الحضور الإلهي في اليوغا وعند تريزا الأفيلية/محاضرة د. لويس صليبا عبر Zoom الأربعاء 17 /11 /2021
الحضور الإلهي في اليوغا وعند تريزا
وما نرى موراني الباحث المتعمّق في التصوّف المسيحي والمقارن إلاّ مصيباً في ما ذهب إليه هنا، وما ذكرنا لتريزا من شهادات ونصوص يؤكّد قوله. ونتابع معه عن تأمّل تريزا: «إنها لا توحي بالتركيز على الحقائق الإيمانية لاستخلاص معانيها ولا باستعمال المخيّلة. إنها تفضّل الحضور الذي يقابله من جانب الموضوع ناسوت المسيح»([1]).
التأمّل التريزاوي بعيد كل البعد عن التفكّر في عقائد ونظريات، وإن كانت تمتُّ إلى إيمانها بصلة، إنه ببساطة اختبار للحضور الإلهي/الشخصي وهو ما تسمّيه اليوغا Ishta Devata كما أسلفنا. وتأمّل الحضور هذا لا يختلف عمّا تدعو إليه البهاكتي يوغا وتعلّمه، بل هو في صلبه وجوهره.
وفي قسم النذور Nyam من أعضاء اليوغا الثمانية Ashtanga yoga التي يتحدّث عنها باتنجلي يأتي النذر أو الالتزام الخامس ليتوّج سابقيه. إنه التسليم إلى الربّ Ishvara Pranidhâna. ويشرحه سوامي شيدانندا كما يلي: «تسليم الأمر إلى الربّ يعني وضع الذات في الله أي العيش دوماً في وعي الحضور الإلهي. فحتى أسوأ، الرجال، يصير متواضعاً ويتغيّر في حضرة الألوهية»([2]).
هنا يبدو الحضور الإلهي، ولا سيما وجوب عيشه، واحداً في تعليميّ اليوغا وتريزا. ويتابع شيدانندا: «يدفع تسليم الأمر إلى الربّ إلى التحلّي بموقف ثابت من التعبّد والحبّ الإلهي والإيمان والتواضع. فلا يمكن الشعور بالأنانية فيما نحن نحاول أن نعيش الحضور الإلهي»([3]).
عيش الحضور الإلهي في التأمّل وخارجه أي في الحياة اليومية من ثوابت روحانية تريزا واختبارها، ويكاد يتطابق مع تعليم اليوغا في التسليم لله Ishvara Pranidhana.
العشق الإلهي في اليوغا والتصوّف
ومن صداقة الربّ يتدرّج السالك إلى الحبّ الإلهي فالعشق. والعشق الإلهي ظاهرة عرفها متصوّفو أكثر الأديان، ولا سيما المتصوّفات منهن، فعُرفن بعاشقات الله. ففي الإسلام اشتهرت رابعة العدوية، وفي المسيحية تريزا الأڤيلية وسميتها تريزا الطفل يسوع. وفي الهندوسية مَا أنندا مايي. وقبلها رادها Radha الآنفة الذكر وصديقاتها Gopis عاشقات الإله كريشنا.
وتعرّف رابعة العدوية (185 هـ) العشق بأنه: «اسم لما جاوز الحدّ في المحبّة»([4]).
أما ابن عربي فيميّز بين درجات عديدة في علاقة المريد بالله آخرها العشق، فأوّله الهوى، ثم الحبّ، فالمودّة ومسك ختامه العشق، يقول الشيخ الأكبر: «الهوى عندنا سقوط الحب في القلب في أوّل نشأة في قلب المُحبّ لا غير. فإذا لم يشاركه أمر آخر، وخلص له وصفاً سمّي حبّاً. فإذا ثبت سمّي ودّاً، فإذا عانق القلب والأحشاء والخواطر، لم يبقَ فيه شيء إلا تعلّق القلب به، سمّي عشقاً من العشق هي اللبابة والمشوّكة»([5]).
ويوغا التقوى بدورها تميّز بين أنماط ودرجات من العلاقة بالربّ: الصداقة الآنفة الذكر، فالحبّ الأبوي Vatsalya: يكون الربّ وكأنه الطفل الإله. مثل الطفلين كريشنا وراما في الهندوسية والطفل يسوع في المسيحية»([6]).
وآخر الدرجات: العشق وهو في مصطلحات اليوغا السنسكريتية Mathurya: شعور المحبّ تجاه محبوبه([7]).
مقامات العشق في البهاكتي
ويميّز الحكيم شَيتانيا Chaytanya (1486 – 1533)([8]) أحد أبرز وجوه البهاكتي يوغا في التصوّف الهندي بين درجات خمس من البهاكتي (التقوى):
1 – مقام السلام Shanti يعتبر فيه العابد الربّ إلهه الأسمى ويشعر بانسحاق نحوه وبسلام ورضا عميقَين ليقينه من حصوله على نعمته.
2 – مقام الخدمة dâsya يقّدم العابد نفسه خادماً للربّ ويسلّم نفسه له ويهبه ذاته.
3 – مقام الصداقة Sâkhya يعتبر العابد نفسه صديقاً للربّ.
4 – المقام الأبويّ: يشعر العابد تجاه الربّ ما يشعره الأب تجاه ابنه.
5 – العشق Mathurya إنه حبّ رادها والراعيات Gopis للمولى كريشنا([9]).
ويقول نرادا في البهاكتي سوترا، النصّ المؤسّس ليوغا التقوى، عن هذا العشق وتفوّقه على سائر المسالك (العمل والمعرفة…): «كما أن المرء لا يُشبع جوعه بمعرفة الطعام ولا حتى بالنظر إليه، كذلك فهو لا يرضى لا بمعرفة الله ولا برؤياه قبل أن يحلّ حبّه فيه» (بهاكتي سوترا 2/2) ([10]).
ويضرب نرادا عن العشق، المثل الهندوي التقليدي حبّ رادها وسائر الراعيات Gopis للإله كريشنا، فيقول: «إنه عشق ال Gopis لكريشنا» (بهاكتي سوترا 1/14).
ولكن نرادا يحذّر، فهو ليس مجرّد حُبّ أنثوي، أو غرام امرأة برجل: «رغم أنهن عبدن الله كحبيب، فهنّ لم ينسين بتاتاً طبيعته الإلهية» (بهاكتي سوترا 1/15).
ويعتبر نرادا أن إغفال الطبيعة الإلهية هذه أو التغاضي عنها خطيئة ضدّ العفة: «وبدون ذلك كنّ اقترفن خطيئة اللاعفة» (بهاكتي سوترا 1/16) ([11]).
فالعشق الإلهي ليس تعويضاً عن حبّ بشري أضعناه أو لم نجده أساساً، بل هو أسمى درجات الحبّ ومراقيه، لأنه متجرّد من كل رغبة في تبادل العواطف والتشارك فيها: «إنه أسمى أنماط الحُبّ، لأنه لا يحوي الرغبة في التبادل الحاضرة في كل حُبّ بشري» (بهاكتي سوترا 1/17) ([12]).
العشق الإلهي عند تريزا
وتريزا ليست غريبة عن أجواء العشق الإلهي التي يتحدّث عنها حكماء اليوغا، بل هي في صلبها. عشقها هي وراهباتها ليسوع نسخة عن عشق رادها والـ Gopis لـِ كريشنا.
لنستمع إليها تعلّم راهباتها وتنصحهن: «لا أطلب منكن أن تفكّرن بالرب ولا أن تحلّلن صفاته. أسألكن فقط أن تنظرن إليه وتتأمّلنه (…) هكذا يقولون تصنع المرأة أمام زوجها عندما يصبح الزواج موفّقاً»([13]).
وهي تضرب لهن مثلاً عن هذه العلاقة: مريم المجدلية ويسوع([14]).
وهذا الطابع الأنثوي في عشق الربّ/المذكّر لم تغفله تريزا، بل سعت دوماً لتثميره في تأمّلها هي، وفي تعليمها لراهباتها. لنصغِ إليها تناجيه، بعذوبة وأنوثة فائقة، في مصنّفها طريق الكمال: «وأنت يا سيّد نفسي لم تَكره النساء حين كنت في العالم، بل ساعدتهن دائماً بعطف كبير، ووجدت لديهن حبّاً مماثلاً، وإيماناً أكبر من إيمان الرجال»([15]).
كان على مُصلحة الكرمل أن تكافح وتناضل بوجه تيّار ذكوري مسيطر في الكنيسة، ولا يعطي للمرأة، في المجال الروحي، سوى دور ومقام ثانويين وتابعين.
وقد أظهرت بوجه هذا التيّار وسائر المشكّكين تفوّق المرأة على الرجل في مسلك التأمّل، تقول في السيرة وعلى رؤوس الأشهاد: «لقد أعطى الربّ نِعم التأمّل الفائق الطبيعة للنساء أكثر منه للرجال»([16]).
ولمزيد من التأكيد نسبت هذه المقولة لمرشدها القدّيس/المتصوّف بطرس دي ألقنطره الآنف الذكر: «هكذا سمعتُ القدّيس دي ألقنطره يقول، وقد خبرته بنفسي: إنهن يتقدّمن في هذه الطريق أكثر من الرجال»([17]).
تأمّل الحُبّ يكبح جماح الفكر
وتأمّل تريزا هو في جوهره وهويّته تأمّل البهاكتي/الحب. وقاعدتها الذهبية في ذلك أعلنتها في درّة مؤلّفاتها: المنازل حيث قالت: «يقوم التأمّل على كثرة الحب، لا على كثرة التفكير»([18]).
وفي اليوغا التأمّل تحديداً هو تهدئة الفكر، بل وكبح العمليات الفكرية كما رأينا مع باتنجلي. فالاستغراق حال من الهدوء والسكون. ولكن كيف السيطرة على الفكر النطّاط والجَموح والذي لا يهدأ؟ «مع الحبّ يصير تذكّر الله طبيعياً»([19]) تقول البهاكتي يوغا. به يغدو الذكر أو ترداد اسم الله Japa أمراً طبيعياً لا يحتاج إلى مجهود. وفي ذلك تقول يوغا التقوى شارحة معلّلة: «كيف يستطيع المرءُ دون الحب تذكّر شخص آخر؟ تذكُر الله يعني اختبار الحب في القلب»([20]).
وتريزا تعلّم المبدأ عينه والآلية ذاتها لوقف هيجان الفكر تقول: «متى تحرّكت العاطفة واندفع الحوار الحبّي يتوقّف الجهد الفكريّ وسائر قوى النفس»([21]).
كثرة الحب تكبح جماح الأفكار والحبّ الإلهي متى استيقظ يحلّ برداً وسلاماً في الفكر والقلب. لذا فوصية مصلحة الكرمل إلى راهباتها: «لا تتخلّين عن شيء يوقظ الحب»([22]).
وتمضي علاقة الحب الإلهي للتتوطّد أكثر فأكثر بين تريزا وعريسها السماوي. وتأمّلها يغدو حواراً: تحدّثه ويجيبها. وعندما تصمت كلماتها يناديها الصوت الداخلي. لا بل عندما يسوء وضعها الصحّي وتحلّ بها الآلام فتعيا عن الكلام، يكون هو المبادر، تروي في تقرير 36/2: «كنت أعاني من آلام شديدة في الرأس، فأخالها تحول دون ممارستي إيّاه [التأمل]، فقال لي الربّ: بهذا سترين مكافأة الألم، فعندما لم تكُن صحّتك تساعدك للتحدّث إليّ، كنت أنا أحدّثك وأُنعمك»([23]).
ويأتي العريس السماوي ليعضدها ويقوّيها في ساعة الألم والشدّة. فهو يقول لها مرّة: «كلي يا ابنتي وتحمّلي ما استطعت التحمّل، يؤسفني أن تعاني ما تعانين، ولكن هذا يلائمك الآن»([24]).
وتستوقفنا كلمة يؤسفني، كما استوقفت تريزا، فتستطرد معلّقة: «إن قوله يؤسفني لفت انتباهي، لأنه في رأيي لا يستطيع بعد أن يأسف على شيء»([25]).
أيأسف هو كالعاجز عن فعل شيء، وهو الذي شفى المئات والألوف؟! ويأتي الجواب الحاسم في عبارته عينها: «هذا يلائمك الآن».
والعذاب كما الفرح، أداة لتذكّر الله ووعي حضوره الدائم.
فالمرء قلّما يذكر الأمور الحياديّة التي لا تفعل فيه: «توجعه أو تفرحه. تعلّم يوغا التقوى: لا يستطيع المرء تذكّر موضوع يجهله أو أمر حياديّ. يمكنه أن يتذكّر تلقائياً ما يجعله يتعذّب أو يفرح. وبرؤية الله في الأدوات المسبّبة للعذاب أو للفرح، يصير تذكّر الله أسهل. فيساهم العذاب في اكتساب التجرّد من العالم، ويساهم الفرح في نيل الإقرار بالجميل والحبّ لله مسبّبه»([26]).
وها نحن قد عرضنا دور الألم والعذاب في يوغا التقوى وعند تريزا، فأين الفرح وما موقعه عند كل منهما؟!
«»«»«»«»«»([27])
[1] – م. ن.
[2]– Chidananda, op. cit, p 75.
[3]– Ibid.
[4] – بدوي، عبدالرحمن، رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهي، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط2، 1962، ص 60.
[5] – ابن عربي، الشيخ الأكبر محيي الدين أبو عبدالله محمد بن علي (ت 638 ت)، ترجمان الأشواق، بيروت، دار صادر، ط1، 1961، ص 14.
[6] – كفوري، سرّ النجاح، م. س، ص 108.
[7] – م. ن.
[8] – Chaytanya (1486 – 1533) حكيم ومتصوّف هندي كتب بالسنسكريتية وبالبنغالية. كان مصلحاً دينياً ومن مؤسّسي تيار يوغا التقوى Bhakti والتعبّد لكريشنا. لا يزال الغموض يحيط بوفاته. ويرى فيه أتباعه تجسّداً لكريشنا.
[9]– Sailley, Robert, Chaitanya et la devotion à Krishna, Paris, Dervy livres, 1986, p 146.
[10]– Vivekananda, Yoga pratiques, op. cit, p 326.
[11]– Ibid.
[12]– Ibid.
[13] – تريزا، أ. ك، ط. ك، م. س، 26/3-4، ص 548.
[14] – م. ن.
[15] – م. ن، ط. ك، 2/7، ص 450.
[16] – تريزا، أ. ك، ك. س، 30/4.
[17] – م. ن.
[18] – تريزا، 4 منازل، م. س، 1/7، ص 123.
[19] – كفوري، سرّ النجاح، م. س، ص 110.
[20] – م. ن.
[21] – ريشا، م. س، ص 29.
[22]– Reault, op. cit, p 79.
[23] – تريزا، أ. ك، التقارير، م. س، 36/2، ص 1220.
[24] – تريزا، أ. ك، التقارير، م. س، 26/2، ص 1213.
[25] – م. ن.
[26] – كفوري، سرّ النجاح، م. س، ص 110.
[27] –