مدخل إلى أبحاث الكتاب
لمعت فكرة هذا الكتاب في ذهني، للمرّة الأولى، خلال زيارتي لأمرِتسار/مدينة السيخ المقدّسة. وكان ذلك في 11 و 12/03/2001، زيارة جدّ مؤثرة كَنَست من خاطري الكثير من الأفكار والأحكام المسبقة عن السيخ وديانتهم. والأحكام المسبقة هذه تعود إلى بداية تعرّفي إلى ديانة السيخ، فقد سمعت بها للمرّة الأولى غداة استشهاد رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي في شهر تشرين الأول/أكتوبر 1984، وكان اغتيالها ردّة فعل على هجوم الجيش الهندي على المعبد الذهبي/أمرِتسار في حزيران من تلك السنة( )، ولا أنكر أنني أحسست يومها بنقمة كبرى على جماعة “السيخ” هذه التي لم أسمع عنها من قَبل. فقد كنت أكنّ لأنديرا غاندي حبّاً واحتراماً كبيرَين. فهي ابنة جواهر لال نهرو، وتحمل اسم عائلة المهاتما غاندي الذي كنت ولا أزال أعتبره معلّمي الأوّل في اللاعنف، وأنديرا غاندي كانت تحمل شيئاً من ميراث المهاتما في اللاعنف. وطالما استشهدتُ بقولها الذي ترجمتُه لها في أحد كتبي:«إذا لقيت مصرعي بعمل عنف، كما يتآمر ويخطّط البعض، فإنني على يقين أن العنف يكمن في فكر القاتل وعمله وليس في موتي. فما من حقد مهما اتّسعت ظلمته بقادر أن ينال من حبّي لشعبي ووطني، وما من قوّة مهما عَتَت بقادرة على أن تثنيني عن عزمي ومسعاي لدفع هذا البلد إلى الأمام»( ). وأَشدّ ما أحزنني في استشهاد أنديرا غاندي أنها رفضت مراراً تسريح العناصر السيخ من بين حرّاسها، وحجّتها أن لا عداوة بينها وبين هؤلاء، وأنّ ما فعلته في اجتياح المعبد الذهبي لم يكن موجّهاً ضدّ السيخ، وإنما كان هدفه الحفاظ على الهند وحدودها. وهؤلاء الحرّاس السيخ هم مَن غدروا بها وقتلوها. ولا أنسى أن تبرير السيخ، بغالبيّتهم، لهذا الاغتيال، بل وتبنّيهم له، زاد من نقمتي على هذه الجماعة، وجعلني أعتبرها “طائفة” أو فرقة تعتمد العنف والإرهاب.
كان ذلك، في مطلع الشباب، في العام 1984 كما قلت، ولكنّ زياراتي المتكرّرة إلى الهند منذ العام 1998 أتاحت لي الفرص للقاء كثير من السيخيين في معابدهم في دلهي وغيرها ما هيّأ الظروف والعوامل لتعديل هذا الحكم المسبق والمجحف، وحتى تبديده. والفرص المذكورة هذه تُوّجت بزيارتي إلى أمرِتسار، مدينة السيخ المقدّسة، يومها انقلبت فكرتي عن السيخ رأساً على عقب، وعاينت الوجه الآخر والحقيقي للسيخ: الجماعة المُحبّة، المنفتحة التي تؤمن بالأُخوّة الشاملة بين جميع البشر، وتعيش هذه الأخوّة. وتأثّرت بالكرم والعطاء المجّانيَّين اللذَين لمستهما في معبد أمرِتسار. وكذلك بالجو الروحي العميق السائد في ذاك المكان. انطباعات لمّا تزل راسخة في فكري ووجداني. وقد سجّلتُ الكثير منها في يوميات رحلتي. ومنها أقتطف ما يلي، مترجماً إلى العربية:
«أكتب الآن في وسط المعبد الذهبي في أمرِتسار. إنه جزيرة صغيرة داخل بحيرة الماء، ومكان مشحون، استثنائياً، بالتردّدات الروحيّة Vibrations Spirituelles. زرت الطابق الأرضي منه، والطابق الأوّل. أنا الآن في الطابق الثاني. وفي الطابق الأوّل والثاني أغمضت عَينَي وتأمّلت مصغياً إلى التراتيل الدينية التي تُنشد بشكل متواصل»( ).
كل ما في هذا المعبد رائع الجمال: الذهب الذي يزيّن الأسطح والجدران، هندسة المعبد والمياه التي تحيط به. وكل ذلك يساهم في “شحن” هذا المكان بطريقة استثنائية. إنها بالفعل لنعمة أن يُتاح للمرء أن يعيش أوقاتاً مماثلة في مكان كهذا، وتستحقّ كل مشقّات السفر.
وزيارة المعبد الذهبي هي من أقوى لحظات رحلتي هذه إلى الهند.
لقد أُغرمتُ بهذا المكان، ليس فقط بسبب جماله الاستثنائي وحسب، وإنّما، وبشكل أخصّ، بفضل لحظات الهدوء والسكون التي عشتها في مختلف زواياه»( ).
ومن زيارتي الثانية في اليوم التالي 12/03/2001 أقتطف الانطباعات والمجريات التالية:«للمرّة الثانية أمارس التأمّل في المعبد الذهبي، الطابق الأول. لم أشعر حتى بالوقت، لدرجة أنني ركضت بعدها مسرعاً لألحق بالباص.
لقد تأثّرت، بعمق، بروحانية السيخ. فهُم جماعة منفتحة وأصحاب رسالة شاملة.
معبدهم نظيف والدخول إليه منظّم، والاستقبال جيّد، والمياه المحيطة بالمعبد لها فاعليّة كبرى. إنها بحيرة اصطناعية كبيرة تعيش فيها أسماك من كل الأحجام. وفي مطعم المعبد يقدّمون وجبات مجّانية لألوف الزائرين كل يوم. ولكن لم يتح لي الوقت للمشاركة بواحدة منها.
ولم ألحظ في معبد أمرِتسار أيّ منحى تجاري على الرغم من أن بمقدور القيّمين عليه الاستفادة تجارياً في مجالات عديدة. فكل الخدمات: حفظ الحقائب والأحذية… الخ تقدّم مجّاناً. وحتى الكتيّبات السياحية وبعض الكتب توزّع من دون مقابل.
وبكلمة، المكان منظّم أحسن تنظيم، وهو مثالي للتأمّل والصلاة.
يبقى عليّ أن أعرف السيخيّة عن كثب. فهذه الزيارة أثارت فضولي والأصحّ حماستي أو اندفاعي لمزيد من البحث ودراسة هذه الجماعة التي أحفظ عنها، ومنذ الآن، انطباعاً جيداً»( ).
هذا ما دوّنت يومها، وما خطر لي من مشروع بحث في ديانة السيخ. وكانت أوّل خطوة في هذا السبيل شراء ما أمكنني من مصادر ومؤلّفات بالإنكليزية عنها. فرجعت من أمرِتسار محمّلاً، بل مثقلاً، بالكتب. أضفت إليها ما وجدتُ بعد ذلك في دلهي وغيرها. فغدت حملاً يفوق وزناً وحجماً حِمل ابن رشد( ). وهي المراجع المذكورة في مكتبة البحث.
ولكن ماذا عن استشهاد أنديرا غاندي، وهل أن زيارة أمرِتسار غيّرت موقفي من هذا الحدث الجسيم؟! بالطبع لا. ولكنني أدركت، ووعيت، كم أن تاريخ السيخ ووجدانهم مرتبط بأمرِتسار. فتاريخ هذه المدينة، ولا سيما معبدها الذهبي، يلخّص تاريخ السيخ ويجسّده. كم من مرّة دافعوا عن هذا المعبد وافتدوه بأرواحهم وبكل غالٍ! وكم من مرّة دُنّس هذا المعبد واستباحه أعداء السيخ، فاستردّه هؤلاء بدمائهم من الغزاة( )لا سيما في القرنَين 18 و 19.!
فاستباحة المعبد الذهبي مجدّداً أصاب الوعي الجماعي عند السيخ بصدمة جديدة وعنيفة، ذكّرتهم بمآسي الماضي وما لقوا فيها من ظلم وعسف. فكانت ردّة فعلهم على الاحتلال الجديد عنيفة جدّاً. وغدوا مع حصار معبدهم كالقطّ الذي حُشر في الزاوية. فأخرج مخالبه، ودافع دفاع المستميت عن وجوده. ولست هنا بصدد تبرير عمل عنف وإجرام ذهبت أنديرا غاندي ضحيّته، وإنّما أحاول تفهّم بعض دوافع هذا العمل راجياً أن يكون مجرّد جزء من الماضي، وينطبق عليه المثل اللبناني:“ينذكر وما ينعاد”.
أعود إلى العهد الذي أخذته على نفسي في نهاية زيارتي القصيرة والمؤثّرة لأمرِتسار؛ لقد كانت أولى ثمارها قصيدة طويلة عنوانها أمرِتسار. مدينة الذهب والأنوار( ) عبّرت فيها عن كثير من المشاعر والانطباعات التي رافقت زيارة الحجّ هذه وأعقبتها: وها أنا الآن أفي بكامل تعهّدي، وأقدّم للقارئ العربي ثمرة بحث ودراسة طويلَين في ديانة السيخ.
وما تبيّنته أثناء إعدادي لهذا الكتاب، أنني لم أكُن وحدي ضحية أحكام مسبقة وأفكار غير دقيقة ومغلوطة عن السيخ: بل إن غالبية القرّاء العرب يقعون فريسة المشكلة عينها. وهذا ما عرضت له في الفصل الثالث من الباب الثالث في هذا الكتاب. ولا حاجة هنا للتوسّع فيه. وديانة السيخ، كما بيّنت منذ الفصل الأول، عانت، ولا تزال، سوء فهم لها ولمبادئها وعقائدها.
ولعلّها أكثر الديانات التي لما تزل تعاني جهل الآخرين وسوء فهمهم لها. وليس كتابي هذا بقادر على اجتراح المعجزات في هذا الشأن. ولكنه يحاول، قدر المستطاع، تبديد الأوهام والمغالطات التي تملأ الكتب العربية وغيرها في ما يخصّ ديانة السيخ.
ومصنّفي هذا يعتمد المقاربة التي ألتزمها في دراسة الأديان المقارنة وتدريسها: أي دراسة الأديان من الداخل. فالظاهرة الدينية تتناول أعمق ما في فكر الإنسان ووجدانه. ولا يمكن، بالتالي، دراستها وفقهها كما لو كنّا ندرس أيّة ظاهرة طبيعية كسقوط المطر مثلاً. هذه المسافة، بين الذات (أو الباحث) والموضوع، الضرورية في العلوم البحتة، قد تكون عائقاً في علوم الأديان. فالظاهرة الدينية والروحية تختلف، نوعاً وجوهراً، عن الظواهر الطبيعة وحتى الاجتماعية وغيرها. ومقاربة الأديان من الداخل تعني أن نفهم الدين (أي دين) كما يفهمه أهله ويعيشونه. وأُولى شروط هذه المقاربة، كما سبق لي أن أوضحت «أن نصغي إلى الآخر كآخر ومختلف، وأن نجتهد لندعه يتكلّم، لا بل حتى أن نفرض الصمت لحين على وجهات نظرنا. وذلك كي نفهم هذا الآخر كما يفهم هو نفسه، وليس كما كنّا نتخيّل، أو نتمنّى فهمه قبل أن يتكلّم»( ). لذا فالأَولَويّة في هذا الكتاب تعطى لنصوص ديانـة السيخ ومعلّميها ومفكّريها: كيف يفهم هؤلاء جميعاً عقيدتهم ويعيشونها؟ وكيف يميّزونها عن سائر العقائد والديانات؟.
ولكن إفساح المجال أولاً لمفكّري السيخ ومعلّميهم ونصوصهم المقدّسة لا يعني بتاتاً أن يكون الكتاب الذي نقدّمه مصنَّف دعوة وتبشير ونقد لسائر الأديان، كما هو شأن غالبيّة الكتب العربية، لا سيما منها ما يتناول الأديان وبالأخصّ الإسلام. فكتابنا هذا يعرّف بالسيخيّة كما يعرفها أهلها ويعيشونها، ولكن عرضنا يبقى تقريرياً موضوعياً. ولا يتجاوز ذلك مطلقاً إلى الدعوة إلى الدين الذي نعرض. فهذا ليس من العلم بشيء. والمقاربة الداخليّة للأديان هي، إذا صحّ التعبير، حدّ وسط بين حدَّين متطرّفَين: الدعوة والتبشير لدين ما، من ناحية أو نقده ونقضه، من ناحية أخرى. فلا هذه المقاربة، ولا تلك، لها مكان في البحث الرزين والموضوعي.
قلنا إن كتابنا يفسح مجالاً رحباً للنصّ المقدّس. ولا يغربنّ عن بالنا هنا أن مؤلّفنا هذا هو الجزء السادس من سلسلة أشرفنا على إصدارها منذ سنتين ونيّف في دار ومكتبة بيبليون، ألا وهي “سلسلة أديان وكتب مقدّسة”.
وهدف هذه السلسلة، تقديم أيّ كتاب مقدّس، لأية ديانة أو ملّة مشفوعاً بدراسة جادّة هدفها التعريف لا النقض.
من هنا ينقسم سفرنا بشكل طبيعي إلى قسمَين:
القسم الأوّل، دراسة ومدخل إلى ديانة السيخ ومعلّميها عقائدها وطقوسها وتاريخها وغيرها.
القسم الثاني، مكرّس لكتاب السيخيّة المقدّس: غورو غرانت صاحب.
وفي ما يختصّ بالقسم الأوّل فقد وفيناه هنا حقّه من حيث المنهجيّة والمقاربة. تبقى إشارة أساسية بشأن مقاربتنا، ألا وهي النزعة المقارنة. وهي برأي أستاذنا المستشرق بيير لوري “شرط أساسي لتأسيس علم الأديان”( ). وإذا كانت هذه النزعة شرطاً لدراسة الأديان بشكل عام، فكم بالحري، بالنسبة إلى السيخيّة التي نشأت وترعرعت وسط دينَين آخرين، الهندوسية والإسلام. وتفاعلت معهما، إلى درجة أن بعض الباحثين اعتبروها، عن غير حقّ كما نبيّن لاحقاً، محاولة توفيق بين هذَين الدينَين. فهل يمكن بالتالي دراسة السيخيّة من دون مقارنتها بالهندوسية والإسلام، وتتبّع الأثر المحتمل لكل منهما فيها؟!.
بالطبع لا. فإذا كانت النزعة المقارنة أمراً ضرورياً في دراسة أيّ دين، فهي في البحث في السيخيّة أمرٌ إلزامي، لا جدوى للدراسة بدونه. من هنا توقُّفنا الطويل عند مسألة التفاعل بين السيخيّة والإسلام، من ناحية، والسيخيّة والهندوسيّة من أخرى. فكان لا بدّ من وضع الكثير من النقاط على الحروف بشأن العديد من المفاهيم السائدة في هذا الشأن. فبينّا أن التأثير المزعوم للإسلام في السيخيّة أمر محدود. في حين أن الصراع بين العقيدتَين والجماعتَين المتجاورتَين كان له أبعد أثر في التكوين الاجتماعي/الديني للجماعة الدينية الناشئة (السيخيّة) وتحويلها من جماعة مسالمة إلى مجتمع عسكري محارب. وبالأحرى مدافع عن وجوده واستمراره.
وبعد دحض الأثر المزعوم، حاولنا الإجابة عن السؤال الكبير:
هل السيخيّة ديانة مستقلّة أم مجرّد طائفة هندية/هندوسيّة؟ ولا ضرورة لتكرار الجواب هنا، إذ يمكن العودة إليه في الفصل الثاني/الباب الثالث، الذي يعرض للسيخيّة في علاقتها بالهندوسية وتفاعلها معها.
نصل إلى القسم الثاني من الكتاب والمختصّ بالنصوص المقدّسة عند السيخ. فالباب الأوّل منه مدخل ضروري لفهم “الغورو غرانت صاحب” كتاب السيخ المقدّس. وكان بودّنا تقديم النص الكامل لهذا الكتاب، ونقله من لغته (أو بالأحرى لغاته) الأصلية. ولكن ذلك يتطلّب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، كما بينّا في المدخل إلى الغرانت. فكان لا بدّ من اختيار النصوص الأكثر تمثيلاً أو إبرازاً للسيخيّة وعقائدها. وقد برّرنا اختياراتنا هذه، وقدّمنا لها. واجتهدنا أن تكون الأنطولوجياAnthologie التي نقدّمها كافية لإعطاء فكرة دقيقة وصحيحة عن ديانة السيخ عبر النص الأصلي. ولا نغالي إذا قلنا إن سِفْرنا هذا هو الأوّل والوحيد، حتى الآن، الذي يتيح للقارئ العربي رجوعاً إلى النصوص السيخيّة المقدّسة الأصلية. وهو الهدف الأساسي الذي قامت عليه “سلسلة أديان.. وكتب ومقدّسة” والتي تطمح “إلى ملء الفراغ الذي تعانيه المكتبة العربية في ما يخصّ النصوص الأصلية لكتب الأديان”.
على أمل أن يحتلّ سِفْرنا مكاناً له في المكتبة العربية، ويكون باكورة دراسات وترجمات تغطّي المزيد من نصوص السيخيّة وشؤونها، نستودع القارئ والباحث سلامنا، راجين اللقاء القريب.
Q.J.C.S.T.B.
د. لويس صليبا
السوربون/باريس في 16/09/2007