اسفار الاسرار

سبق وتوقفنا فـي دراستنا: النساطرة والإسلام: جدلية علاقة وتأثر” عند العلاقات المميزة بين الإسلام والنساطرة وما أُثير بشأن الأثر المحتمل للعقيدة النسطورية فـي الإسلام. وتساءلنا إذا ما كان هذا الأثر فـي الاتجاهين أم لا. وما يثير انتباهنا هنا أن النظرة البانورامية على تاريخ كنيسة المشرق تبيّن ارتباطاً وثيقاً فـي المصير بين النساطرة والدولة الإسلامية. وذلك عبر قرون طويلة. ولنوضح باختصار مقولتنا هذه: فمن سوء طالع الكنيسة المشرق أنها لم تعرف فـي تاريخها الطويل والعريق استقلالاً سياسياً. فهي إما عاشت فـي ظل حكم أكاسرة الفرس، أو فـي حمى الدولة الإسلاميّة أو بالأحرى فـي ذمّتها.
وفـي ظلّ ملوك الفرس عاشت الكنيسة النسطورية تارة فـي هدوء وسلام، وطوراً فـي اضطراب ومحنة كالاضطهاد الأربعيني وغيره. وما أن استولى الغزاة العرب على الدولة الفارسية حتى نما النساطرة فـي ظلّ حكمهم نموّاً سريعاً وتكاثرت أبرشياتهم، ووصلت إرسالياتهم فـي العصر العباسي الذهبي إلى الهند والصين والتبت. ولا تزال لهم فـي بعض تلك البلدان والأصقاع آثار بل وحضور.
ويعتبر العديد من مؤرّخي المسيحية الشرقية أن انحدار الكنيسة النسطورية كان انعكاساً لانحطاط الخلافة العباسيّة. إنها واقعة تاريخيّة لافتة تبيّن عمق أواصر الارتباط وتداخل المصير  بين كنيسة المشرق والدولة الإسلاميّة. فحتى شهر العسل الذي عرفه النساطرة إثر سقوط بغداد بيد هولاكو 656ﻫ/1258 لم يكُن إلاّ ومضة برق عادوا بعده ليغوصوا فـي دياجير الانحطاط الذي عرفته أرض الإسلام فـي ظلّ حكم المغول. ويعبّر مؤرّخنا صليبا بن يوحنا فـي أخبار البطاركة الذي ننشره فـي هذا المجلّد عن خيبة الأمل هذه، فيقول فـي آخر فصل من الأخبار والمخصّص للجاثليق يهبالاها الثالث المغولي الأصل:«وانهبطوا (النصارى) فـي آخر أيامه إلى ذلة ردية، وتجدّد عليهم أخذ الجزية والإهانة، واستمرّت إلى هذا التاريخ» (فصل 77//).
شهر العسل هذا ما أشبهه بِز“صحوة الموت” التي تصيب المنازع،فيُظن أنه استعاد عافيته وقواه فـي حين أنها لا تعدو أن تكون فرصة أخيرة يودّع فيها الحياة.
لِمَ كانت كنيسة النساطرة تقوى مع الدولة الإسلامية، وتضعف بضعفها؟! إشكالية تستحق التوقف عندها والتأمّل. وقد حاولنا أن نعطي عن ذلك بعض الإجابات فـي الباب الرابع والأخير من دراستنا. وخلاصتها أن القوي منفتح ومتسامح،أما الضعيف فغالباً ما يموّه عن ضعفه بتزمّته والتعصّب. تلك كانت غالباً حال النصارى ولا سيما النساطرة منهم فـي أرض الإسلام وفـي ظلّ الدول والعصور الإسلاميّة المتعاقبة.
وهذا التفاعل بين النساطرة والإسلام لا بدّ أن يكون قد ولّد تأثيراً فـي الاتجاهين. وإذا كنا قد تناولنا الاتجاه المنطلق من النسطورية فـي دراستنا “النساطرة والإسلام: جدلية علاقة وتأثر”، فنحن نذكر هنا أبرز ما اعتبره البعض أثراً للإسلام فـي الكنيسة النسطورية:
–    ليس فـي كنائس النساطرة أيقونات ولا صلبان عادية، بل مجرّد صليب رمزي بسيط( ).
–    تسمح الكنيسة النسطورية بإعادة زواج الكهنة بعد وفاة زوجاتهم( ).
–    يرأس الكنيسة النسطورية بطريرك أو جاثليق كما سائر الكنائس، ولكن وظيفته تختلف عن وظائف سائر البطاركة، لأنه، يجمع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة لشعبه، لا سيّما تحت الحكم التركي( ). وقد تحوّلت السدّة البطريركية إلى منصب وراثي يرثه ابن الأخ عن عمّه فـي كنيسة المشرق.
–    لا محل للأيقونات والصور فـي كنائس النساطرة وبيوتهم. ويرجع الباحث المستشرق فورتسكيو Fortescue ذلك إلى تأثير إسلامي( ). وكان تجنب الصور المقدّسة الذي يشاركون فيه بصفة عامّة بعض البروتستانت قد جعل الناس يطلقون على هؤلاء لقب “نساطرة الغرب”.
ولا يتّسع المقام بنا هنا ونحن نقدّم لأسفار الأسرار والدراسة التي تسبقه للاستفاضة فـي تناول هذه النقاط عرضاً ونقاشاً، لذا نكتفي بذكرها مؤشراً لعلاقة مميّزة بين النساطرة والإسلام.
ازدهرت كنيسة المشرق بازدهار الدولة الإسلاميّة، قلنا، وانحطّت بانحطاطها. فها هي فـي العصر الإسلامي الذهبي عصر  هارون الرشيد والمأمون ومعاصرهما الجاثليق طيموتاوس الكبير (780 – 823) تعيش هي الأخرى عصرها الذهبي تنظيماً وتبشيراً وفكراً ولاهوتاً الخ… فكانت النسطورية أكثر انتشاراً فـي كل العالم من غيرها من المذاهب. إلاّ أن التطوّر السريع للنساطرة فـي آسيا لا يعادله سوى الانحدار السريع لنفوذهم فـي أواخر العصور الوسطى. فقد انتهوا إلى الغرق فـي المحيط الإسلامي وكانوا الروّاد فـي التفاعل معه. وانقلب التسامح المستنير للخلفاء المسلمين الأوائل إلى تعصّب شديد عند الأسر التي أسلمت حديثاً أمثال السلاطين الإيلخانيين من خلفاء هولاكو وغيرهم. فانتهت الفرصة النسطورية، وإلى الأبد كما يبدو، ولم تقم لهم قائمة بعدها، لا سيما إثر الاضطهادات العديدة التي ذهبوا بالألوف ضحية لها. وقد عبّر عن هذه المأساة أحد مفكري النساطرة: إبراهام يوحنان فـي كتاب له عنوانه جدّ معبّر: موت أمة. وفيه يقارن الإبادة المنظّمة للنساطرة بما حصل للقبائل الهندو أميركية من أزتيك Aztèques وإنكا Incas وهنود حمر فـي العالم الجديد( ). وهو يعتبر أن المحن المتتالية والمتكرّرة التي تعرّض لها النساطرة تفوق ما تعرّض له الأرمن من مجازر وإبادة جماعية فـي عاصمة أرض الإسلام.
تلك كانت مقدّمة موجزة، ولكن ضرورية لفهم ما تطرحه دراستنا/المدخل إلى أسفار الأسرار من آراء وإشكاليات. لا سيما وأننا لا نتطرّق فيها إلى الكنيسة النسطورية فـي الزمن الحديث والمعاصر، ولا إلى تأثراتها المحتملة بالإسلام.
والدراسة المذكورة تخصّص الباب الأوّل للبحث فـي موسوعة أسفار الأسرار ومصنّفها صليبا بن يوحنا وما نعرفه عن سيرته ومؤلّفاته. وتتوقف عند أبرز ميزات الموسوعة وأقسامها ومنهجيتنا فـي نشرها وتقديمها.
والباب الثاني يعرض أبرز محطّات تاريخ كنيسة المشرق قبل الإسلام، فيقدّم بذلك مدخلاً مفيداً إلى القسم التاريخي من موسوعة أسفار الأسرار أي أخبار بطاركة كرسي المشرق.
ويتوقف عند نشاط هذه الكنيسة التبشيري الذي وصل إلى الهند والصين والتيبت، ما يدلّ على ديناميكيتها. واتساع نفوذها فـي عصر الازدهار.
أما الباب الثالث فيعرض لعقيدة نسطور من زاوية حوارية مسكونية تسعى إلى جمع الشتات وعودة الأبناء إلى حظيرة واحدة. فنسطور كما بيّن العديد من الأبحاث الحديثة لم يكن نسطورياً، وقد تعرّض مذهبه بفعل سوء الفهم والعداوات والصراعات بين الكنائس إلى الكثير من التجنّي من جانب والتحوير من جانب آخر. وجاءت اللقاءات المسكونيّة والبيانات الكريستولوجية بين الكاثوليك والآشوريين (كنيسة المشرق) وسائر الكنائس لتدعم هذا التوجّه وتعزّزه، كما يبيّن فصل 4///باب 3// من الدراسة.
أما الفصل الأوّل من الباب 3// نفسه فيستأنف دراسة جدلية العلاقة بين النسطورية والإسلام عبر مناقشة ومحاولة استجلاء الأثر المحتمل للإنجيل الرباعي الموحّد “الدياطسرون” فـي النظرة القرآنيّة إلى النصرانيّة والنصارى. وهو موضوع يستحق الكثير من الاهتمام والتدقيق، ولا يزال شبيهاً بغابة عذراء تنتظر مغامراً يكتشف ويميط اللثام.
تبقى المساهمة الأبرز لدراستنا كامنة فـي بابها الرابع. فمنه اتخذت إسماً لها وعنواناً.
سبق لنا فـي الدراسة/المدخل للمجدل أن نشرنا واستقرأنا عهود الخلفاء العباسيين إلى بطاركة النساطرة ورؤساء اليهود. وفـي الدراسة الحاضرة نستكمل البحث بقراءة متأنية لسائر وثائق أهل الذمّة، ونتوقّف بالأخص عند “عهدة عمر” أو الشروط “العمرية” ونبحث  فـي أصلها ونسبتها وأثرها الحاسم فـي أوضاع اليهود والنصارى فـي أرض الإسلام. وإذا كنا استندنا فـي بحثنا هذا إلى الكثير مما سبقنا من دراسات، فلعلّ جديد مساهمتنا يكمن فـي إثبات وضع هذه الوثيقة المهمّة استناداً إلى المنهج الفيلولوجي فـي دراسة الألفاظ، وكذلك فـي ربط عهدة عمر بوثائق وعهود موضوعة وردت فـي كتاب الخراج للفقيه الحنفي أبي يوسف. وكان من شأن هذا الربط أن يسلّط أضواءً مهمّة، لعلّها جديدة، على مراحل تكوّن الوثيقة العمريّة وانتشارها وتطبيق بنودها. هذا التطبيق الذي كان من شأنه إلحاق المصائب بل والكوارث بأهل الذمّة فـي أرض الإسلام عبر العصور وتوالي الدول والحكّام. وكان الحكّام يزدادون تشدّداً وتشبّثاً بتطبيق الشروط العمريّة كلّما ازدادوا هم ضعفاً ودولهم وهناً كما بيّنا فـي دراستنا.
هذا فيما يختصّ بالدراسة/المدخل.
ماذا عن النصوص التي ننشر من موسوعة أسفار الأسرار أو كتاب التواريخ وهي أبرز الأقسام التاريخية والعقائدية فيها؟
لقد اجتهدنا أن نخدم النصوص المنشورة بكل ما يتوجّب من شروط النشر والتحقيق. وفصّلنا الكلام على ذلك فـي باب 1///فصل 3// من دراستنا، فلا ضرورة للتكرار هنا.
وأخيراً ها نحن نواصل مشوارنا فـي“تاريخ النصارى فـي الإسلام”. مشوار نشاؤه طويلاً يتوقف عند الكثير من محطّات هذا التاريخ ودقائقه وتفاصيله.
محطّات كثرت فيها المصائب والأتراح من دون أن تغيب الأفراح. لعلّها حال الدنيا بسعدها ونكدها.
ويبقى رهاننا المستمرّ أن نعرض ونسعى أن نفهم لا أن نحكم.
إنه شعارنا الدائم، وطالما كرّرناه فـي كتاباتنا الفرنسية والعربية:
En Sciences des Religions cherche à comprendre et non pas à juger
فـي علم الأديان إسعى أن تفهم لا أن تحكم.
وإليه نضيف هنا الجهد فـي أن نضيء على الماضي فـي سبيل تفهّم واعٍ للحاضر واستشراف متنبّه للغد.
Q.J.C.S.T.B
    د. لويس صليبا
باريس فـي 30/12/2011

شاهد أيضاً

توما الأكويني والإسلام – بحوث في مصادره الإسلامية وردوده على الفلاسفة

توما الأكويني والإسلام – بحوث في مصادره الإسلامية وردوده على الفلاسفة نبذة:كانت علاقة القدّيس توما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *