زارا 2: جسر الصراط والحوريات بين الزرادشتية والإسلام/محاضرة لويس صليبا على Zoom الأربعاء 19/1/2022
النار مجرّد رمز
أُطلق على أتباع دين زرادشت في المراحل التالية لتأسيسه اسم عبّاد النار. والحقيقة أن زرادشت لم يجعل قطّ من النار موضوع عبادة كما فعل بعض أسلافه، بل كانت النار عنده، وعند أتباعه التقليديين، رمزاً للإله الحكيم وإله الخير أهورا مازدا، وليست أكثر من رمز ([1]).
ويشرح المستشرق فولتز أسباب تسمية أتباع زرادشت عبّاد النار. فيعيدها إلى عوامل عديدة أبرزها اثنان:
1- في كلّ عائلة زرادشتية كان هنالك شخص يتولّى مسؤولية الحفاظ على النار المقدّسة التي يجب أن لا تنطفئ أبداً.
2- هذا التركيز على النار ووجوب تقديسها والحفاظ الدائم على شعلتها واشتعالها كان أبرز سمة خارجية ميّزت الزرادشتيين عن أتباع سائر الملل، لا سيما عند المراقبين الغرباء أمثال قدامى الإغريق. فهذا التقديس للنار والاهتمام البالغ بها جعل المؤلّفين العرب بعد زمن الغزوات الإسلامية يدأبون على تسمية الزرادشتيين ”عبّاد النار“ استصغاراً لهم وعن غير حقّ([2]).
ولكن أكثر كتّاب العرب القدماء ومؤرّخيهم أدرك أن المجوس لا يعبدون النار، وإنما يتوجّهون إليها في صلواتهم. يقول القزويني (605-682هـ/1208-1283م) حاكياً عن زرادشت وأتباعه: «فأمر في جميع مملكة كشتاسف ببناء بيوت النار، وجعل النار قبلةً لا إلهاً»([3]).
ويؤكّد مؤرخ الزرادشتية دهالّا أن أكثر المصادر الإسلامية لم تنسب إلى زرادشت وأتباعه عبادة النار، واقتصرت على القول إنها قِبْلتهم، في حين ركّز الفردوسي صاحب ملحمة الشاهنامه في تاريخ الفرس على أن الزرادشتيين موحِّدون شأنهم شأن المسلمين. يقول دهالّا ملخّصاً بحثه وتفتيشه في نصوص قدامى المؤلّفين المسلمين الذين كتبوا عن الزرادشتية: «ومن المسلمين من سمّى النار كعبة زرادشت ومنهم من قال إن النار قِبلته كما الكعبة قِبلة المسلمين. والفردوسي خصوصاً يعاتب ويلوم، ويرجو من كل مسلم أن لا يتحدّث عن الزرادشتيين ويصفهم بأنهم عبّاد النار، لأنهم، كما يؤكّد، لا يعبدون إلا الله الواحد القهّار»([4]).
ولا يمكن أن نفهم طقوس توقير النار وإجلالها عند الزرادشتيين بمعزل عن طقوس الذبيحة/القربان Yajna ياجنا في ريك ڤيدا، والتي تتضمّن إشعال النار للألهانية أغني Agni أي الكونداليني Kundalini بالتعبير اليوغي. وقد تناولنا ذلك في كتابنا ريك ڤيدا الآنف الذكر.([5])والبيروني (ت440هـ/1048م) أقدم دارسي الهندوسية والڤيدا يؤكّد أن طقوس النار هي أبرز ما حوته هذه الأخيرة، يقول في موسوعته تحقيق ما للهند: «ويتضمّن بيذ [الڤيدا] الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب بالتحديد والتعيين والثواب والعقاب، ومعظمه على التسابيح وقرابين النار بأنواعها التي لا تكاد تحصى كثرة وعسرة.» ([6])
ودراسة طقوس النار في المجوسية/الزرادشتية مقارنة بالطقوس عينها المقرَّبة لإله النار أغني في ريك ڤيدا من شأنها أن تكشف الكثير عن أصول هذه العبادة وتطوّرها وتحوّلها ومَن السبّاق إليها: الهند أم إيران؟ ممّا لا يتعلّق أمره بغرض بحثنا.
زرادشت أوّل من وضّح عقيدة الحساب بعد الموت
ومن أبرز مساهمات زرادشت في الأديان وتاريخها وتطوّرها عقيدة الثواب والعقاب والحساب بعد الموت. إذ وصف بالتفصيل المصير النهائي للإنسان بنتيجة الخيارات التي يتّخذها في حياته. وبذلك يكون النبي الإيراني أول من وضّح، بصورة كاملة متكاملة، فكرة، أو بالحري عقيدة، الحساب بعد الوفاة، والتي نجد أن الأديان الإبراهيمية تبنّتها، بل بنت عليها منظومتها العقائدية. يقول زارا: بعد أن يلقى كل امرئ حتفه تقيّم أفعاله الحسنة والسيئة، فإذا كان من الصالحين Ashavan رُفع إلى الجنّة التي يرأسها الإله أهورا مازدا، أما إذا صُنّف من الأشرارDrugvant فسيُنزَل إلى جحيم العذاب الذي تسيطر عليه الروح العدائيةAngra Mainyu . ([7]) وتتابع النصوص الزرادشتية، فتؤكّد أن هذا الحساب سيجري في جبل هارا، وفي اليوم الرابع بعد الوفاة. وفي ذلك اليوم المشهود سيعبر الميت جسراً يسمّى سينڤاتCinva .فإذا كان من الصالحين فسيجد الجسر أمامه عريضاً وسهل العبور، في حين أنه سيجده ضيّقاً كحدّ السيف إذا كان من الأشرار ([8]).
وجسر سينفات هذا عُرف في الإسلام بجسر الصراط. وقد تناولناه عرضاً وتحليلاً في كتابنا المعراج من منظور الأديان المقارنة، فنقلنا عن المستشرق سنكلير تسدل قوله: «ولم يتّخذ المسلمون من قدماء الزرادشتيين كلمة صراط فقط، بل أخذوا عنهم هذا الاعتقاد كلّه(…) وتعني كلمة صراط في الأصل الجسر الممدود فقط. إلا أنهم توسّعوا في معنى هذه الكلمة بعد ذلك فصارت تفيد الطريق، كما وردت في سورة الفاتحة. وهو الجسر الذي يعبره الميت»([9]). ونقلنا في الكتاب المذكور تأكيد أحمد أمين أن العقيدة الإسلامية في جسر الصراط مأخوذة برمّتها عن زرادشت إذ يقول: «من قراءة مذهب زرادشت يشعر المرء بما كان له من أثر كبير في المسلمين. ونذكر أن عقيدة العامّة من المسلمين في الصراط بهذا النمط الذي يحكيه زرادشت، وفي الأعراف على هذا الوجه، وتحليق الروح على الجسد(…) كلّ هذه العقائد تشبه مشابهة تامّة ما في الديانة الزرادشتية. وقول المعتزلة في الجبر والاختيار، وقول الصوفية في أقسام النفس، كلّه مأخوذ عن هذه الديانة»([10]).
ونكتفي بهذا القدر عن جسر الصراط في الإسلام ومطابقته لجسر سينڤات في الزرادشتية، وستكون لنا عودة إليه في فصل الزرادشتية والإسلام، (ب2/ف4).
وتضيف النصوص الزرادشتية أن الإنسان الصالح سيقابل في طريقه روحاً أنثوية جميلة داينا Daena، وسترافقه إلى الجنّة. وداينا في نصوص زرادشت القديمة تجسيد لأنثى حقيقية. ([11]) ولعلّها أصل ما نجده في القرآن من حديث عن حوريات الجنّة. علماً أن عقيدة الحورية داينا ستتطوّر لاحقاً في النصوص الزرادشتية المتأخّرة لتصير الفكرة المجرّدة والبسيطة للدين نفسه([12]). وبالمقابل تؤكّد نصوص زرادشت أن الشرّير سيلقى شيطانة مخيفة ذات رائحة كريهة تُمسكه بين ذراعيها وتلقيه في فوهة الجحيم([13]). وسنورد في فصل الزرادشتية والإسلام، (ب2/ف4) وصفاً لِ داينا نقلاً عن كتاب ”أردا ڤيراز“ الزرادشتي المقدس ونعلّق عليه.
زرادشت يؤكّد أن معتقده هو الصحيح
أرسل زرادشت المبشّربن لنقل رسالته إلى كلّ أرجاء بلاد فارس، وتخطّى بعضُهم إيران. وتذكر نصوص الأڤستا وكتابات دينية أخرى أن عدداً منهم تعرّض للاضطهاد وحتى للقتل. ([14]) ومن المهمّ أن نذكر هنا أن فكرة الانتقال من دين إلى دين آخر كانت غير شائعة في العالم القديم. ويذهب المستشرق فولتز إلى حدّ القول: «إنها ربما لم تكن موجودة على الإطلاق. وربما كانت تبدو بالنسبة إلى معظم الناس غريبة إلى أبعد الحدود. وما نعتبره اليوم ديناً لم يكن ينظر إليه كشيء مختلف عن ثقافة المجتمع العامة»([15]).
ولا بدّ لنا من وقفة هنا عند هذه المسألة المهمّة. فالتبشير لم يكن معروفاً في العالم القديم. والأديان لم تكن جامدة ومتحصّنة الحدود، بل متداخلة. سبق لنا في دراسة عن مدينة جبيل أن قلنا: «في أحد هياكل جبيل نلاحظ إلهة مصرية بجانب إله جبيل المحلّي السابق للكنعانيين. وكانت جبيل دوماً منفتحة على أديان الشعوب المجاورة التي مرّت على أرضها. والفينيقيون رضوا بأن يمزجوا بين آلهتهم وآلهة اليونان والرومان، واعتبروها جميعها كالآلهة عينها لا تختلف جوهراً بل عَرَضاً. (…) وعلى هذا المنوال ترى المعبد الواحد، في لبنان وجبيل خصوصاً مكرَّماً من اليونان والرومان والفينيقيين. يزعم كلّ منهم أن فيه يكرِّم معبوده الخاص»([16]). وما قلناه عن الفينيقيين ينطبق على أكثر الشعوب التي اصطلحنا على تسميتها ”وثنية“. فأديانها كانت متداخلة، ولم تكن مبنية على عقيدة جامدة كما هي حال الأديان الإبراهيمية، بل كان الدين أقرب إلى أن يكون أدب حياة وطريقة عيش. وهذا ما يذهب إليه المستشرق فولتز من ناحيته إذ يقول: «لعلّ الناس حينئذ لم يكونوا يفكّرون في أن أحد الأديان والثقافات أكثر صحّة أو أقلّ صحّة من دين آخر. بل مجرّد دين مختلف بكلّ بساطة، وما كان يؤمن به المرء أقلّ أهمّية بكثير ممّا كان يفعله» ([17]).
إنها القاعدة الواضحة التي نجدها في الهندوسية وسبق لنا أن توقّفنا عندها مراراً: «ما يهمّ ليس ما يعتقده الإنسان ويؤمن به، بل ما يختبره»([18]).
أمّا زرادشت، وخلافاً لما كان سائداً في عصره، فبنى ديانته على العقيدة. وثنويته المطلقة: خير/شرّ وحقّ/باطل قادته إلى موقف جذري مبرم من الآخر، فكانت الديانات بمفهومه، ومفهوم أنبياء إسرائيل الذين أخذوا، عنه إمّا ديانة حقّ أي ديانته أو ديانة باطل: سائر الديانات. كما أوضحنا في بحث سابق لنا([19]). وعقّبنا على ذلك: «ثنوية الخير والشرّ قادت إذاً إلى موقف جذري بل وأصولي من الآخر. فمتى كنّا نحن على حقّ وجنود إله الخير والحقّ، فهذا الآخر هو حتماً على باطل»([20]).
وبحث المستشرق فولتز يؤكّد ما قلنا ونقول هنا، فهو يعقّب: «لابدّ أن تأكيد زرادشت على الاعتقاد الصحيح وعلى الاختيار الشخصي والمسؤولية الشخصية كان ثوريّاً بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى»([21]).
ونحن نوافقه الرأي في ثوريّة ما أكّد عليه زرادشت، ولكننا نعقّب على ذلك بأنه كان سيفاً ذو حدّين، فعنف الأديان الذي نقع جميعاً ضحيّته في أيامنا يبدأ تحديداً من هنا: الاعتقاد أننا على حقّ وأن الآخر على باطل، وبالتالي تكفيره. وما أوله تكفير آخره تفجير كما سبق وبيّنّا في عدد من الأبحاث.
وهكذا فزرادشت كان سبّاقاً إلى التأكيد على أحدية الحقيقة، ولكنه بذلك كان رائد الأصولية الدينية وما جرّت من عنف وحروب. والباحث الإيراني في تاريخ الأديان مهرداد مهرين لا تبتعد خلاصة دراسته للزرادشتية عمّا نسوقه عنها هنا. يقول: «أعظم ميزة لمذهب زرادشت أنه مذهب جريء وغير متسامح. فهو يأمر أتباعه قائلاً حارب الإساءة بلا رحمة واقهر أعداءك»([22]).
ويبقى أن معادلة Veh Din أي الدين الحقّ الآنفة الذكر، والمتداولة في الزرادشتية منذ عصورها القديمة، أساس لنظرة دونية للأديان الأخرى وتكفير الآخر. وسنتناول مسألة التكفير في الزرادشتية وأثرها في الإسلام في الفصل الأخير من دراستنا.
«»«»«»«»«»([23])
[1] – صعب، أديب، الأديان الحية نشوؤها وتطوّرها، بيروت، دار النهار، ط3، 2005، ص115.
[2] – فولتز، م. س، ص48-49.
[3] – القزويني، زكريا بن محمد بن محمود (ت682هـ)، آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت، دار صادر، 1984، ص1984.
[4]-Dhalla, Maneckji N, History of Zoroastrianism, Bombay, Cama Oriental Institute, 1983, p442.
[5] – صليبا، لويس، أقدم كتاب، م. س، ص 504-508.
[6] – البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد(ت 440هـ)، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أم مرذولة، حيدر آباد/الهند، دائرة المعارف العثمانية، ط1، 1958، ص96.
[7] – فولتز، م.س، ص46.
[8] – م.ن.
[9] – صليبا، د. لويس، المعراج من منظور الأديان المقارنة دراسة لمصادره السابقة للإسلام ولأبحاث المستشرقين فيه، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط4، 2016، ص341.
[10] – م.ن، ص342.
[11] – فولتز، م. س، ص 46-47.
[12] – م.ن، ص47.
[13] – م.ن.
[14] – م.ن، ص47-48.
[15] – م.ن، ص48
[16] – صليبا، د. لويس، لبنان الكبير أم لبنان خطأ تاريخي نزاعات على الكيان نشأة وهوية، تقديم د. عبد الرؤوف سنّو، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2015، ص 364-366.
[17] – فولتز، م.س، ص48.
[18] – صليبا، د. لويس، أقدم كتاب، م. س، ص36.
[19] – صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية بين العنف والجدل والحوار مع بحوث في اليوغا والتصوّفين الإسلامي والهندوسي، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2016،
[20] – م.ن.
[21] – فولتز، م. س، ص48.
[22] – مهرين، مهرداد، فلسفة الشرق، ترجمة محمود علاوي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2003، ص196.
[23] –