“الصمت في اليهودية: تقاليده في التوراة والتلمود وعند النبي إيليا والحسيديم” كتاب للبروفسور لويس صليبا، صدر في ط4 عن دار ومكتبة بيبليون/جبيل في 370ص وتجليد فاخر.
الكتاب حلقة من سلسلة “الصمت في التصوّف والأديان المقارنة، وقد صدر منها حتى الآن خمسة كتب. قدّم له أ. د. إميل عقيقي أستاذ الدراسات واللغة العبرية في جامعة الكسليك.وممّا قال (ص16): “نادراً ما نجدُ باحثاً يغامر بمواضيع باتت في عالمنا من الهوامش… والدكتور لويس صليبا نذر حياته للكتب وللبحث، ولِمَ لا للصمتِ فالإبداع”.
ويتابع عقيقي بشأن موضوع البحث ومنهجيّته (ص17): “قرأتُ الكتاب بشغف لأنّه يعالج الموضوع بطريقة شاملة شيّقة، فوجدتُ فيه بساطة الطرح وعمق المعالجة… ويحافظ المؤلّف على موضوعيّته، بعيداً عن الانجرار خلف الأحكام المسبقة، والنعوت المعلّبة. أراد أن يكون طرحه جامعاً بين معطيات التوراة الكتابية والشفهيّة، وهذا ليس بالأمر السهل في محيطنا المشرقيّ العربيّ، للأسباب التي يعرفها الكثيرون، أما الذين يتخطّونها بموضوعيّتهم فقليلون”.
أما المؤلّف فيشير في مقدّمته إلى أهمّية البحوث في الأديان المقارنة وحاجة المكتبة العربية الماسّة إليها، فهي متخمة بكتب المفاضلة بين الأديان وتفتقر إلى دراسات المقارنة الأكاديمية وغير المنحازة سلفاً. (ص24). ويضيف: “قد تتشابه المفاهيم، وهذا التشابه نحاول أن نتبيّنه، دون أن نغفل التمايز الخاصّ بكلّ تقليد”.
ويشدّد الباحث على أنّنا عبثاً نحاول فقه المسيحيّة والإسلام بمختلف أبعادهما، بمعزل عن معرفة ودراية بالديانة التي سبقتهما (ص23): “فخلفيّتنا الثقافية الدينية مسيحيّة كانت أم إسلامية لا تُفهم بكامل أبعادها من دون فهمٍ متأنٍ ومعمّق لليهوديّة”
والله في التوراة ليس معلّم الكلمة وحسب بل هو معلّم الصمت كذلك، وعلى الإنسان أن يعرف كلمته وصمته في آن (ص26): “التوراة ليست كتاب الكلمة بامتياز وحسب بل كتاب الصمت كذلك. لا تنقل كلام الله، بل وصمته كذلك. والله لا يعلّم أنبياءه الكلام وحسب، بل والصمت أيضاً”.
ومن بين تجارب الصمت التوراتيّة العديدة يتوقّف الباحث عند تجربة النبي إلياس (ص27): “من تُجمع التقاليد الثلاثة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة على تكريمه وإجلاله”. فاختباره تجربة صوفيّة بامتياز وهي تعني أن الطريق إلى الله مسيرة متاحة لكلّ إنسان. (ص28).
ومن مساهمات هذه الدراسة البارزة مقارنتها بين تيّارين في اليهوديّة: الشريعة الموسوية، ومعظم الناس والباحثين يظنّون أنّها تختصر التراث اليهوديّ برمّته، في حين أنّهم يغفلون تيّاراً عبرياً آخر مناقضاً لها ألا وهو التيّار الإيليائي. وهنا يستفيض الباحث في عرض مبادئ هذا التيّار وعقيدته. فالعقيدة الإيليائية، وخلافاً للشريعة الموسوية، شموليّة وعالميّة. (ص28). ومسيرة إيليا تعتمد الخطّ عينه الذي اعتمده موسى للدخول بالشعب إلى أرض الميعاد، ولكنّها في الاتّجاه المعاكس. من هذه الأرض إلى خارجها. ومن هنا فنبوّة إيليّا ورسالته، وخلافاً لرسالة موسى، لا تقتصر على اليهود وأرض الميعاد، بل تشمل أيضاً كلّ الشعوب. (ص139). وهكذا فرسالة إيليا تكون قد أسقطت الأسس والأركان الرئيسة التي قامت عليها اليهوديّة منذ أيّام موسى، أي مسألتي الشعب المختار وأرض الميعاد. (ص141). وشموليّة الرسالة الإيليائية هذه كانت أحد أبرز الأسباب لما نراه من انتشار لتكريم النبي إلياس عند أتباع الديانات الثلاث. (ص28).
ويتوقّف الباحث ليتأمّل مليّاً في شخصيّة النبي إلياس ودوره القرآني (ص29): “في الإسلام تتماهى شخصيّة إيليّا مع أخرى في غاية الأهمّية. إنها الخضر، معلّم موسى، كما جاء في سورة الكهف/65-66. وللأمر دلالاته البعيدة. فكأن الخضر (النبي إلياس) هو موسى الجديد صاحب شريعة الباطن مقابل موسى القديم صاحب شريعة الظاهر. وكم تلتقي شخصية الخضر هذه مع شخصية مؤسّس التيّار الإيليائي في اليهودية. (ص29). ويُجري الكاتب مقارنة مطوّلة وجديدة بين إيليا الخضر في القرآن وبعض الروايات التلمودية المشابهة. وهذا مجال يقول عنه إنّه غابة شبه عذراء لا تزال بحاجة إلى المزيد من المستكشفين والمغامرين (ص19).
وفي الختام فهو كتاب يحمل جديداً إلى القارئ ويستحقّ منه عناية واهتماماً.