زارا 4: زرادشت أقدم نموذج نبوي وأثره في المسيحية والإسلام، محاضرة لويس صليبا على zoom الأربعاء 16/2/2022
المعراج عند الفرس بعد زرادشت
وتجربة المعراج لم تقتصر في الزرادشتية على زرادشت، بل كان العروج إلى السماء أبرز ما استندت إليه عقائدياً وأيديولوجياً لتبرير جدوى وجودها ورسوخها بقوة في المجتمع الإيراني، فعند كلّ تحدّ خارجي يأتي من ديانة أخرى كان القيّمون على ديانة زرادشت أو بالحري كبيرهم يردّ بمعراج. تلك كانت الحال في الصراع الشرس بين الزرادشتية والمانوية. فماني(216-276م) وديانته كانا من أخطر ما واجهت الزرادشتية من تحدّ. ومصداقاً لدعواه، زعم ماني أنه عرف معاريج عديدة. يروي ابن النديم(380هـ/987م) في الفهرست: «كانت[أم ماني] ترى في اليقظة كأن أحداً يأخذه فيصعد به إلى الجوّ، ثمّ يردّه، وربّما أقام اليوم أو اليومين ثمّ يردّ»([1]).
وبدعواه الاتصال المباشر بالإله وعروجه إلى السماء كان ماني يخاطب المجتمع الديني الزرادشتي في أكثر معتقداته أهمّية وقداسة، ممّا أثار في داخله نوعاً من المراجعة القلقة في مدى ثبوتية معتقد هذه الديانة ومجاراتها للواقع المعاصر آنذاك([2]).
وجاء الردّ على ماني من خصمه اللدود الموبذ([3]) كارتير كبير رجال الدين الزرادشتيين في قصر بهرام الثاني ( 276-293). فقد روى كارتير في عدد من النقوش التي خلّفها خبر معراج له بدأ بتناوله الشراب المقدّس Haoma الذي يُدخل شاربه في رحلة إلى العالم الآخر، وركوبه الدابّة، وتنقّله في السموات طبقة إثر طبقة، ولقائه الملائكة الموكلين بها، ورؤيته للجنة والنار، ومثوى الإنسان فيهما، وأخيراً لقائه بـِ أهورا مازدا الذي بدا مستبشراً وراضياً عنه [أي عن كرتير] ([4])
وعند بروز التحدّي المسيحي، بوصفه منافساً شديداً للزرادشتية لما تمتّعت به المسيحية من قدرات واسعة على التبشير وكسب الأنصار، لا سيما بعد أن اعتُمدت ديانة رسمية في الأمبراطورية البيزنطية في عهد قسطنطين ودعم أباطرة بيزنطية لها([5])، دعا الموبذ آردبار مهرسپندان لعقد المجمع الديني الزرادشتي في بيت نار فربنبغ، فاختير فيه أردا ڤيراز ممثّلاً لكل رجال الدين الزرادشتيين، وذلك للذهاب إلى العالم الآخر. وفي رواية معراج أردا ڤيراز ترد المشاهد المذكورة في معراج كرتير، ولكن بمزيد من التوسّع والتفاصيل لا سيما وأن ڤيراز استغرق معراجه أسبوعاً كاملاً، وحمّله أهورا مازدا فيه رسالة إلى العالم المادّي أوعز فيها للزرادشتيين الثبات على دينهم، والاستمرار في تطبيق الشريعة، ووجوب مكافحة البدعة([6]). وستكون لنا وقفة مطوّلة عند معراج أردا ڤيراز في فصل الزرادشتية والإسلام.
والمعراج في الزرادشتية موضوع شاسع واسع، وهو في أساس عقيدتها وإيمانها كما أسلفنا، وكان له أثر حاسم في روايات المعراج في الإسلام، وربما في المسيحية كذلك. ولن نفيه حقه في عجالة كهذه، فعسانا نعود إليه في فرصة قريبة.
زرادشت أول من ركّز على التطوّر الداخلي
تبقى ميزة أساسية في بشارة نبيّ إيران تقرّبه من أديان الهند، فهو وعلى حدّ تعبير المستشرق والمستهند الفرنسي بول ماسون-أورسيل (1882 – 1956) Paul Masson-Oursel([7]): «كان[زرادشت] أول من نقل المجهود الديني من ميدان الشعائر إلى ميدان التحوّل الداخلي، والتطوّر الروحي. وكان القربان يُعَدّ أهمّ مظهر من مظاهر العبادة، ففقد أهمّيته، ولم يبقَ إلا كمجرّد رمز»([8]).
وهذا التحوّل بحدّ ذاته ثورة كبرى، إذ نقل الإنسان من عصر الأديان إلى زمن الروحانية والبحث الداخلي والتطوّر الذاتي، أو بالحري من الدين إلى التصوّف. ويرى أورسيل أن أسباب هذا التحوّل عديدة ومتباينة، ولكنها تبقى في أكثرها حتى يومنا غامضة. ويعيد بعضها، بل أبرزها، إلى النفقات الباهظة التي كانت تتطلّبها القرابين والذبائح، ممّا لا طاقة إلاّ للأثرياء به، ما يجعل الدين وطقوسه مقصورة على الطبقة الأرستقراطية والميسورين. يقول المستهند الفرنسي في ذلك: «على أن الشعائر العسيرة الإدراك كانت تتطلّب نفقات باهظة ليست في متناول كلّ إنسان. فمثلاً الرحّل الذين لم يغتنوا من عمل أيديهم، وليس لهم موارد غير عملهم، ومع ذلك لم يكونوا أقلّ توقاً من غيرهم إلى تقديم القرابين للحصول على ما يقابلها من الخير في الآخرة أمثال الفقراء من شعب إسرائيل في عهد القرابين»([9]).
ويستند ماسون إلى مستهند آخر Meillet ليؤكّد أن ما عرفته الزرادشتية والبوذية وسائر أديان الهند المنشقّة عن الهندوسية/الڤيدية من انتشار واسع في القرنين 6 و5 ق م يعود إلى تهميشها الذبائح والطقوس التي كانت تثقل كاهل الطبقات الفقيرة، يقول: «ويرى ميّيه A. Meillet أن توسّع الزرادشتية والنحل الهندية في القرنين السادس والخامس ق م نشأ عمّا كانت تتيحه من الفرص لإدراك الخلاص لقاء نفقات مالية زهيدة. فالمساكين الناشئون عن الشعوب الممتزجة ليس في مقدورهم أن ينتموا لعقيدة الأرستقراطيين المنظّمة، طبقاً للشعائر الكهنوتية التقليدية والنظريات الدينية الشعائرية. وهكذا اجتمع تحت لواء البؤس في روح قوية، رهبان الهند وزهّادها، ونسّاك طيبة، والمتسوّلون السوريون»([10]).
ويضيف أورسيل: «فسواء وجد الزهد أم لم يوجد، فإن البحث عن الطهارة الطبيعية قد انفتح بابه أمام الجميع، وأصبح الخلاص بمتناول أفقر الفقراء».
وتتّفق مختلف الأبحاث التي تناولت زرادشت وإصلاحه الديني على أنه: «حضّ أتباعه على ترك أساليب العبادة التقليدية التي رآها لا تتّفق وتعاليم الدين الجديد ومعتقداته. وكان بين الطقوس التي ألغاها زرادشت ومحاها كلّ أشكال التضحية بالحيوان كقرابين»([11]). وإذا كان نبيّ إيران قد ألغى الطقوس السابقة له، فقد احتفظ بأبرزها أي احتفال النار. وكما سبق وألمعنا يخطئ خطأً جسيماً من يعتقد ويروّج أن الزرادشتيين يعبدون النار: «فخلافاً لما فسّره الكثيرون في الخارج، فإن الزرادشتيين لا يعبدون النار. فالنار التي ما زالت تُستخدم في الطقوس والمعابد الزرادشتية حتى اليوم عبارة عن ”رمز“ يمثّل مزايا أهورا مازدا وصفاته كالقوة والنور والصفاء»([12]).
وإذا كنّا نعيد ونكرّر، ونقلاً عن مرجع آخر، أن أتباع زرادشت لا يعبدون النار، فذلك تأكيداً منّا على وجوب محو ما علق في أذهان الناس، ولا سيما العامّة منهم، في هذا الصدد بتأثير الدعاية التي استهدفت الزرادشتيين عبر العصور.
زرادشت أقدم نموذج نبويّ
سبق لنا، وفي العديد من مؤلفاتنا، أن بينّا أن زرادشت هو أقدم النماذج النبوية في تاريخ الأديان([13])([14])([15]) ولن نكرّر هنا ما سبق أن قلناه. ولكنّنا بالمقابل لا نستطيع أن نتغاضى عن ذكر هذه المسألة البالغة الأهمية، لما كان لها من أثر حاسم في الديانات التالية، ولا سيما الملل الثلاث أو الأديان الإبراهيمية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
يقول المفكّر الأميركي هارولد بلوم([16]) Harold Bloom في أثر زرادشت في الفكر الديني الذي لمّا يزل حاسماً إلى اليوم: «يبدو أن زرادشت ابتكر مفهومنا الديني للنبوّة والرؤيا التنبؤية وللعصر الألفي المسيحاني (العصر الذي سيملك فيه المسيح على الأرض)، وهي أفكار لم تُعرف قبله» ([17]).
النبوّة والانتظار المسيحاني عقيدتان أساسيتان في الديانات الإبراهيمية الثلاث، ويبدو أنها مدينة بذلك لزرادشت. ويواصل بلوم شرح فكرته، ويدعمها بالأمثلة المستمدّة من اليهودية والمسيحية والغنوصية والتشيّع الإمامي، فيقول: «وبطريقة تثير الدهشة تنكسر أفكار زرادشت الأصلية وتنعكس انكسار الأشعة وانعكاسها لتظهر في التنبؤات الرؤيوية اليهودية المتأخّرة، وفي الغنوصية المعرفية، وفي المسيحية المبكرة. وهي كذلك تطفو وتظهر عند الطائفة الشيعية المسيطرة على إيران اليوم»([18]).
.
ويؤكّد المستشرق ريتشارد فولتز بدوره أن النبوّة والمسيحانية عقائد أخذتها الملل الثلاث عن الزرادشتية. فالإيمان ليس بإله واحد وحسب، بل وبنبيّ معيّن عقيدة زرادشتية. وكذلك الدين الحقّ أو الدين الصالح Veh-Din المتفوّق على سائر الأديان والداعي إلى الإيمان القويم كلّها عقائد زرادشتية الأصل. يقول فولتز: «سيادة أحد الأديان على الأديان الأخرى، والتأكيد على الإيمان الصحيح وليس على السلوك فقط، والإيمان المعلن ليس بإله واحد فقط، بل بنبيّ معيّن أيضاً أفكار زرادشتية الأصل»([19]).
والنزعة المسيحانية، أو انتظار المخلّص والتي سنعود إليها، والمرتبطة بعقيدة النبوّة هي الأخرى زرادشتية المنشأ. وهكذا تتقمّص إيران الشيعية اليوم مهدويّة تعود في جذورها إلى نبيّها القديم، وهنا يوافق فولتز المفكّر الأميركي بلوم في ما ذهب إليه، يقول فولتز: «وانتظار ظهور مخلّص، ووقوع معركة ختامية كارثية ينتصر فيها الخير في نهاية المطاف، بالإضافة إلى كون مسكون بالملائكة والشياطين، كلّها أفكار اكتسبتها الأديان الأخرى بشكل مباشر أو غير مباشر من الزرادشتية»([20]).
خاتمة
وفي المحصّلة الأخيرة، لم نشأ في هذا الفصل أن نرسم لنبي قدامى الإيرانيين لوحة كاملة الملامح تُظهر أدقّ التفاصيل. فهذا يحتاج إلى مصنّف مستقلّ. وإنما اكتفينا بذكر مجموعة سمات عامّة ميّزت زرادشت وتعاليمه، وكان لها أثر حاسم في الديانات التي جاءت بعده. فيكون للنبيّ الإيرانيّ بصمات واضحة في الأديان النبويّة الإبراهيمية من جهة، وفي ديانات الهند الصوفية الطابع من جهة أخرى. أمّا أثره في كلّ ديانة على حدة، أو تفاعله معها أخذاً وعطاءً فسيكون موضع بحثنا في الفصول التالية.
«»«»«»«»«»([21])
[1]– ابن النديم، محمد بن اسحاق( ت380هـ/987م) الفهرست، تحقيق رضا تجدّد، طهران، منشورات مارفي، ط2، 1973، ص392.
[2]– الكعبي، د. نصير، جدلية الدولة والدين في الفكر الشرقي القديم إيران العصر الساساني أنموذجاً، بيروت، منشورات الجمل، ط1، 2010،ص 236.
[3]– عُرف عالِم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب ب”الموبذ“ و”الموبذان“. وعُرف كبيرهم ب ”موبذان موبذ“.وجعل بعض العلماء الموبذان بمنزلة قاضي القضاة عند المسلمين والموبذ بمنزلة القاضي. وتعني موبذان موبذ الموبذ الأعظم. وقد اكتفي أحياناً بلفظة موبذان للتعبير عن موبذان موبذ. والموبذ هي من الألفاظ المعرّبة عن الفهلوية، وأصلها Magupat أي عظيم المجوس. ويتمتّع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة. وأطلق السريان على الموبذ ”ريش مكوشي“ أي رئيس المجوس.
[4] – Frye, Richard, the middle Persian Inscription of Kartir at naqsh I Rajab, Shiraz, Editions Nawab, 1976, pp. 187-190.
[5]– آسموسن، جي.ب، فاتحة انتشار المسيحية في الشرق العهد الساساني، ترجمة جرجيس فتح الله، أربيل/العراق، دار أدي شير، ط1، 2005، ص35-36.
[6]– الكعبي، م.س، ص 238.
[7]– بول ماسّون-أورسيل Paul Masson-Oursel ولد في باريس 05/09/1882 وتوفي فيها 18/03/1956. مستشرق وفيلسوف فرنسي. تتلمذ في الفلسفة على برغسون، وفي السوسيولوجيا على دوركهيم ومارسيل موس. وفي الدراسات الهندية على ألفرد فوشيه وسيلفان ليفي. حاز على الأستاذية في الفلسفة 1906، والدكتوراه في الآداب 1923. أستاذ في EPHE 1919 ثم مدير أبحاث فيها 1927. من مؤلفاته: 1-معالم تاريخ الفلسفة الهندية،1923. 2-الفلسفة المقارنة،1923. 3-الهند القديمة،1933. 4-الفلسفةفي الشرق،1938 وهو الكتاب اذي ننقل عنه في المتن. 5-الفعل الماورائي،1941. 6- الفكر الشرقي،1949. 7-اليوغا، 1949. 8-الأخلاق والتاريخ،1955.
[8]– ماسون-أورسيل، بول، الفلسفة في الشرق، ترجمة محمد يوسف موسى، القاهرة، دار المعارف، ط1، 1947، ص100.
[9] – م.ن، ص100-101.
[10]– م. ن، ص101.
[11]– بشروئي، سهيل، ومسعودي، مرداد، تراثنا الروحي من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة، ترجمة محمد غنيم، بيروت دار الساقي، ط1، 2012، ص 393.
[12]– م.ن، ص393-394.
[13]– صليبا، د. لويس، أقدم كتاب، م. س، ص25.
[14]– صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية، م. س، ص105.
[15]– صليبا، د. لويس، عنف الأديان الإبراهيمية، م. س، ص275.
[16]– هارولد بلوم Harold Bloom ولد في نيويورك/أميركا في 11/07/1930. ناقد أدبي وأستاذ علوم الإنسان في جامعة يال. أصدر أكثر من 20 كتاباً في النقد الأدبي والأديان والرواية. له في نقد الفكر الديني الكتب التالية:1-تدمير الحقائق المقدسة شعر وعقائد من زمن البيبليا إلى اليوم،1989. 2-كتاب J،1990 وفيه دراسة وثائقية للأسفار الخمسة الأولى من التوراة. 3-يسوع ويهوه الأسماء الإلهية، 2004، يدرس التنافر واللاانسجام بين المسيحية واليهودية. 4-ديانة أميركا،1992، يدرس البروتستانتية وما بعد البروتستانتية في أميركا. 5-بشائر الألفية،1996، يدرس ظواهر الغنوصية، وتعبير المنام وعلاقته بالنبوة،إلخ. 6-إنجيل توما،1992، تفسير ودراسة. 7-القبالة والنقد، 1975.
[17]– Bloom, Harold, Omens of Millennium, New York, Riverhead Books, 1996, p29.
[18]– Ibid.
[19]– فولتز، م.س، ص64.
[20]– م.ن.
[21] –