زارا 3: زواج المحارم والمعراج في الزرادشتية، محاضرة لويس صليبا على Zoom الأربعاء 2/2/2022.
زرادشت أول القائلين بالقيامة بعد الموت
والقيامة بعد الموت عقيدة زرادشتية أصيلة وعريقة. ونبي إيران أول من قال بذلك. وتؤكّد النصوص الزرادشتية أن يوم القيامة سيأتي بعد الهزيمة النهائية لقوى الشرّ على يد قوى الخير في نهاية الأزمنة. وعندها سيتوجّب على جميع البشر، الأخيار منهم والأشرار عبور نهر من النار، فالأخيار سينقذهم Yazatas، أما الأشرار فسيُقضى عليهم قضاءً تامّاً، وبذلك يختفي الشرّ من العالم إلى الأبد. فتُزهر الأرض ويعيش الأخيار الصالحون في مملكة أهورا مازدا السماوية خالدين فيها إلى الأبد([1]). إنه زمن مسيحاني مهدويّ مَعاديّ بامتياز. والزرادشتية أول من تحدّث عن مخلّص منتظر، وأسمته Saoshyant ساوشيانت ممّا سنعود لاحقاً إليه.
النعمة الإلهية والهالة Aura رمزها
مفهوم الفكر الديني الإيراني للنعمة الإلهية جدير بالتأمل. وهو، على ما يبدو، في أساس مفهوم النبوّة الذي انتقل، على الأرجح، من إيران إلى الأديان الإبراهيمية كما سنرى. النعمة الإلهية Khvarna أو Farr بالفارسية العصرية فكرة مجرّدة غدت جزءاً جوهرياً من النظرة الإيرانية إلى الكون والحياة عموماً. والنعمة هذه من مختصّات من يفضّلهم الآلهة على الآخرين، وهي تجلب لهم النجاح والرفاه ورغد العيش، في حين أن انكفاءها يفضي إلى كلّ أنواع المصائب والكوارث. وبناءً عليه فإنّ الأبطال والملوك والأنبياء يدينون بمجدهم إلى هذه النعمة الإلهية. ومنها نشأ في الرسومات الفارسية اللاحقة مفهوم Aura أي الهالة الذهبية من اللهب التي تحيط برأس الشخص المنعَم عليه. فهذه الهالة هي رمز للنعمة. وغدت تقليداً في الرسومات الدينية.([2] )إذ نجدها لاحقاً في اللوحات المسيحية والهندوسية والبوذية وغيرها.
زواج الإخوة في عقيدة زرادشت
عرف الفراعنة في مصر القديمة زواج الإخوة، وكانت إحدى غاياته الحفاظ على الدمّ الملكي. واشتهر به كذلك قدامى اليونان، في حين منعه الرومان، وحرّمه اليهود والمسيحيون والمسلمون أشدّ تحريم، وسخروا منه، ونعتوه بأشنع النعوت. أمّا النصوص الزرادشتية فاعتبرته عملاً فاضلاً. يقول المستشرق الدانمركي أرثر كريستنسن (1875–1945) Arthur Christensen([3]) في ذلك: «والواقع أن زواج المحارم لا يعتبر سفاحاً بين الأقارب، بل هو عمل يُثاب عليه صاحبه من الناحية الدينية»([4]).
ويعيد المستشرق الدانماركي هذه الظاهرة اللافتة عند الفرس، في أحد أسبابها، إلى الدوافع عينها التي جعلت الفراعنة يلجؤون إليها، يقول: «وقد اقتضت العناية بنقاوة دمّ الأسرة التي كانت من الصفات البارزة في عادات الجماعة الإيرانية جواز الزواج بين المحارم: بين الأب والبنت، والأمّ والإبن، والأخ والأخت. ويسمّى هذا النوع من الزواج خويد وكدس، وفي الأڤستا خَوِيث وَدَنَه. وعادة زواج المحارم قديمة عند الفرس، وفي تاريخ الأخمينيين أمثلة عديدة على ذلك» ([5]).
وهنا يورد كريستنسن أسماء بعض كبار ملوك الفرس الذين تزوّجوا من أخواتهم أو بناتهم: «كان لقمبيز زوجة هي أخته أتوسا، وأخت أخرى كذلك. وكان دارا الثاني متزوّجاً من أخته پاريساتس. وكان أردشير الثاني متزوّجاً من بنتَيه أتوسا وأمستريس. وتزوّج دارا الثالث بنته ستاتيرا»([6]). ويذكر هذا المستشرق بعض نصوص الأڤستا التي تزعم أن زواج المحارم يطرد الشيطان ويمحو الكبائر([7]). ويسمّي عدداً من المصادر القديمة التي روت ذلك عن الفرس: «ثمّ إن العادة الإيرانية، عادة الزواج من الأخت أو البنت أو الأمّ لم يشهد بها، في العصر الساساني الكتّاب المعاصرون مثل أجاثياس والمؤرّخ ديصان فحسب، بل إن تاريخ العصر نفسه يمدّنا بكثير من الأمثلة من هذا النوع. مثل بهرام جوبين الذي اتخذ أخته كردية زوجاً له»([8]).
ويشير كريستنسن إلى عدد من المصادر المسيحية القديمة التي عابت على الزرادشتيين الفِعلة هذه: «نجد في كتاب قانون سرياني خاصّ بالزواج، من تأليف البطريرك مار أبها الذي عاش أيام كسرى الأول، الفقرة التالية: «إن العدالة العجيبة عند عبّاد أهورا مازدا تقضي بأن يكون للرجل صلات شهوانية مع أمّه وبنته وأخته»(…) وفي مصدر آخر: «ها هو ذا مهران كشنسپ وكان قد تزوّج أخته قبل أن يدخل في المسيحية عملاً بالعادة القبيحة النجسة التي يبيحها هؤلاء الضالّون»([9]).
ومن ناحيتهم طالما انتقد المؤلّفون المسلمون أتباع زرادشت لأنهم يحلّلون زواج الإخوة، أو ما سمّوه سفاح القربى أو زنى المحارم Inceste.
وكنّا قد درسنا سفاح القربى في ريك ڤيدا([10]) وبينّا أنه، وخلافاً للأڤستا، يقف منه موقفاً سلبياً، في حين أن حضارات قديمة كالسومرية في أرض الرافدين أباحته.
وتطرح مسألة سفاح القربى إشكاليات عديدة، فعلماء النفس، ولا سيما المحلّلون النفسانيون منهم، يعتبرون الانجذاب الجنسي بين الابن والأمّ، والابنة والأب أمراً فطرياً تأتي المحرّمات الاجتماعية والدينية لتكبحه. ويتحدّثون عن عقدة أوديب([11]) التي بنى عليها العالم فرويد (1856-1939) أسس نظريته في الجنس([12]) وعن عقدة إلكترا([13]). ويستخدمون مصطلح جدار سفاح القربى أو حاجز غشيان المحارم Incest Barrier للدلالة على: «الحاجز أو العائق الذي تضعه القوانين الاجتماعية على تطوّر الطاقة الحيوية الجنسية(الليبيدو) لجهة سفاح القربى، وللتشديد في الوقت عينه على مشاعر الذنب التي تستثيرها الأفكار والتخيّلات والأحلام المنطوية على تهديم هذا الجدار وتخطّيه» ([14]).
فهل المسألة إذاً مسألة تربية وتعويد للنفس؟! يربّي المرء نفسه أو بالحري يربّيه مجتمعه وأهله على أن لا تكون محارمه (الأم والأخت للولد والأب والأخ للفتاة) سبباً للإثارة الجنسية؟ أو موضع استثارة؟
وتُقارِب اليوغا هذه المسألة من منظور آخر، فكما يعوّد المرء نفسه أو يتربّى على أن لا تثيره محارمه جنسياً، فبمقدوره، وبطريقة مماثلة، أن يتربّى ويعوّد نفسه أن لا تثيره أية امرأة أخرى جنسياً. ويطلب حكماء اليوغا من السالك مثلاً أن ينظر إلى أي امرأة كأمّ له فيدعوها Mataji أي أمّي،([15])([16]) وبذلك ينمّي فضيلة البتولية Brahmacharia في نفسه. ونلمح الأمر عينه في بعض التقاليد العربية حيث يتوجّه الرجل إلى المرأة بلقب الأخت فلانة. ومسألة الإثارة الجنسية هي في الحقيقة مسألة اختراع أو ابتكار ذهنيّ Création Mentale تقول اليوغا. فكما يبتكر كل امرئ لنفسه آلية إثارة جنسية منذ طفولته، فبمقدوره، بالطريقة إيّاها، تعطيل هذه الآلية تعطيلاً دائماً أو مؤقتاً.
إنها بضع أفكار تثيرها مسألة زواج المحارم الذي حلّلته الزرادشتية في حين حرّمه أكثر الأديان والثقافات الأخرى. وهذا الزواج لم يعد موجوداً في إيران اليوم، ورغم ذلك، يلحظ المستشرق فولتز: «فالإيرانيون من كلّ الأديان ما زالوا يفضّلون الزيجات بين أبناء العمومة من الدرجة الأولى» ([17]).
فهل الأفضلية لزواج أبناء العمومة يرجع إلى عادة زواج المحارم المتجذّرة في لاوعي المجتمع الإيراني كما يلمّح فولتز هنا؟ إننا نجد تقليد زواج أبناء العمومة متأصّلا في المجتمعات القبلية أو البدوية العربية، فهل يعني ذلك أنها عرفت، في قديم أزمنتها، نمطاً من زواج المحارم؟! لن نجازف بتقديم جواب إيجابيّ عن هذه الإشكالية البارزة، وذلك رغم أن المجتمعات البدوية العربية منحت، ولا تزال، ابن العمّ حقّاً مكتسباً في ابنة عمّه، فطالما أن له رغبة فيها، فهو قادر حتى أن ينزلها عن الهودج الذي تسير فيه نحو عريس آخر، كما تقول التقاليد. ولعلّ ذلك يعود إلى اللُحمة والعصبية القبلية والعشائرية، والتي جعلها ابن خلدون إحدى ركائز نظريّته الاجتماعية كما بينّا في بحث سابق([18]). ومن أهدافها نقاوة الدم والحفاظ على الثروة الأسرية، وهذا واحد من أبرز مبرّرات زواج المحارم كما رأينا.
المعراج في الزرادشتية
لعلّ الزرادشتية أقدم الديانات التي تحدّثت عن معراج وصعود لمؤسسها وعدد من مجدّديها إلى السماء. وسيكون المعراج واحداً من أبرز المواضيع والمعجزات في الديانات اللاحقة.
ففي المسيحية معراج بولس، وقد تحدّث عنه رسول الأمم في رسالته إلى الكورنثيين12/5. واستناداً إلى هذا النصّ البولسي نشأ في المسيحية نصّ منحول نسب إلى القديس بولس وعُرف بِ ”رؤيا بولس“ ويعود إلى ما بين الثلث الأخير من القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث م. وتناولناه عرضاً وتحليلاً في بحث سابق([19]).
وفي الإسلام روايات لمعراج الرسول تناولناها عرضاً وبحثاً في كتب أربعة سابقة لنا. وأشرنا إلى أثر المعراج الفارسي فيها.
واللافت في الزرادشتية أن الوحي وبداية بشارة النبي/المؤسس يرتبطان مباشرة بمعراج. تروي المصادر القديمة مثل سيرة زرادشت (زرادشت نامه) وغيرها: «عندما بلغ زرادشت الثلاثين نزل عليه الوحي. والوحي الأوّل حصل على ضفّة نهر دايتا بالقرب من قريته. وهناك ظهر له شخص يفوق حجمه تسع مرّات حجم الرجل العادي. وكان ذلك رئيس ملائكة اسمه فوهو مناه Vohu Manah أي الفكر الصالح. وكلّم زرادشت وأمره أن يخلع جسده ويصعد بالروح إلى حضرة الإله الحكيم أهورا مازدا. وكان أهورا مازدا جالساً على العرش محاطاً بالملائكة. وتجلّى أمام زرادشت نور عظيم منبعث من محفل الملائكة. وانبهر بالنور، بحيث لم يعد يبصر خياله. وأخذ أهورا مازدا يعلّمه العقائد والواجبات المتعلّقة بالدين الصحيح الذي أوكل إليه نشره على الملأ. وطوال السنوات الثماني اللّاحقة تجلّى له الملائكة الستة الرئيسيّون، مكمّلين رسالته» ([20]).
«»«»«»«»«»([21])
[1] – فولتز، م. س، ص47.
[2] – فولتز، م. س، ص33.
[3] – أرثر كريستنسن Arthur Emmanuel Christensen ولد في كوبنهغن في 09/01/1875 وتوفي فيها 31/03/1945. مستشرق دانماركي متخصص في الدراسات الإيرانية والفيلولوجيا والفولكلور. حاز على الماجستير 1900من جامعة كوبنهغن في التاريخ واللغتين الفرنسية واللاتينية. كما درس العربية والفارسية والأڤستية والسنسكريتية والتركية. نال الدكتوراه 1903 وكان موضوعه رباعيات الخيام. عمل صحافياً 1903-1919. ثم تولى كرسي الدراسات الإيرانية في جامعة كوبنهغن من 1919 حتى وفاته. قام برحلات ثلاث إلى إيران 1914، 1929، و 1934 وكتب عنها مؤلفه: بلاد فارس قديماً وحديثاً، 1930. وله أيضاً: 1-معالم ثقافية من إيران،1937. 2-الأمبراطورية الساسانية، 1909، وهو أشهر كتبه، ترجم إلى العربية وهو الذي ننقل عنه في المتن. 3-مساهمات في دراسة اللهجات الإيرانية،1935. 4-كتالوغ المخطوطات الأڤستية والبهلوية في المكتبة الملكية في كوبنهغن في 12مجلد، 1931-1944.
[4] – كريستنسن، أرثر،إيران في عهد الساسانيين، ترجمة يحيى الخشّاب، القاهرة، الهيئة العامة، د. ط، 1998، ص311.
[5] – كريستنسن، م. س، ص 309.
[6] – م.ن.
[7] – م.ن، ص310.
[8] – م.ن.
[9] – م.ن.
[10]– صليبا ،د. لويس، الرغبة المبتسرة محاولات وأبحاث في المحرّم،جبيل/لبنان، ط2، 2013،ف: في البدء كان المحرّم أنشودة ياما ويامي، ص67-77.
[11]– Oedipus Complex عقدة أوديب: يقول فرويد إنها عقدة لاواعية تتكوّن لدى الإبن من جرّاء تعلّقه بالأمّ، وهو تعلّق جنسي الطابع، وتقابله غيرة من الأب، ممّا يسفر عن شعور بالذنب وصراع عاطفي لدى الإبن. ويعتبر البعض هذه العقدة أمراً عادياً داخل الأسرة بصيغة أو بأخرى. وتقابلها عقدة إلكترا. سمّيت كذلك نسبة إلى أوديب الملك في الأساطير اليونانية الذي قتل أباه وتزوّج أمّه من دون أن يعلم حقيقة ما فعله.
[12]– نوردباي، فيرنون، و هال، كالفن، من مشاهير علماء النفس، ترجمة أحمد الكندري، الكويت، منشورات جامعة الكويت، ط1، 1993، ص 61 و72.
[13]– Electra Complex عقدة إلكترا: تعلّق الإبنة بوالدها وشعورها بالعداء نحو والدتها. فالابنة تصبّ عاطفتها العشقيّة على الأب، ويقول علماء التحليل النفسي إن هذه العقدة كناية عن رغبة تساور الابنة في إقامة وصال جنسي مع والدها. وتسفر عن شعور بالعداء نحو الأم باعتبارها تنافس الابنة على قلب والدها، كما تؤدّي إلى شعور بالذنب نتيجة لتضارب عواطف الفتاة.
[14]– رزوق، أسعد، و عبدالدايم، عبدالله، موسوعة علم النفس، بيروت، المؤسسة العربية، ط2، 1979، ص98.
[15]– صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية، م. س، ص227.
[16]– صليبا، د. لويس، الصمت في الهندوسية واليوغا تعاليمه واختباراته في الڤيدا وسيَر الحكماء المعاصرين، جبيل/لبنان، ط3، 2016، صXIX.
[17] – فولتز، م. س، 51.
[18]– صليبا، د. لويس، عنف الأديان الإبراهيمية حتمية أم خيار؟!، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2016، ب3/ف1، فق: العصبية في علم الاجتماع الخلدوني.
[19]– صليبا، د. لويس، المعراج من منظور الأديان، م. س، ص118-119، وص 133-136.
[20]– صعب،م. س، ص108.
[21] –