نبيل خوري (1949-1980) أستاذ رياضيّاتٍ لا ينتسى/بقلم أ. د. لويس صليبا
الأستاذ نبيل خوري (1949-1980)
الأستاذ نبيل خوري (1949-1980) مع زوجته المدرّسة ماري سمعان
الأستاذ نبيل خوري مع تلامذته في ملعب مدرسة الفريري ماريست/جبيل
الأستاذ نبيل خوري (1949-1980)([1]) معلّم رحل باكراً كما السنونو: ما أن يغطّ على غصنٍ، حتى يطير من جديدٍ ويحلّق عالياً قاصداً دياراً أخرى. وكما يترك الطير في الوجدان صورة حالمة وذكرى مرهفة عطرة عن مروره وتحليقه عالياً في الأجواء، هكذا كانت “تركة” نبيل موسى خوري وإرثه وتأثيره: آثارٌ لطيفة كنسمةٍ عابرة تحمل الدفء إلى القلب، والبهجة إلى النفس، ودمعة تأثّر تترغرغ في العين!!
نبيل موسى خوري معلّم جدّ مميّز، وصاحب كاريسما واضحة، وكان قادراً أن يجتذب التلامذة إلى الاهتمام بالمادّة التي يدرّسها: الرياضيّات، رغم أنّها مادّة علمية صرف، ويمكن اعتبارها جافّة، ولا تتيح لأستاذها الكثير من التفاعل والتواصل مع طلّابه. كان الأستاذ نبيل خوري يملك رؤيا فلسفية في الرياضيّات. والملامح الأولى لفلسفة العلوم أو الإبيستمولوجيا Epistémologie عرفناها معه. ومعه بدأنا نتدرّب على ما يعرف بالروح العلمية Esprit scientifique. وتعلّمنا أن الرياضيّات هي لغة العلوم C’est la langue des sciences. فلا نستطيع أن نفهم العلوم البحتة من فيزياء وكيمياء وغيرها إذا لم نكن نملك دُربة رياضية صلبة Formation mathématique solide.
واليوم وفي نظرة بانورامية سريعة إلى أمسي القديم يمكنني أن أقول أن منطق أرسطو أو قسماً كبيراً منه تعلّمته من نبيل خوري. عرف هذا المعلّم الحاذق كيف يُظهر لنا الجانب الفلسفي من الرياضيّات: المنطق الرياضي، ومبادئ التفكير العلمي. وجعلني بالتالي أولي الرياضيّات الأهمّية القصوى والأولى بين الموادّ التي أدرسها. كنتُ قبله أتّجه اتّجاهاً واضحاً نحو الموادّ الأدبية: اللغة العربية وآدابها، والتاريخ والأدب الفرنسي، ففيها ظهر تفوّقي الواضح على أقراني. ومع نبيل خوري تضاعف اهتمامي بالرياضيّات، وقرّ قراري على أن أتابع دروسي في القسم الثانوي في الفرع العلمي.
نجح نبيل خوري في تغيير نظرتنا إلى المواد العلمية والأدبية. فصرنا ننظر إلى الفرع العلمي وموادّه على أنّها موادّ البارعين والشطّار والمتفوّقين من التلامذة. أمّا الفرع الأدبي فبدأنا نرى أنّه بطريقة ما “مأوى الضعفاء”. ولم تكن هذه النظرة بعيدة عن واقع الأمور. فالمتفوّقون من التلامذة كانوا يختارون غالباً الفرع العلمي. في حين كان الفرع الأدبي خيار من لا يتقن الرياضيّات والعلوم البحتة.
واستمرّ نبيل خوري يدرّسنا الرياضيّات على مدى سنتين متواليتَين: الصفّ الرابع (1975-1976) والصف الثالث (1976-1977)، فرسّخ فينا توجّهاً واضحاً نحو العلوم والروح العلمية. بل زرع فينا نظرة فوقية واستعلائية إلى المواد والاختصاصات العلمية مقارنة بالموادّ الأدبية، وبعضاً من ازدراء أو أقلّه عدم اكتراث بهذه الأخيرة.
وهكذا تلقّحت هواياتي في الآداب والتاريخ والعلوم الإنسانية بمنطق رياضيّ صلب وسليم، وروح علمية متينة كسبتها من هذا الأستاذ الفذّ.
وكان نبيل خوري صاحب كاريسما واضحة، يعرف كيف يجعل تلامذته يحبّونه، ويحبّون المادّة التي يعلّمها. ودفترا علاماتي في الصفّين الرابع والثالث يشهدان على ذلك. ففي الامتحان الأوّل نلت على مادّة الرياضيّات 26/40، أمّا بعده فلم تنزل العلامة غالباً في هذه المادّة عن 34/40، بل ووصلت إلى 38/40. إذ كان باختصار يتقن تحفيز تلامذته على الاهتمام بمادّته والمثابرة على دراستها.
وكم أثار اهتمامي يومها مفهومه لنظرية المجموعات Théorie des ensembles. وكيف جعل منها القاعدة Base لتعليمنا المنطق الرياضي السليم. وممّا لا أزال إلى اليوم أذكره ما علّمناه وما يعرف ب Raisonnement par l’absurde وبالعربية برهان الخَلْف: أي القياس الاستثنائي الذي يُقصد فيه إثبات المطلوب بإبطال نقيضه([2]). وكم كرّر على مسامعنا شرح هذا النهج المنطقي في التفكير الرياضي وكيفيّة استخدامه معطياً الأمثلة، وطارحاً التمارين العديدة التي ترسّخ الحلول في أذهاننا، حتى أنّني لمّا أزل حافظاً له إلى اليوم!
وفي الهندسة الإقليدية Géométrie Euclidienne علّمنا كيف نفكّر أولاً بالمسألة الهندسية، لحلّها بالتالي. وهذا المنطق الرياضي، والفكر الهندسي كان أساساً متيناً عندي حتى في مقاربة النصوص الأدبية والإنسانيّات كما سأذكر لاحقاً.
وإلى كلّ هذه المزايا كان الأستاذ نبيل خوري ذا نزعة مثاليّة وودوداً ومحبّاً للنكتة في آن. وذا مهابة لا يتساهل في مسائل النظام والانضباط في الصفّ، ولا يطيق الفوضى. واشتهرت عنه عبارة كان يردّدها كلّما شعر بانحرافٍ ما نحو “الطيشرة” وعدم الانتباه:
Je suspend le cours أي أعلّق الدرس، وكان تهديده هذا كافياً كي يستعيد انتباه تلامذته لشرحه. وكانت لغته الفرنسية متينة، ولا تحوجه إلى استخدام العربية المحكية كغيره من معلّمي هذه المادّة الذين يسكعون([3]) بين الفرنسية والعربية، ومعظم شروحاتهم بالFranco-Arabe، أي خليط هجين من الفرنسية واللغة المحكية.
وما كان من محبّي التسميعات الخطّية وتصليح المسابقات، وكان كثيراً ما يلوّح بامتحانات شفهية أو خطّية لإرغامنا على الانتظام في المراجعة والدرس. ونادراً ما كان ينفّذ “تهديداته” هذه.
وكانت علاقته بتلامذته مميّزة، ويتابع أحياناً ألعابنا في الملعب. وأذكر أنّه كان على رأس المشاركين في مباراة كرة السلّة بين فريق المدرسة من التلامذة، وفريق من أساتذتها، وكم تحمّسنا يومها لهذه المباراة الفريدة من نوعها، والتي تتيح للتلميذ أن ينافس أستاذه في أمرٍ ما على الأقلّ، وقد يتفوّق عليه!
ورحل الأستاذ نبيل خوري الحبيب المحبّ شابّاً، وبعد سنواتٍ قليلة من مغادرتي مدرسة الفرير ماريست/جبيل، وما عرفتُ بالخبر المفجع إلا لاحقاً. إذ أذكرُ أنّني وبعد بضع سنواتٍ، زرتُ المدرسة يوماً، وصعدتُ إلى غرفة الأساتذة لتحيّة بعضٍ ممّن علّمني، فرأيتُ له فيها صورة معلّقة على الحائط وبأسفلها اسمه وسنوات ولادته ووفاته، فصعقتُ من هول هذه المفاجأة الحزينة المحزنة. بيد أن البسمة التي كان يفترّ بها ثغره هدّأت قليلاً من روعي، إذ خلته يحادثني ويبسم لي من خلال صورته هذه كما كان يفعل في الصفّ عندما ينظر إليّ إثر شرح مسألةٍ عويصة ليتأكّد أنّني فهمتها، أو عند توزيع المسابقات المصحّحة والتي يكون راضياً فيها عن علامتي. وكان يومها لقاءً وجيزاً صامتاً تبادلنا فيه تحيّاتٍ افتراضية أثارت في المخيّلة الذكريات والمشاهد الحلوة القديمة، فأحسستُ وكأننّي مجدّداً في الصف الثالث في الفرير ماريست أصغي إلى شروحات أستاذ الرياضيات نبيل خوري، وبعضٍ من توجيهاته القيّمة التي غالباً ما كان يجود بها عليّ وعلى رفاقي. فلم أملك أن أخفي دمعة طفرت من عيني حزناً على من كان له عليّ فضل الموجّه والمربّي، ومن أبقى مديناً له بالمنطق الرياضي والفكر العلمي اللذين كسبتهما بفضل تنشئته، وانعكسا لاحقاً في بحوثي وكتاباتي.
ولا أزال إلى اليوم أذكر ذاك اللقاء الغريب المؤثّر بيني وبين أستاذي النبيل، وما خلصتُ إليه إثر وقفتي الحزينة أمام تلك الصورة. إذ كان آخر ما قلته له بداخلي، وأنا أنظر بعينٍ دامعة إلى بسمته التي لمّا تزل محفورة في الذاكرة، أنّني سأبقى على الوعد، وسأستمدّ دوماً من نبله ومودّته ولهفته على تلامذته وفرحته بنجاحهم ما يحثّني على متابعة المسير.
[1] -الأستاذ نبيل موسى خوري (1 /2 /1949 – 13 /4 /1980): ولد في ضبية/قضاء المتن، وهو من أسرةٍ من عندقت/قضاء عكّار. درس في مدرسة الفرير في جونية والشانفيل. نال الإجازة التعليمية في الرياضيّات من المعهد الفرنسي/بيروت Ecole des lettres سنة 1972. تزوّج في 12 آب 1976 من زميلته في التدريس في مدرسة فرير ماريست/جبيل ماري سمعان ابنة الرسّام والفنّان التشكيلي الجبيلي سمعان سمعان، وأنجبا ولدين: موسى مهندس ميكانيك، وأنطوانيت.
درّس الرياضيّات في مدرسة فرير ماريست/جبيل 1972-1980. وتابع دراسة الحقوق في الجامعة اللبنانية، ولكن حالت وفاته دون إتمامها. تعرّض في نيسان 1980 لحادث صحّي طارئ أودى بحياته وهو في الواحدة والثلاثين من العمر.
[2] -برهان الخَلْف: Reductio ad absurdum: تثبت القضية س بافتراض سلب س كمقدّمة، والبرهنة على أن هذا الافتراض، إلى جانب مقدّمات أو مبادئ سبق إثباتها، يفضي إلى تناقض. ويُعرَف أيضاً باسم البرهان غير المباشر.
[3] -سكع: تحيّر، مشى لا يدري أين يتّجه.