنا في هذا المجال.

ووقفة عند شعار آخر للأب كامل يقول: “أتيتُ على الأرض كي أشعل ناراً، وكم أتحرّق أن تكون قد اشتعلت”

وكلامه هذا مستوحى بلا ريب من قول يسوع: {ما جئتُ لألقي سلاماً على الأرض، بل سيفاً، جئتُ لأفرّق بين الابن وأبيه، والبنت وأمّها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته} (متى10/34-36).

هل يشبّه أبونا طوني نفسه بيسوع إذاً؟ أليس في ذلك بعضٌ من تعالٍ وتشاوفٍ مستهجن إذ يأتي من كاهنٍ ناسك؟!

لكن أيّ ضيرٍ أولاً أن يتشبّه التلميذ بمعلّمه؟!

ونار هذا الكاهن الغيور تشعلها غيرته. هذه الغيرة التي تحاكي غيرة إيليا النبي: {غيرة غرتُ لربّ الجنود} (1ملوك19/10)، يقول هذا الأخير. غيرة أنزلت النار من السماء على المحرقة في الكرمل وأتت على ما فيها. (1ملوك19/4).

فنار أبونا طوني استمدّت شعلتها من هذا الأتون البيبلي في العهدَين العتيق والجديد، وروحانيّتها روحانيّة إيليائية غيورة، ومسيحانية تحرق الفاسد وتُعيد الخلق من جديد.

وشعار أبونا طوني هذا جدّ طموح، يرفع السقف إلى أعلى ما يمكن. وقد سعى هذا الكاهن الغيور إلى أن يطبّقه في الحشمة التي أصرّ دوماً عليها، وفي خدمته الرعائية عموماً، وفي حياته النسكية كذلك. وكان جادّاً وصادقاً في سعيه، ولم يتوانَ يوماً عن متابعة المسير. متطرّفاً كان كشفيعه وحبيبه شربل القدّيس، الذي قلنا عنه: “الفضيلة في قاموسه تطرّفٌ لا يعرف أوساط الحلول. شربل في تطرّفه يذكّر بمواطنه ومعاصره وابن منطقته جبران خليل جبران القائل: أنا متطرّف لأن من يعتدل في إظهار الحقّ يبيّن نصف الحقّ ويبقي نصفه الآخر محجوباً وراء خوفه من ظنون الناس وتقوّلاتهم”([4])

غيرة أبونا طوني إيليائية مسيحانية، وتطرّفه شربليّ بامتياز، ما يقودنا إلى ذكر شعار ثالث لهذا الأب الغيور، فقد كان غالباً ما يعرّف عن نفسه: “كاهن شبعان بالله”، ويوقّع بالأحرف الأولى من هذه العبارة “ك. ش. ب.”.

إنها عبارة تذكّرنا، هي الأخرى، بشفيعه المفضّل شربل، والذي قيل عنه: “شربل إنسان سكران بالله” وهو عنوان كتاب الأب بولس ضاهر عن شربل([5]). واحدٌ سكران، وآخر شبعان. لِمَ هذا التشبّه؟! تارة بيسوع وإيليا وطوراً بشربل؟!

وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم        إن التشبّه بالكرامِ فلاحُ

يقول المتصوّف السهروردي المقتول (ت549هـ/1191) ([6]). وقول السهروردي خير ما يُرَدّ به على مزاعم المبالغة والغلوّ في تشبّه أبونا طوني. كاهنٌ شبعانٌ شبع رضا، بما قسمه الله له، وبالصليب الذي حمّله إيّاه منذ الصغر. صليبٌ في صحّته عذّبه وبرّح بجسده وجعله يعاني الأوجاع والآلام، وانتهى بأن قضى عليه وهو في ذروة العطاء. صليبٌ كشوكة بولس رسول الأمم القائل: {ولئلا انتفخ بالكبرياء من عظمة ما انكشف لي، ابتُليتُ بشوكةٍ في الجسد، وهي كرسولٍ من الشيطان يضربني لئلا أتكبّر. لذلك تضرّعتُ إلى الرب ثلاث مرّاتٍ أن يأخذها عنّي، فقال لي: تكفيك نعمتي لأن قدرتي تكتمل في الضعف} (2كورنتس12 /7-9). وقد أدرك أبونا طوني أهمّية هذا الصليب في تطوّره الروحي، فكان يصلّي متضرّعاً: “لا أطلب منك الغنى والنجاح حتى ولا العافية، فهذه كلّها يطلبها الجميع. أما أنا فأطلب أن أتحمّلَ العذاب والصليب معك، واكتشفَ وجهك في أعماقه” (كامل، رسول، م. س، ص15). الصليب والعذاب كانا نهجه ليحسر اللثام عن الوجه الإلهي ويكشفه ويكتشفه!! فطوبى لجرأته هذه وللرضا الذي كان خير معينٍ له ومعزٍّ ومقوٍّ في درب الآلام الطويل التي مشاها، و”التصوّف هو الإعراض عن الاعتراض” يقول أحد الصوفيّة.

ونلمح في مزاعم أبونا طوني الروحية هذه، وفي ما يلي ممّا سنورد له من أقوال، نفحة شطحٍ صوفي واضح. مقولاته بعيدة قلنا عن الادّعاء والعجرفة والغلو وعن جنون العظمة، بيد أنّها ليست بغريبة عن شطحات الصوفيّة. وكان الخوري كامل يبدي أمامنا، وفي عدد من إطلالاته العامّة إعجابه بمتصوّفة الإسلام، ولا سيما منهم الحسين بن منصور الحلّاج (244-309هـ/ 858-922م)، وهو من كبار الشطّاحين، وتكفي شطحته الكبرى “أنا الحقّ” دليلاً على ذلك.

وسنطلّ في التالي على بعضٍ من مقولات أبونا طوني التي تمتّ إلى شطحات الصوفيّة بصلة. يقول متضرّعاً: “كلانا يعبد الآخر. أنا أعبدك غائصاً في كتابك وأيقونتك فأرتفع. وأنت تعبدني غائصاً في كتابي وأيقونتي وتتنازل” (كامل، رسول، م. س، ص10).

مفهوم الخوري كامل للعبادة هذا يذكّر بمفهوم أبي يزيد البسطامي (188-261هـ) لها. إذ روي عنه: “سمع أبو يزيد رجلاً يقول: عجبتُ ممّن عرف الله كيف يعصاه! فقال: عجبتُ ممّن عرف الله كيف يعبده” (صليبا، شطحات، م. س، ص40-41).

كيف يعبد الخالق مخلوقه كما يقول أبونا طوني؟! نقرأ لأبي يزيد: “طاعتك لي يا ربّ أعظم من طاعتي لك” (صليبا، م. س، ص39). وكذلك: “خاطب الحقّ أبا يزيد في سرّه، وقال له: ملكي عظيمٌ أعظم. فأجاب أبو يزيد: مُلْكي أعظم من مُلْكك” (صليبا، م. س، ص49).

فهذا الإنسان المتألّه، موضع عبادةٍ هو. “الإنسان هو اسم الله الأعظم” يقول أبو يزيد (صليبا، م. س، ص40). يبقى أن تألّه الإنسان بمفهوم أبونا طوني قد تمّ بفعل تنازل المسيح الإله، وتجسّده إنساناً كاملاً. وفي ذلك يقول متابعاً: “في وجهك أرى صورتي المعبودة المبجّلة. وهل صورتي تُعبد؟! صورتي المعبودة لديك الممجّدة في ابنك، شعاعك” (كامل، م. س، ص10).

صورة الإنسان المتألّه صارت موضع تبجيل وعبادة بفضل تجسّد ابن الله إنساناً. وفي ذلك يقول الخوري كامل متابعاً: “أنت في ابنك ترى صورتك، وأنا في ابنك أرى صورتي، صورتي العتيقة الأصلية القديمة الأيّام، فأحنُّ وأكتئب لفراق الصورة” (كامل، رسول، م. س، ص10).

فارق الإنسان صورته المتألّهة بفعل التأنسّ الإلهي، ودأب أبونا طوني الدائم الرجوع للاتّحاد بهذه الصورة، يقول متابعاً: “والحنين والكآبة بداية حبّ وعبادة. والعبادة غوصٌ في عمقِ المعبود، واستسلام اتّحادٍ في كيانه، وتنفّسٌ من روحه” (كامل، م. س، ص10).

واختبار الاتّحاد هذا والذي يحدّثنا عنه الخوري كامل تجربة عاشها أكثر المتصوّفين، ومن مختلف التقاليد وحكوا عنها.

وهنا تبدو أقاويل أبونا طوني وشطحاته منبثقة عن اختبار صوفي عميق، بل هي وتعبير صادق عن هذا الاختبار ومن هنا أهمّيتها وأصالتها.

ونتابع جولتنا القصيرة في آثار الخوري كامل. يقول في تفسيره للأبانا متحدّثاً عن الاسم الإلهي: “اسمك هو أنت، أنت واسمك واحد، وهو يعبّر عن كلّ ما فيك، وما أنت”([7])

إنها النظرة الصوفية المألوفة في كلا التقليدين الإبراهيمي والهندوي للاسم، ولا سيما الاسم الإلهي، فهو يختصر اختصاراً مكثّفاً الهويّة الإلهية، وقدرتها، وحضورها، بل واستحضارها كذلك. “ليكن اسمك خالقاً مثلك”، يقول أبونا طوني (كامل، الأبانا، م. س، ص2).

ونتابع كلام كاهننا عن الاسم الإلهي، يقول: “اسمُك وحده قائم، وكلّ أسمائنا تزول” (كامل، الأبانا، م. س، ص2).

فهل هو الفناء الكامل، والاتّحاد الكلّي بالمطلق الإلهي ما يتحدّث عنه هنا؟! لا سيما وأنّه يتابع في الصلاة عينها متضرّعاً قائلاً: “إملُك علينا عوض ذاتنا التي تأكلنا. (…) إملُك علينا، فأنت كلّك في داخلنا، ونحن مسكنٌ لك بجسدنا ونفسنا وروحنا، لكن وحّدنا فيك رغماً عنّا” (كامل، الأبانا، ص3).

هل المقصود إذاً فناء الذات بالإلهي، والتوحّد الكامل التامّ به، على مذهب متصوّفي الفناء في الهندوسية والمسيحية والإسلام؟!

ونجده يقترب من مقولة وحدة الوجود وهي ركن التصوّف الهندي، وحاضرة بقوّة في التصوّف الإسلامي عبر مدرسة ابن عربي وغيره. يقول أبونا طوني في شرح صلاة الأبانا: “أبي الذي في داخلي، في قلبي وعقلي  وضميري ونفسي وروحي وجسمي. أبي الذي في كلّ الخلائق والطبيعة والجمال والفضائل والنظام” (كامل، الأبانا، م. س، ص1). فهنا يذكّرنا الخوري كامل بقولة شهيرة لابن عربي: “ما عُبد غير الله في كلّ معبود”([8])

ومفهوم الله النظام الكوني كما يقول أبونا طوني هنا، ويكرّره في قوله: “لتكن مشيئتك النظام والقانون كما في السماء كذلك على الأرض” (كامل، الأبانا، م. س، ص4). يذكّر بمقولة النظام الكوني Dharma الواضحة والأساسية في كلّ من الهندوسية والبوذيّة.

ونتوقّف عن عبارة لأبونا طوني تسترعي الانتباه: “الغيرة علينا تقضي أن نموت ولا نعُد نوجد، ثم نولد من جديد أطهاراً أبرياء لا نعرف ماضينا” (كامل، الأبانا، م. س، ص6).

فعن أيّة ولادةٍ جديدة يتحدّث؟ أهي عودة إلى التجسّد، لا سيما وأنّه يقول: “لا نعد نوجد، لا نعرف ماضينا”، ما يعني حكماً موتاً ثم ولادة!!

يبقى المعنى في قلب الشاعر، كما يقال!

ويلفتنا ما يقول عن مريم الأنثى وموقعها في الألوهة: “لو لم تكن مريم، لكانت الألوهة ذَكَراً عنصريّاً مهيمناً أبد الدهور. (…) فذات الله أبوّة وأمومة معاً. ومن تراه الأكمل من مريم ليطبع حنان أمومة الله في البشر” (كامل، رسول، م. س، ص9). وفي الفيدانتا الهندية: “يمكن أن يكون هو، كما يمكن أن يكون هي” Il peut être Il comme Il peut être Elle

ومن صلوات أبونا طوني اللافتة: “اجعلني أُعطي من لا يطلب منك وطلب منّي (…) لأنّك تحبّ أن تعطي بي من لا يطلب منك” (كامل، الأبانا، م. س، ص5).

فهذا التسليم الكامل، وعيش العطاء كمجرّد أداة للكرم الإلهي والمحبّة اللامتناهية التي لا تميّز بين مؤمن وغير مؤمن منحى صوفيّ أصيل.

وآخر ما نذكر من كلمات الخوري كامل اللؤلؤية قوله مودّعاً وموصياً: “أنا لا أستحقّ عِشرة البشر، هذا صحيح، لكن قبل أن أغادرهم أتضرّع إليهم وأرجوهم راكعاً أمامهم، ألّا يظلموا بعضهم بعضاً، لأنّهم يكونون فريسة إبليسهم المتشبّه بصورة الله الراضي عنهم وهم لا يدرون” (كامل، رسول، م. س، ص11).

فهذا الكاهن المتجرّد المتصوّف، لم يوصِ بشيء يخصّه، وجلّ ما حوت وصيّته أن لا يظلم بنو البشر بعضهم بعضاً!! ويأتي تحذيره من إبليس المتشبّه بصورة الله في محلّه هنا. فما نسمّيه زوراً الغضب المقدّس، والحرب المقدّسة، وغير ذلك من مقدّسات مزيّفة، ليس سوى أقنعة يتستّر بها الشرّ كي يبرّر ظلم إنسانٍ لأخيه بنتيجة طمعه وجشعه وغير ذلك من أهواء النفس الأمّارة بالسوء.

لله درّك أيها الأب الجليل الخوري أنطوان كامل. لم تطُل إقامتك بيننا وعلى هذا الكوكب الصغير السابح في الكون اللامتناهي، وزيارتك هذه على قصر مدّتها حملت معاني الحب والسلام الداخلي لمحيطتك ولمن جاورك.

[1]-الخوري أنطوان كامل (6/ 9/1956-17/ 4/2005)  تابع دراسته الثانوية في ثانوية جبيل الرسمية. ثم انتقل إلى إكليريكية غزير المارونية، ودرس اللاهوت والفلسفة في جامعة الروح القدس/الكسليك. سيم كاهناً في 10/5/1986 في كنيسة مار ضومط/العقيبة بوضع يد مطران جونية شكرالله حرب. وقبل سيامته كاهناً عانى الأمرّين على سرير الأوجاع في مستشفى الجعيتاوي/بيروت حيث خضع لعمليّات جراحية واستئصالات عضوية نجا منها بشبه أعجوبة، بعدما فقد الأمل بالحياة وهو بعد متدرّجاً وشمّاساً إنجيليّاً. بعد سيامته عاش حبيساً مدّة سنتَين في دير القطّارة وكان يرافقه موجّه من قبل السلطة الكنسية، وبعد نهاية السنتَين خضع لقرار كنيسته بالعودة إلى الحياة الرعوية. فخدم رعايا بطحة ويحشوش في كسروان. عاش الفترة الأخيرة من حياته في سباقٍ مع الزمن من استشارات عديدة ومتنوّعة للأطباء داخل لبنان وخارجه، إلى استعدادات جارية للسفر والمعالجة في أهمّ مستشفيات باريس، من أجل عملية زرع الكبد، بيد أنّه تعرّض لتدهور سريع لصحّته كانت الغلبة فيه للغيبوبة والنزاع فأسلمَ الروح في 17 نيسان 2005. ووري الثرى في تربة بزحل/كسروان.

[2] -كامل، الخوري طوني (1956-2005)، رسول إلى السماء، العقيبة/لبنان، 2006، ص17.

[3]-قادوميّة: كلمة عامّية منحوتة من “القادم على قدمَيه”، وهي الطريق الزراعية غير المعبّدة، وتعني أيضاً الطريق الأقصر بين مكانَين. (خطاب، الهادي، م. س، ص213).

[4] -صليبا، د. لويس، شربل رفيقنا الصامت: حكاية قداسةٍ عنوانها الصمت مع مدخل إلى تراث النسك الماروني، تقديم الأب جوزف قزي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط5، 2019، ص149.

[5] -ضاهر، الأب بولس، شربل إنسان سكران بالله، عنايا/لبنان، دير مار مارون، ط2، 1978.

[6] -صليبا، لويس، لمحات من تاريخ لبنان الحديث 1850-1950، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2021، ص198.

[7] -كامل، الأب أنطوان، صلاة الأبانا كما صلّاها وتأمّلها وكتبها وعاشها الأب أنطوان كامل، العقيبة/لبنان، ط1، 2006، ص2.

[8] -صليبا، لويس، الوصايا الصوفية العشر: أدب الحياة في التصوّف الإسلامي مقارنة بالتصوّفَين الهندي والمسيحي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2021، ص152.

شاهد أيضاً

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트

인지 행동 치료(CBT)와 영적 심리학. 20/11/2024 수요일, Zoom에서 진행된 Lwiis Saliba의 화상 회의 노트 이 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *