قراءة في تجارب الإصلاح في كنيسة لبنان (بحث البروفسور لويس صليبا المقدّم في ندوة “حركات الإسلام السياسي،الإصلاح الديني والتحديث السياسي والمدني”تونس 30/11/2018)

عرفت الكنيسة في لبنان في القرن العشرين تجارب إصلاح عديدة كان عددٌ منها رائداً، وذو أثرٍ عميق في محيطه، كما كان بعضها سابقاً لورشة الإصلاح التي يقوم بها البابا فرنسيس اليوم على رأس الكنيسة الكاثوليكية. ومن بين هذه التجارب اخترنا اثنتين كانتا برأينا، وباعتراف العديد من الباحثين والمؤرّخين، من التجارب العميقة المدلولات والبعيدة الأثر.

1-الأولى تجربة المطران غريغوار حدّاد (1924-2015) الإصلاحية، وكان رئيس أساقفة بيروت للروم الكاثوليك، وأحد أبرز الدعاة إلى العَلمانية.

2-والثانية تجربة الأب لويس خليفة (1930-1997) عميد كلّية اللاهوت الحبرية/الكسليك لبنان ورائد التأوين في كنيسة لبنان.

I-غريغوار حدّاد المطران الأحمر

“المطران الأحمر”، مطران الفقراء أو أبو الفقراء، بابا العلمانية، مؤسّس تيّار المجتمع المدني، رائد الحوار المسيحي الإسلامي… ألقاب وأسماء متنوّعة وعديدة، والمسمّى واحد: إنه المطران غريغوار حدّاد (1924-2015)، ظاهرة شغلت الناس والمسؤولين الروحيين والسياسيين ردحاً طويلاً من الزمن. ومطران وحيد بين المطارين وسائر رجال الدين في فقره وطروحاته الجذرية، وجرأته وثورته على القديم البالي. خلع المظهر ولبس الجوهر، فلم يحفل بألبسة الأحبار والأساقفة الفاخرة، صليبٌ خشبي بسيط كان يكفيه، عاش أسقفاً فقيراً، ومات حبراً وزعيماً كبيراً. رؤيوياً كان وسابقاً لعصره، فما طرَحه وعاشه في السبعينات أي منذ نحو نصف قرن ها هو البابا فرنسيس يدعو إليه اليوم ويعيشه: أساقفة فقراء في خدمة الشعب، لا زعماء وأمراء عليه. وإلى ذلك فقد أحدث ثورة في الفكر اللاهوتي، وكان أحد القلائل الذين تركوا أثراً عميقاً في الفكر العربي الخاصّ بفلسفة الدين.

ونظراً لضيق الوقت، فسنقصر عرضنا هذا على بعض ملامح فكره، وممارسته الإصلاحية.

 

تحرير المسيح والإنسان

ما الذي قصده مطراننا من هذا العنوان العريض والمثير؟!

المسيح في عُرفه إرثٌ عالميّ، وقيمة كونيّة مطلقة، شأنه شأن الإنسان، فوحدهما معاً قيمة مطلقة، أما سائر القيَم فنسبية، ومعرّضة للتغيّر والتبدّل في الزمان والمكان يقول: “المقياسان المتفاعلان للحقّ وللحياة في المسيحية هما المسيح والإنسان: المسيح الحيّ الآن في كلّ أبعاده الحالية، وهو القيمة المطلقة، والإنسان الحيّ في كلّ أبعاده الفردية والجماعية، وهو القيمة المطلقة الملازمة للمسيح. وكلّ ما سوى ذلك يمكن أن يُعتبر مقاييس ولكن نسبية”.([1])

 ويؤكّد حدّاد على ترابط هذين المقياسين وتلازمهما، فهما وجهان لعملة واحدة، وأي فصل بينهما هو رؤيا أحادية وبتر للحقيقة التي تعلّمها المسيحية: “المقياسان المطلقان متلازمان، أي لا يمكن اعتماد الواحد دون الآخر، وإلا عُدّ ذلك هرطقة، أي اختياراً لجزء من الحقيقة”.(م.ن).

أما الكنيسة، فعلى أهمّية دورها وأولويّته، تبقى مؤسّسة بشريّة تعيش في الزمان والمكان، ومن هنا فهي لا تستطيع أن تشارك المسيح مطلقيّته! يقول حدّاد: “المسيح وحده هو القيمة المطلقة، والكنيسة لا تشترك بهذه القيمة المطلقة، إلا إذا كان معناها الإنسانية: كلّ إنسان وكلّ الإنسان. فإذا عُني بها بعض الناس المنتمين إلى جسم الكنيسة الظاهر تفقد قيمتها المطلقة” (م. ن، ص65).

والكنيسة بهذا المعنى المتداول، والمتعارف عليه ليس بمقدورها أن تشارك المسيح مطلقيّته وحسب، بل لا يمكنها كذلك أن تحتكر المسيح، وتدّعي حصريّة امتلاكها له ولرسالته العالميّة الشاملة. وهنا يؤكّد أبونا غريغوار أن مقولة التماهي بين المسيح وكنيسته في العالم كانت بمثابة انحراف عرفته المسيحية في عهد الأمبراطور قسطنطين (280-337م)، ولمّا تزل آثاره وامتداداته قائمة وحاضرة إلى اليوم. يقول: “إن أخطر ما حدث للمسيح في التاريخ، لا سيما بعدما أصبحت المسيحيّة دين الدولة في عهد الأمبراطور قسطنطين، هو أن المسيح أصبح تابعاً للدين المسيحي، وللكنيسة المؤسّسة، بل متلاصقاً وملتحماً بها التحاماً وثيقاً، حتى أنه أصبح كالمستحيل تمييزه عنها… وخاصّة من قبل الناس الذين ينظرون من الخارج، فيحكمون هكذا على المسيح من خلال حكمهم على الكنيسة” (م.ن، ص66).

وهذا الاحتكار للمسيح الذي دأبت عليه الكنيسة منذ قرون عديدة حتى صار جزءاً من هويّتها يرفضه مطراننا، وهو أسقف في هذه الكنيسة، وواحد من رؤسائها، وهنا تكمن المفارقة، ومن هنا أهمّية ثورته التي جاءت من داخل المؤسّسة، فبدت وكأنها إقرار واعتراف بهذه الممارسة الشاذّة التي شوّهت وجه المسيح والكنيسة في آن. يقول: “فالكنيسة المؤسّسة قد احتكرت المسيح، كما تحتكر أية شركة رأسمالية صنفاً من الأصناف… صار المسيح أسير الكنائس، رهينَها، محجوزاً عليه من قبلها، لا يصل إليه أحدٌ إلا بواسطتها… وأصبح من الضروريّ بل من الأولويّات الملحّة تحرير المسيح من الكنائس، ومن كلّ “الكنيسة المؤسّسة”. (م. ن، ص67).

ويتابع المطران الأحمر ثورته فيزيد الواضح إيضاحاً، فلا بدّ من كسر طوق هذا الاحتكار الذي يحول بين المسيح والكثيرين ممّن هم بأمسّ الحاجة إليه: “فمن أهمّ الموجبات كسر طوق الاحتكار وإزالة البيّنات التي تحتجز المسيح عن الذين هم بحاجة إليه” (م.ن، ص68). ويدعو حدّاد إلى “تأميم المسيح” ليفكّ أسره، ويكون قيمة مطلقة بمتناول كلّ من يحتاج إليها. ومن هنا ضرورة تحرير المسيح، ومن هنا أيضاً استوحى أبونا غريغوار العنوان العامّ لدعوته الثورويّة: “أصبح المسيح أسير المسيحية التاريخيّة النسبية… ولمّا كان المسيح في نظر المسيحيّة ضروريّاً لكلّ إنسان، كالمحور والقيمة المطلقة، صار من الأولويّات تحرير المسيح من المسيحيّة ذاتها، ومن كلّ تجسّداتها التاريخية. وكفّ وضع اليد الذي مارسته المسيحيّة على المسيح، ليصبح في متناول يد كلّ إنسان” (م. ن، ص70).

ومن تجلّيات تحرير الإنسان بالمفهوم “الغريغواري” إطلاق حرّية البحث دون محدوديّات، وكسر الحُرم والمحرّمات. فالبحث الجذريّ ليس هو من حقوق المسيحيّ وحسب، بل من واجباته. وكلّ المسلّمات يمكن أن تكون محور بحث وتوضع على طاولة الحوار والنقاش. يقول: “البحث الجذري ليس الخطر على الإيمان المسيحيّ، بل التخوّفات العديدة هي الخطر” (م. ن، ص58).

ويؤكّد أبونا غريغوار على أن رحابة الصدر صفة ضروريّة للباحث وللمستمع في آن. فعهد التبديع والوصم بالهرطقة قد ولّى إلى غير رجعة. وقد دخلنا اليوم في زمن الحوار: “المهمّ أن لا يكون ضيق صدرٍ، وضيق فكرٍ، وضيق أفقٍ لدى من يريد أن ينتقد موقفاً وحلّاً ما. فعهدُ الرشق بالحرم قد ولّى دون رجعة، حتى في المؤسّسة التي كان فيها كثير الاستعمال”. (م. ن، ص33).

وإذا كان “تحرير المسيح والإنسان” هو المعْلَم الأبرز في فكر غريغوار حدّاد ولاهوته المسيحيّ، فهو يعي تماماً أنه وللوصول إلى هذا الهدف الرئيس لا بدّ من تحرير النصّ من حرفيّة التفاسير ومحدوديّتها وارتباطها المباشر بعصرها، وجعل هذا النصّ بالتالي يخاطب إنسان هذا الزمن كما كان يخاطب إنسان الأزمنة الغابرة، فلكلّ زمن لغته ومفاهيمه، وأبونا غريغوار كان من السبّاقين إلى ما سمّي لاحقاً تأوين النصّ. وله آراء رائدة في هذا المجال.

تلك أبرز معالم فكر غريغوار حداد الديني أو بالحري المسيحي. أما في المجال الوطني واللبناني فإن دعوته العَلمانية تبقى حجر الزاوية.

العَلمانية الشاملة بالمفهوم الغريغواري

“العَلمانية الشاملة” اقترن اسم غريغوار حدّاد بها، واقترنت به. فلا يُذكر الاسم حتى تُذكر معه، ولا تذكر العَلمانية في لبنان، من دون أن نتذكّر كبير دعاتها “المطران الأحمر”.

ويسارع أبونا غريغوار إلى التحديد والتدقيق في المصطلح: “العَلمانية بفتح العين، نسبةً إلى العالم، هي هذا العالم الأرضي الذي يتمايز عن عوالم أخرى  مفترضة، ومنها الفضاءات الدينية على سبيل المثال، لا العِلمانية، بكسر العين، نسبة إلى العِلم، هذا العدو التاريخيّ للدين، من منظور فلاسفة الأنوار وغيرهم. وعليه فلا تغدو العَلمانية أداةً راهنة لهدم الدين ومنطلقاته بمسوّغات علمية، بل هي المِظلّة لتنظيم مظاهر هذا العالم، ومنها الدين والعلم والسياسة والاقتصاد والثقافة…”([2]).

وفي كتابه “العَلمانية الشاملة” يقدّم حدّاد التحديد التالي: “العَلمانية (بفتح العين) هي أولاً نظرة شاملة للعالم. بمعنى الإنسانية جمعاء، ومعنى الكون كلّه أي مجموعة الكائنات. وبالوقت ذاته هي موقف منسجم مع هذه النظرة، وتجسيد للنظرة والموقف في الواقع. وهذه النظرة تؤكّد استقلالية العالم بكلّ مقوّماته وأبعاده وقيَمه تجاه الدين ومقوّماته وأبعاده وقيَمه”.([3])

العَلمانية إذاً، بالمنظور الغريغواري، مشتقّة هي من العالم، وليس من العِلم. ومن شأن هذه المصدريّة أن تجنّب هذا المفهوم مواجهة مع الدين هي بغنى عنها، وطالما انتُقدت وهوجمت بسببها. والمواجهة بين العلم والدين مسألة قديمة لم تُفلح محاولات اللاهوتيين من مختلف الأديان ومن أقدم الأزمان في التخفيف من حدّتها، وكم ردّد الكثيرون أنهما على طرفي نقيض. وتبدو محاولة أبونا غريغوار في فصل العَلمانية عن الصراع بين العلم والدين، وعزلها عنه حكيمة وعمليّة في الآن. فالعَلمانية في عرفه موقف من العالم ونظرة إليه لا تعادي الدين، ولا تسعى إلى نقده ونقضه، ولكنّها بالمقابل تنأى بنفسها عنه، وتؤكّد استقلاليّتها إزاءه. يتابع حدّاد شارحاً وموضّحاً: “والاستقلالية تعني أن هناك قيمة ذاتيّة فعليّة للعالم والمجتمع والإنسان وقضاياه غير مستمدّة من الدين… وتجعل تمايزاً بين العالم والدين من دون امتيازات للواحد على الآخر”. (م.ن، ص46).

إنها استقلالية عن الدين، وليست بتاتاً عدائية تجاهه. وشتّان بين التعبيرين، يتابع مطراننا: “فالاستقلالية ليست إذاً العدائية، بل الحياد التامّ بينهما. وهذا الحياد يمكن أن يكون إيجابيّاً يجعل كلّ منهما يعتبر ويقدّر الآخر وقيَمه”.(م.ن). ويخلص أبونا غريغوار، في هذا الصدد، إلى أن العدائية للدين ليست العَلمانية، بل نقيضها. العدائية هي ضدّ العَلمانية، لأنها تجعل نفسها بديلاً عن الدين، أو ديناً سلبياً. وهذا شأن الماركسية مثلاً في معاداتها للدين.

ويصرّ مطراننا على الفصل بين العَلمانية وبعض دعاتها ممّن يجهر إلحاده. فالعَلمانية ليست الإلحاد بأي شكل من الأشكال، وإن اعتبرها البعض، ولا سيما في الدول العربية والإسلامية، مرادفاً له، وذلك إمعاناً في معاداتها والتشهير بها عن غير حقّ. يقول: “البعض يخافون من العَلمانية لأنهم يعتبرونها مرادفة للإلحاد. وهذا أسوأ حكمٍ على العَلمانية، بل هو حكم عليها بالإعدام لدى المؤمنين”.

ليست العَلمانية ملحدة، ولكنها بالمقابل ليست مؤمنة. إنها تقف من الله موقف الحياد، فلا هي تؤكّد وجوده، ولا هي تنفيه. فهي تنأى بنفسها عن هذه المسألة الماورائية العويصة التي حيّرت العقول والألباب منذ فجر التاريخ. وتعتبر ببساطة أنها ليست من اختصاصها، وتتركها للفلسفة وللدين. يقول حدّاد: “العَلمانية قاصرة وعاجزة أن تقول شيئاً في الله إذا كان موجوداً أو غير موجود… والعَلمانية الحقّ لا تدّعي أن لها قولاً تقوله عن الله. وعندما تقول شيئاً، تكون قد ادّعت لذاتها صفةً وإمكانية ليست لها! بل العَلمانية هي التي تُقرّ بعجزها في موضوع الله، وبعدم صلاحيّتها وعدم أهليّتها أن تقول إذا كان موجوداً أو غير موجود. فهي تترك ذلك لله ورسله وكتبه… وللإيمان بهم!” (م.ن، ص23-24).

ويخلص مطراننا إلى التأكيد على أن من يزعمون أنهم ملحدون لأنهم علمانيّون يخلطون بين أمرين مختلفين ومستقلّين تماماً ويَضلّون ويُضلّون، وهم بذلك، عن قصد أو غير قصد، يسيئون إلى العَلمانية إساءة ما بعدها إساءة، وهي منهم براء!

وهكذا فثمّة علمانيّون مؤمنون، لا علمانية مؤمنة، وعلمانيّون ملحدون لا علمانية ملحدة. فالعلمانية المؤمنة، كزميلتها العدائية والملحدة: “لا تكون لها حقّاً الاستقلالية والحياد اللذان يشكّلان فعلاً كُنه العَلمانية وتحديدها الصحيح والشامل” (م. ن، ص48).

ويتوقّف مطراننا ليتأمّل مليّاً في العَلمانية على صعيد الإنسان الفرد: ما الذي تمنحه له، وأي طابع تضفي على وجوده، وتضيف إلى هويّته. فيرى أنها حجر الزاوية في الورشة المعاصرة القائمة على احترام حقوق الإنسان والمحافظة عليها وصونها ونشرها قيمة عالمية عابرة للأديان والثقافات. وأبجديّة هذه الحقوق احترام الإنسان أيّ إنسان في ذاته، ولذاته، وبمعزل عن أيّ هويّة أو انتماء. يقول في مقابلة على قناة الميادين([4])محدّداً العَلمانية ببساطة: “العَلمانية هي احترام الإنسان الفرد كذي قيمة ذاتيّة دون أن تصنّفه أيّ تصنيف كان”. وبترجمة قانونيّة ووطنية لهذا التحديد يتحدّث عن “العَلمانية الشخصيّة”، وهي تعني:

1-استقلالية الشخص، أو الفرد الإنساني أو المواطن عن ضرورة الانتماء إلى دين أو طائفة. 2-عدم تصنيفه منذ ولادته بحسب دين أبويه، ومن ثمّ عدم ذكر طائفته أو مذهبه في سجلّات النفوس. 3-إبقاء الحرّية الكاملة له في العائلة والمدرسة والمجتمع أن يكون أو لا يكون منتمياً إلى دين وممارساً لشعائره. 4-إبقاء الحرّية له أن ينتقل من دين إلى دين بدون معاملات رسمية، وبدون ضغوط عائلية أو مجتمعيّة، أو ترك أي دين بدون أن يكون في ذلك وصمة عارٍ أو نقص في قيمته الشخصية. 5-إمكانية زواج شخصين لا إيمان لهما، أو لا إيمان لأحدهما، بدون أن يكون هناك إكراه من الواحد للآخر، أو من ممثّلي دين الواحد تجاه الآخر، وبدون أن تحدث مضاعفات مجتمعية طائفية، لا مبرّر لها، وتُعتبر تدخّلاً غير مشروع في حرّيتهما”.([5])

والمتأمّل المتبصّر في معاني العَلمانية الشخصية التي يفصّلها أبونا غريغوار يرى ببساطة أنها مجرّد ترجمة عملية وتجسيد واضح وصريح لما نصّت عليه الشرعة العالمية لحقوق الإنسان بشأن الحرّية الدينية والفكرية والشخصيّة لكلّ فردٍ بشري. ما يعني أنه، وبالمفهوم الغريغواري، ثمة تماهٍ بين المسارين: العَلماني وحقوق الإنسان. والعَلمانية هي بالتالي الضامن الأساسي بل والضروري لاحترام هذه الحقوق وصونها. ومن دونها تبقى منتقصة ومبتورة!

ويعود مطراننا ليضرب على الوتر الحسّاس يقيناً منه أن العامل الدينيّ أو بالحريّ المخاوف والهواجس الدينيّة هي العائق الأساسي أمام العَلمانية واعتمادها نظاماً يضمن حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية، لا سيما في مجتمع تعدّدي كلبنان. فيؤكّد أن العَلمانية ليست تحرّراً من الدين، بل بالحريّ تحريراً له. يقول: “العَلمانية الشاملة ليست، كما يتّهمها البعض، تحرّراً وتحريراً من الدين، بل هي إسهامٌ في تحرّر الدين والإيمان من كلّ ما يشوبهما من انحرافات، وفي جعل الدين يحرّر المؤمنين بدلاً من أن يستعبدهم”([6]).وهو في كلامه هذا أوجز فأعجز: ردّ على المخاوف بما أسكتها وأفرغها من مضمونها، وأعجز المتحجّجين بأعذار ومزاعم واهية لنقد العَلمانية.

ولكن حدّاد، وهو مؤسّس تيّار المجتمع المدني والمتعامل دوماً مع الواقع، يدرك تماماً صعوبة المشروع العَلماني، والعوائق الكبرى الموضوعة من هنا وهناك وهنالك بوجه تحقيقه. بيد أن كلّ ذلك لا يعني بالنسبة إليه استحالة تطبيق هذا المشروع. يقول بلهجة واثقة جازمة: “أجل العَلمانيّة الشاملة ممكنة التحقيق. هي صعبة، وصعبة جدّاً، ولكنّها غير مستحيلة. هي ممكنة، لذلك هي واجبة التحقيق… وإذا كانت كلّ قيمة صعبة التحقيق تخسر المناضلين في سبيل تحقيقها، فسيظلّ المجتمع بلا ديموقراطية ولا حرّية ولا عدالة ولا مساواة إلى قيام الساعة”. (م.ن، ص6).

وهو يعود في أحد أواخر أحاديثه الصحافية ليؤكّد ثقته بانتصار العَلمانية أخيراً، ورغم كلّ الصعوبات: “العَلمانية لا يمكن أن تسقط، بل تقوى وتكبر وتنتشر… الأمر يتطلّب [في لبنان] مرور ثلاثين سنة ابتداءً من اليوم قبل أن يصير هناك اقتناع بالعَلمانية. العَلمانية ليست مستحيلة، بل صعبة جدّاً، وتتطلّب إيماناً كبيراً ورجاءً كبيراً، وصبراً كبيراً”([7]).

ويأتي حديثه هذا بمثابة وصيّة لكلّ مناضلي المجتمع المدني، وتأكيد أن في آخر النفق ضوءاً ونوراً.

الإسلام والمسيحية والعَلمانية

ولا يرى حدّاد أي تعارض بين الإسلام والعَلمانية، فهو يرفض المقولة الرائجة أن الإسلام دين ودولة، ويؤكّد: “الإسلام لم يبدأ ديناً ودولة، بل بدأ إيماناً ومجتمعاً بدوياً. ولم تكن في البداية دولة بالمعنى الحالي” (النهار، مقابلة مع هالة حمصي، 4/3/2010).

وفي مقابلة تلفزيون الميادين (برنامج أجراس المشرق، 21/7/2013) يعود مطراننا ليؤكّد ما سبق وكرّره من دفع للتضادّ بين العَلمانية والإسلام، يقول: “العَلمانية تتوافق مع الدين الإسلامي الحقيقي، وليس الدين الذي أصبح عندهم تراثاً متّكلين عليه أنه هو الدين الإسلامي الحقيقي، ولكنه ليس الإسلام الحقيقي. ففي القرآن هناك كلمات مهمّة جدّاً مثل “إلهكم وإلهنا واحد” لكم دينكم ولي ديني”، “ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة” ومعنى ذلك أنّنا إذا شدّدنا على الإيمان أكثر ممّا نشدّد على بعض المظاهر الدينية فيمكن كثيراً أن نصل إلى العلمانية”

وبشأن المسيحية يرى أسقفنا أنّها لا تتوافق مع العَلمانية وحسب، بل هي تطالب بها، وعليها أن تسعى إليها، يقول في المقابلة عينها: “المسيحية تطالب بالعَلمانية أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. كلمة مهمّة جدّاً فقيصر كان مسيطراً على العالم. ورفْضُ هيمنة قيصر معناه العلمنة بحدّ ذاتها”.

الزواج المدني ضرورة ملحّة

وممّا يستتبع القول بالعَلمانية والعمل في سبيل تحقيقها الدعوة إلى زواجٍ مدني، أقلّه اختياري. ومطراننا من الداعين إلى الزواج المختلط بين مختلف الطوائف والأديان، وهو من أبرز مشجّعيه. فهو يرى فيه طريقاً لدمج الفئات الاجتماعية والدينية المختلفة ومدخلاً لانصهارها في بوتقة وطنية واحدة. تشهد سعدى علّوه، إحدى الناشطات في تيّار المجتمع المدني الذي أسّسه: “كان السلام الأحرّ منذ عرفتُه، يوم أخبرتُه أنّي تزوّجتُ من غير ديني. ضحكت عيناه، وقال لي: مزيد من الجيل الوطني الواعي في لبنان”([8])

وتبدو ردّة فعل أبونا غريغوار بعيدة الدلالة: الزواج المختلط أداة فعّالة لخلق جيل وطني عابر للانتماءات الطائفية الضيّقة. ويبقى أن أبرز ما يسهّل عملية التزاوج والتثاقف هذه هو الزواج المدني، فهو يسقط حكماً، ومن دون مقدّماتٍ الحواجز والمعيقات الدينية بين أبناء الطوائف المختلفة والوطن الواحد. ولحدّاد الأسقف المسيحيّ مقاربة مميّزة لهذا الزواج، فهو يطرح عنه ما أشيع من أحكام مسبقة في الأوساط المسيحية الرافضة له، والتي تعتبره بمثابة زنى، يقول: “الزواج في ذاته اتّفاقٌ ما بين شخصين بكامل حرّيتهما، ولكلّ حياتهما. ومن يعمل الزواج ليس المطران أو الشيخ أو الكاهن. بل الرجل والمرأة معاً. لهذا السبب عندما يكونان التقيا وارتبطا بزواجٍ مدنيّ فزواجهما زواجٌ وليس كما يُعتقد في أوقاتٍ كثيرة أنهما يعيشان في الزنى. هذا أمرٌ خاطئ جدّاً” (النهار، 4/3/2010).

ويمضي أبونا غريغوار إلى أبعد من ذلك، فهو يضفي على الزواج المدني صفة السرّ الكنسي إذا كان المتزوّجان مدنيّاً مؤمنين بالمسيح، يقول متابعاً: “الزواجُ سرٌّ. ماذا يعني السرّ؟ إنه البُعد الروحاني للعمل. سرّ الأفخارستيّا يعني أنه من خلال الخبز والخمر على المذبح يؤمن الإنسان بأن المسيح موجودٌ معه. هناك سرّ وجود الله في الإنسان في الخمر والخبز في البشرية في كلّ شيء. وهذا يعني أن الزواج المدني سرّ إذا كان الرجل والمرأة مؤمنين بالمسيح. أمّا إذا لم يكونا مؤمنين يصير إذاً عقد زواجٍ عاديّاً” (م.ن).

وهذه المقاربة اللاهوتيّة للزواج المدني، الآتية من جانب أسقف كاثوليكيّ جليل، جديرة بالتأمل والتبصّر، فهي تنزع عن الزواج المدني ما أُلصق به من تُهم وتجنّيات، وتضعه في مصاف الزواج الكنسي الذي تعتبره الكنيسة سرّاني وفق التعبير الغريغواري أي واحداً من أسرارها السبعة Sacrements.

الحوار المسيحي الإسلامي

ومن أبرز معالم فكر أبونا غريغوار طروحاته بشأن الحوار المسيحي الإسلامي، وكان فيها، كشأنه دوماً، جريئاً وجذرياً ومجدّداً. وقد أسّس لجنة للحوار المسيحي الإسلامي خارج ما كان يسمّيه فولكلور الحوارات الدينية ساعياً إلى خلق مناخٍ حقيقي وجذري لهذا الحوار يبدّد المخاوف، ويتخطّى العقبات، ويفترض التنازل عن بعض الأفكار التاريخية والجاهزة.

وهو في مؤتمر الحوار الذي نظّمته الجماهيرية الليبية والفاتيكان شباط 1976 طرح ما يلي، وأعاد طرحه مراراً: “حتى يصبح هناك حوار ممكن بين المسلمين والمسيحيين يجب على المسلمين أن لا يقولوا أن المسيحيين يؤمنون بثلاثة آلهة بل بإله واحد، وعلى المسيحيين أن يؤمنوا بأن محمّداً هو نبيّ، وليس فقط إنساناً عاديّاً. وعندما يتوفّر هذان الشرطان ممكن أن نتقدّم قليلاً حتى على الصعيد العقائدي وهو أصعب من غيره”. (حديث إلى قناة الميادين، م. س).

وهذه المعادلة الغريغوارية جديرة بالتأمّل. بل بأن تكون موضع بحث ونقاش في مؤتمرات ولقاءات على أعلى الصُعد. وكم شكى مطراننا من سوء فهم المسلمين عموماً لعقيدة الثالوث المسيحية كما سنرى. وبناء على معادلته هذه ودعوته وضع أبونا غريغوار دستوراً عقائدياً، أو قانون إيمان مشترك مسيحي إسلامي جاء فيه: “نحن المسيحيين والمسلمين نؤمن منذ نشأة ديانتنا: 1-أن الله واحد أحد لا إله إلا هو. 2-أن ليس له شركاء يقاسمونه الألوهيّة. 3-أن ليس أرباب من دون الله يحقّ لهم السجود والعبادة. 4-أن الله لم يكن قطّ له صاحبة، ولم يتّخذ منها ولداً. 5-أنه لم يلد ولم يولد بالمعنى البشري المعطى لهذين التعبيرين. 6-أنه لم يكن له كفوءاً أحد. 7-أنه ليس كمثله شيء، ليس كمثله كائن أكان في الجماد أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الأرواح. 8-أنه المطلق والغني في ذاته غنى مطلقاً، لا ينقصه أي بعدٍ من أبعاد الكيان. 9-أن غناه الذاتي لا يمكن أن يدركه أحد، إلا إذا شاء أن يوحي إلى أنسان رسول أو نبي جانباً من هذا الغنى. 10-وأن الوحي بهذا الجانب من الغنى هو دائماً من أجل خير الإنسان والإنسانية وليس عبثاً ولهواً ولعباً. 11-وأن التعبير عن أي جانب من كيان الله وغناه لا يستطيعُ أن يكون وافياً، وأن يوصل عقل الإنسان أو إيمانه إلى الله وكنهه الحقيقي، إذ لا يقدر أن يكون خبرة داخلية. 12-لذلك فجميع الرسل والأنبياء الذين كلّمهم الله أو أوحى إليهم أو نزّل عليهم كلماته ليس لديهم التعبير المطلق عن الله، بل التعابير النسبية. 13-ولذلك جميع مناقشاتنا وصراعاتنا في كنه الله وجوهره وغناه هي دائماً دون الحقيقة المطلقة. 14-ولذلك أيضاً يجب الكفّ عن كلّ حوارٍ هدفه الوصول إلى تعبير واحد فريد مطلق معصومٍ عن الغلط يكفّر كلّ تعبير آخر. ([9]).

ويطول بنا المقام لو شئنا التوقّف عن كلّ بند من فعل الإيمان المشترك هذا الذي يقترحه المطران حدّاد. ونكتفي بالقول إنه يستمدّ تعابيره ومصطلحاته من النصوص القرآنية (بند 1، 3، 4، 5، 6، 7). أي أنه من موقعه كحبر مسيحيّ يعبّر عن إيمانه المسيحيّ، أو بالحري الإيمان المشترك المسيحي الإسلامي بمصطلحات وتعابير قرآنية أصيلة لا يمكن أن تكون مثار اعتراض من الجانب الإسلامي. وهو كذلك يردّ على كل النقوض الإسلامية للمسيحية والتي يعتبرها بالحري سوء فهم للعقيدة المسيحية. والمثل البارز على ذلك ما يقوله بشأن الموقف الإسلامي من عقيدة الثالوث: “القول بالثالوث هو ثالوث الأبعاد في ذاتٍ واحدة، كما أن أسماء الله الحسنى لا تدلّ إلى 99 إلهاً، بل 99 بُعداً لإله واحدٍ أحدٍ فردٍ صمد، كذلك ليست الأبعاد الثلاثة هي ثلاثة آلهة: آب وابن وروح قدس حتى يظنّ بعضهم أن التثليث في المسيحية شرك. هذا فهمٌ خاطئ وقاصر للمسيحية، رغم أنه رائجٌ جدّاً شعبيّاً”.([10])

هذه الأحكام المسبقة والمتداولة تنمّ عن جهل بل وتجهيل، لكلّ طرفٍ عن الآخر، وهي عائق أساسي بوجه كلّ حوار مثمر. لذا يدأب أبونا غريغوار على إظهار خطلها وتهافتها.

وهو يتوقّف كذلك عند المفهوم الإسلامي للمسيح، ويسعى إلى فهمه “مسيحيّاً” مقرّباً بين النظرتين: “المسيح رابط مشترك بين كلّ المؤمنين في الأديان السماوية. كلّ دين يقول بالمسيح ولو رسمه بما يباين الدين الآخر. المسيح هو كلمة الله وروح الله، كما يقول القرآن. وهذا التعبير الروحي رائع وشفّاف في ذات المسيح في أنه كلمة وروح. الكلمة تعبّر عن معنى الله، والروح هي جوهر الله، وما جوهر الأمر غير الأمر نفسه وهو ذاته. وهذا وجه من وجوه الالتقاء الجوهري في الإيمان الواحد، ولو تعدّدت مصطلحاته وتوصيفاته”.

إنها دعوة جدّية لطرفَي الحوار للتبصّر في التعبير الإسلامي عن هويّة المسيح واستنباط مشتركات عقائدية وإيمانية عديدة من هذا التعبير.

ومطراننا لا يوفّر كلا الطرفين من نقده. فهو لا يتعب من أن يضع الإصبع على الجرح في سبيل فهم واقعي للذات وللآخر. فمن دون ذلك ما من أمل حقيقي بالتقارب. ومن أبرز ما يطرح في هذا الصدد التمييز بين إسلام النصّ والإسلام التاريخي، وبين مسيحية الإنجيل والمسيحية التاريخيّة. يقول: “شهد تاريخ المسيحية انحرافات كثيرة، كما شهد تاريخ الإسلام انحرافات كثيرة أيضاً أدخلت الرسالتين نظرياً وتطبيقيّاً في منزلقات بعيدة عن الحكمة منهما” (البناء، 18/12/2015).  وهو هنا يشير إلى المحاولات الحثيثة من كلّ جانب لتنقية كلّ من التقليدين من الشوائب، وهو أمر لا بدّ أن يرتدّ إيجاباً ويساهم مساهمة فعّالة في التقريب بين الفريقين، يقول متابعاً: “وتحاول المؤسّسات الدينية ورجال الفكر والتنوّر المسيحيّون والمسلمون حالياً معالجة هذا التاريخ من الانحرافات والتشقّقات والانقسامات داخل كلّ دين منهما، وبينهما كذلك لتنقية هذا التاريخ من التشويهات التي أصابت جوهر الرسالتين” (م.ن).

وللمسيحيين والكنيسة حصّة وازنة من نقود حدّاد. يقول: “أردتُ دائماً أن يتغلّب الإيمان على ممارسة الطقوس الدينية، وأن تنصرف الكنيسة إلى تظهير عمق الدين بدلاً من الغوص بالتقاليد التي تميّز المسيحيّة عن الإسلام”([11]). ويردف هنا أنه آثر تكبّد مشقّة الثورة: “أكيد أن الاستسلام كان أهون من الثورة. ولكن هذا أنا، هكذا هو غريغوار حدّاد”.

وبشأن المخاوف والهواجس المسيحية في شرق ملتهبٍ تعمّه الأصوليّات، يشخّص مطرانُنا المعضلة بصورة معكوسة، فيقول: “لا أخاف على المسيحيّة في لبنان، بل أخاف على المسيحيّة من المسيحيين أنفسهم لأنهم لا يعيشون كما يريد المسيح! لذلك فأحد المواضيع التي يجب أن يعمل لأجلها المسيحيّون هو اقتداؤهم بالمسيح من جديد، ومحاولة العيش في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق بالرغم من الصعوبات التي تتكاثر وتتنامى”([12]).

وللمسلمين كذلك نصيبهم من النقد الغريغواري البنّاء والأخويّ: “لا أرى أي انفتاح من المسلمين على الآخرين، وخاصّة في المسائل السياسية. بل أراهم يتصارعون في ما بينهم سنّة وشيعة، وكأنهم عادوا في الزمن 1400 سنة إلى الوراء. هناك محاولات للقاء بين السنّة والشيعة، ولكن الصعاب كثيرة للتوصّل إلى القبول ببرنامج مشترك من دون أن يفكّر كلّ منهم في وضع اليد الطائفية على مقادير البلاد” (الأخبار، م. س)

وهنا يعيد أبونا غريغوار القول بوجوب الفصل بين إسلام النص والإسلام التاريخي. فكثيرة هي التفسيرات المضافة عبر التاريخ لتغطّي العديد من الممارسات، وهي في الحقيقة لا تتّفق وروح النصّ. يقول: “المسلمون بحاجة إلى إعادة النظر بالكثير من تفسيرات العقائد الدينيّة وطرق التعبير عن هذه التفسيرات التي تأثرت بأوضاع شتّى من خلال التاريخ الطويل”. وأول ما يقصد من تفسيرات ما قيل بشأن الإسلام انه دين ودولة في آن. فحدّاد لا يوافق على هذه النظرة، ولا يرى لها أسساً في القرآن، يقول: “ومن الأمور التي على المسلمين معالجتها هي إعادة النظر في مفاهيم الإسلام، وهل هو فعلاً دين ودولة؟ برأيي أن هذا الموضوع هو من أهمّ التحدّيات التي يجب النظر فيها. فالدولة الإسلامية لا أساس لها في القرآن الكريم. بل استناداً إلى عدد من العلماء الإسلاميين والمفكّرين المسلمين، فإنّنا نجد في تاريخ الإسلام مجتمعاً منظّماً يعيش فيه اليهود والمسيحيّون وتقبلهم الدولة بشكل اعتياديّ.” (الأخبار، م. س). وهنا يصل مطراننا إلى ذروة تحليله واستنتاجاته ليقول بصراحة ووضوح: “الدولة الإسلامية لا تصبّ في الإيمان الإسلامي، ومفهوم الخلافة الإسلامية أيضاً يناقض الدين. والدعوة إلى إقامة خلافة إسلامية لله في الأرض هي شركٌ ضدّ الله لأن المسلمين يؤمنون بأن لا إله إلا الله” (م.ن).

أما العلماء والمفكّرين المسلمين الذين يستند حدّاد إليهم في تحليله هذا كما أشار فمن أبرزهم علي عبدالرازق ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور.

ولا ينسى مطراننا أن يؤكّد أن الجانب الأبرز والأيسر في الحوار المسيحي الإسلامي يبقى الشأن الحياتي والعيش المشترك: “وإنما المسألة الأخرى هي أهمّ بكثير: أي الحياة اليوميّة للمسيحيين والمسلمين في كلّ الدول الإسلامية والمسيحيّة اليوم. الحوار بالحياة اليومية، بالحياة الإنسانية والحاجات الإنسانية. هذا المجال ممكن التغيير فيه أكثر فأكثر” (حوار على قناة الميادين، م. س).

 

 

سبر أغوار الكلمات والتمييز بين مدلولاتها

من أبرز وجوه المنهج الصارم الذي اعتمده مطراننا دقّته في استخدام التعابير والمصطلحات، وتدقيقه في الكثير منها وردّ الملتبِس من معانيها ومدلولاتها. ولعلّ العاصفة التي أثيرت بوجه مقالاته الإصلاحية في مجلّة آفاق 1974 جعلته يولي هذه المسألة المزيد من العناية، إذ اعتبر الكثير ممّا وُجّه من ردود قد نتج عن غموض أو التباس في الألفاظ المستخدمة ومدلولاتها. ففي المقالة الأخيرة من تحرير المسيح (ص151)، وردّاً على سؤال: من أين يأتي الغموض ثم الالتباس؟ يجيب المطران الأحمر: “من اللغة التي يُكتب فيها الموضوع. واللغة سببٌ لأكثر من التباس. فالمفردات المستعملة قد تكون غير مألوفة لدى القارئ، إما لقدمها أو لجدّتها، ولا يغرب عن البال كم دخلت من ألفاظ جديدة على العربية منذ عشرين سنة حتى الآن، ولا سيما في حقل العلوم الإنسانية. وهناك استعمال اللفظة بمعاني مختلفة دون التنبّه إلى هذا الاستعمال، أو استعمالها بمعنى جديد دون تحديده”.

ويضرب مطراننا أمثلة معبّرة عمّا يقول: “مسألة، مشكلة، أمر، شأن، معضلة، قضية. ألفاظٌ تُستعمل الواحدة بدلاً من الأخرى دون أي تمييز. وعدم التمييز بين الألفاظ من نقائص اللون الأدبي والصحافي في الكتابة، يعاني منه العالم العربي حتى الآن أكثر من غيره. بينما أصبح من الضروري تحديد الألفاظ في هذا العصر العلمي، لئلا ينتج عن سوء الاستعمال هذا خطأ”.([13])وهنا يميّز حدّاد بين معاني هذه المفرادات ودقائق مدلولاتها، فيقول: “إن أمراً ما يمكن أن يصبح شأناً إذا أصبح ذا أهمّية مهما كانت صغيرة. ثم مسألة إذا كان فيه علامات استفهام. فإن أُشكل حلّها أو تعقّدت أصبحت مشكلة. وإذا استحال حلّها أصبحت مُعضلة” أما كلمة قضيّة فيجب أن تتميّز عن كلّ هذه الكلمات إذ تتعلّق بالإنسان ذاته وهي ذات أهمّية كبرى بل هي مصيرية لإنسان فرد أو جماعة أو للبشرية كلّها” (م.ن).

هنا يذكّرنا حدّاد بالمتصوّف الحكيم الترمذي (ت نحو 320هـ) صاحب كتاب “الفروق ومنع الترادف”. وكان يرى أن ليس في العربية مرادفات، فلكلّ كلمة معنى يميّزها عن أي كلمة أخرى، وإن تشابهت المعاني أو تقاربت. ومن ميّزات الباحث الرصين الدقّة في استخدام المصطلح. في حين أن الكثير من الكتّاب يسير على نهج “كلّو عند العرب صابون”.والهدف الأساسي من علم “فقه اللغة العربية” التمييز بي مدلولات الكلمات ومعاني الألفاظ.

وممّا يستوقفنا من فروق مطراننا وتمييزاته نقده لمصطلح “رجال الدين”. فهم بالحري رجال المؤسّسة الدينية، في حين أن كلّ المؤمنين هم “رجال دين”. يقول: “من يسمّون بـ”رجال دين” الأفضل تسميتهم رجال المؤسّسة الدينية، أو الرسميين الدينيين أو المتفرّغين الدينيين (على لغة الأساتذة الجامعيين)، إذ إن الجميع مدعوون ومؤهّلون أن يكونوا رجال دين ونساء دين. بل أكثر من ذلك رجال إيمان ونساء إيمان. ولا احتكار في هذا ولا امتياز لأحد على أحد والحمد لله”.

ومن شأن هذا التدقيق والتمييز بين رجال الدين ورجال المؤسّسة الدينية أن يساهم في الحدّ من سلطة هؤلاء وامتيازاتهم ولا سيما في المجتمع اللبناني، وكم شكا مطراننا من ذلك، وقال وردّد: “للأسف، لا يزال رجال الدين في لبنان متمتّعين بسلطة على المجتمع وأذهان الناس. ولن يتخلّوا عن سلطاتهم وتدخّلاتهم إلا بعد فترة طويلة ربما”([14]).

ولعلّ الأصحّ القول: إلا مرغمين. وتاريخ الأديان والسلطات الدينية في الغرب شاهد على ذلك!

ومن الفروق اللغوية والفلسفية التي يركّز عليها أسقفنا التمييز بين العَلمانية والعِلمانية والعلمنة، يقول: “العَلمانية تعني في فهرسنا التي تعطي قيمة للعالَم وللإنسان وعناصرهما ومقوّماتهما دون اللجوء الحتمي إلى قيمة أخرى (الله، الروح…)، ولكن أيضاً دون رفضها أو محاربتها. بينما العَلمنية هي التي تضيف الرفض والمحاربة. الأولى كاللازم في الأفعال، والثانية كالمتعدّي. أما كلمة العَلمنة فهي عملية السعي نحو العَلمانية أو العِلمنية. ففي استعمالها خطر الالتباس هذا”([15])

ومن خلال هذا التمييز تأخذ العَلمانية الغريغواريّة معنى ومفهوماً يختلف عن المتداول. فهي عبارة مشتقّة من العالَم، أما تلك المشتقّة من العِلم فهي بالأحرى العِلمنية وليس العِلمانية! وذلك لمزيد من التمييز ورفع الالتباس. يبقى أن أبونا غريغوار لم يمضِ في رفع الالتباس هذا إلى خواتيمه. فلفظة علمنة تبقى ملتبسة المعنى إذ تعني في آن السعي إلى العَلمانية والعِلمنية. ولعلّ ثقل لفظة عِلمنة على السمع وغيابها عن المعاجم العربية جعله يحجم عن استخدامها.

ومن الفروق الأخرى تمييزه بين الإيمان والعقيدة والدين: “الإيمان هو الاختبار الحياتي في ذاته، والعقيدة محاولة تعبير فكري عن بعض نواحي الإيمان التي يمكن التعبير عنها فكريّاً. أما الدين فهو مجموعة العقائد والأخلاقيّات والعبادات، ومن ثمّ هو رهن الحضارة والثقافة واللغة التي ينشأ فيها”([16]).

وينتج عن هذا التمييز معادلة بالغة الأهمّية قلّما يُشار إليها، فالمساس بالدين والذي يعتبره الكثيرون من الكبائر، بل من المحرّمات، ليس مساساً بالإيمان. فالإيمان ثابت أما الدين فلأنه مجرّد تعبير في الزمان والمكان عن هذا الأخير، فهو متغيّر ومتحوّل. يقول غريغوار متابعاً: “ولهذا فالمؤمن لا يعيد النظر بإيمانه، بل بمحتويات الدين الذي يجسّد هذا الإيمان، وكلّ مساس بالدين ليس مساساً بالإيمان. وربّ متديّن قليل الإيمان، وربّ مؤمن أصيل لا يكون لديه من الممارسات الدينية إلا النذر القليل”.

والخلاصة فالمطران حدّاد في بحوثه اللغوية وفي ما ميّز من تعابير وابتكر من مصطلحات أظهر أنّه فقيه بالعربية ومتمرّس بها ومطّور لها في آن.

II-الأب لويس خليفة رائد التأوين في كنيسة لبنان

الأب لويس خليفة (1930-1997) الراهب اللبناني الماروني عَلَمٌ وعالمٌ بيبليّ لم ينل ما يستحقّ من اهتمامٍ بطروحاته في حياته. وكانت جذريّة وجريئة وهادئة في آن. نعود اليوم لنقرأ كلماته، فنشعر أنها كُتبت ليومنا هذا ولغدنا كذلك. “قفز بحدسه النبويّ إلى القرن 21” قال عنه رئيس رهبنته الأباتي تابت. “هزّ كراسي، أفاق نياماً، أيقظ كسالى، حرّك مسترخين، انّب ظالمين” قال عنه رفيق دربه الأب جوزف قزّي.

وفي زمنٍ تُطرح فيه مسائل الإصلاح الكنسي والوطني بإلحاح وتَفرض المقاربات الجديدة للنصوص الكتابية حضورها، نعود إلى “أبونا” لويس خليفه رائد التأوين في كنيسة لبنان، وداعية الانفتاح والتجديد الدائم لنستوحي من أفكاره النيّرة وطروحاته السبّاقة حلولاً ليومنا… وغدنا. ومن هنا كان هذا البحث الذي يعرض لأبرز ما كتب وناقش واقترح.

الله الأب

بداية المشوار الفكري واللاهوتي مع أبونا لويس تنطلق من مفهومه لله. فقد حذف من قاموسه الكثير من النعوت التي أطلقها الفلاسفة على الله. الله بمفهومه هو الأب وحسب، يقول: “كثير من النصوص في العهد الجديد على مثال يوحنّا وبولس تعلن لنا الله أباً، وتجعله حاضراً بيننا لتفعل أبوّته فينا، فهو الآب وحسب. ألا نعلم أن يسوع أتى بالجديد الوحيد وهو أن الله تجلّى بتجسّد المسيح، أباً لنا. أبوّة الله حدثٌ فريد لا مثيل له في العهد العتيق”([17])

وانطلاقاً من هذا المفهوم لله الأب تشهد علاقة الإنسان بخالقه تحوّلاً جذريّاً هو الإسهام الأساسي ليسوع في تاريخ الأديان! فتعليم الإنجيل في الماورائيات والكائن السرمدي يختصره أبونا لويس في عبارة “الله الأب”، يقول مستطرداً: “إنه الأب، لا الآب، كما فُرض علينا لفظه في العربية. لا يدعوه يسوع مرّةً الله، بل الآب أبي. ويلفظ الكلمة لا في العبرية، بل في الآرامية: أبّا، أبا، وهي خاصّة به، ولا نجدها في أي نصّ معاصر له” (م. ن)

ولاهوت أبونا لويس عمليّ بامتياز، لا يتوقّف مطوّلاً عند المسائل النظرية كمِثل ذات الله وصفاته… بل يركّز على انعكاسات كل ذلك على حياة الإنسان وقضاياه ومصيره. يقول: “إن تؤمن المسيحية بالله الأحد، وتعتبر وحدانيّته لا جدال فيها، فهي ديانة الثالوث. لا يهمّها الثالوث بحدّ ذاته، ولا يهمّها كيف يتفاعل الأقانيم الثلاثة في ما بينهم. يهمّها كيف يتفاعل الثالوث فينا، أيّ دورٍ يقوم به الأقنوم الأوّل أي الله الآب في حياتنا، وفي العالم؟ وأيّ دور يقوم به الأقنوم الثاني…) (م.ن، ص118).

الأولوية هي دوماً للإنسان، وهنا تكمن ميزة المسيحيّة وجُدّتها، ففي تفسيره لمثَل “السامريّ الطيّب” في الإنجيل يخلص الأب خليفة إلى: “عبثاً أفتّش عن الأب، أو بالأحرى عن الثالوث خارج الإنسان. فلن أجده. ليس يهمّني إلهٌ موجود بحدّ ذاته، يطلّ على الإنسان من علُ. إله أمثال الإنجيل مغلغل في لحم الإنسان ودمه”([18]).

وأولويّة الإنسان هذه يستلهمها أبونا لويس أولاً من المسيح الإنسان، أو بالحري الإله المتأنّس، ومن هنا تركيزه على إنسانية يسوع.

المسيح الإنسان

في معرض إلحاحه على إنسانية يسوع، وما ينتج عنها من أولويّة للإنسان يقول الأب خليفة: “قلّما نشدّد، في لبنان، على إنسانية يسوع، فنكتفي، من دون أن ننكرها مبدئياً، بالإلحاح على يسوع الإله، إلى أن دمجناه بالعبارة الله تعالى، مع أن الكلمة صار بشراً وعاش بيننا هي من صُلب النظرة المسيحية إلى يسوع، إذ انطلاقاً من إنسانيّته أعلن يسوع ألوهيّته وبشّر بملكوته”([19]).

والطريق اللاهوتي للوصول إلى يسوع الإله، تبدأ حُكماً بيسوع الإنسان. وهذه المعادلة الأساسية يستخلصها أبونا لويس من دراسته البيبلية للإنجيل الثاني إنجيل مرقس، فهو أكثر من ألحّ على إنسانية يسوع، يقول راهبنا: “لا يمكن أن نختبر يسوع الإله إلا من خلال يسوع الإنسان…وإذا ألحّ مرقس على حياة يسوع الإنسانية، فلأنه على يقين بأن إنسانية يسوع تصبّ في سرّ حياته اللاهوتية” (بيبليا، عدد 4، ص7). ويضيف: “لا وصول إلى يسوع الإله إلا من خلال يسوع الإنسان. وأقرب طريق إلى يسوع الإله هو يسوع الإنسان. وإلا لِمَ كان التجسّد؟!”

والتركيز على إنسانية يسوع هي الميزة الأساسية ليسوع جبران في كتابه “يسوع ابن الإنسان”، يقول أبونا لويس: “من حسنات يسوع جبران أنه يتجلّى في حقيقته الإنسانية أكثر منه في حقيقته اللاهوتيّة. وإنسانية يسوع لا تزال غريبة، في روحانيّتها في لبنان وفي الشرق (…) إذ نتجاهل يسوع الإنسان وكأنه ما تجسّد وصار واحداً منّا، وتقبّل النسبيّات ليبلغ المطلقات”([20])

وعن هذه النسبيّات يقول الأب خليفة متابعاً: “أن يتقبّل يسوع إنسانية الإنسان على علّاتها ولا يغيّر فيها شيئاً لصالحه. هذه هي النسبيّات…عاش يسوع جميع هذه النسبيّات كوسائل فريدة لبلوغ المطلق. أحبّ الإنسان النسبي ليصل، من خلاله، إلى حبّ الله المطلق”.

الطريق واضح إذاً فالإنسان هو البداية، ومنه ننطلق للوصول إلى الله، وليس العكس. فما هو هذا الإنسان؟

 

الإنسان جسدٌ وروحٌ معاً

في معرض تحديده للإنسان من منظور اللاهوت المسيحيّ والكتابيّ يهاجم الأب خليفة نظرة الفلسفة اليونانية إليه، والتي تسلّلت إلى المجال اللاهوتيّ، وسيطرت عليه حقبة طويلة، يقول: “يوم اجتاحت روحانية الكنيسة ولاهوتها فلسفةٌ يونانيّة أفلاطونية تعتبر الإنسان كائناً يتألّف من عنصرين مستقلّين بحدّ ذاتهما، ولكلّ منهما كيانه الخاصّ، النفس من جهة، والجسد من جهة، ولذا يمكن وجود الواحد بمعزل عن الآخر، كانت تلك الفلسفة، ولا تزال كارثة على الروحانيّة المسيحيّة” (خليفه، الليتورجيا، م. س، ص114).

كانت كارثة ولا تزال لأنها شوّهت، بل مسخت، النظرة الإنجيلية أو بالحري البيبلية إلى الإنسان، وبُنيت الروحانية المسيحية على هذه النظرة المشوّهة. يتابع أبونا لويس قائلاً: “الروحانية المسيحية كان من المفترض أن ترتكز في جوهرها على لاهوت بيبلي قائل بأن الإنسان لا يتجزّأ، هو نفس وجسدٌ معاً، لا وجود للنفس بدون جسد، ولا حياة ولا كيان للجسد بدون نفس، وجدا معاً ويعبران معاً، ويظلّ الإنسان إنساناً، يحيا إنساناً كاملاً، ويموت إنساناً كاملاً، ليقوم مع المسيح إنساناً كاملاً”.

ومن هنا فالقيامة بالمفهوم المسيحي قيامة للنفس والجسد معاً، ولا وجود للأولى بمعزل عن الثاني، وإلا صارت بهذين الوجود والخلود حقيقة قائمة بذاتها، وكائناً منافساً لله! يقول الأب خليفة: “لذا كان التعريف الكلاسيكي بالموت بأنه انفصال النفس عن الجسد، وبالقول إن النفس خالدة في طبيعتها هرطقة بالنسبة إلى اللاهوت البيببليّ وروحانيّته، إذ تناقض الوحي في العهدين العتيق والجديد. الوحي البيبلي يرفض أيّ ازدواجية في شخص الإنسان، ويرفض أي خلودٍ للنفس بمعزل عن الجسد. وكيف نؤمن بخلود النفس وكأنها حقيقة حتميّة تفرض ذاتها على الله؟” نحن نؤمن بالقيامة، قيامة الإنسان ككلّ، ونؤمن بأن القيامة ليست ملازمة للإنسان، إنها عطيّة إلهيّة مجّانية. يموت كلّ الإنسان، ليقوم الإنسان كلّه”.(م.ن)

ليس الجسد سجناً للنفس، ولا هو بمعيق لتطوّرها وتساميها، فكلاهما كلّ واحدٌ لا يتجزّأ، يقول أبونا لويس موضحاً ومصحّحاً: “هذا الجسد الذي اعتبرناه غالباً حاجزاً ومعيقاً للنفس، كما لو كانت النفس موجودة بمعزل عن الجسد. وكما لو كانت هي الجزء السامي من الإنسان، وما الجسد إلا سجنٌ لها”([21])

وبتعبير آخر فالإنسان مادّة وروح، ولا ينمو إلا بنموّهما معاً، يقول: “إن الإنسان عالمٌ تلتقي فيه الأرض والسماء، فلن يرتقي إلا إذا نما فيه الاثنان: الأرض والسماء معاً” (قزي، م. س، ص78).

ومع إعادة الاعتبار إلى الجسد، وتصويب النظرة إليه، تتصوّب أمور عديدة طالما نُظر إليها شذراً في المسيحية، وعلى رأسها النظرة إلى المرأة وإلى العلاقات الجنسية.

 

المرأة بنظرة جديدة

كما أن الإنسان نفْسٌ وجسدٌ معاً، كذلك فالإنسان رجلٌ وامرأة. فالرجل وحده إنسانٌ ناقص. هذا ما يستخلصه الأب خليفة من رواية الخلق في سفر التكوين من التوراة. ويضيف: “ولقد عبّرت رواية الخلق عن هذا النقص بالضلع الذي انتُزع من خاصرة الرجل. ولذا وجب للرجل كائن يكمّله، أي عونٌ يساعده على النموّ والنضوج، وعلى تحقيق المهمّات التي كلّفه بها الله: املأوا الأرض، فما رواية الضلع إذاً إلا صورة رمزية شعرية للمخطّط الإلهي: ليس حسناً أن يكون آدم وحده (تكوين2/18)” ([22])..

ومن رواية الخلق عينها يستخلص أبونا لويس أن المرأة متساوية جوهريّاً بالرجل، فهي، طبقاً لتعبيره: “كالرجل خُلقت بفضلِ تدخّلٍ إلهي مباشر ومميّز. هي متساوية بالرجل، وبالتالي إنها العون الحقيقي والصحيح له” (م.ن). ويضيف مفسّراً الرواية التوراتية: “المرأة، وبكلّ بساطة، خُلقت بإزاء الرجل، خُلقت مثله، بقربه، مماثلة له. ويصبحان بسبب تماثلهما وانجذابهما جسداً واحداً، يتساويان في كلّ شيء”

فمن آية سفر التكوين (2/24) {يكونان جسداً واحداً} التي يستعيدها المسيح (متى 19/5، ومرقس 10/8) يُستخلص منع تعدّد الزوجات والمساواة بين الجنسين، وأن كلّاً منهما إنسانٌ ناقص لا يكتمل إلا بالآخر.

والمساواة بين الرجل والمرأة يستنبطها أبونا لويس من نصّ توراتيّ آخر، هو الأحبّ إلى قلبه، وقد عرّبه وشرحه في طبعة قشيبة عنْوَنها “نشيد الأناشيد: أجمل نشيد في الكون”. فمن شرحه لآيات نشيد الأناشيد وتبصّره بمعانيها يستنتج راهبنا: “وحدة الحبيب والحبيبة: أنا لحبيبي وحبيبي لي (نشيد2/16)، فلا مكان لثالث، وانتهى تعدّد الزوجات والسراري”([23])  ويمضي الأب خليفة قُدماً، فهو لا يتوقّف عند نهاية تعدّد الزوجات، بل يرى في آيات النشيد تأكيداً واضحاً على المساواة بين الجنسين، فيقول: “المساواة بين الرجل والمرأة: فما عادت المرأة ملك الرجل، بل أصبحت المرأة صنو الرجل في الحبّ باحثة عنه بحثه عنها، مالكة له ملكه لها” (م.ن) ويخلص: “إذا ما تساوت المرأة والرجل في مجالات الحبّ، فقد تساويا في كلّ المجالات”.

وهذه النظرة إلى الرجل والمرأة شريكان على قدم المساواة ينتج عنها نظرة رائدة أخرى إلى الزواج وإلى الحبّ الجسدي تحرّره ممّا حُمّل من وزر!

الحبّ الجسدي من منظور آخر

ومن رواية الخلق في سفر التكوين يستخلص الأب خليفة تعليماً بيبلياً أصيلاً في الزواج. فيتوقّف عند الآية: {ولذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويتّحد بامرأته، فيصيران جسداً واحداً} (تكوين 2/24). ويؤكّد شارحاً أن الزواج الذي يحصل بين الرجل والمرأة هو أمتن علاقة يمكن أن تكون بين أهل الأرض. علاقة تكاد تلامس المطلق. علاقة أبدية كاملة عميقة مسؤولة كلّية. كلّها تُلقى على عاتق الرجل، وكلّها تُلقى على عاتق المرأة. وكلّها تقع على عاتق الاثنين من دون تقسيم ولا تجزئة، ويضيف: “لا يوجد قرابة أوثق من القرابة التي تنشأ بين الرجل والمرأة بفعل الزواج. إذ إنها أقوى من القرابة بين الأهل والأولاد. والمثل العامّي القائل: أنتِ عظمٌ من عظامي، ولحمٌ من لحمي: أنتِ من عظام الرقبة” ينطبق بنوع خاصّ على الرجل وزوجته التي هي عَظم من عِظامه لأنها خرجت من ضلع الرجل”([24]). ويتساءل أبونا لويس عن السرّ العميق الكامن في هذا التجاذب بين الرجل والمرأة، فيقول متابعاً: “لماذا يشعر الرجل بجاذبية عنيفة، وتوق متّقدٍ نحو المرأة؟ ولماذا هذا الحب الزوجي هو هكذا عنيف؟ ولماذا لا يجد الزوج والزوجة ارتواءً لتوقهما العنيف المتبادل إلا عندما يُصبحان بالفعل الزوجيّ جسداً واحداً في ولدٍ هو ثمرة هذا الجُماع وهذا الحبّ؟” (م.ن) ويخلص في تحليله وتأويله للنص التوراتي: “وما الرواية هنا إلا محاولة لشرح سرّ ثنائية الجنس، وسرّ الحبّ الزوجي”.

وعن الحبّ ببُعديه الروحيّ والجسدي يستنبط راهبنا التعليم البيبلي الأصيل من النص المقدّس الأحبّ إلى قلبه، أي نشيد الأناشيد. يقول في المدخل الذي وضعه لترجمته الجديدة للنشيد: “يدعو هذا السفر إلى التمتّع بلذّة الحبّ الجسديّ كهديّة رائعة أتحفنا الخالق بها. أنظروا على ما يقول نشيد الأناشيد، كيف يغتبط الحبيبان في حبّ متبادل يشمل كيانهما المتعدّد الغنى والطاقات، كحبّ آدم وحوّاء في الفردوس، وهذا ما تعنيه الآية {خلقهما الله ذكَراً وأنثى} (تكوين1/27)” (خليفة، نشيد، م. س، ص11)

وهنا يأسف أبونا لويس لتشويه هذا التعليم الأصيل في الحبّ، فيتابع قائلاً بمرارة: “كيف توصّلنا، في الكنيسة، إلى اعتبار هذا الفرح وهذه المتعة خطيئة وإثماً؟ كيف دمجنا بين الشهوة الجسدية واللاأخلاقية؟ جميع الحواسّ تشارك في غبطة الحبيبين، والشهوة الجسدية هي هي أخلاقية حبّهما. لأن هذا الحبّ الجسدي هو ما أراده الله للإنسان، حبّاً إنسانياً حتى الصميم، وإلا لما خلقهما ذكَراً وأنثى”. ويختم أبونا لويس مؤكّداً: “كلّا ليس هذا الحبّ حيوانيّاً، ولا جِرحاً أرضياً يجب تحمّله” (م.ن)

ويتوقّف الأب لويس متبصّراً في نظرة النشيد البالغة الدلالة إلى الحبّ الجسدي، فيقول: “ينظر النشيد إلى الحبّ الجسدي نظرة سليمة، نظرة الله إليه. فالله خلق الإنسان ذَكَراً وأنثى وجعل من لقائهما الجسدي سبيلاً إلى نضج الحبّ وإلى بقاء النوع البشريّ ونموّه”. ومن هنا يستوحي تحديداً بيبليّاً للحبّ: “ليس الحبّ البشريّ جسديّاً بحتاً، ولا روحيّاً بحتاً، بل هو إنسانيّ، جسديّ وروحيّ معاً” (خليفة، نشيد، م. س، ص12).

وانطلاقاً من هذا التحديد الكتابي الطابع يستغرب: “كيف نستقبح وصف مفاتن الجسد، ودورها في في إثارة الحبّ الطبيعي؟”

وقد توقّفنا مطوّلاً عند تفسير أبونا لويس الرائد والمميّز للنشيد في دراسة سابقة لنا([25])

بيد أن هذا العالِم الكتابي، وبعد ما أبدى من جرأة ونظرة ثاقبة في شرح النصّ البيبلي وتأويله، لا يفوته أن ينبّه ويحذّر من أيّ سوء فهم لتفسيره فيقول خاتماً: “إعادة الكرامة إلى الحبّ الجسدي لا تعني الدعوة إلى التفلّت والإباحية وتشريع كلّ حبّ جسديّ. إن المناداة بكرامة هذا الحبّ وبأخلاقيّته وبملازمته للحب الإلهي، واعتباره قبساً من الحبّ الإنساني والإلهي معاً يضعنا أمام مسؤولية خطيرة دقيقة تدفعنا إلى المزيد من الطهارة في مسلكنا، وإلى تكريس الصداقات والعلاقات الحميمة بطابع الصدق والشفافية والدفء الإنساني”.

ولكن ما سرّ هذه الجدّة في مقاربة النصّ البيبلي، بعهديه العتيق ولا سيما الجديد؟ وبالتالي استنباط المعاني والتعاليم الجديدة، أو بالحري المتجدّدة والمستجدّة منه؟ تعاليم تتوجّه إلى الإنسان المعاصر ومؤمن اليوم في عقله وقلبه ومختلف جوارحه…مفتاح المقاربة “اللويسية” يتجلّى في عبارة واحدة كان الأب خليفة رائدها في كنيسة لبنان، إنها “التأوين” وهو مبتكر هذا المصطلح كما يقول زميله الأب جوزف قزي في دراسته القيّمة عنه (قزي، م. س، ص40). فما هو التأوين؟ وكيف استخدمه أبونا لويس في مقاربة النصّ المقدّس واستنباط المعاني والتعاليم الجديدة/الأصيلة منه؟

رائد التأوين في كنيسة لبنان

عن هذا المصطلح الذي يحتلّ اليوم مكاناً مركزيّاً في علوم البيبليا وتفسيرها يقول الأب خليفة: “التأوين حديث الساعة في العالم البيبلي المعاصر. والكلمة: تأوين جديدة أفرزها التعمّق في منهجية تفسير البيبليا من جهة، والبحث في إيجاد حلّ لمشكلة تُطرح اليوم بنوع خاصّ من جهة أخرى، وهي إمكانية التوفيق بين لغة العصر، ولغة الوحي البيبلي” (خليفة، الليتورجيا، م. س، ص111). ويمضي راهبنا في شرحه فيتساءل: “أي علاقة تربط كلمة الله، كما هي في التوراة والعهد الجديد، بإيماننا ولغتنا اليوم؟ وهل من تفاعل متبادل بين كلمة الله في البيبليا، وكلمته في الليتورجيا والحياة؟” (م.ن)

ويجيب أبونا لويس مباشرة عن هذه الأسئلة بمعادلة جوهرية يطرح فيها مفهومه للتأوين، ودور هذا الأخير في تجديد الإيمان والحياة المسيحية، فيقول: “لا تُفهم حياتنا الإيمانية اليوم إلا على ضوء الإنجيل، ولا يُفهم الإنجيل إلا على ضوء حياتنا اليوم”.

التأوين إذاً هو إعادة قراءة للنصّ المقدّس على ضوء العصر ومستجدّاته، وهذا العصر لا يمكن للمؤمن أن يعيشه ويحيا فيه إلا مستنيراً ومسترشداً بنصّه المقدّس. وعبارة حياتنا اليوم، بمفهوم أبونا لويس: “تشمل الحياة الليتورجية وحياتنا الدنيويّة معاً” (م.ن) أي الحياة ببُعديها المطلق والنسبي، الروحي/التقوي والعالمي/الدنيويّ.

وفي تحديد آخر، يستمدّ راهبنا مفهومه للتأوين من مفهومه للإنجيل والبيبليا عموماً، يقول: “ينبغي اعتبار الإنجيل شهادات إيمان، ودعوة إلى الإيمان، وليس كتاب تاريخ. فالإيمان لا يخضع للتاريخ وإن ارتبط به”([26])

ويؤكّد أبونا لويس متابعاً على وجوب: “جعل التاريخ، بما فيه تاريخ الأديان، خادماً للإنسان، وليس الإنسان خادماً للتاريخ”. ومن هذه المعادلة الإنسانية الشاملة يستخرج ويستنتج ضرورة التأوين حاجةً ملحّة في حياة المؤمن وفي نمّو الكنيسة وتطوّرها، فيقول: “هذا يعني ضرورة تحليل النصّ البيبلي باستمرار على ضوء الحياة المتطوّرة والمتجدّدة” (م.ن) وهذا هو التأوين حصراً وتحديداً تفرضه طبيعة الإنجيل والبيبليا عموماً، وعلاقة المؤمن بهما، إذ يتابع راهبنا قائلاً: “لأنّنا نحن المسيحيين، أهل بشارة ولسنا أهل كتاب، أبناء التطوّر لا أبناء الثبات، أبناء الآب الذي تجسّد بالابن فسكن بيننا لا أبناء الأب المتعالي عنّا. فعلاقتنا به ومعه هي علاقة بنوّة وأبوّة، لا علاقة استدلال بالحكمة عن بُعد”. (م.ن)

والتأوين يفرضه كذلك المفهوم المسيحي والبيبلي عموماً للوحي الذي يختلف بطبيعته وآليّته عن التنزيل، يقول الأب خليفة في ذلك: “طالما أن البيبليا كلّها هي ثمرة عمل مشترك بين الله والإنسان، وليست كتاباً منزلاً، هي من صنع الإنسان بقدر ما هي من صنع الله، فلا بدّ إذاً من الاستعانة بمبادئ تفسيرية بشريّة علميّة لنفهم ما يريده الله، من خلال الإنسان، منّا”([27])

ما يعني أن الوحي في المسيحية والبيبليا هو للإنسان المتطوّر حيث هو، وكما هو. وليس نصّاً جامداً خُتمت معانيه، وخُتم على إمكانات فهمه وتطوّر هذا الفهم بالشمع الأحمر!

والتأوين ليس بدعة في عالم الكتاب المقدّس وتفسيره. فالأب خليفة يستوحيه من تقليد قديم وعريق في تفسير التوراة عند قدامى اليهود، إنه المدرش. ويعرّف به أبونا لويس كما يلي: “المدرش أسلوب أدبي يسعى إلى تفسير نصوص بيبلية على ضوء أحداث جديدة، وإلى الكشف عن معنى نصّ بيبليّ غامض على ضوء أوضاع اجتماعية تاريخية جديدة. فالمدرش إذاً نوع يُنتج معنى جديداً في حوار بين الحاضر والماضي، بين النصّ البيبلي القديم والواقع الآتي”. (خليفه، الليتورجيا، م. س، ص113)

وما فعله أبونا لويس في التأوين لا يعدو كونه نقل هذا الأسلوب التفسيري العريق في القدم إلى عالم الإنجيل والعلوم الكتابية، فهو يتابع قائلاً: “وهكذا يتفجّر المعنى في لقاء النور البيبلي القديم والواقع الآتي. وهكذا يبرز المعنى المسيحي نتيجة واقع ثقافي يتفاعل وحدث يسوع المسيح”. (م.ن).

وليس التأوين بمفهوم الأب خليفة وممارسته مجرّد مقاربة جديدة للبيبليا وتفسيرها، بل هو عمل تجديديّ تحديثيّ يطال الكنيسة مفهوماً ومؤسّسة وحياة. فلا حياة للكنيسة، ولا تطوّر ولا بقاء من دون تأوين. والتأوين بذلك يصبح مرادفاً بل ترجمة للتعبير الذي طرحه البابا يوحنا 23″ وجعله شعاراً لحبريّته وللمجمع الفاتيكاني الثاني الذي دعا إليه وافتتحه، أي Aggiornamento وبالعربية التحديث أو بالأحرى التأوين. ويقول الأب خليفة في ذلك: “الكنيسة قبل أن تكون مؤسّسة دينية كسائر الديانات، هي حركة يعصف فيها الروح حيث يشاء وكما يشاء… ومن يمكنه أن يحصر أنهاراً دفّاقة في قوانين وشرائع ثابتة؟ ومن يمكنه أن يحصر الروح العاصف في إناء مختوم” (بيبليا، عدد5، ص1).

ويبقى أن نورد أمثلة وبضعة نماذج من تأوينات أبونا لويس البيبلية.

من تأوينات أبونا لويس

ما ذكرناه من نظرة أبونا لويس إلى الزواج والمرأة والحب الجسدي ما هي كلّها سوى تأوين لرواية الخلق في سفر التكوين ولنشيد الأناشيد. وتبقى بضعة أمثلة أخرى لتكتمل الصورة.

فرواية الخلق إيّاها يعتبرها راهبنا أسطورة تعليمية، وليست تاريخاً، يقول: “لا تحاول البحث في الأساطير، ولا في رواية الخلق البيبلية عن معطيات وحقائق علمية وتاريخيّة بالمعنى الحديث. لا تجبرني على الإيمان بأن الكون خُلق حقيقة في سبعة أيّام. ولا تعتبرني جاحداً أو ملحداً إذا أنكرتُ ذلك…البيبليا تعليم دينيّ قبل كلّ شيء  إنها روحانية نستقبلها لنعيشها. وإذا كانت تاريخاً فهي تاريخ خلاص”.([28])

ويمضي الأب خليفه قُدماً في تأوينه، فقصّة خلق المرأة من ضلع الرجل هي: “تعليم لاهوتي رائع إنّما في أسلوب أسطوري لا يمتّ إلى حقيقة تاريخيّة بأيّة صلة” (بيبليا، عدد 1، ص6). والفردوس الأرضي، أي جنّة عدن: “ليست مكاناً جغرافيّاً، ولا مرحلة تاريخية من مراحل تاريخ البشرية، بل هي وصف حالة يمكن الإنسان أن يختبرها في الحياة بقدر اقترابه من الخالق المحبّ، وكُتبت بأسلوب تاريخيّ وأسطوري معاً” (م.ن)

و”رواية الخلق أسطورة لا تاريخ، وقصة الخروج من مصر تاريخ تغلّف بالأسطورة”. (م.ن).

ويبقى من أبرز تأوينات أبونا لويس رفضه وجود الشيطان حقيقةً إيمانية، يقول: “لا أحد يشكّ بوجود يسوع، ولكن لا يمكننا قول ذلك عن الشيطان… إن النصوص القديمة تقبل بوجود الشيطان محافظة على لغة التقليد… والمجمع الفاتيكاني الثاني والبابوات بعده لم يشذّوا عن التقليد. بينما يلفت النظر أن اعترافات الإيمان الأكثر قدماً (كقانون الرسل، وقانون مجمع نيقيا) تؤكّد غفران الخطايا، ولكنها لا تذكر الملائكة ولا الشيطان. وبتعبير آخر لا إيمان بالشيطان. إنه فقط موضوع معرفة. ولا يتوافق اللاهوتيّون حول هذا الموضوع”.([29]).

ويبقى الموضوع الأعزّ على قلب أبونا لويس والأقرب إلى اهتماماته اليومية هو كنيسة لبنان تحديداً: تأوينها وتحديثها وإصلاحها لتواكب العصر، وتحافظ على الحضور المسيحيّ الدائم في المشرق، وهي المسؤول الأول عنه.

هموم كنيسة لبنان

ويتبسّط أبونا لويس في عرض مشاكل كنيسة لبنان التي تحوّلت برأيه من مكان للنبوّة إلى مؤسّسات كهنوتية، ومؤسّسات إدارية وطقوسية وعقارية وأموال وأملاك. (بيبليا عدد5، ص1).

ويتألّم الأب خليفة لبطء المسار في هذه الكنيسة وعزلتها عن التطوّر الذي تشهده العلوم اللاهوتية والكتابية، فيقول: “كنيستي تتطوّر بدون شكّ، ولكنها تتطوّر وتنمو ببطء السلحفاة. والثورة التي تطلقها الأبحاث البيبلية المعاصرة لم تمسّها بعد إلا في القشور”!([30]).

ويبلغ كلامه ذروة الأسى والتأثير حين يشبّه أبونا لويس كنيسة لبنان ببولس قبل اهتدائه إلى المسيح، كنيسة مكبّلة بالشريعة والجمود تماماً كما شاوول قبل دعوته. فيقول واضعاً الإصبع على الجرح: “ما زلنا في أكثريّتنا الساحقة شاوول الشريعة، ولمّا نعبُر بعد إلى بولس الرسول. وكم نحن في حاجة اليوم إلى بولس ليقيمَنا من هذه التجربة، فنخلع عنّا ما تكدّس من ذهنيّات تحجّم المفهوم الصحيح لشخصيّة المسيح ورسالته”. (بيبليا، عدد3، ص1). وتصل به الحسرة والثورة إلى أن يهتف عالياً في أذن مسيحييّ لبنان: “اخلعوا ثوب شاوول، والبسوا ثوب بولس. اتركوا الحقد… والبسوا المحبّة” (م.ن).

وهو لا يأنف من أن يشير، وبمرارة، إلى مسؤولية كنيسة لبنان ومسيحييه عن الحرب، وهو بذلك يصل إلى قمّة الجرأة وذروة النقد الذاتي المطلوب من كل اللبنانيين، يقول: “ربّما كانت اللطخات المشوّهة وجه كنيسة لبنان من أهمّ أسباب الحرب اللبنانية” (بيبليا، عدد5، ص1).

وبشأن الكنيسة، ولا سيما كنيسة لبنان وسلطاتها أعلن راهبنا بجرأة وواقعية: “تشبه السلطة الكنسيّة اليوم نظاماً ملكيّاً قديماً أكثر ممّا تشبه جماعة من الناس متساوين، لأنهم إخوة وأخوات، أبناء وبنات أب واحد” (بيبليا، عدد 33، ص1).

ويبقى الحلّ الأساسي يكمن في التجدّد ولا سيما في التأوين: “كيف لا يتأون التراث ولا يواكب التجدّد؟! إن الجمود هو الموت إيّاه. والحركة والنموّ والتطوّر ومواكبة الأحداث والعلم واكتشاف المجهول هي علامات الحياة والرقيّ” (بيبليا، عدد35، ص1).

ومن أبرز خواتيم رحلة أبونا لويس اللاهوتية والفكرية الشيّقة والشاقّة في آن أنه وضع الكنيسة، والمسيحية عموماً وسائر الديانات التوحيدية أمام الخيار الصعب: “إمّا أن تبقى سلطويّة، أو أن تصبح إنسانويّة” (خليفة، نبيل، م. س، ص279)، وكان سبّاقاً في ذلك.

 

خاتمة

تلك تجارب مثمرة بل وثورويّة في الإصلاح في كنيسة لبنان استوحت من المجمع الفاتيكاني الثاني ومن كنيسة ولاهوت التحرير في أميركا اللاتينية أسساً لها، وكانت بدورها مصدرَ وحي لتجاربَ ومحاولاتٍ لاحقة. وهي تلتقي في أكثر محاورها مع “الثورة من فوق” التي يقودها البابا فرنسيس اليوم، ولا عجب في ذلك فالكلّ استوحى من المصدرين الآنفي الذكر: الفاتيكاني الثاني ولاهوت التحرير.

وأثرُ هاتين التجربتين تجاوز أحياناً نطاق المسيحية لنلمح أصداءً لهما في الإسلام كذلك: فبعض الدراسات التأويلية الراهنة للنصّ القرآني ترجّع صدى تجارب التأوين في الدراسات البيبلية. وبحوثُ المطران حدّاد في العَلمانية وطروحاته في مجال الحوار المسيحي الإسلامي شقّت ثغرة في الجدار المرتفع بين الفريقين، وهي تبشّر اليوم بالمزيد من التفاعل بينهما والتطوّر في هذا المجال. ومن هنا فأبرز نتائج تجارب الإصلاح هذه تكمن في أنها تشرّع الأبواب للتلاقي والحوار مع الأديان الأخرى ولا سيما الإسلام، وتبلور قناعة مفادها أن الحوار يبقى حجر الزاوية في وعي الذات أولاً، ومعرفة الآخر كما هو تالياً. ومن دون هذين الركنين ما من تطوّر حقيقيّ يرتجى اليوم.

المراجع

-حدّاد، غريغوار، تحرير المسيح والإنسان، بيروت، منشورات مجلّة آفاق، ط1، 1974،

-خليفة، علي، المطران والشيطان قراءات ومحطّات في تجربة غريغوار حدّاد، بيروت، شركة المطبوعات للنشر، ط1، 2018،

-حدّاد، غريغوار، العَلمانية الشاملة، بيروت، دار مختارات، ط3، 2005،

-قناة الميادين، برنامج أجراس المشرق، حلقة مع المطران غريغوار حدّاد، 21/7/.2013

-جريدة النهار، بيروت، مقابلة مع المطران حدّاد أجرتها هالة حمصي، 4/3/2010

-الكتاب السنوي، السنة الخامسة والثلاثون، 2016، الحركة الثقافية-أنطلياس لبنان، وثيقة بخط يد المطران حدّاد.

-جريدة البناء، حوار مع المطران غريغوار حدّاد، بيروت، 28/12/2015

-جريدة السفير، مقالة عن المطران غريغوار حدّاد، بيروت، 4/1/2009.

-جريدة الأخبار، بيروت 28/1/2016، من حديث أدلى به المطران حدّاد إلى كمال ديب في 2010.

-خليفه، لويس، هل الليتورجيا تركيزٌ للوحي البيبلي أم تحديث له، ضمن الليتورجيا والكتاب المقدّس، الكسليك، ط1، 1991،

-مجلة بيبليا، عدد 27، أيار-حزيران 1994، إفتتاحية للأب لويس خليفة.

-خوري، كارول، يسوع جبران، سلسلة بيبليّات 7، مقدمة الأب لويس خليفة،

-قزي، جوزف، الأب لويس خليفة الراهب اللبناني الماروني، غزير/لبنان، منشورات دير مار أنطونيوس، ط1، 1998،

-بيبليا، عدد25، ك2-شباط 1994، مقالة رئيس التحرير الأب لويس خليفة. وكذلك سائر أعداد هذه المجلّة من عدد1 إلى عدد40.

-خليفه، لويس، نشيد الأناشيد، الكسليك/لبنان، جامعة الروح القدس، ط1، 1994،

-صليبا، لويس، الرغبة المبتسرة محاولات وأبحاث في المحرّم، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2013،

-خليفة، نبيل، شخصيّات قدّمتُها ومناسبات شاركتُ فيها، جبيل، مركز بيبلوس للدراسات، ط1، 2014،

 

[1] -حدّاد، غريغوار، تحرير المسيح والإنسان، بيروت، منشورات مجلّة آفاق، ط1، 1974، ص58.

[2] – خليفة، علي، المطران والشيطان قراءات ومحطّات في تجربة غريغوار حدّاد، بيروت، شركة المطبوعات للنشر، ط1، 2018، ص105

[3] -حدّاد، غريغوار، العَلمانية الشاملة، بيروت، دار مختارات، ط3، 2005، ص46.

[4] -قناة الميادين، برنامج أجراس المشرق، 21/7/2013

[5] -حدّاد، العَلمانية، م. س، ص53.

[6] -حدّاد، العلمانية، م. س، ص64.

[7] -جريدة النهار، بيروت، مقابلة مع هالة حمصي، 4/3/2010

[8] -خليفة، م. س، ص116.

[9] -الكتاب السنوي، السنة الخامسة والثلاثون، 2016، الحركة الثقافية-أنطلياس لبنان، ص232-233، وثيقة بخط يد المطران حدّاد.

[10] -جريدة البناء، بيروت، 28/12/2015

[11] -جريدة السفير، بيروت، 4/1/2009.

[12] -جريدة الأخبار، بيروت 28/1/2016، من حديث أدلى به إلى كمال ديب في 2010.

[13] -حدّاد، تحرير المسيح، م. س، ص153.

[14] -خليفة، م. س، ص20.

[15] -حدّاد، تحرير المسيح، م. س، ص9.

[16] -حدّاد، تحرير المسيح، م. س، ص156.

[17] -خليفه، لويس، هل الليتورجيا تركيزٌ للوحي البيبلي أم تحديث له، ضمن الليتورجيا والكتاب المقدّس، الكسليك، ط1، 1991، ص124.

[18] -بيبليا، عدد 27، أيار-حزيران 1994، إفتتاحية.

[19] -بيبليا، عدد4، ص1.

[20] -خوري، كارول، يسوع جبران، سلسلة بيبليّات 7، مقدمة الأب لويس خليفة، ص7.

[21] -قزي، جوزف، الأب لويس خليفة الراهب اللبناني الماروني، غزير/لبنان، منشورات دير مار أنطونيوس، ط1، 1998، ص78.

[22] -بيبليا، عدد25، ك2-شباط 1994، ص3.

[23] -خليفه، لويس، نشيد الأناشيد، الكسليك/لبنان، جامعة الروح القدس، ط1، 1994، ص11.

[24] -بيبليا، عدد25، م.س، ص3.

[25] -صليبا، لويس، الرغبة المبتسرة محاولات وأبحاث في المحرّم، جبيل/لبنان، دار ومكتبة بيبليون، ط2، 2013، ص17-20.

[26] -خليفة، نبيل، شخصيّات قدّمتُها ومناسبات شاركتُ فيها، جبيل، مركز بيبلوس للدراسات، ط1، 2014، ص284.

[27] -بيبليا، عدد22، تموز-آب، 1993، الافتتاحية.

[28] -بيبليا، عدد2، أذار-نيسان، 1990، ص4

[29] -بيبليا، عدد30، أذار-نيسان 1995، ص1.

[30] -بيبليا، عدد19، ك2/1993

شاهد أيضاً

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its prevention.

Notes from a videoconference by Lwiis Saliba on Zoom, May 2024, about Alzheimer’s and its …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *