د. لويس صليبا/كلمة في ندوة كتاب “مخطوط مطوي: أقدم شرح كلامي لنهج البلاغة” للمتكلّم الوبَري الخوارزمي (ق 6 ه)، دراسة وتحقيق خضر محمد نبها، بيروت، دار المحجّة البيضاء، ط1، 2021، 183ص.
التقريب بين المذاهب الإسلامية والحوار المسيحي-الإمامي في تفاسير نهج البلاغة، دراسة د. لويس صليبا المقدّمة في ندوة كتاب مخطوط مطوي تأليف د. خضر نبها، على Zoom، 23/1/2022
يمكن متابعة هذه الكلمة بالفيديو وسائر وقائع الندوة على اليوتيوب على الرابطين Links التاليين:
يطرح كتاب صديقنا البروفسور خضر نبها “مخطوط مطوي” الذي نتدارسه في ندوتنا اليوم إشكاليّاتٍ وتساؤلاتٍ عديدة في الشكل والمضمون، وكذلك في المنهج وطريقة تحقيق النصّ وتقديمه وغير ذلك من الأمور.
ولا تتيح لنا المهلة الزمنية المحدّدة والمحدودة لمداخلتنا هذه أن نتناولَها كلَّها بالعرض والتحليل والتقييم والتفنيد، لذا لا مفرّ من أن نكون انتقائيين ونُقصر بحثنا على أبرزها، أو على بعضٍ منها.
وأوّل ما نبتغي مناقشته عنوان الكتاب، وقد اختار له د. نبها عنواناً رئيساً هو التالي: “مخطوط مطوي”. وهو عنوانٌ يوحي وكأن الكتاب يقدّم نصّاً محقّقاً لهذا المخطوط الذي اكتشفه أو عثر عليه المؤلّف، وهو ما تهيّأ لي عندما قدّم هذا الأخير مشكوراً نسخة منه، لا سيما وأنّه ذكر على الغلاف وفي صفحة عنوان الكتاب: “تحقيق ودراسة خضر نبها” ما يعني أنّه عمل على تحقيق مخطوطة لكتاب الوبَري. ولا أُخفي أنّني أحسستُ بشيء من خيبة الأمل عندما تصفّحتُ الكتاب، فتبيّن لي أنّه ليس تحقيقاً لهذا المخطوط، بل مجرّدَ استخراجٍ لعناصرَ ونصوصٍ منه من مصادر أخرى وإعادة تركيبٍ وبناء لهذا الكتاب الضائع على طريقة الPuzle. دون أن يعني ذلك بتاتاً انتقاصاً من قيمة هذا العمل، وهو ما سنعود إلى الحديث عنه.
والسؤال البديهي الأوّل الذي طرحتُه كان التالي: عبارة “مخطوط مطوي” وهي العنوان الرئيسي للكتاب هل هي مصطلحٌ بحثي أجهلُه؟! لا سيما وأن لي في مجال تحقيق المخطوطات العربية مساهمات عديدة إذ نشرتُ أكثر من عشر مخطوطات محقّقة، كما أنّني نشرتُ مخطوطةً قيّمة ضائعة هي “معراج محمّد: المخطوطة الأندلسية الضائعة” من خلال ترجمة نصّها اللاتيني بعد أن ضاع الأصل العربي لها مع ضياع الأندلس، وهي الرواية الأطول والأكمل من روايات المعراج كما بيّنتُ في دراستي لها.
وسؤالي البديهي هذا، كان من الطبيعي أن أبحثَ له عن جواب في كتاب د. نبها عينِه، ولا سيما في مقدّمته، وهنا كانت لي خيبةُ أملٍ ثانية، إذ بدا لي التعريف الذي يقدّمه الكاتب مبتوراً أو أقلَّه غيرَ مستوفٍ للغرض. يقول نبها (ص12-13): “وبعد التيقّن من ضياعِ شرح الوبَري استأنفتُ التدقيق في شرح البيهقي وأقلّب نقولاته عن الوبَري، فوجدتُها عديدة (…) عندها لمع في عقلي أن أجمع هذه النصوص في عملٍ مستقلّ (…) لأن في جمعها إحياءٌ لعملٍ ضائع ومفقود، وهو بمثابة مخطوطٍ مطوي في عملٍ مطبوعٍ ومتوافر بين أيدينا”
ولكن ماذا تعني عبارة “مخطوط مطوي” تحديداً؟! فالكاتب لم يشفِ غليلي ويشرح لي هذه العبارة التي اختارها عنواناً رئيساً لكتابه. وواصلتُ القراءة، فوجدتُ نبها يتابع مردفاً: “ومن عادةِ المراكز العلمية في العالم والدول المهتمّة بالتراث، الدعوة إلى مؤتمراتٍ علمية مخصّصة للحديث عن المخطوطات المطويّة في التراث المطبوع، بمعنى أن هناك مؤلّفات للقدامى هي مفقودة وضائعة اليوم، ولكنها مبثوثة ومنشورٌ أجزاء منها، في مؤلّفاتٍ مطبوعة، هذا يعني أن ما هو مفقود، عندما نعثرُ على نتفٍ منه في أعمالٍ مطبوعة، فهو بمثابة مخطوط مطوي في الأعمال المنشورة”. ويخلص نبها قائلاً في هذا الصدد: “وطبعاً صاحبنا الوبَري ينطبقُ عليه هذا العملُ المنهجي”. (ص13).
اتّضح لي، بعد هذا الشرح بالطبع، ماذا يعني الباحث بعنوان كتابه “مخطوط مطوي”. لكن بقي في ذهني السؤال الإشكالي الكبير: هل هذه العبارة مصطلحٌ معروفٌ في علم تحقيق المخطوطات؟! فتّشتُ في معظم الكتب المنهجية التي تدرسُ تحقيق المخطوطات العربية وتعرضُ مناهجَ أكاديمية وعلمية له فلم أجد لها أثراً، فمن أين جاء صديقي نبها بها؟ وبعد أن أعياني البحث كان لا بدّ ولا مفرّ من الاستعانة بغوغل Google شفيعِ الباحثين الجديد والمستجدّ. وهنا فقط جاءني الجواب. فعبارة “مخطوط مطوي” مصطلحٌ سعى د. يوسف زيدان مدير إدارة المخطوطات في مكتبة الإسكندرية إلى إدخاله في علم التحقيق واتّخذه عنواناً للمؤتمر الدولي الخامس لمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية الذي عُقد بين 6 و 8 مايو 2008. وهو يفخر بمساهمته هذه ويعتبرُها اكتشافاً قيّماً، ففي تصريحٍ له لوكالة الأنباء الفرنسية في 14/8/2007 تحدّث فيه عن أهداف هذا المؤتمر وميّزاته والمنتظرِ منه قال زيدان: “إن مصطلح المخطوطات المطوية هو مصطلح تراثي جديد المرادُ به المؤلّفات التي اختفت أو أخفيت لسبب أو لآخر، فالطي هو نقيض النشر بمعنى الظهور، وهو هنا يعني الاختفاء أو الانزواء لبعض النصوص التي وصلتنا عناوينها من دون محتواه”.
وأضافَ أن عنوان المؤتمر بمصطلحه التراثي الجديد يأتي كدعوة لكبار الباحثين لمناقشة ما حدث من قَبلُ في مؤتمراتٍ سابقة التي صاغت مجموعة من المصطلحات التراثية والرؤى الجديدة للتراث المخطوط وفتح نوافذ مبتكرة للإطلال عليه”
كيف يكون هذا المصطلح تراثيّاً وجديداً في الوقت عينه؟! سؤالٌ بديهيٌ وبسيطٌ يُطرح!!
ويضيف زيدان معرّفاً بالمصطلح الجديد الذي يقترحه، فيقول: ” إن الهدفَ من المؤتمرِ ومحاوره البحثية الكشفُ عن المؤلّفات العربية التي ضاعت أصولَها لكن وصلت عنها إشاراتٌ وتلميحات وردت في مؤلّفات أخرى، وذلك بقصد الكشف عن النصوص المفقودة وأسباب فقدانها والخصائص العامة التي تجمع بين المفقود من التراث”.
فمصطلح “مخطوط مطوي” مصطلح زيداني إذاً، لم يقرّه أي مجمعٍ للغة العربية، وقد انتقده عددٌ من الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر المذكور، كأستاذِنا وصديقِنا المشترك د. رضوان السيّد إذ كتب في مقالة له نشرتها يومَها جريدةُ المستقبل في بيروت في عدد الجمعة 9/5/2008 فقال: “يعمدُ الدكتور يوسف زيدان مدير إدارة المخطوطات بمكتبة الاسكندرية، إلى إثارة الانتباه والاهتمام بقضايا المخطوطات العربية، من طريق إطلاق أسماء غريبة وطريفة على مؤتمرات للمخطوطات التي يقيمها ويدعو الباحثين العرب والأجانب، للمشاركة فيها. وقد أقامت إدارة المخطوطات مؤتمرَها الخامس هذه الأيام بعنوان: المخطوطات المطوية، وقد قصد د. زيدان من وراء ذلك النصوص التي كانت ضائعة أو ما تزال، وأمكنَ أو يمكن التعرف عليها واستنقاذها والتعريف بها من خلال الاقتباسات منها في مخطوطات أخرى، أو من خلال اكتشاف مخطوطة لها ما كانت معروفة من قبل.”
وواضحٌ من كلام رضوان السيّد أنّه غير راضٍ عن المصطلح الذي اقترحه زيدان. والواقع أنّه مصطلح ملتبِس يمكن أن يُفهَم بطرق ومعانٍ مختلفة ومتباينة. فأوّلُ ما يتبادرُ إلى الذهن عند سماع كلمة مطويّ الآية الكريمة القائلة: {يوم نطوي السماءَ كطيّ السجل للكتب} (سورة الأنبياء/104). ونطوي هنا بمعنى نَثني. أخرج الطبري في تفسيره عن ابن عبّاس شارحاً هذه الآية قائلاً: “كطيّ الكتب”.
ومكتبة الملك فهد/الرياض على سبيل المثال لا الحصر، وفي القسم المخصّص منها للمخطوطات، لا تزال إلى اليوم تستخدم عبارة “مخطوط مطوي” على أنّه مخطوط مثني أو ملفوف.
وهذا ما نجده كذلك في أكثر القواميس: “مطوي: مثني”([1]) وبالفرنسية plié، وبالإنكليزية folded أو rolled up أي ملفوف ومطوية: مطبوعة مطوية وبالفرنسية dépliant وبالإنكليزية foldout([2])
بيد أنّنا نجد في المنجد المعنى الذي قصده زيدان: مطوي: مثني أو ملفوف، ومطوي: ما طُوي جزءٌ منه داخل جزءٍ آخر: سكّين مطوي”([3])
والخلاصة كان على الكاتب/المحقّق برأينا عوض أن يغرقَ في تعميمات مبهمة وملتبسة عن هذا المصطلح ويتحدّثَ عن مراكز علمية في العالم والدول المهتمّة بالتراث لا نعرف أين هي وما هي؟ أن يحدّد بالضبط عمّن أخذ مصطلح “مخطوط مطوي”، فيسمّي زيدان مطلقَ هذا المصطلح ومروّجَه، ويشيرَ كذلك إلى المؤتمر الدولي الخامس لمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية الذي اعتمد هذا المصطلح وجعله عنواناً لدورته هذه. فهذا أضعف الإيمان، وأقلّ ما تقتضيه أمانةُ البحث العلمي.
وقفةٌ قصيرةٌ الآن عند مقدّم الكتاب صديقِنا المشترك فضيلة الشيخ الدكتور أحمد مبلّغي، وبعضِ ما جاء في مقدّمته. ينوّه مبلّغي بنزعةِ المحقّق التقريبية بين المذاهب الإسلامية فيقولُ عنه (ص9): “يتّجهُ نظرُه الجادّ نحو الوحدة بين الشيعة والسنّة على مستوى الأمّة، وهذا ما تبلور في بعض كتبه، الأمر الذي يجب على كلّ من له دراسات وأنشطة علمية في المذهب السنّي أو الشيعي أن يتّبعه ويتابعه كخطٍّ واضحٍ قرآني”
ولا نجد شيخَنا الجليل إلا مُحقّاً تماماً في تنويهه هذا. فخضر نبها إعلاميٌّ ذو نزعةٍ حواريةٍ ودودة واضحة برزت تماماً للعيان في برنامجه التلفزيوني الناجح “أحسن الحديث”، وتبلورت ليس في كتبه السابقة وحسب، بل وفي هذا الكتاب بالذات. وممّا استوقفنا في هذا السياق، وعلى سبيل المثال، حديثه عن الصداقة التي ربطت بين الفخر الرازي وعلي بن ناصر السَرَخْسي أحد شارحي نهج البلاغة. يقول نبها (ص82): “ويظهرُ أن علاقةً ملؤها الودّ والمحبّة والاحترام، كانت بينه وبين الإمام فخر الدين الرازي (ت606هـ) المفسّر المشهور، رغم التباعد في المذهب، حيث إن الرازي شافعي، وعلي بن ناصر السَرَخْسي إمامي جعفري، وهذا التباعد لم يؤدِّ إلى التنافر والتنازع بينهما، بل أوردَ الشيخُ العطاردي نُسخةً مخطوطة من رسالة بعثها الفخر الرازي للسَرَخْسي مملوءة بالحبِّ والتقدير والإعجاب”.
وهنا يعقّبُ نبها على هذا الخبر العميق الدلالة قائلاً: “هذه صفاتٌ حميدة كانت عند علمائنا القدامى، فهذا هشام بن الحكم (ت179هـ) تلميذُ الإمام جعفر الصادق كان على صداقةٍ وشراكةٍ تجارية مع عبدالله بن يزيد الإباضي، رغم التنافر في اعتقادهما، حتى ضُرب المثل بصداقتهما، راجع أطروحتي عن هشام بن الحكم…”
وإذا عدنا إلى رسالة الفخر الرازي إلى السرخسي لوجدنا فيها من عبارات المودّة والتحبّب ما يثلج الصدر، ففيها يقول متوجّهاً إلى هذا الأخير: “وأنا أخبرُ سيّدي ومولاي صدر الملّة والدين، وشمس الإسلام والمسلمين (…) بأنّي أحبّه من صميم قلبي، وأحبّ أنّي أحبّه، وأبغضُ أن لا أحبّه”([4])
فيجيبه السرخسي برسالة يمتدحه شعراً فينشد:
لمولاي فخر الدين عندي النعم لأيسرها قد خاف ذرعي بالشكرِ
أخو الخاطر الودادِ لم تبقَ عقدةٌ من العلمِ إلا حلّها هو بالفكرِ (م. ن)
إنّها حقّاً علاقة مودّة نموذجية بين عالمَين، لم يؤثّر اختلاف المذهب على علاقتهما، وليتهما يكونان أسوة لعلمائنا اليوم!
والمهمّ أن هذا التركيز الدائم على الجانب الحواري الودود في تراثنا العربي والإسلامي ميزةٌ لافتة في خضر نبها، وجديرةٌ بكلِّ تنويه وتثمين. وهو يجسّدُها في شخصه وعيشه اليومي وعلاقاته الوطيدة والبنّاءة مع رجالات من مختلف المذاهب والطوائف والأديان، لا في كتاباته وحسب. وكم نحن بحاجةٍ اليوم إلى باحثين من أمثاله يستخرجون ما في تراثنا من جوانبَ مشرقةٍ ودودة ويسلّطون عليها الضوء لتكون أسوةً للكثيرين ممّن يتخبّطون في ظلمات المذهبية الضيّقة والبغيضة.
وتبقى لنا ملحوظةٌ بشأن مقدّمة صديقنا الشيخ مبلّغي نسوقها من باب المونة عليه، فهو يقول مستهلّاً تقديمه ومتحدّثاً عن إعجاب المفكّرين من مختلف الاتّجاهات والمشارب بنهج البلاغة (ص7): “واللافت أن هذه الظاهرة لم تقتصرْ على المسلمين، بل وقد عبرت حدودَهم وغطّت غير المسلمين كذلك، حيث نجد أن العديد من المفكّرين من الديانات الأخرى، عندما رأوا نهج البلاغة، وتأمّلوا فيه، كتبوا أو قالوا إن له مكانة مهمّة…”
تمنّيتُ هنا وأنا أقرأُ هذا الكلام الإنشائي البليغ لو أن شيخنا الجليل لم يكتفِ بهذه التعميمات الغريبة عن النهجِ الأكاديمي، بل قرن كلامَه هذا بأمثلةٍ واضحة، أو مثلٍ واحدٍ على الأقلّ، وسمّى بعض هؤلاء المفكّرين والأدباء غير المسلمين الذين أكبروا في نهج البلاغة علوَّ قامته الفكريّة مضموناً وأسلوباً، وعلى رأس هؤلاء، بلا ريب، مشاهيرُ كتّاب لبنان المسيحيين: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمه، وجورج جرداق، وبولس سلامه، وسليمان كتّاني وغيرهم ممّن درسنا مساهماتهم في بحثٍ سابق.([5])
فهذه الإشارات والتسميات لو حصلت لكانت هنا في محلّها، ولأنصفت هؤلاء القوم، ولأخرجت نصَّ شيخِنا مبلّغي من التعميمات التي تلامسُ الحدّ التمويهي، ولا تفيدُ الباحثَ بشيءٍ مهمّ. والتعميماتُ هذه تبلغُ حدَّها الأقصى، فتكتسي فيه بطابعٍ شعبوي واضح في ختامها حيث يخلص الشيخ الدكتور فيقول (ص7): “وقد اعترفَ الجميعُ بأنّه [أي نهج البلاغة] في العدالة قد تقدّم إلى أعماقِها، وفتح طبقاتِها”
الجميع: من هم، ومن المقصود؟! يذكّرني هذا التعبير بنظرية إجماع الأمّة أو إجماع الأئمّة كمصدر للفقه عند أهل السنّة والجماعة أو مسألة “حجّة الإجماع” وفق تعبير شارح النهج الكيذُري الذي ينقل عنه نبها (ص70). أيّاً يكن، فهو إجماعٌ لم يحصل بتاتاً كما نعلم وتعلمون. فمن هم “الجميع” الذين يتحدّث عنهم شيخنا؟! وهل ننسى هنا أو نغفل ونتناسى أن عدداً من المؤرّخين والمفكّرين من القدامى والمحدّثين طعنوا في صحّة نِسبة نهج البلاغة إلى الإمام عليه السلام، وذلك بدءاً من ابن خلِّكان (ت681هـ) الذي أورد رواية تقول عن النهج: “إنه ليس من كلام عليّ، وإنّما الذي جمعه ونسبَه إليه هو الذي وضعه”([6]). والصفدي في الوافي بالوفيات من بعده. والإمام محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) القائل في كتابه “ميزان الاعتدال: “من طالع نهج البلاغة جزم بأنّه مكذوبٌ على عليّ، ففيه السبّ الصراح، والحطّ على أبي بكر وعُمر، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي مَن له معرفة بنفَس القرشيين الصحابة وغيرهم ممّن بعدهم من المتأخّرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل”([7])
مروراً باليافعي في مرآة الجنان، وابن حُجر العسقلاني في لسان الميزان([8]) ([9]). وصولاً إلى جرجي زيدان القائل: “لا نظنّ كلّ ما حواه نهج البلاغة من الخطب له [أي للإمام علي] ([10])و: “إن كثيراً من الخطب [في نهج البلاغة] ليست لعلي بدليل اختلاف الأسلوب، ومخالفة ما فيها من المعاني لعصره، وغير ذلك ممّا لا محلّ لتفصيله” (زيدان، تاريخ آداب، م. س، ص2/599). والمستشرق هوارت Huart في كتابه “الأدب العربي”.([11]) والمستشرق الفرنسي ديمومبين القائل إن واضع نهج البلاغة هو الشريف الرضي([12]).
وطه حسين القائل عن نهج البلاغة: “لا أعتقد أنّه من كلامه [أي الإمام علي] لأن الصنعة والتكلّف تغلبان عليه، فضلاً عن اشتماله على عبارات وكلمات لم تظهر إلا في زمن المتكلّمين، والذي أرجّحه أنّه من تأليف الشريف الرضي”([13])
وأحمد أمين القائل: “ونسبوا إليه [أي الإمام علي] نهج البلاغة، وهو يشتمل على كثيرٍ من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحكم وقد شكّ في مجموعها النقّاد قديماً وحديثاً (…) واستوجب هذا الشك أمور: ما في بعضه من سجعٍ منمّق، وصناعة لفظية لا تُعرف لذلك العصر (…) وما فيه من تعبيرات إنما حدثت بعد أن نُقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية، وبعد أن دُوّنت العلوم (…) هذا إلى ما فيه من معانٍ دقيقة منمَّقة على أسلوبٍ لم يُعرف إلا في العصر العبّاسي” (أمين، أحمد، م. س، ص148-149).
وشوقي ضيف، ومحمد محمود شاكر (الفتال، م. س، ص21-22). وغيرهم.
ويبقى أنّنا نوافق الشيخ مبلّغي تماماً في تنويهه بأن المحقّق د. نبها (ص9): “ركّز معظم اهتمامه وجهده على اكتشاف جوانبَ من التراث هي غير معروفة، أو غير معروضة، أو غير مكتوبة. جوانبَ تراكم على جملةٍ منها غبارُ الهجر والجهل والنسيان، بسببِ كونها مخفيّة في زاويا من التاريخ”.
وعن هذه الميزة “النبهاويّة” بالذات نودّ أن نتحدّث، وتحديداً من خلال منهجيّته الرصينة في جمع وتحقيق الكتاب الذي ندرسً أي شرح الوبَري للنهج.
يقول نبها شارحاً طريقته ومنهجيّته في الجمع والتحقيق (ص12): “بعد التيقّن من ضياع شرحِ الوبَري، استأنفتُ التدقيقَ في شرح البيهقي أتأمّل وأقلّب نقولاته عن الوبَري، فوجدتُها عديدة (…) عندها لمعَ في عقلي أن أجمعَ هذه النصوص في عملٍ مستقلّ، وأنا المعتادُ على أعمالٍ كهذه”
وتستوقفُنا عبارةُ نبها الأخيرة هذه. ولا نملك سوى أن نصادقَ عليها، وننوّهَ بجهدِه في هذا المجال. فهو، وإن لم يكن هو من ابتكر هذا النهج في الجمع والتحقيق، فهو من المبرِّزين فيه، وله على تراث المعتزلة الضائع فضلٌ عميم، وإنّي لأتمنى عليه أن يثابر على نهجه الرصين هذا، وما كتابه هذا سوى واحدة من ثمراته. ولا بأس من أن أذكر هنا أنّني أنصحُ طلّابي في الدكتوراه وغيرها بتحقيقاته لتراث المعتزلة كالتفاسير وغيرها لما فيها من جهدٍ ودراسات وحواشٍ مفيدة. وغير ذلك.
ومن مألوف عادات الكتبيين في التنويه عن كتابٍ أُحسن تحقيقُه ودراستُه وشرحُه أن يقولوا عنه: “كتابٌ مخدوم”. ونبها خادمٌ رصين أتقنَ وأحسنَ خدمة تراثِنا الكلامي والإسلامي عامّة. ويبقى السؤالُ كيف تجلّى حسنُ خدمته للتراث في هذا الكتاب بالذات؟!
إنّه يعرّفنا أولاً بمتكلّمٍ إماميّ مغمور، وشارحٍ للنهج منسيّ وشبهِ مجهول: الوبَري الخوارزمي (أوائل ق 6 هـ). ونكاد لا نعرفُ عن الوبَري سوى ما نقله عنه معاصرُه علي بن زيد البيهقي (ت565هـ) من شروحاتٍ لنهج البلاغة. ونبها يتبسّط في عرضِ شروحات الوبَري دارساً ومركّزاً على ميّزاتها الكلامية، وريادتِها في هذا المجال، مشيراً إلى ذلك حتى في العنوان الفرعي لكتابه، وحسناً فعل. كما أنّه يستوفي البحث في تأثير الوبَري على من تلاه من الشارحين، فيعقد فصولاً ثلاثة يتناول في كلّ منها شارحاً للنهج نقل عن الوبَري، وعرضُه هذا موثّقٌ موسّع ووافٍ وجليلُ الفائدة. وهم ثلاثة مفسّرين للنهج يجمعُهم مع الوبَري عصرٌ واحد. وسنخصّ كلّاً منهم بوقفة قصيرة استكمالاً للبحث.
1-علي بن زيد البيهقي (ت565هـ)، وهو أبرز من نقلَ وحفِظ بالتالي شروحات الوبَري في مصنّفه “معارج نهج البلاغة”، ولولاه لضاعت غالبية هذه الشروحات. وهو يكِنُّ للوبَري كلّ الاحترام والتقدير والإعجاب، ولا يذكرُه مرّةً دون لقب “الإمام الجليل”، أو “الإمام المتكلّم” دلالةً على موقعه في نفسه. (ص64). وقد نقل في شرحه عن الوبَري 109 نصوص يتبسّط المحقّق في ذكرها وتقسيمها بين شرحٍ لخطبِ أميرِ المؤمنين، وشرحٍ لرسائله، وثالثٍ لحِكمه عليه السلام. (ص64).
واللافتُ في شرحِ البيهقي أنه الأصل والمرجع لشرح الوبَري أما الشارحَان التاليان الكيذُري والسَرَخْسي فأخذا عنه نقولاتِهم عن الوبَري، ولم يعودا إلى الأصل، أي شرح الوبَري رغم قرب المسافة الزمنية بين الشارحين الأربعة هؤلاء إذ هم معاصرون. وهذا ما يؤكّده نبها مراراً (ص100، وغيرها). فما سرُّ ذلك إذاً، وهل اطّلع الكيذُري على شرحِ الوبَري مباشرةً يتساءل نبها (ص77-78). الجواب البديهي يبدو سلبيّاً، وإلا لما كان اكتفى بنقولاتِ البيهقي! ولعلّ في هذه النقطة بالذات يكمنُ سرُّ ضياعِ شرحِ الوبَري أو بعضاً من هذا السرّ، فمنذ زمن الكيذُري بات الوصولُ إلى مخطوطةِ الوبَري أمراً ليس باليسير!!
“شرح الوبَري المفقود كان له الأثر الطيّب على الكيذُري، فنجده يفتتح شرحه بنصٍّ للوبَري”، يقول لنا نبها (ص78). فهل كان مفقوداً منذ ذلك الزمن؟ العبارة ملتبِسة، والأرجح لا، وكان عليه برأينا أن يقول دفعاً للالتباس “المفقود في أيامنا، أو المفقود اليوم”. ويعودُ نبها في خلاصةِ بحثه إلى الإشارة إلى هذه الإشكالية التي بقيت غير محسومة، فيقول (ص100): “يظهرُ أن الكيذُري والسَرَخْسي لم يعودا إلى شرح الوبَري. ولا أعلم إذا كان شرح الوبَري متوفّراً عندهما أم هو مفقود، أم أنهما اكتفيا بما هو منقول عند البيهقي؟!”. مسألةٌ تبقى إذاً برسم البحث والتفتيش!
ميزةٌ أخرى لشرح البيهقي يشيرُ إليها نبها بسرعة، وليتَه أولاها ما تستحقّ من تحليل ودراسة، يقول عن هذا الشرح (ص58): “والملفت أنه [البيهقي] كان يستفيدُ أحياناً من الإنجيل والزبور”، ويعيّنُ المحقّق في الهامش بعض المواضع التي عاد فيها البيهقي إلى واحدٍ من هذين الكتابَين المقدّسَين، فإذا هي ستة.
والأمر له دلالاتُه البعيدة. فهي ميزةٌ حوارية جليلة اختصّ بها مؤلّفو المصادر الإمامية، وتستحقُّ دراسةً على حدة وتحليلاً متأنّياً. وقد اقترحتُ مراراً على طلّابي في الدكتوراه في علوم الأديان أن تكون موضوعاً لأطروحتهم. فعلماءُ الإمامية تخطّوا غالباً عُقدة التحريف التي عانى منها سائر علماء وعن سوءِ فهمٍ للقصد القرآني، ونهلوا من المصادر المسيحية واليهودية، ولم يحجموا حتى عن الأخذ عن المصادر البوذية. وفي دراسةٍ آنفةٍ لي توقّفت عند الشيخ الصدوق ابن بابويه القمّي، وكيف أورد في مصنّفه: كمال الدين وتمام النعمة قصّة المغبوط غوتاما بوذا،ع، المعروفة ب “بلوهر وبوذاسيف” ولم يجد حرجاً في ذلك. وللأمر هذا دلالاته البعيدة.
2-قطب الدين الكيذُري (ت576)، صاحب شرح للنهج عنوانه لافت: “حدائق الحقائق في فسر دقايق أفصح الخلايق”. عنوانٌ إشكاليّ بامتياز. ولعلّ هذا ما جعل محقّق الكتاب عزيز الله الفطاردي يعدّل في العنوان عند تحقيق الكتاب ونشره فيجعله “حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة”. (ص66-67). ويُحسِن نبها عرضَ هذه الإشكالية ومناقشتَها. فإذا كان الإمام عليه السلام أفصح الخلايق، فما القول في كلامِ ابن عمّه عليه الصلاة والسلام؟!
يبدو تبريرُ الكيذُري لعنوانه على شيء من التعسّف إذ يقول: “إن نفسَ الوصي علي هو نفس النبي، لقد ظهرا شخصين والروح واحد بنصّ حديث النفس والنور، (…) فلا يُقال عليّ أفصح من النبي، أو النبي أفصح من عليّ، لأنهما نفسٌ واحدة” (ص67).
تمنّيتُ لو أن صديقي البروفسور نبها وبعد أن استوفى هذه الإشكالية عرضاً، أنّه أبدى فيها رأياً كلاميّاً كنتُ أنتظره منه. أما هو فاكتفى بالقول (ص67): “ويؤكّد الكيذُري أن قوله (أفصح الخلائق) هو مخصوصٌ بالنبي، ولأن عليّ هو مدينة علم النبي وهو نفسه”، وأنهى الحديث في هذه المسألة بنقلٍ أخير للكيذُري يُعيد فيه تأكيد ما سبق وقاله: “وهذا يقتضي تطابقَ اللفظِ والمعنى، وتوافقَ الاسم والمسمّى، ففصاحةُ عليّ مطابقةٌ وموافِقة لفصاحة النبيّ الذي هو أفصحُ الخلق”.
أياً يكن، فهي إشكالية تذكّرني بما كان عمّي وأبي الروحي الخوري فرنسيس صليبا (1918-1996) يكرّره على مسامعي من أن الإمام عليّ “كلامُه دون كلامِ الخالق، وفوقَ كلامِ المخلوق”، وذلك إثر إهدائه لي نُسخةً من نهج البلاغة، وأنا لمّا أزل صبيّاً يافعاً، كما رويتُ في بحثٍ سابق (صليبا، لويس، نحو الحوار، م. س، ص113-114). وقد تساءلتُ منذ ذاك البحث، ولمّا أزل أتساءل وأطرحُ الإشكالية التالية: “لماذا درجَ مسيحيّو لبنان على المبالغة في إجلال الإمام عليّ، وتقديمه حتى على ابن عمّه عليه الصلاة والسلام؟! وبتأثير من كان ذلك؟!
إشكاليةٌ طرحت نفسها مراراً عليّ، وبإلحاح لا سيما من خلال التجربة المعيشة. وعساني يوماً استوفي هذه المسألة دراسة وتمحيصاً.
ويبقى أن الكيذُري تميّز بأنه بدأ وأنهى شرحَه بكلامٍ للوبري، كما يؤكّد لنا نبها مراراً. وللأمر دلالتُه. فمقامُ الأخير عند الأوّل وقدْرُه كانا جليلَين.
3-علي بن ناصر السَرَخْسي، صاحب شرح للنهج عنوانه “أعلام نهج البلاغة”، وهو معاصر للإمام الفخر الرازي (ت606 هـ)، كما سبق وأشرنا، وصديقٌ له على اختلافٍ في مذهب كلّ منهما. ويقول عنه نبها (ص88): “إن آراء الوبَري في الإمامة غير مسلّمٍ بها عند علي بن ناصر [السَرَخْسي]، وأمّا رأيه في المسائل الكلامية فلا اعتراض عليها”.
ومسألة الإمامة وآراء المفسّرين الثلاثة فيها، أي البيهقي والكيذُري والسرخسي مقارنة برأي الوبَري وشرحه سنخصّها بوقفةٍ تحليلية مقارنِة تكون بمثابة نموذج للتمايز في الشرح والتفسير بين الشرّاح الأربعة هؤلاء.
وقبل الغوص في مسألة الإمامة نتوقّف عند نماذج من شروحات الوبري لمقولات أمير المؤمنين، ع، في النهج.
قال عليه السلام (ص154): “ما أخذ الله على أهل الجهلِ أن يتعلّموا، حتى أخذ على أهل العلمِ أن يعلّموا”
معادلة بارزة يطرحها أميرُ المؤمنين في قولته هذه. التعليمُ واجبٌ على العالِم لا مجرّد حقٍّ وحسب، تماماً كما أن التعلّم واجبٌ على الجاهل، لا مجرّد حقّ وحسب.
وهي معادلة تذكّرني بقاعدةٍ سنّها المغبوط غوتاما بوذا، وجاء فيها: “السرّية دمغةُ العقيدة الخاطئة المضلِّلة. يضيء الناموس الذي أعلنتُه بكلماته عندما يُعلن، وليس عندما يُخفى”([14]).
فالإسرارية لا مكان لها في تعليم بوذا وعقيدته، وهو ما نفهمه من مقولة أمير المؤمنين هذه، فتعليم الجاهل أمرٌ واجبٌ على العالِم، وليس له أن يخصّ بعلمه هذا دون ذاك. ويقول الوبَري شارحاً (ص155): “وجب على العلماء التعريف، وعلى غيرهم المعرفة”.
ويتابع المغبوط غوتاما قائلاً في هذا الصدد: “لقد علّمتُ الناموس بدون أي تمييز بين بسيطٍ ومفهومٍ وشعبي، وبين ما هو معدّ لفئة قليلة، ومفهومٍ فقط من قبلها” (م. ن).
وممّا يلفتنا في شرح الوبَري لمقولة أمير المؤمنين هذه قوله (ص155): “فالمفيد في العقليّات أن يكون منبّهاً لا معلّماً”.
فهو هنا يذكّرنا بقاعدة هندوية معروفة عبّر عنها جبران خليل جبران في النبي بقوله: “ما من رجلٍ يستطيعُ أن يعلن لكم شيئاً غير ما هو مستقرٌّ في فجر معرفتكم وأنتم غافلون عنه. (…) والمعلّم إذا كان بالحقيقة حكيماً، فإنّه لا يأمركم بأن تدخلوا بيت حكمته، بل يقودكم بالأحرى إلى عتبة فكركم وحكمتكم”([15])
دور المعلّم أن يوقظ المعرفة الهاجعة فيك، أن يوعّيك، أو طبقاً لتعبير الوبَري أن ينبّهك، لا أن يعلّمك.
وفي سياق التعلّم والتعليم عينه نقرأ لأمير المؤمنين (ص150): “عالِمٌ ربّاني، ومتعلّمٌ على سبيل النجاة”
ونقرأ في شرح الوبري لهذا القول: “معنى ذلك أن كلّ واحدٍ من القسمَين، من العالِم والمتعلّم، إنّما يفوزُ ويباين الهمج الرعاع إذا جمع وصفَين. فالعالم يُفلحُ إذا جمع بين العلم والعمل، والمتعلّم إنّما يفوز إذا جمع إلى التعلّم القصد لسبيل نجاته”.
“من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. ومعلّم نفسه ومؤدّبها أحق بالإجلال من معلّم الناس ومؤدّبهم”([16])، يقول أمير المؤمنين في حكمة من النهج. والعالِم عليه أن يجسّد ما يعلّم في عيشه وسلوكه، وهو ما يقصده الوبَري بالجمع بين العلم والعمل. ويتابع هذا الأخير شرحه (ص151): “فإذا كان العالِمُ غير عاملٍ، والمتعلّم غير قاصدٍ لسبيل النجاة، فهما من جملة الرعاع”
فهل يبدو الإمام الوَبري صارماً في حكمه الأخير هذا؟! إنه بالحري واقعي وعملي عملاني. وما نفع العلم إن لم يتجسّد عند العالِم والمتعلّم عملاً وسلوكاً، وما الذي يميّز أيّاً منهما عندها عن عامّة الجهّال؟! ومن حِكم أمير المؤمنين في هذا المجال قوله: “خير المقال ما صدّقه الفَعَال”([17])
ومن المأثورات عن المغبوط غوتاما بوذا أن الدهارما Dharma أي الناموس الكوني، وهي حجر الزاوية في تعليمه هي الانسجام والتناغم: Dharma c’est la cohérence، أي أن يطابق سلوك المرء وعيشه كلامه، لا أن ينطبق عليه قول المثل: “اسمع [أو إقرأ] تفرح، جرّب تحزن”. والوبَري نفسه يقول (ص152): “إن الدين على ثلاثة أقسام: بالقلب واللسان والجوارح”
فعمل الجوارح إذاً يجب أن يطابق أو يجسّد قول اللسان ونيّة القلب.
ملاحظات في الشكل
ولنا ملاحظات تتناول بعض الإرجاعات والمراجع في دراسة صديقنا د. نبها.
1-يقول (ص47): “ويرى الوبري أن علم الإمام، ع، بالدين أوفى من علمه بالدنيا”
ملحوظة بالغة الأهمّية ومن شأنها أن تستكمل اللوحة التي نحاول رسمها عن الإمامة عند الوبري، لذا عدنا إلى المرجع (5) المذكور في أسفل ص47، أي في شرح البيهقي، فلم نجد لها أيّ أثر!! بيد أنّنا وجدناها في كتاب نبها ص 141، خطبة 189 من تفسير البيهقي. والمسألة تعود إلى خلط في هوامش ص47!
2-نقرأ في هامش 4 من ص125: والجدير ذكره أن صاحب حدائق الحقائق ص 670 يضيف ما نصّه: “قال الوبري: الذي ذكرته لا يقتصر على المذكور، بل هو تبنّيه على أمثاله نفس عليه ما أشبهه في الإثم وما زاد عليه، فليس هذا بحصر، بل ذكر البعض عن الكلّ”
ما يعني أن الكيذُري صاحب حدائق الحقائق يضيف على تفسير البيهقي ما ليس فيه من شرح الوبَري، فهل نقل عن مصدر آخر، وذلك خلافاً لقول نبها أن مصدره الوحيد في شروحات الوبري هو حصراً البيهقي!!
وبالعودة إلى تفسير البيهقي في ص المشار إليها (في هامش (4) من ص125) نجد أن المحقّق أسعد الطيّب ذكر في هامش الصفحة إضافة الكيذُري هذه على تفسير البيهقي. فيبقى السؤال عمّن نقلها الكيذُري؟!!
3-مكتبة البحث تستحقّ المزيد من الجهد فأكثر المراجع تفتقر إلى الدقّة. فالمصادر ذات الأرقام: 4، 5، 6، 15، 18، 19، لا نجد فيها أي ذكر للناشر ومكان النشر وتاريخه وغير ذلك من تفاصيل مهمّة وضرورية.
مسألة الإمامة بين أربعة مفسّرين للنهج
مسألة تستحقُّ منا وقفة وتأمّلاً واستبصاراً. وتتعلّق تحديداً بالإمامة، وهي مسألةُ المسائل في الإسلام، وأساسٌ لمعظم الخلافات التي شقّت الصفّ الواحد. حتى قال الشهرستاني قولتَه الشهيرة: ” وأعظمُ خلافٍ بين الأُمة، خلافُ الإمامة، إذْ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدةِ دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كلّ زمان”([18])
ماذا الآن في التفاصيل؟ ينقل شرّاح النهج الثلاثة البيهقي والكيذُري والسَرَخْسي عن الوبَري شرحه لقولةٍ شهيرة لأمير المؤمنين، ع، كما يلي (ص110): “قوله [أي الإمام علي]: طاعتي سبقت بَيْعتي. وقال الإمام الجليل الوبَري: أي طاعتي للخلفاء الذين كانوا قبلي سبقت بَيعتي”. ونعرفُ من حاشية المراجع التي وضعها المحقّق نبها أن الشرّاحَ الثلاثة الآنفي الذكر نقلوا هذا الكلام عن الوبَري. ويخبرُنا المحقّق نبها أن الشارح الثالث أي علي بن ناصر السَرَخْسي (ص88): “وبعد هذا النقل يعلّق برأي مخالفٍ للوبَري”.
وكان من الأجدى، لو أن نبها، ونظراً لدقّة المسألة وأهمّيتها وحيويّتها لم يكتفِ بهذا التعقيب المقتضب، بل نقل إلينا تعليق السَرَخْسي المخالف للوبَري بحرفيّته، وكذلك تعليقات سابقَيه البيهقي والكيذُري إن وجدت. وبالنسبة إلى هذا الأخير يروي لنا نبها (ص80): “ويظهر أن الكيذُري نقل نصوصَ الوبَري بإعجابٍ وتقدير وثناءٍ لها، فمن مجموع النصوص التي نقلها (84نصّاً) لم يورد رأياً مخالفاً للوبَري إلا في موضعين تتعلّق [يتعلّقان] بالإمامة”.
ومن هوامش المراجع التي ذكرها نبها في نقله عن الكيذُري (ص80، وص110)، يتبيّن لنا أن هذا الأخير على الأرجح لم يوافق الوبري في شرحه لقول الإمام علي: طاعتي سبقت بَيعتي”.
وكم شوّقنا المحقّق إلى تفاصيل هذه المسألة الخلافية، دون أن يروي عطشنا ويقطعَ الشكَّ باليقين بشأن مسألة الإمامة الحسّاسة هذه، والاختلاف على شرح قولة الإمام علي بين الوبَري وعددٍ من الشرّاح الآخرين.
لذا كان لا بدّ لنا، وتبياناً لدقائق المواقف والتفاسير، من أن نعود لمصنّفات الشرّاح الثلاثة ونقارن ونحلّل ونستخلص.
ونبدأ بالأقدم زمنيّاً أي البيهقي. نقرأ في شرحه ما يلي: “قوله: طاعتي سبقت بَيعتي، يعني طاعتي لله ولرسوله سبقت بَيعتي”([19])
ما يعني أنّه يفسّر المقصود من طاعة الإمام علي أنها طاعة لله ورسوله ليس إلا. ونتابع مع البيهقي في شرحه، فهو يردفُ قائلاً: “وقال الإمام الجليل الوبَري: أي طاعتي للخلفاء الذين كانوا قبلي سبقت بَيعتي” (البيهقي، م. س، ص1/318).
يبدأ البيهقي بتفسيره هو لقولة أمير المؤمنين، ثم يُتبعه بتفسير الوبَري المخالف لتفسيره هو. وواضحٌ أنّه لا يرى في كلام الإمام علي ما يراه الوبَري. فتفسيره هو أورده في البداية مسبوقاً بعبارة “يعني”. وهو يُتبع تفسير الوبَري بتفسير آخر مخالفٍ له، إذ يردف مباشرة قائلاً: “وقيل: طاعتي لرعيّتي، بسبب حقوقهم، وما يجب عليّ سبقت بَيعتي” (م. ن)
واضحٌ أن البيهقي يخالف الوَبري في فهم قولة الإمام علي هذه وفي تفسيره لها، وإن كان لا يصرّح جهراً بهذه المخالفة. وبالتالي فقول نبها (ص64): “والملفت أن علي بن زيد البيهقي حين شرحه للمسائل الكلامية في كلام الإمام علي، ع، كان يستعين بالإمام الوبَري في شروحاته، ناقلاً لنصّه، دون أي تعليقٍ، أو نقدٍ أو اعتراض”.
فهذا القول يبدو حكماً غير دقيق، إذ إن البيهقي لا يرى ما يراه الوبَري أقلّه في هذه المسألة الكلامية: ألا وهي مسألة الإمامة!!
ماذا الآن عن الكيذُري، وكيف فسّر بدوره هذا القول. نقرأ في شرحه للنهج: “طاعتي سبقت بَيعتي: أي طاعتي لله ولرسوله. قال الوبَري: أي طاعتي للخلفاء قبلي سبقت بَيعتي. وقيل: طاعتي لرعيّتي بسبب رعاية حقوقهم”([20])
واضحٌ أن الكيذُري ينقلُ نقلاً شبه حرفيّ عن البيهقي، ويتبنّى شرحه لقول أمير المؤمنين هذا دون زيادةٍ أو نقصان. وهو يورد شرح الوبَري للقول العلويّ من باب هذا النقل الحرفي.
ماذا الآن عن المفسّر الثالث أي السَرَخْسي، وكيف فسّر القول العلويّ المذكور؟
نقرأ في شرحه الموسوم ب”أعلام نهج البلاغة” ما يلي: “قال بعض الشارحين: يعني طاعتي لله وللرسول سبقت. قال الإمام الوبَري: أي طاعتي للخلفاء الذين كانوا قبلي، وقيل طاعتي للرعيّة بسبب رعاية حقوقهم، وما يجب عليّ سبقت بَيعتي”([21])
هنا يستعيد السَرَخْسي ما قاله البيهقي شارحاً، بيد أنّه لا يكتفي بهذا النقل الحرفي كما فعل سابقه الكيذُري، بل يميّز نفسه كشارح للنهج بموقفٍ خاصّ به، فيعقّب على ما نقل من شرح: “قال السيّد الأجلّ المصنّف زيد علوّه، وأقول: إن الغالب على ظنّي أن المراد أنّه كان قبل البَيعة بنصّ رسول الله، ص، وجعله إيّاه وصيّاً ووليّاً ومولىً، في أكثر من مقامٍ وموقف واجب الطاعة، فكانت من هذا الوجه سابقة على بَيعته” (السرخسي، م. س، ص1/69).
واضح أن السرَخْسي يُدخل في شرحه مفاهيم وتعابير ومصطلحات لم ترد في شرحَي سابقَيه: البيهقي والكيذُري: النصّ، الوصيّ والوليّ”. ونتابع شرحه، إذ يردف: “ويؤكّد هذا المعنى قوله، ع، قبيل هذه الخطبة: أتراني أكذب على رسول الله، ص، والله أنا أوّل من صدّقه، فلا أكون من كذب عليه، ثم بنى على هذا قوله، ع، فنظرتُ في أمري، ويعني بنفسه كذبه على رسول الله، ص، إنه لا يكذب في ادّعائه للإمام والخلافة في قبل رسول الله” (م. ن).
والسرخسي بإدخاله مفاهيم النصّ على الخلافة والوصيّ والوليّ وغيرها في شرحه للمقولة العلوية هذه أطاح كلّياً بشرح الإمام الوبَري لها. وفي ذلك يقول نبها (ص88): “وهذا دلالة على أن آراء الوبَري في الإمامة غير مسلّمٍ بها عند علي بن ناصر [السرَخْسي]، وأمّا رأيه في المسائل الكلامية، فلا اعتراض عليها”
وواقع الأمر أن آراء الوَبري في الإمامة غيرُ مسلّمٍ بها عند الشارحين الثلاثة معاً: البيهقي، والكيذُري، والسرخَسي، وليس عند الأخير وحسب. بيد أنّنا نلمح تدرّجاً مع الزمن من عدم الأخذ بها عند البيهقي إلى رفضها كلّياً عند السرَخْسي، وهكذا تزداد الهوّة بين العلماء المسلمين كلّما تقدّم الزمن، وتتّسع الشِقّة.
وواضح أن مفهوم الوبَري للإمامة يختلف عن مفهوم الشرّاح الثلاثة الآخرين لها. ويزداد ذلك وضوحاً إذا ما قارنّا بين شرحه لقول أمير المؤمنين: “بطرق السماء أعلم”، وشرح البيهقي له.
جاء في شرح البيهقي (م. س، ص2/706): “قوله: بطرق السماء أعلم”
يعني أنا عالمٌ بالعلوم السماويّة، كما أنا عالمٌ بالعلوم الأرضية.
قال الوبري: معناه أن علمه بالدين، أوفى من علمه بالدنيا”
وشتّان بين شرح البيهقي للقولة العلوية، والشرح الذي ينقله عن الوبَري لها. فالإمام بمفهوم هذا الأخير أوفى علماً بأمور الدين منه بأمور الدنيا، ما قد يعني أن الإمامة بمفهومه تختصّ أولاً بالأمور الدينية! وليس هذا برأي البيهقي في هذه المسألة المثيرة للجدل.
ويبقى أن شرح الوبَري لقول أمير المؤمنين طاعتي سبقت بَيعتي لافتٌ، ومن شأنه أن يضيّق مساحةَ الخلاف والاختلاف بين المذاهب الإسلامية في هذه المسألة الحسّاسة. ومن هنا أهمّية البحث في دقائق شرح الوبَري لهذا القول مقارنةً بموقفِ الشرّاحِ الثلاثة الآخرين منه. وفي هذا كلّه تبرز أهمّية شرح الوبَري وفرادته، وبالتالي قيمة ما قدّمه زميلُنا البروفسور خضر نبها من جهدٍ ومساهمةٍ في وضع هذا الشرح، أو بالحري المتوفّر منه بأيدي القرّاء العرب.
فمباركٌ له هذا المولودُ الجديد الآتي في زمنٍ عصيب، وإلى مزيدٍ من التألّقِ والعطاء. والسلامُ عليكم جميعاً ورحمةُ الله وبركاته.
«»«»«»«»«»([22])
[1] -رضا، د. يوسف محمد، معجم العربية الكلاسيكية والمعاصرة: معجم ألفبائي موسّع في اللغة العربية، بيروت، مكتبة لبنان، ط1، 2006، ص1499.
[2] -البعلبكي، د. روحي، المورد الثلاثي قاموس ثلاثي اللغات عربي-إنكليزي-فرنسي، بيروت، دار العلم للملايين، ط3، 2005، ص1651.
[3] -المنجد في اللغة العربية المعاصرة، تأليف صبحي حموي وآخرين، بيروت، دار المشرق، ط3، 2008، ص928-929.
[4] -السرَخْسي، علي بن ناصر (ق6هـ)، أعلام نهج البلاغة، تحقيق اشيخ عزيز الله العطاردي، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي: مؤسّسة الطباعة والنشر، ط1، 1415هـ، ص26.
[5] -صليبا، د. لويس، نحو الحوار المسيحي الإمامي: بحوث في نقاط الالتقاء بين المسيحية والتشيّع، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2018، ب2/ف1، فق: أهل البيت في الفكر اللبناني-المسيحي، ص112-121.
[6] -ابن خلّكان، أبو العبّاس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر (608-681هـ)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تقديم محمد المرعشلي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1997، ج2، ع443، ص149.
[7] -الجندي، محمد سليم (1881-1955)، علي بن أبي طالب: سيرته شمائله فصاحته وكلمة عن نهج البلاغة، دراسة/مقدّمة دستور معالم الحكَم ومأثور مكارم الشيَم من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تأليف الإمام الحافظ أبي عبدالله محمد بن سلامة القضاعي المصري الشافعي، دمشق، دار القلم، ط1، 2003، ص137.
[8] – آل ياسين، الشيخ محمد حسن، نهج البلاغة لمن؟، بغداد، دار الأنوار للمطبوعات، ط4، 1977، ص14.
[9] -الفتّال، علي، المشكّكون بنهج البلاغة والردّ عليهم، بيروت، دار المحجّة البيضاء، ط1، 2005، ص16.
[10] -زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية، الجزء الأوّل يشتمل على تاريخ آداب اللغة العربية في عصر الجاهلية وصدر الإسلام والعصر الأموي، بيروت، دار مكتبة الحياة، ط1، 1992، ص189.
[11] -أمين، أحمد، فجر الإسلام: بحث في الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط15، ص149.
[12] -آل ياسين، الشيخ محمد حسن، نهج البلاغة لمن؟، بغداد، دار الأنوار للمطبوعات، ط4، 1977، ص15.
[13] -الدسوقي، د. محمد، أيام مع طه حسين، دمشق، دار القلم، ط1، 2002، ص119.
[14] -صليبا، د. لويس، البوذية تاريخها وتعاليمها وآثارها في المسيحية وأرض الإسلام: مدخل عامّ إلى البوذية، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2022، ص139.
[15] -جبران، جبران خليل (1883-1931)، النبي، ترجمة الأرشمندريت أنطونيوس بشير، بيروت، المكتبة الأدبية، د. ت، ص74.
[16] -الشريف الرضيّ، أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين (359-404هـ)، نهج البلاغة وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، شرح الشيخ محمد عبده، بيروت، دار المعرفة، د ت، ج4، ص16.
[17] -القضاعي المصري الشافعي، الإمام الحافظ أبو عبدالله محمد بن سلامة (ت454هـ)، دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، شرح الشيخ إبراهيم الدجموني، دمشق، دار القلم، ط1، 2003، ص169، ع3.
[18] -الشهرستاني، الإمام أبو الفتح محمد بن عبد الكريم (479-548هـ)، كتاب الملل والنحل، تحقيق محمد بن فتح الله بدران، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1956، ج1، ص30.
[19] -البيهقي، علي بن زيد، معارج نهج البلاغة، تحقيق أسعد الطيّب، قمّ/إيران، منشورات بوستان كتاب، ط1، 1422هـ، ج1، ص318.
[20] -الكيذُري، قطب الدين أبو محمد بن الحسين بن الحسن (ق6هـ)، حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة، تحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي، قمّ/إيران، مطبعة اعتماد، ط1، 1416هـ، ج1، ص274.
[21] -السَرَخْسي، علي بن ناصر (ق6هـ)، أعلام نهج البلاغة، تحقيق الشيخ عزيز الله العطاردي، طهران، مؤسّسة الطباعة والنشر في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، ط1، 1415هـ، ج1، ص68-69.
[22] –