رسالة الاكويني بين محدودية النص وثراء التحقيق

رسالة الاكويني بين محدودية النص وثراء التحقيق
بقلم السيد وليد البعاج
أن المتتبع لمنشورات دار ببيليون يجدها تسعى جاهدة لنشر النصوص المنسية ، والتي عفا عنها الزمن ، أو التي لم تأخذ حقها من القراءة والإهتمام ، مع أهميتها العلمية والفكرية والتاريخية.
وبما أن الدكتور لويس صليبا لا يترك المطبوع أبتراً أو جافاً كما نشر في وقته ، فتراه يفك طلاسمه الغامضة ، ويشرح عباراته المبهمة ويظهر مكامن القوة والأهمية في النص التي غفل عنها القراء والمهتمين ، فتراه يقدم له بمقدمة ويختمه بملاحق ويتوسطه بتعليقات.
ولعل من أهم المنشورات البيبيلونية للدكتور صليبا هي (رسالة الأكويني في الرد على المسلمين) ورغم الجرأة الواضحة التي يتمتع بها المحقق في تحقيق ونشر مثل هذه الدراسات التي كانت سابقاً تُعد عند الكثير من المسلمين أنها من (كتب الظلال) التي يحرم قراءتها ، إلا للمختصين لغرض الرد عليها. لأنها تؤثر على عقائد البسطاء من الناس فتظلهم ، إذا عُلم مسبقاً أن تأثيرها سيكون كذلك من أهل الإختصاص .
أما اليوم ولله الحمد بعد تطور الفكر لدى المسلمين ونضوج علم الكلام الإسلامي ، أصبحوا يشجعون الباحثين والطلبه على مطالعة هذه النصوص لدراستها ومناقشتها بحرية فكرية ، وبيان مواضع القوة والضعف فيها.
لم يكن محقق هذا النص وناشره يخفى عليه مالدى بعض المسلمين من تحفظ حول ترويج مثل هذه النصوص في بلاد الإسلام ، وما في مطاوي هذا النص المحقق من قسوة في التعبير على القارئ المسلم ، لكنه كما يقول قد احتاط لنفسه في هذا المجال باتباع شعار تبناه في منهجية البحث والتحقيق : ( قل الحقيقة ولكن بلباقة) أو (لا تقل ما ليس بحقيقة ، ولكن لا تقل الحقيقة بطريقة غير لطيفة) .
ولربما أن محققنا لم يصل إلى سمعه رؤية علماء الإسلام المعاصرين من أن النصوص القديمة مهما كانت إذا خضعت لمنظار البحث العلمي فهي لا يضر تداولها لإيمانهم العميق بمتانة وقوة العقيدة الإسلامية التي لايمكن أن تؤثر عليها بحوث أو دراسات فكرية ، وبعد أن أنبرى كم هائل من علماء المسلمين للتخصص بالعقيدة وعلم الكلام وشحن المكتبات بمئات البحوث في هذا المجال ، وأصبح منع القارئ من مطالعة كتب الآخر نوع من الإرهاب الفكري الذي يمارس على العقول فلايجعلها تتسلح بسلاح المعرفة المتطور والناضج الذي يقوي الإدلة الإسلامية بإحتكاكها مع رؤية الآخر.
وخاصة أن مطالعة رسالة الإكويني في الرد على المسلمين ، شيء مهم بالنسبة لنا لأنها كان لها الأثر الفعال والمهم في نظرة الغرب المسيحي إلى الإسلام. حيث أنها تمثل الرؤية اللاهوتية المسيحية في الرد على إشكالات المسلمين في العقيدة المسيحية .
ولم تكن الرسالة وافكارها تكونت في ذهن توما الإكويني عن فراغ بل هي نتيجة تأثره بما طرحه من سبقه من علماء المسيحية بالردود على المسلمين ، فتراه قد استقى رؤية الكندي وهي أحد الرسائل التي تعرضت للنقد والتجريح من الباحثين المسلمين والتأكيد من قبل المسيحيين  والتي من المنطقي كثيرا أن هناك تعديلات وتحسينات قد أجريت عليها من قبل نساخها ، خاصة وأن هناك تشابه كبير بينها وبين كتاب الزمرد لابن الريوندي ، وكتابة النص بعد عهد الكندي ونشره فمن الطبيعي أن يتم حبكها جيدا لتكون دراسة تنفع المسيحيين كوسيلة دفاعية عن مسلمات عقيدتهم وهجومية بنفس الوقت ، وان كان الدكتور صليبا يرى أن ابن الريوندي هو الذي استفاد من رسالة الكندي .
ولكن مالفت نظري هو التهكم (القول بلا دليل ) في قول الكندي وغيره من نسبتهم عدد من الأقوال بلا دليل أو مستند ، بسبب جمعه كل ما هو غث وسمين ضد الاسلام حتى لوكان يرقى الى الاسطورة ان لم يكن هو اسطورة بحد ذاتها مثل ماينقله عن كتابات الهند حول مكه وجعلهم من النبي اسطورة تشبه قصص البحار وهي واضحة كونها من حكايات العجائز الهندوسية التي تستند الى الخيال أكثر من الواقع كما في نقله عن (جنام ساخي) في كتاب السيخ المقدس عن نشأة الإسلام.
أو ما ينقله من أن هناك نصوص في المسيحية كثيرة تتعلق بتاريخ الاسلام وعقائده ذكرت كثير من الامور كحديث الإفك ولكنه لم يورد إسم كتابا واحد او اسم مؤلفه ، وتعذر على المحقق أن يصل إلى ماهية الكتب هذه في التراث المسيحي التي لم يرد في أي من مخطوطاتها ذكر لذلك إلا القول لعلها كتب كانت موجودة وفقدت ، ولكن لا يمكن أن نغفل أن الكندي كانت تمثل الردود عنده معركة فكرية وعلمية وعقائدية بالإساس يحتم عليه الواجب الديني أن ينتصر لعقيدته بكافة الوسائل والطرق ، وأن أدخال الشبهه في عقيدة الآخر وزعزعتها إذا تمت فلايضر إن كان ذلك باختلاق مادة تاريخية او غيرها لم تكن موجودة أصلاً ، فسيكون لها تأثيرها بالرغم من عدم ذكر المصدر لأن هناك خيطاً إسلاميا يتحدث عن هذا الموضوع ، فأن نكروا عليه قال إنه ورد في كتبكم وكان بكتبنا بصورة أكثر.
إذا كان الكندي محاجج ماهرأتقن صنعته وبرع في فنه بالحجاج والمجادلة ، ويفهم جيداً كيف يزرع الشبهه في عقيدة الآخر فيزعزع عقيدته ، وتوسع هذه الرسالة  مما يجعلني أعتقد أن ترتيبات قد أجريت عليها لاحقاً.
وأضحت رسالة الكندي مرجعا لما قبل الإكويني كما هو ملاحظ في كتاب (التعرية)  لمؤلفه(ألفونس) في القرن الثاني عشر، كيف أنه ينطلق من عناصر رواية الكندي ويزيد عليها من بنات أفكاره وعندياته مستفيداً من ثقافته اليهودية والتلمودية.
صراحة أقولها ، وأنا المسلم المحافظ المهتم بالدفاع عن الإسلام لقد أذهلتني سعة الإحاطة والموسوعية في كتابات صليبا ، تناولت الكتاب لأقرأ رسالة الإكويني في الرد على شبهات المسلمين في المسيحية فرأيت أن صليبا قد حلق بي بعيداً ، وأدخلني في كهوف ومغارات ، وسهول وغابات ، وجبال ومنحدرات ، ما بين آراء الكندي والريوندي وألفونس والأباتي والموقر والمبجل وبطرس واراء الهندوسي جنام ساخي، وصلت الفصل الثالث ولم أبلغ نص الإكويني حيث رايته يتكلم عن مصنفات الإكويني لبيان شخصيته العلمية للقارئ ، وصلت الفصل الرابع وقد بلغت ثلثي الكتاب فرأيته يقول أنه لازال في مدخل لدراسة نص رسالة الاكويني ، حتى الباب الثالث من الفصل الخامس كان يناقش مجموعة الاعتراضات الإسلامية التي طرحها عليه المرتل الإنطاكي التي تمثل جملة اعتراضات المسلمين على العقيدة المسيحية .
فكان الباب الرابع من الفصل الخامس هو خاتمة الرحلة في هذا الكتاب الشيق ، حيث النص المترجم من اللاتينية والذي نقله إلى العربية المطران نعمة الله أبي كرم ، وحققه الكتور لويس صليبا . قرأتها فكانت رسالة لاهوتية بكامل معناها  في الدفاع عن الإيمان المسيحي بما ورد في اعتراضات المسلمين . ورغم صغر نصها التي لا يمكن أن تأخذ صداها المعرفي في عصرنا الحاضر لو لم تكن قد سبقتها هذه البحوث المهمة التي كتبها صليبا.

شاهد أيضاً

مطالعة في كتاب توما الأكويني والإسلام: ما يدين به توما الأكويني لفلاسفة الإسلام للدكتور لويس صليبا/ بقلم الأستاذ الدكتور عفيف عثمان

  مطالعة في كتاب توما الأكويني والإسلام: ما يدين به توما الأكويني لفلاسفة الإسلام للدكتور …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *