اللاعنف وتعاليم المهاتما غاندي وتأثيرها في لبنان والعالم العربي/ بقلم أ. د. لويس صليبا أستاذ زائر في جامعة أديان ومذاهب/قمّ-إيران

اللاعنف وتعاليم المهاتما غاندي وتأثيرها في لبنان والعالم العربي/

بقلم أ. د. لويس صليبا

أستاذ زائر في جامعة أديان ومذاهب/قمّ-إيران([1])

يطيب لي، ومن هذه البقعة من العالم([2]) التي لمّا تزل تتخبّط في دياجير العنف وعتماته، أن أحيّي المشاركين والمتأمّلين في هذه المناسبة السعيدة التي ترعى الجمعية العامّة للأمم المتّحدة الاحتفال بها، ألا وهي ذكرى مولد المهاتما غاندي وانبثاق فجر اللاعنف في العصر الحديث، يوم من السنة تحوّل عن حقّ وجدارة إلى اليوم الدولي للاعنف.

غاندي المحبّ للعرب وقضاياهم

منطقة تتخبّط في دياجير العنف قلت، بيد أنّه عساه يكون ادلهام الظلمات قبل انبثاق فجر الأنوار. والمؤشرات على بداية انبثاق هذا الفجر في عالمنا العربي الواسع الشاسع عديدة. ولا يتيح لي الوقت المحدّد والمحدود لهذه المداخلة أن ألمّ بها كلّها، لذا سأقصر عرضي على أبرزها، لا سيما في بلدانٍ عربية ثلاثة، وما يمكن أن يُستخلص منه من عِبرٍ ودلالات.

فكيف تفاعلت أقطار العالم العربي مع رسالة اللاعنف، وتعاليم المهاتما غاندي، ونموذج النضال السلمي الحيّ الذي جسّده، وأي تأثير كان له فيه؟ خصّ المهاتما العرب والعالم العربي مراراً بلفتة كريمة ومُحِبّة، وممّا صرّح به في هذا المجال: “إنّي أحبّ العرب وأحترمهم، وأنتظر منهم أعمالاً عظيمة لخير الشرق والإنسانية، وأرغب في عرض أفكاري عليهم”.([3])

وبادله العرب، ومذ اشتهر كفاحه اللاعنفي ضدّ المستعمر حبّاً بحبّ، وكان لدعوته أثرها العميق في عالمهم الذي كان يتطلّع بدوره إلى الخلاص من الاستعمار. وهذا ما سنعرض لأبرز معالمه في هذا البحث.

لبنان رائد نشر رسالة اللاعنف في العالم العربي

والبداية، كانت على الأرجح من لبنان، هذا البلد الصغير بمساحته، والذي غالباً ما يقاس بعمق تأثيره لا بصغر حجمه على الخارطة. ففي سنة 1927 أصدر الأديب اللبناني عمر فاخوري(1895-1946)([4]) ترجمته لسيرة المهاتما غاندي التي ألّفها الكاتب الفرنسي الحائز على جائزة نوبل رومان رولان والصادرة في باريس 1924. وكان هذا أوّل كتابٍ عربي يصدر عن غاندي، وقد قدّمته مجلّة الكشّاف البيروتية، وكان فاخوري من مؤسّسيها، هدية لقرّائها([5]). وكان عمر فاخوري معجباً بالحركة الوطنية التي عبّر عنها غاندي يومها، وكتب عدداً من المقالات في هذا الموضوع، وتوّج إعجابه واهتمامه هذا بترجمة هذا الكتاب، وتقديمه هديّة لقرّاء مجلّته([6]).

وهذا العمل الرائد الذي كان نتاج قلم مفكّر لبناني جهبذٍ([7])، بل باكورة الأعمال في المكتبة العربية التي تروي سيرة المهاتما وتعرض لفكره ومذهبه في اللاعنف، يستحقّ منّا وقفة تأمّلٍ وتحليل. كان الفاخوري عمر محبّاً للمهاتما معجباً به وبحركته كما نقلنا للتوّ عن كاتبة سيرته الأديبة اللبنانية وداد سكاكيني (1913-2001) ([8]). بل كان يعتبره مثالاً أعلى في الحياة، ويفتخر بالتشبّه به. تروي سكاكيني في كتابها عنه قصّة زيارةٍ قامت بها إلى منزل الفاخوري بصحبة زوجها الأديب زكي المحاسني، فتقول: “ولا أنسى جلسة لعمر فاخوري رأيته فيها مع قريني المحاسني قبل أن يعاوده المرض، كان متربّعاً كأنّه الكاتب المصري المنحوت من الحجر. وقد لاح عمر في طلعة هزيلة يرتسم على ملامحها المتغضّنة وجه غاندي، وكنّا نتمثّل زعيم الهند في أشباهه من العرب. وكان عمر يحبّه ويرضيه أن يشبَّه بهذا الزعيم” (سكاكيني، م. س، ص14).

يتّضح من رواية سكاكيني مدى احترام الفاخوري للمهاتما وحبّه له، ولكن ليس هذا وحسب بل هو حبّ وإعجاب كان يتشارك فيه يومها كلّ المفكّرين العرب، والشعوب العربية عموماً كما تؤكّد كاتبة سيرة الأديب البيروتي. ونتابع مع وداد سكاكيني روايتها لزيارة من تترجم له وتدرس أدبه: “ولولا شَعره الشائب النابت على رأسه كأعواد السنابل وما ضاق على صدره وانعقد في نطاقه من مخطّط الثياب، لزعمتُ فيه تناسخ الروح الكبرى في المهاتما الذي كتب عنه عمر فاخوري مقالات، ونقل إلى العربية من سيرته كتاباً. وكأنّما أحسّ في نفسه مسرى التناظر، ووجد في طبعه النسخة الثانية من طبعة الخالق” (سكاكيني، م. س، ص14).

فهذه المحاكاة العُمَرية المقصودة للمهاتما والتي تُظهر ولعاً واضحاً بشخصيّته وفكره وتعليمه جعلت سكاكيني تتحدّث عن تناظر بين الزعيم الهندي والأديب اللبناني، بل وعن تناسخ لروح الأوّل في الثاني. ومن الواضحٌ أن الفاخوري كان “مطبوعاً” بشخصيّة غاندي وفكره.

وتوقّف معظم دارسي الفاخوري عند الشبه الواضح في المظهر وفي الفكر بينه وبين المهاتما. روى رياض حنين عن الفاخوري موظّف الدوائر العقارية ما يلي: “كان عمر بسيط المظهر، متواضعاً وقوراً. دخل عليه يوماً أحد الموظّفين وسأله: أتعرف من تشبه يا أستاذ؟ فأجاب عمر: كلّا. ومن هو هذا السعيد الذكر الذي أشبهه؟! وبعد أن أطرق هنيهة، عاد ونظر إلى الموظّف قائلاً: غاندي. فقال الموظّف: تماماً، ولكن من أخبرك ذلك؟ فضحك عمر مجيباً: أكثر من صديق”([9])

والأرجح أن أديبنا البيروتي لم يكن يشبه غاندي وحسب، بل كان يتشبّه به، ولا سيما في استخدام نظّارات مماثلة لنظّارات المهاتما، وغير ذلك من المظاهر، وذلك تحبّباً وإعجاباً ومحاكاة في الشكل وفي المضمون كذلك!

ولا بدّ من كلمة موجزة عن ميّزات ترجمة الفاخوري لسيرة المهاتما. وقد نوّه بمزايا هذه الترجمة عددٌ من النقّاد والباحثين. فكتب إليه العلّامة اللغوي والأديب جبر ضوميط (1859-1930) رسالةً نشرتها مجلّة الكشّاف في عدد 4 أيار 1928 وجاء فيها: “أهنّئك أيها السيّد أولاً لأنّك اخترتَ كتاباً من مؤلّفات رومان رولان، ثانياً لأنّك اخترتَ منها المهاتما غاندي، ثالثاً لأنّ ترجمتك، على ما أعتقد من أنفس الترجمات التي وقفتُ عليها مؤخّراً لخيرةٍ من كتّاب مصر”([10])

وجبر ضومط من كبار علماء اللغة العربية في العصر الحديث([11]) ومن هنا فشهادته في ترجمة الفاخوري تكتسي أهمّية خاصّة ومصداقيّة واضحة.

ويحلّل الأديب والناقد والمترجم أنطون غطّاس كرم (1919-1979) منهجيّة الفاخوري في الترجمة وخصائصها، فيؤكّد أن نصّ عمر المنقول يغدو في صيغته العربية أدباً أصيلاً يصعب أن تستبين فيه آثار الترجمة، وهذا من أبرز شروط التعريب والنقل الناجح من لغةٍ إلى أخرى، يقول: “ينجلي في كتبه [عمر فاخوري] المترجمة الثلاثة أنّك أمام أدب إبداعي لا أدب منقول، وأن رواسب الصيَغ الفرنسية قد تحوّلت على مرقمه إلى تمام معادلاتها الحميمة في عبقريّة اللغة العربية”([12])

ويدرس أمين ألبرت الريحاني في أطروحته عن الفاخوري نماذج من ترجماته ليخلص إلى منهجيّته الرصينة والمبدعة في آن في هذا المجال. ويضرب على ذلك أمثلة عمليّة واضحة فمن ترجمته لسيرة المهاتما يورد النصّ التالي في أصله الفرنسي لرومان رولان وفي تعريب الفاخوري له:

Il est difficile à tout moment (particulièrement à un homme d’une civilisation différente) de pénétrer une conscience, surtout quand elle est aussi profonde, et délicate que celle d’un Ghandi. Il est difficile d’apprécier, dans le tourbillon des faits qui en cette année tumultueuse, remuèrent l’Inde en tous sens, si la main du pilote a toujours été sûre et gouverna le colossal navire, sans dévier ni trembler”

أمّا تعريب عمر الفاخوري لهذا النصّ فهو التالي:

“من الصعب على المرء (سيما إذا كان ابن مدنية غريبة) أن ينفذ إلى ضميرٍ عميق دقيقٍ بهذا المقدار، كضمير غاندي. ومن الصعب أن نحكم حكماً صحيحاً هل كانت يد النوتيّ، في خضمّ الحوادث التي تدافعت الهند في تلك السنة المائجة، أبداً ثابتة، فقادت السفينة العظيمة، دون أن تحيد أو تضطرب” ([13])

وإثر المقارنة بين النصّين: الفرنسي الأصلي، وتعريب الفاخوري له، يمكن أن نلحظَ ما يلي:

1-حرفية الترجمة دون إسقاط لفظةٍ منها، ودون تحويرٍ لعبارة.

2-الاعتماد على مصطلحات عربية تعادل المعنى المقصود بدقّة أصله الفرنسي. وإجراء بعض التغيير في ترتيب العبارات في الجملة الواحدة ليستقيم البناء اللغوي، كما يتبيّن في الجملة الأخيرة من النصّ المعرّب.

3-تمكّن الفاخوري من المحافظة على دقّة النصّ المترجم في جميع ظلاله وكامل مضمونه، وتمّ له شرط الأمانة العلمية” (الريحاني، م. س، ص124).

أما أمين ألبرت الريحاني، فيخلص بشأن ميّزات ترجمة الفاخوري إلى: “إنّه إذ عرّب أعاد خلق النصّ العربي، حتى يزول أثر الارتباك والافتعال، فتنسى أن ما تقرأه مترجم. وهذا ما جعل الترجمة في رأيه، سبيلاً إلى إحياء موات اللغة، وتفجير طاقات جديدة في المفردات والتعابير” (م. ن)

وما نخال أن أمين ألبرت الريحاني قد جافى الصواب وواقع الأمر في ميّزات تعريب الفاخوري لكتاب رومان رولان في ما حلّل وقارن واستخلص.

مصر والهند جمعتهما مصيبة الاستعمار البريطاني

وكان لمصر، وهي الدولة العربية الكبرى، وقد ألفت تزعّم العالم العربي في نضاله ضد الاستعمار وفي انبعاث نهضته، النصيبُ الأبرز في رصد حركة المهاتما وتتبّع خطواته لا سيما وأن البلدين: الهند ومصر جمعتهما مصيبة واحدة: الاستعمار البريطاني.

في آب 1931 كان غاندي في طريقه إلى بريطانيا ممثّلاً حزب المؤتمر، للمشاركة في الدورة الثانية من مؤتمر المائدة المستديرة الذي سيناقش حلّاً للموقف في الهند. ووصلت سفينته من المحيط الهندي، وعبرت قناة السويس وتوقّفت في بور سعيد. فأراد المهاتما أن ينزل من السفينة للقاء الزعماء المصريين، لكن الإنكليز لم يسمحوا له، خوفاً من تأثير هذا اللقاء على الوضع في مصر. فقام عدد من زعماء حزب الوفد المصري وعلى رأسهم رئيس الحزب مصطفى النحّاس، ومعهم مجموعة من المفكّرين والأدباء بلقاء غاندي على ظهر سفينته المتوقّفة في بور سعيد. وكانت السيدة صفيّة أرملة الزعيم الوطني سعد زغلول من بين المرحّبين نظراً للصداقة التي ربطت بين زوجها الراحل وغاندي.

وألقى مصطفى النحّاس خطاباً ترحيبيّاً أكّد فيه أن المعاناة واحدة بين الشعبَين المصري والهندي، والهدف واحد: التحرّر من المستعمر الواحد أي بريطانيا. وممّا قاله: “باسم مصر التي تجاهد من أجل حرّيتها واستقلالها، أرحّب بشخصكم العظيم، وبزعيم الهند العظيم، الهند التي تحارب هي الأخرى لتحقّق نفس الهدف”([14])

وأعربت السيدة صفيّة زغلول، قائدة أوّل مظاهرة للنساء في الوطن العربي إبّان ثورة 1919 المصرية، عن شعورٍ مفعمٍ بالإجلال تجاه الزعيم الشرقي الكبير. (الدقاق، م. س، ص18).

وكان من أعضاء هذا الوفد المصري الرفيع أمير الشعراء العرب يومها أحمد شوقي (16/10/1868-14/10/1932)، فأنشد ترحيباً بالمهاتما قصيدة عصماء لا يزال المصريّون يردّدونها حتى يومنا هذا، ونظراً لأهمّية هذه الدرّة الشعرية من الناحيَتَين التاريخيّة والأدبية، فسنورد في ما يلي أبرز ما جاء فيها، ونتبعه بشرحٍ وتحليلٍ موجزَين:

بني مصر، ارفعوا الغارَ       وحيّوا بطلَ الهندِ

وأدّوا واجباً، واقضوا          حقوقَ العَلَمِ الفردِ

أخوكُم في المقاساةِ          وعَرْكِ الموقِفِ النَكْدِ

وفي التضحيةِ الكبرى      وفي المَطْلبِ، والجَهْدِ

وفي الجُرحِ، وفي الدَمْعِ    وفي النفي من المَهْدِ

وفي الرِحلةِ للحقِّ            وفي مَرحَلةِ الوَفدِ

قفوا حيُّوهُ من قُرْبٍ    على الفُلك، ومن بُعْدِ

وغطّوا البرَّ بالآسِ        وغطّوا البحرَ بالوردِ

***

على إفريزِ (راجبوتا        نَ) تمثالٌ من المجدِ

نبيٌّ مثل (كونفشيو    س)، أو من ذلك العهدِ

قريبُ القولِ والفعلِ       منَ المنتظَرِ المهدي

شبيهُ الرسلِ في الذودِ     عن الحقِّ، وفي الزُهدِ

لقد علّمَ بالحقِّ              وبالصبرِ، وبالقصدِ

ونادى المشرقَ الأقصى       فلـبّاهُ من الـلحدِ

وجاءَ الأنفسَ المرضى     فداواها من الحِقْدِ

دعا الهَندوسَ والإسلا       مَ للأُلفـةِ والـوِدِّ

بسحرٍ من قوى الروحِ       حوى السيفَين في غِمْدِ

وسلطانٍ من النفسِ         يقوّي رائضَ الأُسْدِ

وتوفيقٍ من اللهِ             وتيسيرٍ من السَعْدِ

وحظٍّ ليس يُعطاه      سوى المخلوقِ للخُلْدِ

ولا يؤخذُ بالحولِ        ولا الصَولِ، ولا الجُندِ

ولا بالنسلِ والمالِ         ولا بالكدحِ والكدِّ

ولكن هِبةُ المولى              -تعالى اللهُ للعبدِ

***

سلامُ النيلِ يا غاندي      وهذا الزهرُ من عِندي

وإجلالٌ من الأهرا           مِ، والكَرْنَك، والبَردي

ومن مشيخةِ الوادي            ومن أشباله المُرد

سلامٌ حالِبَ الشاةِ          سلامٌ غازلَ البُردِ

ومن صدَّ عن الملحِ    ولم يُقبِل على الشَهدِ

ومن يركبُ ساقَيه     من الهندِ إلى السِندِ

سلامٌ كـلّما صلّـي           تَ عُرياناً، وفي اللِبدِ

وفي زاويةِ السجنِ               وفي سلسلةِ القيدِ

****

من المائدةِ الخضرا          ءِ خذ حِذْرَك يا غندي

ولاحظ ورَقَ السيرِ         وما في ورقِ اللوردِ

وكنْ أبرعَ من يلع           بُ بالشَطَرَنجِ والنَرد

ولاقي العبقريين                 لقاء الندِّ للندِّ

وقُلْ: هاتوا أفاعيكم    أتى الحاوي من الهندِ

وعُدْ لم تحفلِ الذامَّ        ولم تغترَّ بالحَمدِ

فهذا النجمُ لا ترقى      إليه هِمّةُ النقدِ

وردَّ الهندَ للأمّ          ـةِ من حدٍّ إلى حدِّ([15])

يركّز شوقي في مطلع قصيدته على أن المصيبة الاستعمارية جمعت بين غاندي ومصر: أخوكم في المقاساة (…) وفي الجُرحِ وفي النفي… وفي مرحلةِ الوفدِ، فممارسات الإنكليز وقمعهم ونفيُهم هو هو إيّاه في الهند ومصر.

بيد أن كبرى الدول يومها حارت كيف تواجهُ زعيماً هو أقرب إلى الوليّ والقدّيس منه إلى سياسيّ: رسالته وقداسة سيرته جعلت منه شبيهاً بالأنبياء والرسل: نبيّ مثل كونفوشيوس… شبيه الرسل، حتى بات مخلِّصاً منتظراً كالإمام المهدي. ويتوقّف أمير الشعراء عند ما يثير خصوصاً الحساسية المصرية: دعوته للإلفة بين المسلمين والهندوس، إلفةٌ يشاؤها بين المسلمين والأقباط في مصر، ويدرك الشاعر تماماً كم يحاول المستعمِر أن يلعب على هذه التناقضات داخل الشعب الواحد مطبّقاً قاعدة: “فرّق تسُد”.

وينوّه شوقي بحماسٍ وإعجاب بأساليب المهاتما البسيطة والمميّزة في مواجهة الاستعمار: تحضير وإعداد طعامه بنفسه وبالتالي مقاطعة الأطعمة المصنّعة في بريطانيا (حلب الشاة)، وغزل ثيابه بنفسه وبالتالي مقاطعة الألبسة والأنسجة التي تنتجها مصانع الإنكليز. ومسيرة الملح التي قادها منذ زمنٍ يسير، وكان من شأنها أن تقضي على احتكار المستعمر البريطاني لهذه المادّة الغذائية الحيويّة وتصنيعها. ويشير إلى رحلات غاندي سيراً على الأقدام (ومن يركب ساقَيه) في طول الهند وعرضها لتوحيد الأمّة وكلمتها وتفعيل حركة مواجهة المستعمِر وتنشيطها.

وهو يجعل من تجرّد غاندي وعريه الذي يسخر منه البريطانيّون مفخرة له وللهند. ويحذّره من مكرهم، وما خطّطوه لإفشال المؤتمر الذي يذهب للمشاركة فيه. وكان غاندي لا يعوّل كثيراً على هذا المؤتمر فصرّح قبل أن يستقلّ باخرته في مرفأ بومباي في 29/8/1931: “كلّ الظروف مهيّأة كي أعود خالي الوفاض”([16])

ولعلّ بيت القصيد وأحلى ما جاء في قصيدة شوقي هذه اللوحة التي يرسُمها للمؤتمر الآتي ولدور غاندي فيه. فهو يشبّه أفكار المستعمرين البريطانيين وطروحاتهم ومناوراتهم بالأفاعي التي تجهد كي تلسع المشاركين فيه وتسمّم أفكارهم وتبلبلهم، في حين أن المهاتما هو الحاوي الهندي، والهند مشهورة بحواتها، حاوٍ يحسن تدجين الأفاعي وترويضها وجعلها تخضع له.

تأمل: وكثيراً ما يمنحنا الشعر صوراً ومشاهد تصلح دعامة وسنداً Support للتأمّل. أفكارنا وانفعالاتنا وأفكار الغير ومناوراته غالباً ما تكون أفاعيَ مخبوءةً بسلال ورد. ولن نستطيع أن نقضي على كلّ هذه الأفاعي، والحكمة تقضي أن نُحسن التعامل معها، فنكونَ بحذِق الحاوي، فنطوّع هذه الأفكار/الأفاعي، ونجعلها تنتظم في خدمتنا عوضاً أن تلسعنا وتسمّم فكرنا وأذهاننا. وكما يجعل الحاوي الحيّة تنتصب عوض أن تزحف، نستطيعُ أن نجعل أفاعي الأفكار كأفعى الكونداليني Kundalini تتحوّل طاقاتها من أسفل إلى أعلى فتكون دعامة لتطوّرنا، عوض أن تبقى عائقاً يحول دون ذلك.

وفي الخلاصة فهي قصيدة عصماء ومن عيون الشعر، صادقة العاطفة، تعبّر عن معاناة حقيقية ولوعة عميقة من مستعمر واحد وحّدت بين الهند ومصر. ويقول المفكّر اللبناني شارل مالك الذي كان يومها في مصر وتابع هذا الحدث عن قرب: “أثّرت فيّ قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي أعمق التأثير، وحفظتها غيباً. ولم أتمالك مرّة، ولا أستطيع أن أتمالك الآن، عن ذرف الدموع إذ أردّد أبياتها” (مالك، م. س، ص184).

ثلاثة كتب عن غاندي تصدر 1934

ومحطّة ثانية في مصر سنة 1934 ففي ذلك العام صدر في القاهرة ثلاثة كتبٍ عن غاندي. الأوّل مهاتما غاندي سيرته كما كتبها بقلمه([17])، عرّبه أديب مصري تقدّمي هو إسماعيل مظهر (1891-1962). وكان المترجم قد نشر خمسة فصول من هذا الكتاب في مجلّة المقتطف.

والكتاب الثاني غاندي والحركة الهندية([18])، لعلّه أوّل مصنّف عن غاندي بالعربية، والمؤلّف هو المفكّر المصري النهضوي سلامة موسى (1887-1958).

والكتاب الثالث وضعه شابّ سيصير وزير الثقافة بعد الثورة وفي عهد عبدالناصر إنّه الكاتب فتحي رضوان (1911-1988)، وعنوان مصنّفه: “المهاتما غاندي حياته وجهاده”

يبدي إسماعيل مظهر إعجابه الكامل بطريقة غاندي السلمية في الكفاح ضدّ الاستعمار البريطاني، وبما حقّقه هذا الرجل الأعزل من نتائج في وقفته بوجه أقوى قوّة عسكرية واستعمارية يومذاك، يقول في المقدّمة: “أمبراطورية لا تغيب الشمس عن أملاكها (…) يقيمها ويقعدها هيكلٌ بشري من الدم واللحم لا يزيد وزنه عن كرة مدفع من أصغر مدافع بريطانيا العظمى. أما هذا الهيكل البشري الضئيل فغاندي العظيم”. (غاندي، سيرته، م. س، ص7).

ويضيف مظهر متحدّثاً عن ظاهرة غاندي التي جاوز تأثيرها الهند، ليصل إلى كلّ بقاعِ الأرض: “فإنّ جسم غاندي الضئيل ليس بشيء إذا هو حُبس بين أربعة جدران من الحجارة أو الفولاذ، ما دامت روحه محلّقة في سماء الحرّية الفسيحة، فتكهرب جوّ الشرق، بل جوّ الكرة الأرضيّة، لا جوّ الهند وحدها”. (غاندي، سيرته، م. س، ص8).

أما سلامة موسى فيشدّد في مقدّمة كتابه على وجوب التفاعل بين الحركتَين الهندية والمصريّة، وأن تستلهم كلّ واحدةٍ الأخرى، نظراً لتشابه الظروف، ولأن المستعمِر واحد، يقول: “ونحن في جهادنا ضدّ المبادئ الأمبراطورية البريطانية نشبه الهنود، وإن كانت أقدام الإنكليز في الهند أرسخ، وتاريخُهم أطول. ولهذا السبب نفسه يجب أن نستنير بحركتهم كما استناروا هم بحركتنا. فإن زعماءهم كثيراً ما ذكروا الاتّحاد بين المسلمين والأقباط في مصر، ودعوا أبناء أمّتهم المسلمين والهندوكيين إلى مثله في الهند”. (موسى، غاندي والحركة، م. س، ص7).

ويركّز سلامة موسى على وجوب الاستلهام من الجوانب الاجتماعية من حركة غاندي، فهذا ما على النهضة المصرية تحديداً أن تطوّره، فلا تقصر كفاحها على الجانب السياسي وحسب، يقول: “وقد ألتفت إلى النواحي الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية خاصّة في حركة غاندي، وهي نواحٍ لا نرى لها للأسف غير الأثر الضعيف في نهضتنا المصريّة السياسية. وما زلتُ أرى أن كفاحنا للإنكليز يجب ألا يقتصر على السياسة. وأن النهضة السياسية يجب أن تغذّيها نهضات اجتماعية واقتصادية لكي نصل منها إلى التنبيه العامّ للأمّة” (موسى، غاندي والحركة، م. س، ص8).

وممّا يشير إليه موسى ويدعو المصريين إلى التمثّل به، ما فعله غاندي في سبيل تحرّر المرأة الهندية ومساواتها بالرجل، وكذلك المساواة بين المنبوذين وسائر الهنود: “لقد أحدث غاندي نهضة بين نساء الهند اللاتي دعاهن إلى السفور والمغزل، كما أنّه كافح تقاليد بلاده التي تهين خمسين مليوناً من الهنود وتعدّهم منبوذين، ولم يبالِ أحياناً ترك الميدان السياسي لكي يكافح في الميدان الاجتماعي والاقتصادي” (م. ن).

وممّا استخلصه موسى من تجربة المهاتما ودعا إلى حفظه عنه والعمل به ما اختصره في الصيغة التالية: “علّمنا غاندي أن حكمة الحكيم ليست بالاقتناء، وإنّما هي بالاستغناء”([19])

إنّه درسٌ روحي بالتجرّد والإقلاع عن الطمع والجشع مسبّب الكثير الصراعات والمشاكل، يُستوحى من هذا الزعيم “النصف عارٍ”.

وفتحي رضوان الكاتب ووزير الثقافة في عهد عبدالناصر (1952-1958) مفكّر وزعيم وسياسي مصري بارز طبَعه غاندي بِسِمة اللاعنف. يقول ابنه عصام رضوان أن والده ربّاه على ذكر شخصيّاتٍ أربعة وتعاليمها، وهي: النبي محمّد، والمهاتما غاندي، ومصطفى كامل، وتولستوي. ويوم سجن لأسبابٍ سياسية حمل فتحي رضوان معه إلى السجن كتاباً واحداً هو سيرة المهاتما([20]). وهكذا يأتي ترتيب غاندي في وجدان المفكّر والزعيم والوزير فتحي رضوان الأوّل بعد نبي الإسلام.

ونكتفي بهذه الإشارات المعبّرة دلالة على عمق الأثر الذي أحدثه المهاتما غاندي في مصر ومفكّريها وزعمائها.

ويبقى سؤالٌ مركزي يطرح نفسه عندما نستعرض هذا الأثر العميق للمهاتما في الفكر المصري والعربي عموماً ولا سيما في النصف الأوّل من القرن العشرين. فما الذي أضفى على شخصيّة غاندي وتعليمه في اللاعنف كل هذه الجاذبية في مصر العالم العربي عموماً؟!

غاندي والقضية الفلسطينية

الأسباب عديدة بالطبع. ولا يتّسع المجال لاستعراضها كلّها وتحليلها بالتالي. لذا نقتصر على اثنين منها كان لهما الأثر الحاسم.

والأوّل موقف غاندي من قضيّة فلسطين التي كانت ولمّا تزل قضيّة العرب الأولى. ففي خضمّ الصراع، بل في ذروة احتدامه، وقبل أن يُعلَن عن ولادة دولة إسرائيل الغاصبة للأرض وللحقّ (14 أيار 1948)، كان للمهاتما داعية اللاعنف موقفٌ جريء ومميّز. إذ أعلن بصراحة ووضوح عام 1939: “بالرغم من عدم الدفاع عن تجاوزات العرب خلال الثورة العربية للفترة 1936-1939 في فلسطين، وبالرغم من التمنّي أن يكونوا اختاروا طريق اللاعنف لمقاومة ما كانوا يعتبرونه محقّين اعتداءً لا مبرّر له على بلدهم، أعتبر أنّه، ووفقاً لقوانين الحقّ والباطل المقبولة، لا يمكن قول أيّ شيء ضدّ المقاومة العربية في مواجهة الأوضاع القاهرة”([21])

وإضافة إلى ذلك رفض غاندي بصراحةٍ وجرأة العقائد الأيديولوجية التي يقوم عليها الاستعمار الصهيوني لفلسطين، كما رفض المقولة الصهيونية التقليدية التي تؤكّد أن لليهود حقّاً توراتيّاً بيبليّاً في فلسطين. ونصحهم عوضاً عن ذلك بالحصول على حقوقهم في البلدان التي يقيمون فيها. وأضاف في هذا الصدد أنّه إذا قرّر اليهود الذهاب إلى فلسطين، فينبغي أن يكون ذلك بموافقة السكّان الأصليين، وإلا فإنّهم يتقاسمون مع البريطانيين مسؤولية نهب شعبٍ لم يسئ إليهم في شيء”([22])

واستنكر غاندي في أواخر حياته ما أسماه: “سعي اليهود إلى فرض أنفسهم على فلسطين بمساعدة أميركا وبريطانيا، والآن بمساعدة الإرهاب العاري” (فينكلستاين، م. س، ص64، نقلاً عن المؤلّفات الكاملة لغاندي: CW, Vol 84, pp440-441)

كما وبّخ المهاتما يهود ألمانيا بشأن زعمهم وادّعائهم اللاعنف، والسعي مع ذلك إلى الانتقام من النازيين، وقال عنهم: “ليس هناك لاعنف في قلوبهم، فلاعنفهم إذا جازت تسميته بذلك، هو لاعنف الضعيف العديم الحيلة” (فينكلستاين، م. س، ص54، نقلاً عن المؤلّفات الكاملة لغاندي CW, Vol 68, p191, & CW, Vol 69, pp291-292)

وذلك رغم أن المهاتما استنكر مراراً وبحماسٍ منقطع النظير الاعتداء النازي المجرم على اليهود. وأعلن أن الاضطهاد الألماني لليهود يبدو بدون مثيل له في التاريخ. فطغاة العهود القديمة لم يصلوا أبداً إلى مدى الجنون الذي يبدو أن هتلر وصل إليه” (فينكلستاين، م. س، ص111، نقلاً عن المؤلّفات الكاملة لغاندي: CW, Vol 68, p138).

فهذه المواقف والتصاريح الغانديّة العلنية والناقضة للسياسة البريطانية في فلسطين والمسفّهة للمطامع اليهودية والصهيونية في هذه الأخيرة جعلت من المهاتما موضع تطلّع وإكبار المفكّرين والأحرار العرب في مصر وغيرها من الدول العربية، وزادت من إعجاب هؤلاء وتعلّقهم به.

وهذا ما جعل كذلك العديد من الشعراء والأدباء العرب والفلسطينيين يحيّون المهاتما في نضاله وفي صيامه وجرأته ولاعنفه، ومنهم الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (1905-1941) الذي أنشد داعياً زعماء فلسطين إلى التشبّه بغاندي في صيامه:

حبَّذا لو يصومُ منّا زعيمٌ             مثلُ غَنْدي عسى يُفيدُ صيامُهْ

لا يَصُمْ عن طعامه في فلسطي       نَ يموت الزعيمُ لولا طعامُهْ

لِيَصُمْ عنْ مبيعِه الأرضَ يحفظْ       بقعةً تستريحُ فيها عظامُهْ

باركَ الله في حريصٍ على الأر      ضِ غيورٍ ينْهى إليها اهتمامُهْ

هم حُماةُ البلادِ مِن كلَّ سوءٍ      وهُمُ معْقِلُ الحمى ودِعامُهْ

نهجوا منهجَ القويَّ وصفُّوا              لجهادٍ منصورةٌ أعلاُمهْ

إنما عُدَّةُ الضعيفِ احتجاجٌ      لمُ يُجاوِزْ حدَّ السطورِ احتدامُهْ

كلَّ يومٍ حزبٌ وحُلْمٌ فحدِّث       عنْ ضعيفٍ سلاُحهُ أحلاُمهْ

مغرمٌ بالبلادِ صَبٌّ ولكنْ       بسوى القول لا يَفيضُ غرامُهْ

بَطلٌ إن علا المنابرَ كرّارٌ        سريعٌ عند الفِعالِ انهزامُهْ

آزروا القائمينَ بالعمل الصا         لح إنَّ الأبيّ هذا مقامُهْ

آزِروهم بالمال فالأرضُ صن         دوقٌ لمالِكم بل قِوامُهْ

اشتروا الأرض تشتريكم من الضي     مِ وآتٍ مسودَّةٌ أيامُهْ

دفاع غاندي عن مسلمي الهند

أمّا السبب الثاني الذي جعل من غاندي شخصيّة ساحرة ومحطّ إعجاب المفكّرين والأحرار المصريين والعرب فهو موقفه الحازم في الدفاع عن مسلمي الهند ورفض تهجيرهم ممّا سبقت الإشارة إليه. وقد أصرّ غاندي في أيّامه الأخيرة، ووسط الاقتتال الطائفي، على افتتاح صلواته في المعابد الهندوسية بآية من القرآن لكريم. فأغاظ ذلك المتعصّبين الهندوس لدرجة أن واحداً منهم قتله في نهاية المطاف” (فينكلستاين، م. س، ص115).

السادات مستشهداً بغاندي

ونختم بوقفة “غانديّة” لزعيمٍ ورئيس مصري من المعجبين بغاندي والناهجين على منواله. إنه الرئيس أنور السادات في مبادرته السلمية. وقد أدهشت العالم وشدّت أنظاره نحو تل أبيب التي استقبلت عدوّها اللدود في زيارة تاريخيّة في 19/11/1977. وفي اليوم التالي خَطَبَ الرئيس المصري في الكنيست بحضور كل الزعماء الذين طالما ناصبهم العداء وحاربهم. وقال في مستهلّ خطابه: “السلام لنا جميعاً على الأرض العربية وفي إسرائيل، وفي كلّ مكانٍ من هذا العالم الكبير المعقّد بصراعاته الدامية، المضطرب بتناقضاته الحادّة المهدّد بين الحين والحين بالحروب المدمّرة، تلك التي يصنعها الإنسان ليقضي بها على أخيه الإنسان. وفي النهاية، وبين أنقاض ما بنى الإنسان فلا غالب ولا مغلوب، بل المغلوب الحقيقي هو الإنسان أرقى ما خلقه الله. الإنسان الذي خلقه الله كما يقول غاندي قدّيس السلام لكي يسعى على قدمَيه يبني الحياة ويعبد الله”([23])

ثمّ عقّب الرئيس المصري على قول المهاتما غاندي: “وقد جئتُ إليكم اليوم على قدمَين ثابتتين لكي نبني حياة جديدة، لكي نقيم السلام” (م. ن).

الملاحظ في خطاب الرئيس السادات التاريخي أنّه افتتحه بذكر المهاتما غاندي والاستشهاد به، وهو لم يأتِ في خطابه الطويل هذا على ذكر أي شخصية فكرية أو سياسية أخرى، ولم يستشهد بأيّ كاتبٍ أو كتاب آخر ما خلا الكتب المقدّسة: البيبليا والقرآن.

وإنّه لأمرٌ ذو دلالاتٍ بعيدة: ففي موقفٍ دقيقٍ وحرج كهذا، لا يأتي الرئيس المصري على ذكر أيّ كان ما خلا غاندي، وهو المعروف بإعجابه بالمهاتما. ما يشير إلى أنّه استوحى مبادرته السلمية الاستثنائية هذه، أو بعضاً منها، من سيرة رسول اللاعنف وتعاليمه التي يعرفها جيّداً، والتي كانت راسخة كما رأينا في الوجدان المصري منذ الثلاثينات.

وأيّاً يكن موقف المرء، والإنسان العربي خصوصاً من مبادرة الرئيس السادات هذه، والتي كانت منعطفاً بارزاً في التاريخ العربي المعاصر، فما يهمّنا في هذه الدراسة التي لا تتّخذ منها موقفاً إيجابيّاً، أنّها كانت صدمة قويّة للفكر الغربي، وللذهنية الإسرائيلية العدائية التي لم تستطع أن تتصوّر مشهداً فحواه أنك تزور ألدّ إعدائك في عقر دارهم وتحادثهم وتواجههم بمحبّتك لا بالبغض!! والمشهد هذا لم يكن، على الأرجح، ليتحقّق ويتمّ على ما أدهش العالم يومها لولا عمق الأثر الغانديّ في الفكر المصري في تلك الحقبة!

البوذيّة والثورة البوعزيزية في تونس

ونصل إلى تونس الخضراء، تونس ثورة الياسمين التي أدخلت العالم العربي في ما عُرف بالربيع العربي. وبديهيّ أن نذكر هنا ونتذكّر محمد البوعزيزي (29/3/1984-4/1/2011) هذا التونسي الفقير وبائع الخضار الذي أحرق نفسه في 17/12/2010 احتجاجاً على مصادرة العربة التي كان يبيع عليها الخضار ومنها يرتزق!

البوعزيزي أحرق نفسه، وأشعل شرارة الربيع العربي الذي لا نزال منذ 2011 نعيش تداعياته! ولكن البوعزيزي ليس هو من ابتكر هذه الطريقة في الاحتجاج، والتي لا يصحّ بتاتاً أن تسمّى مجرّد انتحار! فهي طريقة بوذيّة بامتياز، وعريقة في القدم. ويومها كتبتُ مقالة عنوانها “البوذيّة والثورة البوعزيزيّة”، وكنتُ الأوّل الذي قال إن الربيع العربي انطلق بشرارة بوذيّة أصيلة! فالرهبان البوذيّون في التيبت وغيرها كانت هذه وسيلتهم للاحتجاج على استعمار بلادهم. وبلغت حركتهم هذه أوجها في 2009-2010، إذ وصل عدد الذين أحرقوا أنفسهم في التيبت احتجاجاً على احتلال الصين وطنهم، وعلى القمع الصيني والتدمير المبرمج والمتواصل للتراث التيبتي، نحو الأربعين بين راهب وامرأة، وبديهيّ أن يكون البوعزيزي قد سمع بهذه الحركة التي كثر الحديث عنها يومها، وأخذ الفكرة منها! ([24])

الشرطية فادية حمدي صادرت عربته وصفعته في السوق أمام الناس، وصرخت بوجهه Dégage أي ارحل. وكما ينقلب السحر على الساحر صارت هذه الكلمة شعار ثورة الياسمين في تونس، وشعار الثورات اللاحقة في العالم العربي. ردّدها الملايين من التونسيين بوجه الرئيس الطاغية الذي انتهى به الأمر إلى أن ينصاع لطلب الجماهير ويرحل هارباً في 14/1/2011 أي بعد أقلّ من شهر من حادثة البوعزيزي. وفي البوعزيزي يقول الكاتب الجزائري المعروف طاهر بن جلّون في كتابه بالنار Par le feu: “رجلٌ عاديّ مثله الملايين، والذي بسبب سحقه وإذلاله ونفيه في حياته انتهى بأن يصبح الشرارة التي أشعلت فتيل العالم”([25]).

وفي 19/4/2011، سحبت والدة البوعزيزي شكواها ضدّ الشرطية فادية حمدي التي صفعته لتجنّب الكراهية، وللمساعدة في مصالحة سكّان بلدته سيدي بو زيد. وصار البوعزيزي مثالاً ونموذجاً للاحتجاج السلمي، فحتى 14/12/2011 أقدم نحو خمسين مواطناً عربيّاً، ومن دول مختلفة، على حرق أنفسهم احتجاجاً على أوضاعٍ اجتماعية واقتصادية يعانون منها!

وهكذا وطبقاً لتعبير الباحث والمناضل الغربي نورمان فينكلستاين فإن صدى أعمال المقاومة اللاعنفية في جمهور واسع جعلت من الأحداث الملحميّة للعام 2011 تبدو روحاً وشكلاً وكأنّها صفحة من حياة غاندي” (فينكلستاين، م. س، ص114). ومهما كان ثمن المقاومة اللاعنفية غالياً في الأرواح، فإنّه ربّما كان مع ذلك أقلّ من ثمن التمرّد العنيف، وفي الوقت عينه يبشّر النضال السلمي بمستقبل أفضل من الكفاح المسلّح. (م. ن، ص114).

تأمّل: كلمة واحدة، مانترا :Mantra ارحل Dégage أشعلت عالماً بأسره، وأسقطت طغاة عدّة عن عروشهم، وطردت دكتاتوراً متجذّراً في السلطة. وهل نحتاج إلى دليل آخر على قدرة المانترا في التأثير؟! فكم هي هذه الكلمة عينها قادرة أن تطرد الكثير من الانفعالات السلبية من الداخل. لينتقي كلّ منّا الانفعال الذي يشعر أنّه الأكثر تجذّراً بداخله: الغضب، أو البغض، وليقل له ويردّد داخلياً ارحل Dégage.

غاندي وتعاليم اللاعنف في لبنان

ونصل في آخر المطاف إلى الوطن الصغير: لبنان. وكان للاعنف وتعليم المهاتما غاندي فيه أصداء عديدة. سبق وأشرنا إلى أن أوّل كتاب عربي يروي سيرة رسول اللاعنف صدر في بيروت 1927، وكان بمثابة خميرة. ومذّاك اختمرت أنشطة ومشاريع وأفكار وسيَر حيّة عديدة في هذا المجال.

عام 1969، وفي مناسبة كهذه، أي في ذكرى مرور قرنٍ كامل على ولادة غاندي اجتمع نخبة من كبار مفكّري لبنان وأدبائه وفلاسفته قوامهم 15 كاتباً، وأصدروا كتاباً بعنوان: غاندي تحيّة من لبنان. ومن بين هؤلاء ميخائيل نعيمه، رنيه حبشي، كمال جنبلاط، فؤاد فرام البستاني، شارل مالك، وغيرهم. وجمع الكتاب بين دفّتيه مقالاتٍ وبحوثاً لهؤلاء في المهاتما غاندي في مختلف مناحي سيرته وتعليمه: اللاعنف، جهاده ضدّ الاستعمار، إلخ. والمصنّف هذا غدا من أبرز المراجع العربية في دراسة المهاتما. وممّا جاء في مقدّمته: “من هنا من هذا البلد الصغير، من لبنان الذي يكاد لا يُرى على خريطة جغرافية تحيّة لك في ذكرى مولدك، مولد العطاء والفداء. لقد ارتضينا نحن العطاء والفداء شعاراً وسبيلاً إلى الحياة الكريمة. فبالعطاء متعة، وبالفداء رفعة. وتعاليمك لنا زادٌ خالد، ورفدٌ باقٍ ، وشلّال من نور يصل الأرض بالسماء”([26])

وغاندي في نهجه اللاعنفي غدا نموذجاً يُحتذى عند كثير من الشخصيّات اللبنانية التي نهجت نهجه في اللاعنف، ولا سيما خلال الحرب اللبنانية 1975-1990. ومن بين هؤلاء وممّن درسنا تجربتهم الرائدة في اللاعنف: المطران الأحمر غريغوار حدّاد، الأب أمبروسيوس الحاج والأب عفيف عسيران. ورفع هؤلاء وغيرهم خلال هذه الحرب القذرة شعار: أموت ولا أقتل. وقد قرنوا القول بالفعل. وهم في شعارهم يذكّرون بشعار غاندي القائل: “فكما ينبغي أن يتعلّم المرء كيف يقتل حين يتجرّد لحياة العنف، كذلك ينبغي أن يتعلّم كيف يموت حين يتدرّب لحياة اللاعنف. فالعنف لا يعني التحرّر من الخوف، بل اكتشاف الوسائل المفضية إلى قمع سبب الخوف. أما اللاعنف فلا متّسع فيه لأيّ خوف. فعلى داعية اللاعنف أن يتمرّس بالقدرة على التضحية القصوى لكي يتحرّر من الخوف، وأن لا يبالي أفقد أرضه أم ثروته أم حياته. فمن لم يتغلّب على الموت فليس بوسعه أن يمارس اللاعنف ممارسة تامّة”([27])

وأكتفي هنا بذكر بعض مآثر الأب عفيف عسيران الذي عُرف خلال الحرب بلقب غاندي لبنان. فخلال الاجتياح الإسرائيلي الأوّل للبنان 1978 واجه مراراً وهو أعزل الدبّابة الإسرائيلية ومدفعها. وقف مرّة بشجاعة أمام دبّابة على حاجز إسرائيلي مانعاً هذه الأخيرة من أن تسحق طفلاً لبنانيّاً يعبر سيراً على قدمَيه في ما كان يسمّى يومها الشريط الحدودي([28]). مشهدٌ كان بمثابة سيناريو أوّل لما سيتكرّر لاحقاً ومراراً في ثورة أطفال الحجارة الذين واجهوا عزّلاً، وفي مختلف أرجاء فلسطين المحتلّة، دبّابات الكيان الإسرائيلي الغاصب للأراضي والحقّ، ومتمثّلين قول أمير الشعراء أحمد شوقي الآنف الذكر:

علمتَ أن وراء الضعف مقدرةٌ        وأن للحقّ لا للقوّةِ الغلبا

تأمّل: الأب عفيف عسيران كان يواجه الدبّابة الإسرائيلية مبتسماً. معلّم الزن جي كونغ يحدّد التأملّ ب: واجه واسترخِ. وكان الأب عسيران يتمثّل قول المهاتما: “إن الذين يتحدّون الموت هم الذين يتحرّرون من كلّ خوف”([29])

 

وفصلٌ مجيد آخر من فصول اللاعنف في لبنان: إنها انتفاضة 17 تشرين الأوّل 1919، ففي تلك الليلة نزل أكثر من مليون لبناني ليحتجّوا على الفساد المستشري في بلادهم. واستمرّت هذه الحركة الشعبية العارمة أكثر من شهرين متواصلَين. وكانت انتفاضة لاعنفية راقية وسلمية بامتياز.

وراجت يومها مقولة للمهاتما غاندي كانت شعاراً لهذه الانتفاضة : “العدوّ الحقيقي للشعوب ليس الفقر ولا الحاجة ولا القمع، بل العدو الحقيقي هو الخوف”. فكان أن كسرت الجماهير حاجز الخوفِ هذا.

وإذا كانت هذه الحركة المباركة لم تصل بعد إلى تحقيق مطالبها، فلأنّها لم تستطع أن تفرز قادة جدداً يجسّدون طموحاتها ومبادئها، ولا تزال تنتظر غاندي لبنان آخر. وعسى ساعة ظهوره تكون قد أزفّت. وعسى هذه الانتفاضة تتمثّل قول المهاتما: “إن كلّ تقدّم يتحقّق عبر الأخطاء وتصحيحها وما من خيرٍ يأتي جاهزاً من عند الله، بل علينا أن نصوغه بأنفسنا من خلال تجارب وأخطاء متكرّرة. تلك هي سُنّة النموّ” (مصلح، م. س، ص578).

 

تأمّل: العدو الحقيقي هو الخوف، لنتأمّل في قول غاندي هذا. فليست العوائق الخارجية هي التي تحول دون تطوّرنا بل الخوف وسائر الانفعالات السلبية. وفي زمن جائحة كورونا هذا ما أحوجنا إلى التبصّر في قول المهاتما: “الناس يموتون جزعاً من الأمراض كالجدري والهيضة والطاعون أكثر ممّا يموتون بهذه الأوبئة نفسها، وممّا لا ريب فيه أن الجبان غالباً ما يلقى حتفه قبل أجله” (غاندي، سلامة الروح، م. س، ص21).

فلنحطّم إذاً جدار الخوف لتظهر شموس التحقّق.

ويبقى المهاتما غاندي منارة لنا في هذا المشرق المتألّم في اللاعنف وفي سائر تعاليمه، ولا سيما في دفاعه عن الأقّليات. يقول: “طيلة حياتي دافعتُ عن الأقلّيات. وعلى الجميع أن يذودوا عن الأقلّيات والمحتاجين. وإنّي أؤمن إيماناً راسخاً أن حضارة أمّة تقاس بسلوكها حيال أقلّياتها” (مصلح، م. س، ص383).

ونحن هنا لا نزال على المحكّ، فلا تزال الأقلّيات في عالمنا العربي تتعرّض لمخاطر التهجير والتنكيل. فمنذ أيامٍ قليلة فرغت إدلب المحافظة السورية التي تستولي عليها الحركات الإسلامية الأصولية من آخر مسيحي. وقبلها نكّلت داعش بمسيحيي الموصل ويزيديّيها في العراق وسَبت نساءهم فلاذوا بالفرار. واللائحة تكاد لا تنتهي!

فكما دافع المهاتما غاندي عن مسلمي الهند وحقّهم في البقاء في وطنهم، وواجه طروحات تهجيرهم ودفع حياته ثمناً لموقفه الصلب هذا، فهل لنا من غاندي آخر في عالمنا العربي؟!

 

«»«»«»«»«»([30])

[1] -النص الكامل لدراسة أ. د. لويس صليبا أستاذ زائر في جامعة أديان ومذاهب كما نشرتها مجلّة الدراسات الأمنية/مجلّة فصلية محكّمة من قبل وزارة الثقافة اللبنانية تحت الرقم 2573/م. أ. م/2020، العدد 92-تشرين الأول2022، ص100-119.

[2] -دراسة قدّمت وتليت على Zoom في الاحتفال الدولي الذي نُظّم برعاية الأمم المتّحدة في اليوم العالمي للاعنف، السبت 2/10/2021، وشاركت فيه وفود وشخصيّات فكرية وأدبية من مختلف أنحاء العالم.

[3] -غاندي، المهاتما، سلامة الروح وراحة الجسد: التجارب الصحّية والغذائية للزعيم الهندي المهاتما غاندي، ترجمة عبدالرزاق المليح آبادي، تقديم محمد سعيد الطريحي، الكوفة/العراق، منشورات دائرة المعارف الهندية، ط1، 2012، ص15.

[4] -عمر فاخوري: أديبٌ ومُفكرٌ وناقدٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ المدرسةِ الواقعيةِ في النقدِ الأدبيِّ الحديث، وعَلَمًا من أَعلامِ النهضةِ في القرنِ العشرين، وكانت له إسهاماتٌ جليلةٌ في التأليفِ والترجمة. وُلدَ «عمر فاخوري» عامَ 1895 في بيروت، وتلقَّى تعليمَه الأوَّليَّ بإحدى مَدارسِها، ثمَّ التحَقَ ﺑ «الكلّية العثمانية» التي كانت مَركزًا ثقافيًّا مهمًّا استحثَّ بداياتِ وَعيِه القومي، وظهرَت حينئذٍ بواكيرُ كتاباتِه الأدبيةِ والنقدية. انضمَّ «فاخوري» إلى «جمعية العربية الفتاة» مُناضِلًا ضدَّ الحُكمِ التُّركي، وكادَ كِتابُه الأولُ «كيف ينهض العرب» عامَ 1913 يودي به إلى حبلِ المشنقة، لولا تعهُّدُ والِدِه بإتلافِ كلِّ نُسخِ الكتاب، لِكفِّ أذى السُّلطاتِ عن ابنِه الحديثِ السِّن. الْتَحقَ في عامِ 1914بالجامعةِ الأمريكية، ثم انتقلَ إلى «المكتبِ الطبيِّ العثماني» لدراسةِ الصيدلة، وهناك اعتلى المنابر للمرةِ الأولى؛ حيث ألقى مُحاضَرةً بعنوانِ «البَعثة النبويَّة». وانتسبَ عامَ 1919 إلى «حزبِ الاستقلال» في دمشق، ثم سافَرَ إلى باريس في العامِ التالي حيثُ درَسَ الحقوق، وأتقَنَ اللغةَ الفرنسية، وأسَّسَ مع بعضِ الطَّلَبةِ العَربِ «الجمعيةَ السوريةَ العربية»، وعادَ من رحلتِه تلكَ واقعيًّا يرفضُ المِثالية، ويندفعُ إلى الثورةِ على الأوضاعِ القائمةِ في جميعِ المَناحي الاجتماعيةِ والسياسية، فضلًا عن الأدبيةِ والفنية. وعندما عادَ إلى بيروت أنشأَ مَكتبًا للمُحاماة، وانخرطَ في الحركةِ الكشفية، وترجَمَ عددًا منَ المُؤلَّفات، وذاعَت شُهرتُه الأدبيةُ فانتُخبَ عضوًا في «المَجمعِ العِلمي» بدمشق، كما نُشِرَت له مَقالاتٌ في مجلتَي «الميزان» و«المفيد». وبعدَ انقطاعِه زمنًا عن الكتابةِ إثرَ وفاةِ زوجتِه وطفلِهما بحُمَّى النِّفاس، أصدَرَ في 1938 كتابَه «الباب المرصود» الذي  تَساؤلاتٍ فكريةً ونقديةً عديدة. ومع اندلاعِ الحربِ العالميةِ الثانية، انضمَّ «فاخوري» إلى «عُصبةِ مُكافَحةِ النازية» في سوريا ولبنان، وكان عميدَ مَجلّتِها «الطريق». وأصدرَ عامَ 1942 كتابَه «لا هَوادة» ضدَّ النازية، ثم كتابَ «أديب في السوق» عامَ 1944. توفي «عمر فاخوري» عامَ 1946، إثرَ إصابتِه بمرضِ اليَرَقان، بينما كانَ مُنكبًّا على تأليفِ روايتِه «حنَّا الميِّت». مؤلّفاته: 1-كيف ينهض العرب، بيروت، 1912، في مقدّمة وخمسة فصول. 2-الباب المرصود، بيروت، دار المكشوف، 1938، نقد أدبي في 16 فصلاً، و171ص. 3-الفصول الأربعة، بيروت، دار المكشوف، 1941، 117ص، نقد أدبي. 4-لا هوادة، بيروت، دار الأحد، 1942، مقالات في السياسة وعلاقتها بالأدب وفي نقد النازيّة والعنصرية. 5-الاتّحاد السوفياتي حجر الزاوية، بيروت، مطابع الكشّاف، 1944، يتناول دور الاتّحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية وفي العالم العربي. 6-أديب في السوق، بيروت، دار المكشوف، 1944، مقالات أدبية وسياسية. 7-الحقيقة اللبنانية، بيروت، دار المكشوف، 1945، يعرض فيه لواقع لبنان أرضاً وشعباً ولمواقفه السياسية من الحرب وميوله الشيوعية، ويتناول في القسم الأخير قضية الاستقلال اللبناني وانعكاسه على اللبنانيين سياسياً واقتصادياً وثقافيّاً، ليؤكّد أن مصير لبنان مرهون بالمصير العالمي. ومن ترجمات الفاخوري الكتب التالية: 1-آراء أناتول فرانس، بيروت، منشورات مجلة مينرفا، 1925، مقدمة لأمين الريحاني، يليها مقال لعمر يحلّل شخصية أناتول فرانس، ثم يترجم نصوصاً له ولا سيما في الدين وفيها يعتبر فرانس أن الأديان بالرغم من ضرورتها للجماهير فهي لا تلتقي مع العلم، والمعجزة نظرية صبيانيّة، تزول متى بدأ الفكر يتمثّل الكون تمثّلاً منظّماً. 2-آراء غربية في مسائل شرقية، دمشق، مطبعة المفيد، 1925، مقالات لمستشرقين في الإسلام مع نقدٍ لها. 3-المهاتما غاندي، تأليف رومان رولان، بيروت، مجلّة الكشّاف، 1927. 153ص.

[5] -خوري، رئيف، مقدمة الباب المرصود لعمر فاخوري، بيروت، دار الثقافة، د. ت، ص خ.

[6] -سكاكيني، وداد، عمر فاخوري أديب الإبداع والجماهير، القاهرة، الهيئة المصرية العامّة، ط1، 1970، ص32.

[7] -جهبذ: خبير بغوامض الأمور ومميّزٍ بين رديئها وجيّدها. (رضا، يوسف، معجم العربية الكلاسيكية والمعاصرة، بيروت، مكتبة لبنان، ط1، 2006، ص494).

[8] -وداد بنت محمد سكاكيني (1913-2001) كاتبة لبنانية وناقدة رائدة من مواليد صيدا، تخرّجت في كلية المقاصد الإسلامية في بيروت، أمضت عشر سنوات من حياتها في التعليم، إذ عملت في المعهد العالي للبنات، ثم أقامت في سورية ومصر مع زوجها الأديب زكي المحاسني، بدأت حياتها الأدبية في مطلع الثلاثينيات، نشرت معظم أعمالها في القاهرة، وتوفيت في دمشق. تنوّعت أعمالها بين الكتابة الإبداعية (قصة قصيرة، رواية، مقالة) والدراسة الأدبية والنقدية والتاريخية، لكن الملاحظ أنها اهتمّت بأدب المرأة وتاريخها وسلّطت الضوء على أبرز المبدعات والشخصيات النسوية التاريخية في الشرق والغرب. وهي تعدّ رائدة في مجال القصة القصيرة النسوية، لها خمس مجموعات قصصية: «مرايا الناس» و«بين النيل والنخيل» و«الستار المرفوع» و«نفوس تتكلم» و«أقوى من السنين» (بين عامي 1945 و1978)، حرصت فيها على الواقعية وعلى التغلغل في أعماق الشخصية، وقد ساعدتها مهنة التدريس على تقديم صوت المعاناة بصدق وعفوية، ممّا يقرب بعض قصصها مثل «الستار المرفوع» من فن السيرة الذاتية. كما تعدّ من الرائدات في مجال الرواية النسوية السورية، إذ كتبت مع بداية الخمسينيات رواية «أروى بنت الخطوب» وفيها بدأت تتجاوز حرفية الواقع. وبعد سنتين كتبت روايتها الثانية «الحبّ المحرّم» (1952) وعلى الرغم من استخدام المؤلفة، غالباً، لغة تحمل بصمات عصر الانحطاط، فهي ذات مستوى دلالي ثابت، غير أنه يلاحظ في كتاباتها بوادر لغة حيوية تجسّد عوالم الأعماق بكل صراعاته بين شهوات النفس والنـزوع الأخلاقي. بدت الكاتبة مهمومة بهمّ المرأة، لذلك قلّما يبدو الرجل بطلاً في قصصها، كما شاعت في لغتها القصصية روح المحافظة، فهي لغة العالم الخارجي المتصالحة مع الذات ومع المجتمع في أغلب الأحيان. يسجّل لوداد سكاكيني إدراكها المفاهيم الأساسية لفن الرواية، فهي لديها «دنيا صغيرة» يضعها الكاتب ساكباً نفسه وحسّه بين يدي القارئ، ليرى فيها صوراً من حياته وأعماق نفسه، وبذلك سعت إلى الإسهام في نظرية الرواية. ومن مؤلفاتها أيضاً: من المقالات: «الخطرات» (1932)، «إنصاف المرأة» (1950)، «سطور تتجاوب»، مقالات في الأدب والنقد (1987)، ولها في النقد «سواد في بياض» (1959)، «نقاط على الحروف» (1960)، «شوك في الحصيد» (1981)، أما الدراسات فلها فيها «أمّهات المؤمنين» (1945)، «العاشقة المتصوفة: رابعة العدوية» (1955)، «نساء شهيرات من الشرق والغرب» دراسة بالاشتراك مع تماضر توفيق (1959)، «قاسم أمين» (1965)، «عمر فاخوري» (1970)، «سابقات العصر وعياً وفناً وسعياً» (1986 .(وهكذا استطاعت وداد سكاكيني أن تكون رائدة في الإبداع النسوي في الخمسينيات على هفواتٍ يشفع لها فيها ريادتها المبكرة.

[9] -حنين، رياض، مع عمر فاخوري في الدوائر العقارية، مقال في مجلّة الحكمة، بيروت، السنة 5، ع9، تمّوز 1956، ص64.

[10] -الريحاني، أمين ألبرت، قلمٌ يفكّ الرصد أو عمر فاخوري: سيرته وأدبه، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط1، 1977، ص121، نقلاً عن مجلّة الكشّاف، السنة 2، ع5، 4 أيار 1928، ص1928.

[11] -حشيمه، الأب كميل اليسوعي، المؤلّفون العرب المسيحيّون من قبل الإسلام إلى آخر القرن العشرين، معجم الأعلام والآثار والمراجع، بيروت، دار المشرق، ج6، ط1، 2013، ص267.

[12] -كرم، أنطون غطّاس، عمر فاخوري، مقالة في ملحق النهار، ع 9328، 1 أيّار، 1966.

[13] -الريحاني، أمين ألبرت، قلمٌ يفكّ الرصد أو عمر الفاخوري سيرته وأدبه، أطروحة أعدّت لنيل شهادة الماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت1971، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط1، 1977، ص123.

[14] -الدقّاق، عمر، غاندي في الأدب العربي، مقالة ضمن مجلّة المعرفة، دمشق، عدد خاص: غاندي في ذكراه المئوية، س8، ع93، ت2/1969، ص18.

[15] -مالك، شارل، غاندي المتعدّد الأبعاد، ضمن غاندي تحية من لبنان، بيروت، دار النهار للنشر، 1970، ص184-185.

[16] -مصلح، أديب، المهاتما غاندي السياسي القدّيس، بيروت، المكتبة البولسية، ط1، 1992، ص253.

[17] -غاندي، مهاتما، سيرته كما كتبها بقلمه: نشأته وعمله في جنوب أفريقيا من سيرته كما كتبها بقلمه ونشرها مستر أندروز الإنكليزي أحد مريديه، ترجمة إسماعيل مظهر، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، [ط1، 1934]، 286ص.

[18] -موسى، سلامة، غاندي والحركة الهندية، القاهرة، مؤسّسة هنداوي، 2012، [ط1: 1934].

[19] -صديق، رامي عطا، غاندي رسالة اللاعنف والتسامح، تقديم فايز فرح، بيروت، جداول للنشر، ط1، 2014، ص121.

[20] -عبادة، مصطفى، فتحي رضوان وحكايات كبيرة عن مفكّر كبير اختلف مع نجيب وناصر وسجنه الإنكليز والسادات، مقابلة مع ابنه عصام رضوان، الأهرام، السنة 145، ع 49123، الجمعة 4 يونيو 2021.

[21] -فينكلستاين، نورمان ج، ماذا يقول غاندي عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة؟ ترجمة أحمد زراقي، الدوحة، منشورات مجلّة الدوحة، ط1، 2018، ص45، نقلاً عن المجموعة الكاملة لمؤلّفات غاندي، CW, Vol 68, PP137-138 (canons)

[22] -فينكلستاين، م. س، ص64، نقلاً عن المجموعة الكاملة لمؤلّفات غاندي: CW,Vol 48, p106. CW, Vol 68, pp137-138.

[23] -السادات، أنور، البحث عن الذات قصّة حياتي، القاهرة، المكتب المصري الحديث، ط1، 1978، خطاب الرئيس السادات في الكنيست، ص446.

[24] -صليبا، لويس، المسيحية والإسلام بين الأمس واليوم: بحث في تطوّر العلاقات بينهما من يوحنا الدمشقي إلى وثيقة الأخوّة، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط1، 2022، ص63-64.

[25] -Ben Jelloun, Tahar, Par le feu, Paris, Gallimard, 2011.

[26] -الأسير، صلاح، غاندي عملاق آسيا، ضمن غاندي تحية من لبنان، م. س، ص36.

[27] -فخري، ماجد، صلابة الحق في مذهب غاندي الديني والخلقي، ضمن غاندي تحية من لبنان، م. س، ص143.

[28] -صليبا، لويس، عابر يلبس كهنوت المسيح سيرة الأب عفيف عسيرا وروحانيّته، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط3، 2014، ص465.

[29] -غاندي، المهاتما، هذا مذهبي، ترجمة لجنة من الأساتذة الجامعيين، بيروت، منشورات المكتب التجاري للطباعة، ط1، 1959، ص329.

[30]

شاهد أيضاً

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its prevention.

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *