الفرح والنعمة الإلهية في اليوغا وعند تريزا الأفيلية /محاضرة د. لويس صليبا عبر Zoom، الأربعاء 22/12/2021

الفرح والنعمة الإلهية في اليوغا وعند تريزا الأفيلية /محاضرة د. لويس صليبا عبر Zoom، الأربعاء 22/12/2021

الفرح وموقعه في البهاكتي وعند تريزا

يوغا التقوى هي في جوهرها وواقعها يوغا الفرح. ومن أبرز نماذج البهاكتي ووجوهها شايتانيا Chaitanya (1486 – 1533) عابد كريشنا ومحبّه الآنف الذكر، اشتهر هذا القدّيس بعباداته غير المألوفة عموماً: كان يضع الأناشيد وأغاني الحبّ لكريشنا، ويطوف الساحات، ويغنّي ويرقص للربّ حبيبه. وغالباً ما كان يدخل في انخطاف أثناء الإنشاد أو الرقص([1]). فيلهب حماس الجماهير للتعبّد لكريشنا. وكانت حياته فرحاً دائماً ومتواصلاً بالحضور الإلهي الكلّي الدائم.

وتريزا، من ناحيتها، ورغم ما شاب حياتها من عذابات وآلام مبرّحة، كانت قدّيسة الفرح ومعلّمته. ترفع أمام بناتها شعارها القائل: «ما دام الفرح سائداً، يبقى روح الرهبنة هو المسيطر»([2]).

معيار صحّة المسلك الروحي عندها هو الفرح. فرح ينبثق عن اختبار الحضور الإلهي الدائم خلال التأمل وخارجه.

وكم مرّة رؤيت: «وقد غشيها الانخطاف الروحي في أثناء العمل، شهدت وهي تناجي الله مشغوفة الفؤاد، ممسكة بالمقلاة تحرّكها»([3]).

وتروي لنا معلّمة التأمّل حكاية أغنية وانخطاف مماثلة لما اشتهر عن شايتانيا قدّيس البهاكتي يوغا. تقول في أحد تقاريرها (15/1 في 15 – 16/04/1571): «ومساء أمس إذ كنت مع الجميع، أنشدنا أغنية فحواها ثقل احتمال الحياة من دون الله […] فأثّرت فيّ الأغنية أي تأثير، فبدأت يداي تتخدّران، وما نفعت مقاومتي، بل بقيت مثلي حين أخرج من ذاتي من الفرح في الانخطافات»([4]).

فها هي تدخل بانخطاف بفعل نشيد حبّ لله، فتعيش فرح الحضور في ذروته.

وهكذا، وطبقاً لتعبير تريزا في السيرة: «فالنفس تجد كل شيء مطبوخاً ومأكولاً، فما عليها إلاّ أن تتلذّذ به»([5]).

والحياة على مشقّاتها متعة يهبها الله لنا، ونستمتع فيها معه بلذائذها. فالصوت الداخلي قال لتريزا يوماً: «استمتعي بالخير الذي أعطيه لك، فإنه خير كبير، إن أبي يتلذّذ معك، والروح القدس يحبّك»([6]).

النعمة الإلهية في البهاكتي

ومسألة النعمة الإلهية والتي يحسبها الكثيرون الفرق الأساسي، ومحور الخلاف، بين اليوغا والتصوّف المسيحي هي في الحقيقة قاسم مشترك ومحور لقاء بين يوغا التقوى والروحانية المسيحية، ولا سيما تصوّف تريزا. ففي البهاكتي يوغا: “تلعب النعمة الإلهية دوراً أساسياً”([7]).

وفي شرحه على اليوغا سوترا يتحدّث ڤياسا([8]) أبرز مفسّري باتنجلي عن البرانيدهانا Pranidhâna وهي في عرفه «نمط من البهاكتي، به تَلمس نعمة الربّ العليّ اليوغي، وتباركه، وتستجيب لرغباته»([9]).

ومن أبرز معلّمي البهاكتي يوغا وممارسيها المعاصرين الحكيم سوامي رامداس([10]) (1884 – 1963)، وهو يقول في النعمة: «أثبت القدّيسون الذين عاشوا أسمى التجارب الروحية أن النعمة تأتي أولاً، وبدون النعمة لا نستطيع الإيمان بالله. والعابد الحقيقي هو مَن يقول: “إني أذكرك يا إلهي لأنك أنت الذي ذكرتني أولاً»([11]).

ويؤكّد رامداس أن كل سالك يحتاج أوّلاً إلى نعمة الله ومن دونها فهو يبقى عاجزاً: «نحن نحتاج إلى نعمته من البداية إلى النهاية. بالنعمة يصير أسوأ الخطأة تقيّاً، إذ ليست النعمة شرطاً مسبقاً للحصول على النعمة»([12]).

ويبيّن رامداس أن النعمة كثيراً ما تحلّ عن غير استحقاق، ولا قاعدة لها يعيها الإنسان: «لا تحلّ النعمة لأننا نستحقّها، أو مكافأة على ممارساتنا الروحية، بل هي إحسان من الله. لا يشعر مَن يتلقّى النعمة مطلقاً أنه يستحقّها. طرقها عجيبة، لا تحلّ أحياناً بالرغم من المحاولات العديدة، وأحياناً أخرى، ومن دون أية محاولة تحلّ. يسيّرها مَن يفوق كل القوانين، والذي ليس مرتبطاً بأيّ قانون أو شرط. نُصاب بالدهشة عندما نراها تحلّ على أشخاص لا يعيشون حسب مقاييسنا الروحية، في حين أن مَن نخاله يستحقّها ينتظرها أبداً»([13]).

ومن ناحيته يؤكّد سوامي شيدانندا أن على السالك أن: «مفتاح النعمة الإلهية هو أن تكون متنبّهاً إليها»([14]). ويضيف أن على السالك أن يفتح قلبه ووجدانه، وفي ذلك يقول: «نعمة المولى الكلّي القدرة متوفّرة هي دائماً وبغزارة (…) ولكنها لا تستطيع أن تلج داخلكم وتغيّركم إذا لم تنفتحوا عليها (…) وهي لا  تستطيع فعل أيّ شيء رغماً عنكم أو ضدّ رغبتكم أو بدون تعاونكم»([15]).

كيف الحصول على النعمة الإلهية؟ وما العمل لتجنّب حجبها؟! يجيب سوامي شيدانندا عن أسئلة كهذه قائلاً: «تحصلون على النعمة الإلهية إذا وضعتم أنفسكم دوماً أمام الرب. إذا رغبتم بالنعمة عليكم أن تواجهوا الإله. أن تضعوا أنفسكم في الحضرة الإلهية (…) وما دام انتباهكم موجّهاً إلى أمور أخرى، فأنتم، لا هو، من تحرمون أنفسكم من نعمته»([16]).

وتعلّم البهاكتي يوغا: «على العابد أن يكون دائماً في موقف امتنان، ويرى يد الله وراء كل حدث من أحداث حياته فيقول أشكرك يا ربي»([17]).

النعمة الإلهية عند تريزا

ولا نحتاج إلى كبير إعمال فكر ولا إلى بحث وتمحيص لإظهار دور النعمة الأساسي في تعليم تريزا وروحانيّتها، فهذا الدور حاضر في كل ما دبّج يراعها. ونكتفي ببضعة أمثلة.

ففي السيرة تتحدّث عن التأمّل وأثره ووقعه: «إذ نريد مباشرة التأمّل (…) ونخال أنفسنا ندرك أنه يسمعنا بفضل المفاعيل الحاصلة والمشاعر الروحية التي تتملّكنا، وهي مشاعر حبّ كبير (…)»([18]).

والمفاعيل هذه تتابع معلّمة التأمّل: «نعمة من الله، فليقدّرها تقديراً مَن أنعم الله بها عليه، لأنها درجة من التأمّل عالية جدّاً، وليفهم أن الله هناك من المفاعيل التي يُحدِثها في النفس»([19]).

وفي التقارير تؤكّد مُصلحة الكرمل أن القدرات الخارقة مجرّد عطية من الله، فعلى المتلقّي أن لا يتوهّم وينفر: «وعلى هذا النحو تجري الأمور الفائقة الطبيعة جميعها، ولهذا فإن مَن ينفحها الله بهذه المنّة تعتبر نفسها لا شيء، لأنها ترى أن الأمر هبة، وأنها لا تستطيع أن تُنقص منه أو تزيد عليه شيئاً، وهذا ما يجعلها تلوذ بمزيد من التواضع كبير»([20]).

«»«»«»«»«»([21])

[1]– Esnoul, Anne-Marie, L’Hindouisme, Paris, Fayard, 1972, p. 573.

[2] – الحاج، م. س، ص 197.

[3] – الحاج، م. س، ص 196 – 197.

[4] – تريزا، أ. ك، التقارير، م. س، 15/1، ص 1205.

[5] – تريزا، أ. ك، ك. س، م. س، 27/8، ص 261.

[6] – تريزا، أ. ك، التقارير، 13، ص 1205.

[7] – كفوري، سرّ النجاح، م. س، ص 300.

[8] – Vyasa ڤياسا: حكيم راء وواضع ملحمة المهابهارتا وBhagavad Purpana وجامع الريك ڤيدا. ومؤلّف العديد من الحِكم والنصوص المقدّسة العريقة، وينسب إليه تفسير لليوغا سوترا لِـ بتانجلي.

[9]– Vivekananda, Yoga pratiques, op. cit, p. 143.

[10] – رامداس (1884 – 1963) Swami ramdas عاش حياة عائلية وعملية عادية إلى أن حلّت عليه نعمة الله سنة 1920 إذ راح يفكّر في طبيعة الأمور الدنيوية الزائلة وضرورة سلوك طريق روحاني لاكتشاف حقيقة الوجود المطلقة والسلام الأبدي، تعلّم من والده مانترا Mantra رام وراح يردّدها طول الليل والنهار متجنّباً الأكل والنوم، وبعد ممارسة دؤوبة للذكر والصلوات ظهر المولى عليه، فطلب رامداس منه نعمة الرؤيا الدائمة والتي لا تترك بعدها ألم الانفصال. فاستجاب المولى لدعائه وأمره بالزهد في الدنيا، فترك مدينته Mangalore مصطحباً كتباً ثلاثة:  نشيد المولى والعهد الجديد (الإنجيل) ونور آسيا (سيرة بوذا). فطاف أرجاء الهند بحثاً عن الله، ومردّداً اسمه، ومرتدياً لباس النسّاك الزاهدين، ونذر العفّة والعيش على الحسنة والتسوّل فقط. ومذّاك عرف باسم رام داس أي عبدالله.

ووقف ذات يوم أمام الحكيم رامانا مهارشي طالباً البركة فتلقّاها. وتوجّه بعدها إلى كهف في جنوب الهند حيث اعتكف مدّة واحد وعشرين يوماً أوتي خلالها نظرة جديدة إلى الحياة، إذ شاهد نور الله في كل مكان وكل مخلوق. وفي حالة النشوة هذه سافر إلى مختلف أرجاء الهند إلى أن سمعت عائلته بأخباره فحضرت إليه زوجته وطلبت منه العودة إلى مدينته Mangalore، فتوجّه رامداس إلى مغارة قرب مدينته، ومكث فيها مدّة ثلاثة شهور في تأمّل مستمرّ، وفيها بلغ التحقّق والاستنارة.

تابع رامداس حياة الزهد والتقشف سائحاً في أنحاء الهند المختلفة، ودوّن خلالها مذكّراته في كتابَيه ”بحثاً عن الله“ وفي ”رؤيا الله“. وفي نهاية رحلاته بنى له بعض مريديه ديراً صغيراً Ashram في جنوب الهند حيث التقت به الأم كريشنا باي Krishna Bai وصارت من أبرز مريديه. وزار ديره العديد من السالكين والباحثين التوّاقين إلى ذرى الحياة الروحية. توفي في 25/06/1963. ولا يزال ديره إلى اليوم محجّة للزائرين والباحثين الروحيين.

[11]– Râmdâs, Swami, Présence de Râm, Traduction Jean Herbert, Paris, Albin Michel, 1997, p. 109.

[12]– Ibid.

[13]– Ibid.

[14] – صليبا، د. لويس، جدلية الحضور والغياب بحوث ومحاولات في التجربة الصوفية، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2014، ص 129.

[15] – صليبا، د. لويس، الديانات الإبراهيمية بين العنف والجدل والحوار، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2012، ص 181.

[16] – م. ن، ص 181 – 182.

[17] – كفوري، سرّ النجاح، م. س، ص 111.

[18] – تريزا، أ. ك، ك. س، م. س، 27/4، ص 259.

[19] – م. ن.

[20] – تريزا، أ. ك، التقارير، م. س، 4/20، ص 1191.

[21]

شاهد أيضاً

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its prevention.

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *