عبد الرؤوف سنو
تحت الحكمِ العثماني، احتفظ الأرمن، كما بقية الجماعات غير الإسلامية في السلطنة، باستقلالهم الذاتي وفق نظام الملة العثماني. ومع التحولات التي أتى بها القرن التاسع عشر، من ناحية تنامي المشاعر القومية لدى الشعوب، تحولت المسألة الأرمنية قضية شعب ينشد الاستقلال وإقامةَ دولته القومية على أرمينيا التاريخية.
بنظرة موضوعية، يمكننا أن نضع الطموحات القومية الأرمنية على قدم المساواة مع طموحات العرب القومية للاستقلال عن الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. لقد وقع الأرمن ضحية مصالح الدول الكبرى، في حين وقع العرب ضحية تقاسم بلدانهم بين بريطانيا وفرنسا منذ العام 1916. لكن الفرق بين الاثنين، أن الأرمن تعرضوا لمجزرتين فريدتين بشعتين في التاريخ المعاصر: الأولى في العام 1895 والثانية خلال العام 1915، وقضي على جمهوريتهم في مطلع العشرينيات من القرن الماضي.
***
في العام 1890 ولمواجهة القومية الأرمنية ومخططات روسيا وفارس، ولإحداث توازن في شرق الأناضول، عمد السلطان عبد الحميد الثاني إلى التلاعب بالأقليات الدينية والاثنية، عبر إنشاء “الأفواج الحميدية” من الأكراد، واستغلال تعصبهم القبلي والإسلامي لوضعهم في مواجهة الأرمن، إدراكاً منه لتضارب مصالحهم “الجيوسياسية” في المنطقة. كانت ردة الفعل الأرمنية على السياسة العثمانية، نشاطاً لافتاً لمنظمات أرمنية في أوروبا، وتأسيس حزبين: الهانشاق بطابعه الماركسي في جنيف في العام 1887، والطاشناق في تفليس بعد ثلاثة أعوام على ذلك التاريخ. وكان الحزب الأخير أكثر التزاماً بالقضية الأرمنية في السلطنة.
وفيما اعترف السلطان عبد الحميد الثاني بوجودِ ملّة أرمنية ينتشر أفرادها في أنحاء بلاده، رفض مقولة وجود “شخصية قومية أرمنية”، ورأى أن الأرمن لم تقم لهم دولة مستقلة أبداً، وأن إعطاءهم كياناً سياسياً مستقلاَّ لن يُوقف تطلعهم نحو الاستقلال، ولا التدخل والتحريض الخارجيين، فضلاً عن أنه لا ينسجمَ مع السيادة العثمانية ويهز صورته كخليفة. ولهذا السبب، نظر السلطان بشك وريبة إلى تحركات الأرمن الثورية. وعندما وافق الصدر الأعظم جواد باشا في أيار 1895، وبضغط أوروبي وبريطاني بخاصة، على منح الأرمنِ استقلالاً ذاتياً، صعق السلطان وأقالَه على الفور، ثم علّق على تلك الحادثة بالقول: “…لا أستطيع أن أتخيل وضعاً أشد ضرراً من استقلال ذاتي للأرمن على رأسِ ما حصلوا عليه من امتيازات… كيف أتسامح إذن مع وزير وضع خاتم موافقته على مثل هذا الاقتراح… إن واجباتي تجاه ديني ودولتي وبلادي، التي يجب أن أضعها فوق كل اعتبار، تحتم عليّ أن أمنع هذه النكبة”.
وما لبث السلطان أن استغل الاضطراباتِ الأرمنية منذ عام 1892، وامتناع الأرمنِ عن دفع الضرائب، ثم حوادثِ ساسون عام 1894، والنشاط السري المتزايد للمنظمات السرية الأرمنية باستيراد السلاح وتوزيع المناشير المعادية للعثمانيين والتحريض على الثورة، فضلاً عن تدخل روسيا ومخططاتِ بريطانيا لتقسيمِ السلطنة في العام 1895 بوفاق دولي، وتظاهرة أسطول الأخيرة أمام مدخل الدردنيل في خريف 1895 دعماً للاستقلال الذّاتي للأرمن، وأخيراً، تظاهراتِ الأرمن في أيلول 1895 أمام مقرّ الحكومة العثمانية، ليباشر ما يُعرف في التاريخ بـ “المذابح الأرمنية”. فبعدما أثار المسلمين في السلطنة بالإعلان عمداً في 17 تشرين الأول 1895 عن إصلاحات للأرمن، أرسل عملاءه إلى المناطق لترويج الضغوط التي يتعرض لها المسلمون من جراء فرض هذه الاصلاحات، وأخذ يحرك العصبية الطائفية ويحرض الأكراد والأتراك ضد الأرمن باسم الشريعة والدين. ووُزعت منشورات تُحِل للمسلمين ممتلكاتِ الأرمن، وتمتدح قدرة المسلمين على إخماد أية إنتفاضة أرمنية. فأدى هذا إلى وقوع اشتباكات إسلامية – أرمنية دموية واسعة في الأناضول شارك فيها أكراد من “الأفواج الحميدية”، وسط استنكار دولي.
وفيما اعتبر مسلمو السلطنة موقف أُوروبا المؤيِد للأرمن “نوعاً من الحرب الصليبية ضد الإسلام”، وشكلوا جمعيات في ولاياتِ السلطنة الشرقية لإحباط أية إصلاحات تُمنح للأرمن، وصف السلطان عبد الحميد الثاني المجازر بحق الشعب الأرمني بـ “العمل الدفاعي”، واتهم أُوروبا بالتحيز ضد بلاده على أساس عصبية دينية، وتساءل: “لماذا لم تحركَ أُوروبا ساكناً عندما ذُبح المسلمون في بلغاريا في مطلعِ الأزمة البلقانية؟” وعلقَ بالقول: “هل دم المسلم أقل قيمة من دم المسيحي؟”. وفي خريف العام 1896، قال السلطان: “من خلال انتزاع صربيا واليونان ورومانيا، قطعت أُوروبا أيدينا وأرجلنِا، وبقيت الأمة الإسلاميةُ ساكنة. ولكن بإثارة المسألة الأرمنية، فأنتم (أي أوروبا) تنبشون في داخلنا وتمزقون أحشاءنا، وهذا ما لا نستطيع احتمالَه، وسوف، بل يجب علينا أن ندافع عن أنفسنا”.
وفي إطار إستراتيجيته “الوقائية” هذه، أصدر السلطان قانوناً في العام 1896 فرض بموجبه على المسلمين ضريبة من أجل التسلّح، وسط دعوات أئمة المساجد المسلمين للانصياع لهذا المرسوم. فكان هذا القرار خاطئاً، إذ وضع مكونات “الشعب العثماني” الدينية والإثنية في مواجهة بعضها البعض، بدلاً من أن تتولى الدولة معالجة الأمور بما ينسجم مع طموحات الأرمن القومية والمصالح القومية العثمانية. وأسفرت المواجهات عن مقتل ما بين 100 ألف و300 ألف أرمني، أي ما يعادل ما نسبته 10% من أرمن الدولة العثمانية، وتهجير حوالى 100 ألف آخرين إلى القوقاز. صحيح أن العثمانيين استخدموا القمعَ الوحشي لضرب الحركة الأرمنية الثورية، إلا أن الصحيح أيضاً أن تذبذب مواقف الدول الكبرى من المسألة الأرمنية، ساهم إلى حدٍ كبير في استفراد الدولة العثمانية بالأرمن. وهذا ما جعل الأحزاب الأرمنية تكيّف نضالها القومي في سياق الأوضاع الدولية.
صدام القوميتين
بعد القضاء على حكم السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1909، تعاون حزب الطاشناق مع النظام الجديد في اسطنبول (لجنة الاتحاد والترقي) على توحيد السعي نحو الدستوريةِ وحلِّ المشكلات العالقة. وبسبب خشية النظام الجديدِ من تحريك روسيا الأرمن بلاده، قام بإصلاحات من جانبه لم تغيّر من أوضاع الأرمن. وفي شباط 1914، قبلت السلطنة على مضض بإصلاحات للأرمن فرضتها روسيا عليها، فضلاً عن تعيين مفتشين للإشراف على تطبيقها. لكن اندلاع الحربِ العالمية الأولى وانحياز السلطان العثماني إلى ألمانيا، جعل الدولة العثمانية تتجاهل الإصلاحات.
ومع إعلان السلطان العثماني الجهاد ضد دول مسيحية (بريطانيا وفرنسا وروسيا) لخدمة دول مسيحية أخرى (ألمانيا تحديداً)، هي حلفاؤه في الحرب الكونية، وفي الوقت نفسه تعظيم ايديولوجية القومية التركية، بدأت طموحات الأتراك تعمل على بسط السيادة العثمانية على ولايات الأناضول الشرقية، وباتت الحرب العثمانية – الأرمنية أمراً واقعاً، على الرغم من دعوة حزبِ الطاشناق في مؤتمرِهِ في أرضروم في تموز 1914 إلى مساندة الدولة العثمانية، حتى أن بعض الأرمن انضم إلى الجيش العثماني في مطلع الحرب، أو أكره على ذلك. لكن الدولة العثمانية رفضت القبول بنأي أرمنِ السلطنة بأنفسهم عن أرمنِ القوقاز المتعاطفين مع روسيا، وطالبتهم بدفع إخوانهم في القوقاز للتحرك ضد روسيا. وما لبثت العلاقات بين أرمن السلطنة والسلطات العثمانية أن تدهورت خلال الحربِ، نتيجة ما لحق بالأخيرة من خسائر أمام روسيا، وأمام بريطانيا في العراق ومصر.
وبين نيسان 1915 وأيلول 1918، قررت الحكومة المركزية العثمانية اقتلاع الأرمن من المناطق الحدودية مع روسيا، ومن كيليكيا وشمال سوريا، ومن الأناضول، واتخذت قرارات بإبادتهم. وكان العثمانيون قد خيروا في عصر السلطان عبد الحميد الثاني بعض الأرمن ما بين اعتناق الإسلام والتعرض للمجازر. لكن هذا الخيار تلاشى في مرحلة الإبادة. فضلاً عن ذلك، عمل الأتراك على مصادرة أملاك الأرمن وبيوتهم وأراضيهم، بهدف ضرب الاقتصاد الأرمني لدوره المميز في السلطنة، وكذلك كل مقومات الحياة للشعب الأرمني، وصولاً إلى الحياةِ نفسها.
استمر تطهير المناطق العثمانية من الأرمن حتى العام 1923. ويقدر أحد المؤرخين الأرمن عدد ضحايا أبناء شعبه ما بين 700 ألف و900 ألف. في المقابل، ترفع بعض التقديرات الأرمنية عدد الضحايا إلى ما بين 1.5 و1.6 مليون نسمة. ومن دون الوقوع في لعبة الأرقام، فقد حلت مأساة حقيقية بالشعب الأرمني يتحمل الأتراك مسؤوليتها، والدول الكبرى كذلك، التي حرضت الأرمن ضد الأتراك، ثم تركتهم فريسة لهم. إن قبول بريطانيا وفرنسا وروسيا في نيسان 1916 بإلحاق مناطق أرمنية بروسيا، في سياق تقاسم ممتلكات الدولة العثمانية، دلَّ على مدى خداع الدول الكبرى وتلاعبها بمشاعر الأرمن القومية. أما الدولة العثمانية، فاعترفت في معاهدة باطوم في حزيران 1918 بجمهورية أرمنية عاصمتها يريفان. وفي أيار من العام التالي، أُعلنت “الجمهورية الأرمنية الموحدة”. وفي معاهدة سيفر في آب 1920، اعترفت الدولة العثمانية بأرمينيا دولة حرة مستقلة، إلا أن تسارع الأحداث بعد الوفاق بين الاتحاد السوفياتي والدولة العثمانية، جعل الجمهورية الناشئة فريسة للتوافق بين مصالح الدولتين، فجرى تقليصُ حدودِها وعددِ أفراد جيشها، وفرض شروط مجحفة عليها، فيما احتل السوفيات جورجيا. تبع ذلك، توقيع الاتحاد السوفياتي والسلطنة معاهدة موسكو (16 آذار 1921) لتمتين “علاقات الصداقة والأخوة بين البلدين”.
وبعد الانتصارات التي حققتها الحكومة الكمالية على اليونان في الحرب بين العامين 1919 و1922، وإزاء التصلب التركي، أعاد الحلفاء النظر في كل المعاهدات المتعلقة بالسلطنة، ورفضت الأخيرة بعد انتصارها على اليونان اقتراحاً للحلفاء بإعطاء الأرمن “وطناً قومياً”. هكذا، قُضي على الحكم الأرمني في المقاطعات الشرقية، وصُنفت “أرمينيا التاريخية” من بين المسائل العالقة في ملفات الدول الكبرى، وأصبح الأرمن بموجب معاهدة لوزان “أقليات” في الجمهورية التركية.
■ أقسام من مقالة أطول
استاذ في الجامعة اللبنانية
2012-06-24