كتبٌ كثيرةٌ كُتبت في القدّيس شربل مخلوف، طبعت في القارئ كِبر هذا الحبيس الذي تماهى مع الله في حياةٍ أرادها معه وحده، في الإطار الرهبانيّ الديريّ، ثمّ النسكيّ لاحقًا
وفي كتابٍ مميّز للأب بولس ضاهر، يظهر من خلال “كلمات شربل” القليلة، ولكن الصارخة بمعناها والقويّة بمدلولاتها، أنّ شربل والكلام غيرُ صديقين. وكأنّي به عاملٌ بوصيّةٍ جاءت بعده على لسان مواطنه في السماء ولبنان، الطوباويّ أبونا يعقوب الكبّوشي: “إذا صمتتَ، تكلّم مع يسوع. وإذا تكلّمتَ، تكلّم عن يسوع”.
وجاء الدكتور لويس صليبا يهدينا دراسةً في مجلّد، يصوّر لنا شربل من زاويةٍ خاصّة لكن مميّزة! يقدّمه لنا في “حكاية قداسة عنوانها الصمت”. “شربل رفيقُنا الصامت”، حدّدت حكاية الصمت في عالمه، شخصه القدّيس. نظر الدكتور صليبا إلى قداسة شربل من باب الصمت. وصمت شربل بوّابة عبوره إلى الله، عاش من خلاله الفضائل الإلهيّة والمشورات الإنجيليّة، وتمرّس بنذوره الرهبانيّة وقوانين الحبساء، ليرتقى سلّمَ الله درجاتِ كمال!
عالج الكتاب صمتَ شربل في الإطار الرهبانيّ منذ وُجد في الكنيسة. بحيث عرض لتعاليم الآباء في الصمت، لا كوسيلة يعتمدها الراهب لحياته الرهبانيّة، بل كدربٍ يسلكها نحو الكمال الرهبانيّ. كان شربل “نموذجًا معاصرًا لهؤلاء (الآباء) القدّيسين، يؤكّد أنّ جهادَهم وبطولاتهم في قمع الأهواء وعيش الصمت والسكون، ليست جزءًا من التاريخ ولّى وانقضى، بل هو حقيقة دائمة ومستمرّة، وقابلة للعيش في أيّ عصر”. وبانت للمؤلّف النذور الرهبانيّة وجهًا لامعًا من وجوه الصمت، عاشها شربل “بجذريّةٍ وتطرّف”، ولكن بفرحٍ اختياريّ مقدّس، هدى نفسه إليه معانقةً نسكيّة يوميّة لله! العفّة صمتُ النظر، بل صمتُ الجسد كلّه. والطاعة في مفهومه إسكاتٌ لصوت الأنا. أمّا الفقر فصمت الرغبة وحبّ التملّك!
وعاد المؤلّف بشربل الصامت إلى البدايات، حيث حوّل نظر القارئ إليه طفلاً وفتىً يعشق الصمت ويسعى في ممارسته! فكان قبل دخوله الرهبنة ينفرد وحده، يبتعد عن معاشرة الناس والاختلاط بهم تجنّبًا لأحاديثهم البطّالة. وقد يكون هكذا بدأ يفضّل العزلة والانزواء عن رفاقه، وتفوّق عنده حبّ الصلاة والصمت كما نقرأ في توجّهه إلى بقرته طالبًا إليها الانتظار حتى يكمل صلاته: “ما فيّي حاكيكي وحاكي الله. الله أبدى منّك”.
تعانقَ شربل والصمت منذ تفتُّحه على الحياة التي لم يدركْها غيرَ أبديّة، فسعى إليها مباشرةً في تفاصيل معيوشه الزمنيّ، ولم يتلهَّ لحظةً بما دون! تخلّى عن عالم الكلام ليدخل سرّ “الكلمة” في توقٍ حارق إلى البلوغ!
“شربل رفيقنا الصامت” الذي امتدّ في أفقيّة الزمن، تقارن ودعاة الصمت في التصوّف والأديان، ليلتقوه في مسلكيّاته بعض قناعات!
أبدع الدكتور لويس صليبا في طرحه هذه الشخصيّة المشعّة في عالمنا بأسلوبٍ درس حيثيّات البطولات الصغيرة، ليتشكّل منها عالم الله في سكونٍ مطبق، يُسمَع دويّه في رهيف الإصغاء إلى تكسّر قوانين الطبيعة خدمةَ إنسان! أبدع في تقديم شربل الذي أحبّه الناس حدّ العبادة، من زاويةٍ قلّما حبّذوها، ولكن أكبروا فيها المفاعيل! وقد وجدوا في قدّيسهم، لا شفيعًا يلجأون إليه في الصلاة وحسْب، بل صورةً حيّةً للمخلّص، ينقل إليهم رحمة الله ونعمه!
في صمته، حسَب الكتاب، يجترح شربل آياتِ الله. يستحيل طبيبًا، كاشفَ غيب، مبدِّلاً نواميس الطبيعة. تسقط أمام هالته الصامتة كلّ الحواجز العائقة مجد الله. وفي ما بعد دنياه هذه، حالٌ قدُسيّة تفوق التمرّسات البطوليّة، لأنّ التمجُّد هائمٌ فوق الناس في تخشّعِ مساكن الله!
لويس صليبا، شكرًا! أدخلتَنا في قدّيسنا اللبنانيّ، عالمَ الداخل في كشفٍ للذات يفتح على الأبد! شكرًا لأنّكَ عرّفتَنا الصمتَ مدخلاً إلى الحقيقة ودربًا إلى الله، حيث شفافيّة ووضوح رؤية. شكرًا لكَ حكاية القداسة هذه، في صفحةٍ نقيّة الألوان العلويّة، أيقونةً تصوّر عمق النفس البشريّة في ارتفاعات الخلود. وههنا خلودٌ يمور بالحياة ، صارخٌ بشعاعات العلى!
في 23 نيسان 2013
عماد يونس فغالي