د. لويس صليبا
كلمة في احتفال مسيحي-اسلامي في عيد الميلاد
مركز الدراسات الأنتروستراتيجية. الصرفند/جنوب لبنان21/12/2015
حرب الفتاوى في عيد الميلاد
في كلّ عام،و في مثل هذه الأيام، ومنذ أكثر من عقد من السنين، تشتعل حروب الفتاوى والتراشق بالفقه والأدلّة،والموضوع إياه : تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد ورأس السنة وجوباً، أم جوازاً، أم تحريماً.
في العام المنصرم، وفي عيد الميلاد تحديداً أي في 25/12/2014 أصدرت دار الإفتاء المصرية بالتنسيق مع الأزهر فتوى أكدت فيها جواز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. وقالت دار الإفتاء إن هذا الفعل يندرج تحت باب الإحسان الذي أمرنا به الله عزّ وجلّ مع الناس جميعاً دون تفريق مذكرة بقوله:« وقولوا للناس حسناً»(البقرة/83)
وأبرز ما اعتمدت عليه دار الإفتاء النصّ القرآني الصريح :« لا ينهكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحبّ المقسطين»(الممتحنة60/13)
ورأت دار الإفتاء أن هذه الآية تؤكد بصراحة:« أن الله لم ينهنا عن برّ غير المسلمين ووصلهم وإهدائهم وقبول الهديةمنهم.» ( )
وثارت ثائرة السلفيين والوهّابيين على هذه الفتوى واعتبروا أنها كلام مرفوض جملة وتفصيلاً( )
وذكّروا بفتاوى وآراء ابن تيمية وابن قيّم الجوزية وابن كثير وسائر أئمّتهم. وفتاوى مشايخ الوهّابية المعاصرين المستندة إليها، ومنها فتوى الشيخ محمد الصالح العثيمين، وممّا جاء فيها:
«تهنئة الكفّار بعيد الكريسماس أو غيره من أعيادهم حرام بالاتفاق كما نقل ذلك ابن القيّم في كتابه أحكام أهل الذمّة حيث قال: “وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصّة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنّئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول : عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرّمات”»( )
ولا نعلم عمّن نقل الشيخ العثيمين ولا ابن القيم قبله التحريم المزعوم للتهنئة.
ويضيف العثيمين معقّباّ على ابن القيم: « وإنما كانت تهنئة الكفّار بأعيادهم الدينية حراماً لأن فيها إقراراّ لما هم عليه من شعائر الكفر ورضى لهم به»( )
وردّ فقهاء الأزهر وعلماؤه من ناحيتهم على الردود السلفية. فقال الدكتور عبد المعطي بيومي عميد كلية أصول الدين في الأزهر:« الفتاوى المتشدّدة لغو لا يستحقّ الوقوف عنده »وأضاف : تلك التهنئة واجبة لشركاء الوطن ودلّل على رأيه بأن الرسول كان يستقبل الوفود غير الإسلامية ويرحب بهم، ويسمح لهم بالصلاة في المسجد النبوي.»( )
وقالت د. سعاد صالح أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر ردّا على الفتاوى السلفية والوهّابية:«هذا الرأي يخضع لفكر سلفي متشدّد. فالرسول كان يزور جاره النصراني في أثناء مرضه، وقام لجنازة يهوديحينما مرّت عليه. وهذه التصرّفات من الرسول تجعلنا نرفض كلّ الآراء المتشدّدة.) (
وقال الدكتور محمد رأفت عثمان عضو مجمع البحوث:« القواعد الشرعية تقول إن الأصل في الأمور الإباحة ما لم يرد نصّ بالتحريم. والمشاركة في التهنئة بعيد الميلاد لا تمسّ عقيدة المسلمين من قريب أو بعيد. بل هي من باب البرّ والإحسان إلى شركاء الإنسانية الذي نادى به الإسلام») (
وحتى الشيخ يوسف القرضاوي مفتي الإخوان المسلمين المعروف بتشدّده ردّ على الفتاوى الوهّابية وأفتى بجواز التهنئة ، وقال: « بمناسبة احتفال المسيحيين بأعياد رأس السنة الميلادية أجيز تهنئتهم إذا كانوا مسالمين للمسلمين، وخصوصاً من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة ، والرفقاء في العمل.» ) (
وأشار الشيخ القرضاوي إلى أن :« مراعاة تغيّر الأوضاع العالمية والحرص على تبنّي فقه التيسير هو الذي جعلني أخالف شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في تحريمهما تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم. (…) ,إذا كان المسيحيون يهنئون المسلمين بأعيادهم فالله يقول «وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها”(النساء/68)» ) (
وبعد هل من المنطق أن نحكي عن حوار مسيحي-إسلامي ،ومجرّد تهنئة بسيطة للمسيحي بعيدِه لا تزال إلى يومنا تشعل حرباّ ضروساً من الفتاوى؟!
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الشافي محمد عبداللطيف أستاذ الحضارة والتاريخ الإسلامي في الأزهر:« إن المسلمين قد تركوا الجوهر ليتفرّغوا للقشور ، وهو ما عاد علينا بالواقع الذي نحياه. فكلمة عيد سعيد أو كل عام وأنت بخير لا تعني ولا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلى اعتناق دين الآخر وممارسة طقوسه. ولكن الأمر بات وكأن المسلمين لا همّ لهم سوى طرح المزيد من الإشكاليات الفرعية بدلاً من الاهتمام بشؤون دينهم والقيام بها»
والخلاصة فحرب فقهية كهذه تجعلنا نفهم لمَ لا يزال الحوار المسيحي الإسلامي يراوح مكانه منذ أكثر من نصف قرن.
درس في الحوار المسيحي-الإسلامي من القرن3هـ
ليتنا في هذا الحوار أقلّه نستوحي سيرة السلف الصالح. يروي ابن النديم(ت380ه) في كتابه الشهير الفهرست عن إمام أهل السنة في زمانه ومناظِر المعتزلة في حضرة المأمون عبدالله بن محمد بن كُلاّب القطان(ت241هـ) وحواراته ولقاءاته مع اللاهوتي المسيحي فثيون النصراني ما يلي:«عبدالله بن محمد بن كُلاّب القطّان. وله مع عبّاد بن سليمان[المعتزلي] مناظرات. وكان يقول : إن كلام الله هو الله. وكان عبّاد يقول إنه نصراني بهذا القول.قال أبو العبّاس البغوي دخلنا على فثيون النصراني ، وكان في دار الروم الجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كُلاّب فقال رحم الله عبدالله، كان يجيئني فيجلس في تلك الزاوية، وأشار إلى ناحية من البيعة. وعنّي أخذ هذا القول.»
ابن كُلاّب إمام أهل السنّة كان إذاً يأتي اللاهوتي فثيون في كنيسته في دار الروم في بغداد ويتحاور معه، بل ويأخذ عنه. ويضيف ابن النديم ناقلاً عن فثيون قوله عن ابن كُلاّب: «ولو عاش لنصّرنا المسلمين» ويمضي ابن النديم راوياً:«قال البغوي وسأله محمد بن اسحق الطالقاني فقال ما تقول في المسيح، قال :ما يقوله أهل السنّة المسلمون في القرآن[كلمة الله غير مخلوق].»
يشير اللاهوتي فثيون بصراحة ووضوح هنا إلى أن عقيدة أهل السنة في القرآن كلمة الله غير المخلوق والتي كان ابن كُلاّب أستاذ الإمام الأشعري إمام أهل السنّة في العقيدة وعلم الكلام من روّادها مستوحاة من عقيدة المسيحيين في المسيح كلمة الله كما يقول يوحنا في مستهلّ إنجيله:«في البدء كان الكلمة». والمولود غير المخلوق كما يقول قانون الإيمان المسيحي الذي وضعه مجمع نيقيا 325م.
وابن كلاّب لا غبار على عقيدته السنّية.يقول عنه عبد القاهر البغدادي(ت429هـ) إمام الشوافعة وصاحب الفرق بين الفرق :« من متكلّمي أهل السنّة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد التميمي الذي دمّر على المعتزلة في مجلس المأمون وفضحهم ببيانه وآثار بيانه في كتبه.»
ويدرجه الشهرستاني صاحب الملل والنحل(ت548هـ) مع تلميذيه المحاسبي والقلانسي ضمن أهل السنة والجماعة الأوائل فيقول عن الثلاثة:« هؤلاء كانوا من جملة السلف إلاّ أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية» ويعتبر الشهرستاني الثلاثة: ابن كلاّب والحارث بن أسد المحاسبي وأبو العباس القلانسي الأتباع المباشرين لمالك بن أنس وأحمد بن حنبل الذين ساروا على منهج السلف فلم يتعرّضوا للتأويل ولا تهدّفوا للتشبيه.
ويقول الحافظ الذهبي(ت748ه)عنه:«ابن كُلاّب رأس المتكلّمين بالبصرة في زمانه. أخذ عنه الحارث المحاسبي علم النظر والجدل(…) لحق به أبو الحسن الأشعري. (…) والرجل أقرب المتكلّمين إلى السنّة بل هو من مناظريهم. وكان يقول بأن القرآن قائم بالذات بلا قدرة ولا مشيئة. وهذا ما سُبق إليه أبداً .قاله في معارضة من يقول بخلق القرآن.»
ويقول ابن تيمية(661-728هـ) في فتاويه (12/202-205) عنه:« وابن كُلاّب إمام الأشعرية أكثر مخالفة لجهم. وأقرب إلى السلف من الأشعري نفسه»
والتفاعل بين الأديان تأثراً وتأثيراً قاعدة عامّة يندر أن نجد لها استثناء. إنها مقولة أساسية في علم الأديان المقارنة الذي نعلّمه في الجامعات.
وهذا نموذج راقٍ من التفاعل والحوار يعلّمنا إياه السلف، فمتى نقتنع أننا محكومون بالحوار؟!
شجرة الميلاد شمعة تضاء
إنها لفرحة كبرى أن نلتقي بهذه المناسبة الكريمة في هذا الصرح الأكاديمي مركز الدراسات الأنتروستاتيجية الذي يحرص ببادرة من مؤسسه الشيخ مازن بكري أن يجمع دوماً اللبنانيين بمختلف أطيافهم . وعسى شجرة الميلاد التي أضأنا لتوّنا تكون شمعة في ليل التكفير والإرهاب الذي نعيش فيه. فخير للإنسان أن يشعل شمعة حب من أن يلعن سواد الظلمةكما يقول المثل اليوناني القديم. وقلّة هم أولئك الذين يعرفون أن شجرة الميلاد تقليد كان الهدف منه إلغاء عادة وثنية ذميمة. فالقديس بونيفاسيوس (ت754م) الذي نشر المسيحية في ألمانيا تصدّى لعادة عند الألمان الوثنيين كانت تقضي بتقديم ضحية بشرية ذبيحة تحت شجرة ليلة عيد الميلاد. فأمر بقطع الشجرة ووضعها في إحدى الكنائس وتزيينها بالأنوار والهدايا. فتحوّلت من شجرة إعدام تسفك تحتها الدماء إلى شجرة الميلاد المباركة التي نعرفها اليوم . وغدت تقليداً سنوياً يرافق هذا العيد.
ومحاضرنا الليلة المونسنيور بولس الفغالي غني عن التعريف، فهو علاّمة في الكتاب المقدّس واللاهوت. له أكثر من 330 كتاباً في هذه المجالات. وله دراسات في الإسلاميات ولا سيما المسيح في التراث الإسلامي ستصدر قريباً في كتاب. والحديث عنه يطول ولا ينتهي، وهي فرصة ثمينة أن نستمع إليه في هذه الأمسية المباركة يحدّثنا عن موضوع شيّق: الميلاد في الإنجيل والقرآن.