لا يغربنّ عن بالنا أن نصوص المجادلين هؤلاء وآراءهم تعود إلى عصر الصراع والتطاحن بين الديانتين. فالموقر والأكويني ينتميان إلى عصر الحروب الصليبية والصراع لاسترداد المدن الإسبانيّة. صراع دموي مميت عكس حدّة فـي المواقف والعبارات، أليس هذا ما نشهده فـي أيامنا الحاضرة فـي وسائل الإعلام: فالعدو الغاشم والطاغوت زمن الحروب تنقلب نعوته زمن الهدنة والسلم تعابير محايدة بل وحتى ودّية أحياناً؟ فـي زمن الحروب والتشنّج لا يوفّر أي طرف الطرف الآخر، فيفرغ بوجهه كل ما فـي جعبته من نعوت وتهم. ألم ينقل الأكويني فـي رسالته عن المرتل الإنطاكي( ) أن المسلمين يهزأون من أقدس مقدّسات المسيحيين مثل عقائد الثالوث الأقدس والتجسّد والفداء وسرّ القربان ويسخرون منها كلّها؟! وطبيعي أن يعكس هذان الهزء والسخرية قسوة فـي نبرة القدّيس توما، لذا نراه يردّ على المستهزئين ويصفهم باللحميين وغير المؤمنين Infidèles. ولا بدّ من التوقف قليلاً عند هذه النعوت الأخيرة وأمثالها. فكثيراً ما نلقاها فـي رسالة الكندي ونصوص بطرس الموقّر والأكويني. إنها تعابير وأوصاف تجاوزها الزمن. فالمسلمون فـي نظر الكنيسة اليوم مؤمنون ولا تنطبق عليهم نعوت رسالة الأكويني, هذا ما أكّده المجمع الڤاتيكاني الثاني بقوله:«إن الكنيسة تظهر احتراماً كبيراً للمسلمين» وفصّلنا الكلام فيه فـي باب 3/فصل 4. لا بدّ إذاً من وضع التعابير والآراء فـي عصرها وفـي إطارها Contexte وجوّها الثقافـي والتاريخي. والعصر كان زمن حروب ومواجهات كما أشرنا.
لو حذفنا من دراستـنا هذه كل ما قد يثير حفظية المسلم من تعابير لما بقي لها طعم ولا لون قلنا. ولكن ما هو موقفنا نحن من طرق التعبير هذه؟ قد يسأل القارئ. وعن ذلك نجيب بوضوح: نحن فـي بحوث الأديان المقارنة من مدرسة احترام مقدّسات الآخر أيّا كان موقفنا أو رأينا بها. واحترام المقدسات هذه لا يعني مسايرة ولا مواربة فـي التعبير عن الرأي فـي العقيدة والطقوس. نحترم المقدّسات ولكننا نقول كلمتنا الصريحة فيها من دون محاباة، ولكن من دون تجريح كذلك. فشعارنا كان دائماً وسيبقى:
Speak truth but speak it delecatly
قُل الحقيقة ولكن قُلْها بلباقة
Do not speak non truth, but do not speak it in a non sweet woy
لا تقل ما ليس بحقيقة، ولكن لا تقل الحقيقة بطريقة غير لطيفة.
ومن بين الروايات التي ينقلها هذا الكتاب واحدة تعيد تعليمنا هذا المبدأ وتكرّسه. إنها حادثة خطف القدّيس مايّول رئيس رهبانية كلوني (948 – 994م) على يد مسلمين فـي جبال الألب. (راجع باب 2/فصل2) فقد زجر أحد الخاطفين رفيقه الذي مشى من دون انتباه على إنجيل الأباتي مشيراً إلى الطابع المقدّس للكتاب.
فها هو خاطف من القرن العاشر وظلمة العصور الوسطى يعلّمنا احترام مقدّسات الآخر، وهذا الاحترام هو فـي عرفنا أساس لكل علاقة بنّاءة معه. فالاستفزاز والتجريح لا يولّدان إلاّ أمثالهما. وهما أقرب الطرق إلى العنف… والحرب أوّلها كلام يقول الشاعر العربي. هذا هو موقفنا نحن. ولكننا فـي هذا الكتاب نتدارس ونترجم نصوصاً من عصور لم يكُن فيها مبدأ احترام مقدّسات الآخر معروفاً أو محترماً على الأقل. فهل نسقط من هذه النصوص كل ما لا يحترم هذا المبدأ؟!
لو فعلنا لذبحنا الأمانة العلمية بمبضع الرقيب الحسيب. ولو توسّعنا فـي ذكر أوصاف ونعوت قاسية لأثرنا حفيظة الكثيرين واتّهمنا وبالتلطّي والاحتماء خلف هذه النصوص. لذا لجأنا إلى حلّ وسط، وخير الأمور أوسطها يقول المثل العربي: انتقينا من هذه الآراء والنعوت نماذج معبّرة تظهر صورة واضحة للّوحة التي رسمها كتّابنا لرسول الإسلام، ولكننا لم نغرق فـي تفاصيل ملامح هذه الصورة، ولا وجدنا ضرورة لتكرار الكثير من النعوت. واللبيب من الإشارة يفهم. فالمقصود إيضاح الصورة، وليس التبنّي الخفي، أو التستّر بآراء الآخرين لإيصال رسالة ما. إختيار النماذج المعبّرة هذا ينطبق تحديداً وفقط على قسم الدراسة من هذا الكتاب. أما ما يتعلّق بالنصوص المعرّبة فبديهي أن نقدّم ترجمة كاملة وأمينة للأصل تعبّر عن حقيقة فكر الكاتب وأسلوبه ونبرته.. وعلى مسؤوليته.
وختاماً للحديث عن هذا الموضوع نقول لقد اجتهدنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً أن توفّق بين الموضوعية وعرض الآراء كما هي ومن دون تشويه أو تلميع أو تدوير زوايا من ناحية وبين احترام مقدّسات الآخر وتحاشي الاستفزاز من ناحية أخرى.
فعسانا نكون نجحنا فـي هذه المسألة الدقيقة والرهان الصعب.
إنها مرحلة من تاريخ العلاقات بين المسيحيّة والإسلام وبين الغرب والشرق عبرت ومضت. مرحلة صبغتها الأساسية كانت المواجهة. نستذكرها لا لنسترجع ما حَوَت من تشنّج… بل لنأخذ العِبَر مِمّا عَبَرْ.
فأن نمحو هذه المرحلة من ذاكرتنا أمر غير مستطاع، والتعتيم عليها ينقلها من دائرة الوعي إلى محيط اللاوعي الجماعي. وهنا يغدو أثرها أشدّ خطراً بل وفتكاً. مواجهات الماضي نذكرها ونعيها حتى لا تبقى مرخية ثقلها على الحاضر و المستقبل.
ماذا الآن عن مواضيع هذا السفر وأبوابه وأقسامه ومنهجيتنا فيها؟
يدور موضوع كتابنا الأساسي حول القدّيس توما الأكويني وموقفه من الإسلام. فهو يهدف أوّلاً أن يقدّم للقارئ ترجمة عربية لكل ما كتبه معلّم معلّمي الكنيسة فـي الإسلام نظراً لما كان لموقفه وكتاباته من أثر جليّ فـي موقف الكنيسة من الإسلام استمرّ حتى القرن التاسع عشر كما أوضحنا فـي باب3/فصل1. ولكن تقديم النصوص المترجمة من دون مداخل تمهيدية ودراسات مفصّلة لظروفها ومصادرها وإطارها التاريخي والثقافـي يبقى عملاً منقوصاً بل ومبتوراً. وما جاء فـي مطلع هذا المدخل عن وجوب فهم الكثير من التعابير فـي إطارها وزمنها وحيثياتها خير دليل على ذلك.
كان لا بدّ من البحث أوّلاً عن مصادر المعلّم الملائكي فـي التعرّف إلى الدين المحمدي ومقاربته. فوجدنا أنه استند إلى مصدرَين أساسيَين: رسالة الكندي فـي ترجمتها إلى اللاتينية، وكتابات الأباتي بطرس الموقّر فـي نقض الإسلام. فقصرنا دراستنا على البحث فـي هذين المصدرين.
واقتصار بحثنا على هذين الموضوعَين لم يأتِ نتيجة موقف ارتجالي، بل كان وليد تفكير متروٍّ فـي بنية هذا الكتاب ومخطّطه. كانت فكرتنا الأولى أن نقدّم لنصوص الأكويني بدراسة عن صورة الإسلام فـي أوروبا فـي القرون الوسطى. لكننا بعد البحث والتأمّل وجدنا أن دراسة من هذا النوع ستغرقنا فـي تفاصيل ومعطيات تتعلّق بموضوعنا حيناً، وتبعدنا عنه أحياناً، وتخرجنا بالتالي عن سياق البحث. فآثرنا أن نحصر مدخلنا إلى نصوص الأكويني فـي الإسلام فـي مصادر هذه النصوص. وهي إثنان تحديداً كما أسلفنا.
والبحث فـي رسالة الكندي أمر مغرٍ. فهي مصدر عربي قديم يغيب غالباً فـي الدراسات الإسلامية رغم ما كان لها من تأثير شرقاً وبالأخص غرباً، فتوسّعنا فـي دراسة هذا الأثر لأننا شعرنا بأن المكتبة العربية تفتقر إلى بحث موضوعي تقريري فـي هذا الأثر يعطيه حقه كمصدر معتبر فـي نشأة الإسلام. ولا نعني بما نقول وجوب الأخذ بروايات رسالة الكندي على علاّتها. وإنما التعامل معها كأي مصدر آخر من منظور نقدي منهجي. وعدم إغفالها والتعمية عليها.
وإذا كانت وقفتنا عند رسالة الكندي قد طالت فعذرنا أننا نتناول مصدراً عربيّاً تنوقل قروناً فـي الغرب وتدول ودرس. وبقي غالباً طيّ النسيان أو الكتمان فـي المشرق أرضه وموطنه.
أما الأباتي بطرس الموقّر فكان صاحب مشروع رائد فـي التعرّف إلى الإسلام من نصوصه. وهو ينتمي إلى رهبنة كبرى تميّزت عن أخواتها الرهبنات الأخرى بالتفاعل مع الإسلام. والأكويني فـي مواقفه والكثير من آرائه فـي الإسلام مدين لآثار الأباتي وإنجازاته. فكان لا بدّ من وقفة متفحّصة أمام هذا العَلَم البارز من أعلام الفكر واللاهوت فـي العصور الوسطى. وقفة تدرس مشروعه الرائد فـي ترجمة القرآن للمرّة الأولى إلى لغة غربية وترجمة نصوص إسلامية أخرى أي ما عرف بمجموعة طليطلة والتي بقيت المصدر الأوّل لدراسة الإسلام طيلة العصور الوسطى وردحاً من العصر الحديث. وإلى هذه المجموعة التي أشرف الموقر على إنجازها فقد ترك كتابين فـي مناظرة المسلمين ونقض الإسلام درسناهما ونقدناهما وعرضنا طروحاتهما فـي الفصول الخامس والسادس والسابع من الباب الثاني.
وبعد هذه الوقفة المطوّلة عند الموقر ثاني مصادر الأكويني عن الإسلام وصلنا إلى صلب موضوعنا:
القدّيس توما ونصوصه فـي الإسلام. لم يهتمّ المعلّم الملائكي بالإسلام كدين اهتمامه بالفلسفة الإسلامية وفلاسفة الإسلام. وما تركه من نصوص فـي هذا الدين قدّه قليل وقدره جليل وفق نظرة الكنيسة التي تأثرت بموقفه ردحاً طويلاً من الزمن كما أسلفنا، وتكاد آثار الأكويني فـي دين محمد، صلعم، تنحصر فـي نصَّين: قسم من الفصل السادس/الكتاب الأوّل من الخلاصة ضدّ الوثنيين، وبيان بعض قضايا ردّا على المسلمين أو ما تعارفنا على تسميته رسالة الأكويني فـي الردّ على المسلمين.
الفصول الثلاثة الأولى من الباب الثالث خصّصناها للنص الأوّل.
هل كانت الخلاصة ضدّ الوثنيين موجّهة تحديداً لمحاججة المسلمين ولماذا؟، وما المقصود بِزوثنيين فـي مفهوم القدّيس توما. ذاك هو موضوع فصل 1/باب3.
أما الفصل الثاني فيقدّم ترجمة أمينة لمجمل ما فـي الخلاصة ضدّ الوثنيين عن الإسلام. وهما الفصل الثاني حيث بعض الإشارات ليس إلاّ والفصل السادس وهو الوحيد الذي يتناول الإسلام مباشرة ولم يسبق أن ترجم إلى العربية.
والفصل الثالث الباب الثالث دراسة نقدية للنصّ التوماوي فـي الإسلام: طروحاته، مقارناته بين المسيحية والإسلام ومصادره.
والفصلان الرابع والخامس من الباب الثالث مخصّصان لدراسة رسالة الأكويني فـي الردّ على المسلمين.
الفصل الرابع يعرّف بالرسالة وظروف كتابتها وزمنها والترجمة العربية لها وعملنا فـي تحقيقها ونشرها. كما يعرّف بالترجمة الإنكليزية التي ننشرها بموازاة العربية ودوافع ذلك.
والفصل الخامس بمجمله مجموعة ملاحظات وتعليقات على الرسالة خطرت لنا أثناء العمل على تحقيقها ونشرها.
ولعلّنا لم نفِ رسالة الأكويني حقها من الدراسة والتحليل. فهي تستحقّ مزيداً من التفحّص والتقييم. والتوسّع فـي التحليل. لكننا آثرنا هنا الاكتفاء بعرض أبزر محاور هذه الرسالة من دون التوقف مطوّلاً عند أفكارها وطروحاتها، تاركين للقارئ حرية الاطلاع والحكم. ومَن يدري فقد نعود لاحقاً إلى رسالة الأكويني هذه، فهي تستحق وقفات، ففي كل قراءة جديدة يكشف النص ما كان مخبوءاً فـي القراءات السابقة.
أيّاً يكُن فنحن مطمئنّون ومرتاحون لأننا قدّمنا فـي هذا السِفر ترجمة أمينة ودقيقة لرسالة بالغة الأهمية مصحوبة بمقدّمات ودراسات تضعها فـي إطارها التاريخي وسياقها وموقعها فـي أدب الجدل والحوار بين المسيحية والإسلام. آملين أن يُستقبل عملنا بذهنيّة الحوار والانفتاح التي كتب فيها.
Q.J.C.S.T.B
لويس صليبا
باريس فـي 04/06/2011