الضحك في التراث العربي-الإسلامي ويوغا الضحك2/محاضرة لويس صليبا على Zoom الأربعاء 15/12/2021
أحمد أمين: الضحك دواء طبيعي فعّال
وآخر من نذكر من الأدباء المعاصرين الضاحكين والمبشّرين بالضحك علاجاً لأدواء العصر الأديب والمؤرّخ المصري أحمد أمين (1886-1954). وهو على غرار يوغا الضحك دعا، ومنذ 1937، إلى استبدال الكثير من الأدوية بالضحك، فهو علاجٌ طبيعي، لا آثار جانبية ولا سلبية له، خلافاً لكلّ عقّار كيميائي وحديث. يقول: “لو أنصفَ الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في الصيدليّات بالضحك، فضحكةٌ واحدة خيرٌ ألفَ مرّة من برشامة أسبيرين، وحبّة كينين، وما شئتَ من أسماء أعجمية وعربية. ذلك لأن الضحكةَ علاجُ الطبيعة، والأسبيرين وما إليه علاجُ الإنسان، والطبيعة أمهرُ علاجاً وأصدقُ نظراً، وأكثر حنكة. ألا ترى كيف تعالجُ الطبيعة جسمَ الإنسان بما تمدّه من كرات حمر وبيض وغيرها (…) ولا يُقاس بذلك شيءٌ من العلاجِ المصطنع”([1])
الضحكة المصطنعة لا تختلف تأثيراً عن العفويّة
ويمضي أحمد أمين شارحاً، فيذكر بعض فوائدِ الضحك الصحّية الجسدية منها والسيكولوجية: “فانفجار الإنسان بضحكةٍ يُجري في عروقه الدم، ولذلك يحمرّ وجهه، وتنتفخ عروقه. وفوق كلّ ذلك فللضحكة مفعول سحري في شفاء النفس وكشف الغمّ، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأن يستقبلَ الحياةَ ومتاعبَها بالبِشر والترحاب” (أمين، م. س، ص99). واللافت أن أحمد أمين يشير في مقالته هذه إلى حقيقة أثبتها العلم اليوم، وهي الأساس الذي تقوم عليه يوغا الضحك، فالضحكة المصطنعة لا يختلف تأثيرها الإيجابي على الصحة النفسية والجسدية عن الضحكة الطبيعية. يروي: “قال لي صديقٌ مرّةً: إنه حاول أن يتغلّب على همومه وأحزانه بعلاجٍ بسيطٍ فنجح: ذلك أنه إذا اشتدّ به الكرب، وتعقّدت أمامَه الأمور، حتى لا يظنّ لها حلّاً، انفجرَ بضحكة مصطنعة، فسرّي عنه، وتبخّرت همومَه” (أمين، م. س، ص100).
هنا يبدو هذا الباحث والمفكّر المصري سبّاقاً إلى اكتشاف علمي ترتكز عليه اليوم تعاليم يوغا الضحك.
الإنسان حيوانٌ ضاحك
ويؤكّد أمين أن الضحك من أبرز ميّزات الإنسان، ومن أهمّ ما خصّته الطبيعة من نِعم وأدواتٍ يفرّج بها عن كربه: “يقول المناطقة في أحد تعريفاتهم للإنسان: “الإنسان حيوانٌ ضاحك”، وهذا عندي أظرف من تعريفهم الآخر: الإنسان حيوان ناطق. فالإنسان في هذا الزمان أحوج إلى الضحك منه إلى التفكير، أو على الأصحّ نحن أحوج ما نكون إلى التفكير والضحك معاً” (أمين، م. س، ص98).
وهذه الحاجة الملحّة عبَّر عنها أحمد أمين في فاتحة مقاله. فهو يبحث عن الضحك، ويسعى إلى أن يعيشَه في كلّ كيانه، ويتحسّسَه في أعضاء جسده وجوارحه: “ما أحوجني إلى ضحكةٍ تخرجُ من أعماق صدري فيدوّي بها جوّي. ضحكة حيّة صافية عالية، ليست من جنس التبسّم، ولا من قَبيل السخرية والاستهزاء. (…) وإنّما هي ضحكةٌ أُمسك منها صدري، وأفحص منها الأرض برجليّ. ضحكةٌ تملأُ شِدقيّ([2])، وتُبدي ناجذيّ، وتفرجُ كربي، وتكشف همّي”. (أمين، م. س، ص97).
لنلحظ كيف يسعى أمين إلى أن يتفاعل كلّ بدنه مع الضحك، وأن يتحسّس هذا الأخير بكلّ جارحةٍ منه: الصدر والرجلين والفكّين. وهذا تحديداً ما تعلّمه اليوغا وتنصح به.
والخلاصة، فأحمد أمين مفكّر ومؤرّخ، وعى بالتجربة والتبصّر بها أهمّية الضحك، وأثره الإيجابي ولا سيما من النواحي الفيزيولوجية والسيكولوجية، في تطهير الجهاز العصبي ممّا عرف لاحقاً ب Stress أي التشنّجات.
تأثير الضحك من منظور العلم
ولكن وبعد أن أثرنا موضوع الأثر الطبّي والنفسي للضحك ناقلين عن أحمد أمين، فماذا يقول الأطبّاء والباحثون والعلماء اليوم في هذا الصدد؟
يقول توماس هوبسن: “للضحك وظيفتان إحداهما فيزيولوجية تتعلّق بالجسد، والأخرى سيكولوجية تتعلّق بالعقل”([3])
ويؤكّد عدد من الأطبّاء والباحثين الألمان أن الضحك يؤثّر في الجسم والعقل معاً، ويساعد على الهضم، ويقوّي دورة الدّم، ويزيد في إفراز العرق، ويرفع القوّة في كلّ عضوٍ من أعضاء الجسم”. (قرّة علي، م. س، ص21).
ويخلص هؤلاء الأطبّاء الألمان في مجمل بحوثهم إلى أن الضحك يطيل العمر، فكلّما ضحك الإنسان أضاف إلى حياته مدّة. (م. ن).
الضحك لغةٌ مشتركة بين مختلف الشعوب
ويؤكّد عددٌ من علماء الأنتروبولوجيا الذين درسوا الموضوع أن “الضحك هو اللغة الوحيدة المشتركة بين بني الإنسان. وهو الذي ولد قبل أن تولد اللغات واللهجات، وسيبقى حتى لو انقرضت اللغات واللهجات” (قرّةعلي، م. س، ص22).
ويشير هؤلاء إلى خاصّية في الضحك تركّز عليها اليوم يوغا الضحك في تعاليمها، فهو معدٍ وتواصلي. يقولون: “إن سَرَيان الضحك لا يقلّ بين بني الإنسان عن مسرى لغاتهم نفسها. وإن اختلف بين جنسٍ وجنس، ووطنٍ ووطن” (قرّةعلي، م. س، ص22).
ويؤكّد الطبيب د. وليام فري من جامعة ستانفورد/أميركا أن الضحك مثل الألعاب الرياضية، له فوائد لا تتلاشى. وبعد الضحك تبدأ العضلات بالاسترخاء عن ذي قبل، فتمنح انفراجاً من معاناة كثيرة. ويخلص د. فري إلى أن الضحك يتّصل اتّصالاً وثيقاً بطول العمر، وذلك لفاعليّته.([4])
ومعلومٌ أن مركزيّ الضحك والبكاء واحدٌ في الدماغ، فمنهم من يضحك من شدّة الحزن، ومنهم من يبكي من شدّة الفرح. (فريحة، م. س، ص30). وهي برأينا مسألة علمية مهمّة وبالغة الدلالة. فأكثرنا خبِر أو أقلّه عاين من يبكي فرحاً ومن يضحك حزناً أو عند المصيبة، طبقاً للمثل الآنف الذكر: “وشرّ البليّة ما يُضحكُ”. فطالما أن الضحك والبكاء كليهما متأتّيان من مركزٍ واحدٍ في الدماغ، لذا يسهل أن نقلب البكاء إلى ضحك. وفي ذلك يقول الشاعر الإنكليزي اللورد بايرون (1788-1824): “إنّني أضحك كي لا أبكي” (حنين، م. س، ص1/22).
ويلخّص الطبيب د. هارثي كيلوج الأثر الصحّي للضحك، ووجوب ممارسته وإدخاله في الروتين اليومي للإنسان بالنصيحة التالية: “كُلْ نصف ما اعتدتَ أن تأكل، ونم ضِعفَ ما اعتدتَ أن تنام، واشرب ثلاثة أضعاف ما اعتدتَ أن تشرب، واضحك أربعة أضعاف ما اعتدتَ أن تضحك، فإن فعلتَ متّعتَ بأفضل عمر” (قرّةعلي، م. س، ص35).
الأبحاث الراهنة في فوائد الضحك
وفي أيّامنا هذه واصلت مراكز الأبحاث الطبّية والعلمية دراساتها في مجال الآثار الفيزيولوجية للضحك. ومنها ما قامت به مايو كلينيك مركز البحوث الشهير في أميركا. وأثبت أن الضحك يمنح فوائد جمّة سواءً على المدى القصير أو البعيد، حيث يعمل الضحك على تعزيز استنشاق الهواء الغني بالأوكسجين ما يحفّز القلب، والرئتين، والعضلات، كما يساعد على تحفيز الدماغ لإفراز هرمون الأندروفين وبالتالي رفع قدرة الجسم على تحمّل الألم، وذلك لأن الأندورفين “مسكّن ألم طبيعي” حسب تعبير صوفيا سكوت عالمة الأعصاب والأستاذة في كلية لندن الجامعية .(UCL). ويمكن للضحك تسكين بعض الأعراض الجسدية للتوتر من خلال تحفيز الدورة الدموية والمساهمة في استرخاء العضلات.
ومن شأن الضحك أيضاً التخفيف من التوتّر والضغط النفسي الذي نتعرّض له يومياً، وقد يكون جزءاً من علاج بعض الأمراض النفسية كالقلق المرضي والاكتئاب. ففي دراسة حديثة تناولت مجموعتين من مرضى الاكتئاب، تمّ فيها اتّباع العلاج التقليدي في إحدى المجموعتين في حين دُمجت يوغا الضحك بالعلاج التقليدي في المجموعة الأخرى لمدّة 3 شهور، وأظهرت النتائج فاعلية يوغا الضحك في تحسين الصحة النفسية إلى جانب إمكانية اعتبارها علاجاً مسانداً لمداواة الاكتئاب.
يوغا الضحك والأبحاث بشأنها
ماذا الآن عن يوغا الضحك التي عرفت انتشاراً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، ولا سيما في زمن جائحة كورونا والحجر الصحّي.
أثبتت يوغا الضحك قدرتها على تحسين المزاج ما يدفع الشخص إلى الضحك أكثر من المعتاد خلال يومه، وهذا ما يساهم بدوره في زيادة الترابط الاجتماعي، فالضحك طاقة إيجابية تساعد الناس على التواصل مع الآخرين بسرعة، ويساهم في تحسين العلاقات الأسَريّة وبناء المزيد من الصداقات، ما يزيد من شعور الشخص بالأمن ورضاه الداخلي عن نفسه.
كانت يوغا الضحك مثار اهتمام العديد من الباحثين في المجالين الطبّي والسيكولوجي. وفي بحث أخير عُمد إلى دراسة مجموعة من مرضى القولون العصبي، باعتبار أن أعراض القولون العصبي مرتبطةٌ بالقلق والضغط النفسي. وكان الهدف من الدراسة توفير خطّة علاجية تعتمد في آن على يوغا الضحك والأدوية المضادّة للقلق، إلى جانب تحديد فاعلية هذه العلاجات في مداواة القلق وأعراض القولون العصبي، وخلُصت الدراسة إلى أنّ ليوغا الضحك القدرة على تخفيف أعراض الجهاز الهضمي المصاحِبة للقولون العصبي بصورة قد تفوق الأدوية المضادّة للقلق.
وتدعم يوغا الضحك مناعة الجسم على المدى الطويل، إذْ يُقلّل الضحك من إفراز هرمونات التوتّر ويزيد من الخلايا المناعية والأجسام التي تكافح العدوى، وبالتالي تتحسّن مقاومة الجسم للأمراض، وقد أشارت دراسة بحثية إلى وجود تحسّن ملحوظ في مناعة مرضى السرطان الخاضعين للعلاج الكيميائي بعد إدخال العلاج بالضحك ضمن خطّتهم العلاجية.
كيف نمارس يوغا الضحك؟
غالباً ما تتمّ ممارسة يوغا الضحك في بيئة جماعية، مثل نادٍ أو ورشة عمل، وذلك تحت إشراف مدرّب يقوم بتدريب الحاضرين على تقنيات مختلفة لافتعال الضحك وتعزيز البهجة، حيث تشمل معظم الجلسات تقنيات تنفس بسيطة مع التصفيق والهتاف لمساعدة المشاركين على الاسترخاء والضحك.
وتوفّر منظمة “يوغا الضحك” Laughter yoga دليلاً مفصّلاً لممارسة يوغا الضحك يضمّ 4 خطوات أساسية، تبدأ عادةً بالتصفيق وتمارين الإحماء، يتبعها إدخال إيقاع للتصفيق لزيادة مستويات الطاقة، غالباً بإيقاع 1-2 و1-2-3 مع ترديد هو-هو، ها-ها-ها، التي تأتي هنا بمثابة تقنية لتحفيز التنفّس العميق من البطن.
في الخطوة الثانية يتمّ التركيز على تمارين التنفّس، وفيها يتمّ الشهيق عن طريق الأنف بأخذ نفس عميق قدر الإمكان مع رفع اليدين للأعلى وشدّ الجسم للخلف قليلاً مع حبس النفس لمدّة 4-5 ثوانٍ، يليها الزفير من خلال الفم مع الانحناء إلى الأمام إذْ يُفيد هذا في دفع الحجاب الحاجز إلى الأعلى وإفراغ الرئتين تماماً، ويُنصح بالانتظار قليلاً قبل تكرار عملية التنفّس من جديد.
تهدف الخطوة التالية إلى إخراج الطفل الذي بداخلنا بهدف الضحك دون سبب، ويتمّ الوصول إلى ذلك عن طريق ترديد عباراتٍ إيجابية ما بين تمارين التنفس بصوت جماعي مثل “جيد جداً” أو “رائع” مع التصفيق. يساعد هذا في الحفاظ على مستويات الطاقة وزيادة الحماس لدى الجميع.
وأخيراً نصل إلى تمارين الضحك التي تهدف إلى كسر حاجز الخجل، والبدء بمحاكاة الضحك لحين تحوّله إلى ضحك حقيقي.
على الرغم من أنّ الأمر قد يبدو بسيطاً بل وساذجاً في البداية، فإنّ الغاية من هذه التمارين إزالة أيّ حكم داخلي والتمتّع في النهاية بضحك حقيقي ينعكس بصورة إيجابية على الصحة العامة، فيوغا الضحك لا تحمل في طيّاتها أيّ سلبيات، ولا تنحصر ممارستها في فئة من الناس أو في عمرٍ معيّن. ولا بدّ في الختام من التنبيه إلى أنّها ليست بديلاً للأدوية والعلاجات التقليدية وإنّما قد تلعب دوراً مسانداً لا يستهان به.
تجربة شخصية في تأثير الضحك
ونختم بتجربة شخصية لنا في الضحك، وتأثيره الإيجابي.
كنتُ في السنة الرابعة والأخيرة من دراستي الجامعية للحصول على الإجازة التعليمية Maîtrise في اللغة العربية وآدابها من كلّية الآداب/الفرع الأوّل في الجامعة اللبنانية في الأونسكو-بيروت. وكانت حرب لبنان في ذروتها 1984، والوطن مقطّع الأوصال، والعبور من المنطقة الشرقية حيث أقيم إلى المنطقة الغربية حيث الكلّية، أشدّ صعوبة من عبور الحدود بين بلدين في حالة عداء: حواجز تفتيش، وإجراءات أمنية وغيرها، تستغرق غالباً الكثير من الوقت.
وكان عليّ أن اجتاز امتحاناً في مادّة كنا نعتبرها من أصعب الموادّ، ألا وهي فقه اللغة العربية. وكان أستاذنا في هذه المادّة شيخ علّامة فاضل هو الشيخ الدكتور صبحي الصالح (1926-1986) رحمه الله. وكنّا نستصعبُ عموماً هذه المادّة لدقّتها، ولصرامة أستاذها في التصحيح. وكانت مسابقة هذه المادّة أوّلى المسابقات في آخر تلك السنة. وهي المادّة الوحيدة التي كان يُسمح فيها استقدام الكتب والوثائق في الامتحان Examen à documents permis
وكنتُ قد قرّرتُ أن أبذل كل ما بوسعي للنجاح في هذه المادّة الصعبة، مهما كلّف الأمر من جهدٍ ودراسة. وطالما أن إدخال الكتب مسموح في امتحانها، خطر لي أن أحمل معي المرجع الأساسي في المادّة وهو موسوعة معجم لسان العرب لابن منظور، وهي في 16 عشر مجلّد كبير، إضافة إلى معاجم ومصادر أخرى. فبلغ مجموع ما سأحمله إلى قاعة الامتحانات نحو 20 مجلّداً. ولكن كيف العبور بين المنطقتين للوصول إلى الكلّية مع هذا الحمل الثقيل، وبيتي في جبيل أي على مسافة نحو 40 كلم من مقرّ الامتحانات؟!
لم يكن أمامي من حلّ سوى استخدام حقيبة سفرٍ كبيرة كانت لوالدي، فأضعُ فيها كل هذه المجلّدات. والاتّكال على الله وعلى قوّة ساعديّ في العِتالة. وكان عليّ أن اتنقّل من سيّارة أجرة إلى أخرى، بهذا الحمل الثقيل واضعاً الحقيبة في صندوق السيّارة. وعند عبور الحواجز بين المنطقتَين كنتُ مجبراً أن أنزل لأفتح الحقيبة لتفتيشها. والخلاصة فكلّ هذه الإجراءات جعلتني أتأخّر عن موعد الوصول صباحاً إلى حرم الجامعة. وعند وصولي كان عليّ أن أمضي أوّلاً إلى مبنى الإدارة للحصول على بطاقة تتيح لي الدخول إلى قاعة الامتحان. وهذا ما فعلته. فمضيتُ إلى المبنى، ووضعتُ حقيبتي الكبيرة عند الناطور الذي كان يعرفني، وصعدتُ وشرحتُ للموظّف سبب تأخّري الناتج عن الحواجز على الطريق، فكان متفهّماً وأعطاني البطاقة قائلاً تمضي بها وعند وصولك إلى القاعة تذهب مباشرة إلى الناظر المسؤول وتريه بطاقتك وتشرح أسباب تأخّرك.
استرجعتُ حقيبتي، وكان عليّ أن أجتاز بها سيراً على الأقدام المسافة البعيدة بين مبنيَي الإدارة وقاعة الامتحان. وعند وصولي إلى هذا الأخير صعدتُ حاملاً حقيبتي الأدراج العديدة. وكان عليّ أن أجتاز قاعة الامتحان الكبيرة من آخرها إلى أوّلها، حيث يجلس الناظر المسؤول حاملاً حقيبتي الكبيرة. وكان زملائي الطلّاب الآخرون قد أخذوا أماكنهم في القاعة وبدأوا يكتبون إجاباتهم على الأسئلة المطروحة في المسابقة. وكانت القاعة تغصّ بنحو مئة طالبٍ ممتحَن، إضافة إلى نحو عشرة نظّار هم من أساتذة قسم اللغة العربية في الكلّية. دخلتُ قاعة الامتحان كمن يدخل صالة المسافرين في مطار، وباشرتُ التوجّه إلى حيث المسؤول. فأثار دخولي بهذا الشكل الغريب انتباه كلّ الطلّاب فبدأوا ينظرون إليّ بحيرة: ماذا تراه يحمل في هذه الحقيبة الكبيرة؟! وأخذت الابتسامة تعلو وجوه بعضهم، وتتحوّل شيئاً فشيئاً إلى ضحك مكبوتٍ، لا سيّما وأن الضحك ممنوع أساساً في امتحان رسمي كهذا.
وصلتُ إلى حيث المسؤول، فلم يُحسن حتى أن يسألني عن سبب تأخرّي، إذ كان على وشك أن يضحك. فأومأ إليّ بيديه أن ماذا في هذه الحقيبة الكبرى؟ فأجبته أنّني أحملُ فيها موسوعة لسان العرب، لا سيما وأن الوثائق مسموحة في هذا الامتحان. عندها، وما أن عرف الجميع ماذا في الحقيبة الغريبة حتى انفجرت كلّ القاعة: أساتذةً وطلّاباً بالضحك، وحتى الشيخ الوقور المعروف بجدّيته ورصانته ضحك مع الضاحكين. أمّا أنا فكي أتخلّص من حراجة موقفي ضحكتُ مع سائر الضاحكين. ثمّ توجّهت إلى المقعد والطاولة التي أشار إليها المسؤول، وشرعتُ بالإجابة عن الأسئلة. وهكذا فالجوّ المكهرب الناتج عن صعوبة المادّة وامتحانها بدّده الضحك الذي نشر في القاعة جوّاً من الانشراح.
ولم يذهب جهدي المضني في حمل هذه الموسوعة سدى، فقد وجدتُ فيها جواباً عن سؤالٍ طُرح في هذه المسابقة وعجز معظم زملائي عن الإجابة عنه. وإلى ذلك خصّني الناظر العام بوقتٍ إضافي للتعويض عن تأخري في الوصول.
وبعد انتهاء المسابقة والخروج من القاعة، جاءني الزملاء يشكرونني على كسر الجوّ المتشنّج الناتج عن صعوبة المسابقة، ويهنّئونني لأنّني نجحتُ في أن أجعل الشيخ الجليل يضحك، وهو ما لم يسبق أن فعله طيلة السنة، ومعلوم أن الضحك في حضرة أصحاب اللحى أمرٌ غير مستحبّ بتاتاً. (فريحة، م. س، ص38). وكان زملائي الطلّاب يأملون بالتالي أن يساهم ترطيب الأجواء الناتج عن الضحك في جعل الأستاذ الشيخ أكثر ليونة عند التصحيح. وكانوا يسألونني كيف اخترتَ أن تتكبّدَ مشقّة حمل هذه الموسوعة الضخمة من مكان سكنك البعيد في جبيل؟ في حين أنّنا نحن الذين نقيم على مقربة من الكلّية لم نفكّر حتى بأن نأتي بها؟!
والخلاصة فجوّ الضحك هذا كسر حاجز الخوف، وشرَحَ الصدور، وفتح الأذهان، وجاءت نتيجة الامتحان في هذه المادّة على خلاف المتوقّع، فنسبة النجاح فيها فاقت السنوات الماضية، وكنتُ من المبرّزين، لا سيما وأنّني استخدمتُ مصدراً استثقل الآخرون أن يحملوه معهم إلى قاعة الامتحان..
«»«»«»«»«»([5])
[1] -أمين، أحمد (1886-1954)، فيض الخاطر، مقالات أدبية واجتماعية، القاهرة، مؤسّسة هنداوي، 2012، (ط1: 1937)، ج1، ص99.
[2] -الشِدق: زاوية الفم ممّا تحت الخدّ، وهما شدقانِ. وتجمع على أشداق وشدوق.
[3] -قره علي، محمد (1913-1987)، الضاحكون، بيروت، مؤسّسة نوفل، ط3، 1980، ص21.
[4] -حنين، رياض (1932-1992)، نكات خازنيّة، بيروت، مؤسّسة نوفل، ط1، 1987، ج3، ص11-12.
[5] –