من تاريخ الفلسفة المسيحية في أرض الإسلام التوماوية

تأليف: لويس صليبا  تاريخ النشر: 03/02/2011 تقديم: بولس الفغالي
الناشر: دار ومكتبة بيبليون

السلسلة: مكتبة توما الأكويني معلم معلمي الكنيسة

النوع: ورقي غلاف عادي،

حجم: 21×14،

عدد الصفحات: 600 صفحة   

الطبعة: 1  

مجلدات:1    

اللغة: عربي


شهدت فكرة هذا الكتاب سلسلة تغيّرات وتطوّرات جعلتها تتحوّل من مقالة صغيرة إلى مجموعة فصول، فإلى مصنّف مستقلّ هو الذي نقدّم له الآن.
لم يدر في خلدي عندما خطرت لي فكرة البحث في ما ترجم من آثار القدّيس توما الأكويني إلى العربيّة أن الأمر لا يقتصر على تعريب عدد من مصنّفاته، وإنما هو شأن نما وامتدّ عبر قرون وبلدان مختلفة من أرض الإسلام ليكوّن تياراً بل ومدرسة لاهوتيّة وفلسفيّة مميّزة ساهم في نشوئها ونموّها العديد من اللاهوتيين والمترجمين والفلاسفة.
وقد اكتشفتُ مع توسّعي في البحث أن تعريب الآثار التوماويّة بدأ منذ القرن السابع عشر وليس في نهاية التاسع عشر. أي قبل قرنَين ونصف وأكثر مِمّا كنت أظن ويعتقد الكثيرون. ولكن ليس هذا وحسب، بل تيقّنت مع التعمّق في الدراسة أن أوائل المترجمين أمثال المفريان إسحاق بن جبير والمطران الدبسي وغيرهما لم يكونوا مجرّد ناقلين للآثار التوماويّة إلى لغة الضاد، بل كانوا إلى ذلك مفكّرين ولاهوتيين توماويين كتبوا العديد من المصنّفات اللاهوتيّة الأصيلة إضافة إلى ترجماتهم التوماويّة. فكوّنوا بذلك نواة تيار ومدرسة لاهوتيّة/فلسفيّة واصلت نموها في القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين مع المطرانَين بولس عواد ونعمة الله أبي كرم وغيرهما، لتبلغ أوجهاً مع يوسف كرم والأب جورج قنواتي وشارل مالك وغيرهم في النصف الثاني من القرن الماضي. فتوماويو الحقبة الأخيرة هذه لم يكونوا مترجمين بل مفكّرين توماويين محدثين Néothomiste سعوا إلى فلسفة مسيحيّة/توماويّة تستوحي من الإرث الفلسفي العربي-الإسلامي وتحاور الآخر/المسلم وتبحث عن حلول لمشاكل الإنسان العربي المعاصر.

التوماويّة لم تكُن في تاريخ الفلسفة في أرض الإسلام مجرّد نجم لمع ثم أفل، بل نجمة صبح أنارت أناساً وهدت آخرين ولمّا تزل. فمن حق هذا التيّار أن يدرس ويؤرّخ له ويبيّن أثره وتأثيره ومكانته في الفِكر العربي. ولسنا نزعم أننا قمنا بكل ذلك في سفرنا هذا، إن هي إلاّ خطوة أولى للتأريخ لهذا المذهب الفلسفي وتسجيل حضوره.
كان من الطبيعي أن ينصبّ اهتمامنا بداية على ما ترجم من الآثار التوماويّة منذ القرن السابع عشر وحتى العشرين. فعرضنا، وبكل ما أتيح لنا من دقائق وتفاصيل، لجهود روّاد أوائل أمثال الحصروني وإسحاق بن جبير والدبسي. هؤلاء كانوا البداية، وقد تركّز اهتمامهم على تعريب الخلاصة اللاهوتيّة للأكويني من دون أن يقتصر على ذلك – بل تعدّاه إلى حقل التأليف اللاهوتي كما أشرنا. ولكن تبقى الإشكاليّة الأساسيّة في تراث هؤلاء أنه إمّا ضاع، أو بقي مخطوطات أسيرة الأدراج، فلم يصلنا، أو لم تتح لنا فرصة الاطّلاع عليه. فاكتفينا بتوصيفه وتحليل أثره استناداً إلى ما جمعنا من مصادر وفهارس مخطوطات، ومع هؤلاء تنتهي الحقبة الأولى من التوماويّة، حقبة الروّاد أو مرحلة نشأة التوماويّة في أرض الإسلام. فكانت موضوع المحور/الباب الأوّل من كتابنا.
أمّا الحقبة الثانية من تطوّر التوماويّة فقد شهدت انتقال التراث التوماوي بالعربيّة من المخطوط إلى المطبوع. وأوّل ما طبع منه ترجمة المطران بولس عوّاد للخلاصة اللاهوتيّة. لذا خصّصنا لهذه المأثرة الفصل الثالث من المحور/الباب الثاني. ولكن جهود عوّاد لم تكُن الوحيدة، فقد سبقتها أو زامنتها إسهامات أخرى بقيت مع الأسف وإلى اليوم طيّ النسيان إذ لم تعرف لها طريقاً إلى المطبعة، وأبرزها ترجمة الأب بطرس نصري للخلاصتَين اللاهوتيّة والفلسفيّة (الردود على الخوارج) وقد عرضنا لها في الفصل الأوّل من الباب الثاني وترجمة الخوري صفير للخلاصة اللاهوتيّة وقد تناولناها في الفصل الثاني من ذلك الباب.
وأوّل مفكّر توماوي أصيل وصلنا نتاجه واطّلعنا عليه هو المطران نعمة الله أبي كرم. فقد نقل عدداً من الآثار التوماويّة: مجموعة الردود على الخوارج موسوعة الفلسفة النظريّة للفيلسوف التوماوي الكاردينال مرسييه وغير ذلك، وكانت له في الترجمة إسهامات أساسيّة وتأسيسيّة مثل نحت ألفاظ عربيّة جديدة موازية للمصطلحات الفلسفيّة اللاتينيّة والفرنسيّة وتحشية المتون التوماويّة والتعليق عليها ومقارنتها بنصوص ابن سينا وابن رُشد وغيرهما من فلاسفة الإسلام، وقد قرن أبي كرم إسهاماته القيّمة في الترجمة هذه بأبحاث أصيلة في الفِكر التوماوي كالبحث المطوّل في ضرورة دراسة التوماويّة وتفنيد مذهب البوزتيفيسم الذي مهّد به لترجمة موسوعة الفلسفة النظريّة لمرسييه في سبعة مجلّدات. وفي مجمل مساهماته هذه يبدو المطران أبي كرم مفكّراً توماوياً أصيلاً مهّد لفلاسفة توماويين عرب جاؤوا بعده أمثال يوسف كرم وقنواتي. لذا خصّيناه بباب/محور مستقلّ هو الثالث من كتابنا. عرضنا في الفصل الأوّل منه لسيرته وآثاره متوقفين عند أبرز ما قدّم من إسهامات جديدة في الفِكر التوماوي في أرض الإسلام. أمّا الفصل الثاني فقدّمنا فيه نصّ المقدّمة السابقة الذكر والتي مهّد بها لترجمة موسوعة الفلسفة النظريّة لمرسييه.

ولا بدّ أن نتوقف هنا عند منهجيّة اعتمدناها كأساس في أبحاث هذا الكتاب وبنيته. فقد آلينا جهدنا أن نقرن البحث بالنص. فما عرضنا لفكر فيلسوف أو باحث توماوي وآثاره وإسهاماته إلاّ وسعينا إلى أن نرفد دراستنا عنه بنص أو أكثر له. وإذا كنّا لم نبدأ بتطبيق هذه القاعدة إلاّ مع المطران أبي كرم فلأننا لم نجد لسابقيه من الروّاد نصوصاً أو ترجمات ننشرها. وذلك باستثناء المطران عوّاد الذي نشرنا النص الكامل لترجمته للخلاصة في “مكتبة توما الأكويني معلّم معلّمي الكنيسة2” فلم نجد مبرّراً ولا متسعاً لعرض قسم منها في هذا الكتاب.
والباب/المحور الرابع عقدناه لتوماويين لبنانيين في القرن العشرين أوّلهم الأباتي سمعان النجار معرّب التعليم الديني للخلاصة. أمّا أبرزهم فالأب بولس مسعد مترجم الوجود والماهيّة للأكويني والذي ألحق ترجمته بدراسة مقارنة للوجود والماهية عند كل من الفارابي وابن سينا وابن رُشد والقدّيس توما. وقد أوردنا نصّ الدراسة هذه في “توما الأكويني والإسلام” وترجمة الوجود والماهيّة في “هكذا علّم توما الأكويني”. أمّا هنا فعرضنا أبرز آثار الأب مسعد وبعض ميزات ترجمته (باب 4 فصل 2) في حين خصّصنا الفصل الثالث لمعجم المصطلحات الفلسفيّة التوماويّة الذي ذيّل به الأب مسعد ترجمته.
أما المحور/الباب الخامس فمعقود لمفكّر توماوي معاصر هو المطران ميخائيل ضومط. وليس هذا الحبر مؤلّف أوّل دراسة عربيّة مستقلّة عن الأكويني وحسب، بل هو مفكّر توماوي كذلك. ويبدو الأثر التوماوي في العديد من نصوصه ولا سيما محاضرته “في علامات الأزمنة” التي أوردنا في الفصل الثالث من هذا الباب في حين عرضنا في الفصل الأوّل من الباب عينه لسيرة المطران ضومط وآثاره وقدّمنا في الثاني بعضاً من دراساته عن القدّيس توما.
والباب السادس مخصّص لفيلسوف توماوي عربي محدث بل رائد التوماويّة العربيّة هو يوسف كرم. وقد اشتهر هذا الأخير مؤرّخاً للفلسفة. ولا تزال آثاره في هذا المجال من أبرز ما كتب فيه. ولكنه ليس مجرّد مؤرّخ للفلسفة وحسب، وإنما مفكّر وفيلسوف استوحى من الفلسفة الإسلاميّة والتوماويّة في آن ودمج الاثنتَين في نظام فكري أرسطي جدير بالتنويه والدرس. ويوسف كرم، كما بيّنا عانى من الإهمال واللامبالاة في حياته وبعد مماته. فعساه يكون قد آن الأوان لأن يدرس فكره كما يستحق.
وفي الفصل الثاني من الباب السادس نقلنا بحثاً في الماهيّة والوجود ليوسف كرم استقيناه من كتابه العقل والوجود، كما أوردنا في الفصل الثالث نصّاً ثانياً مأخوذاً من كتابه الطبيعة وما بعد الطبيعة. وهو يختم كتابه الأخير بصلوات مؤثرة نقلها عن فلاسفة وثنيين.
في المحور/الباب السابع نفتح ملف الحوار المسيحي، الإسلامي وأثر التوماويّة فيه مع العلاّمة والمفكّر التوماوي الأب جورج قنواتي. هل كان قنواتي رائداً في الحوار المسيحي-الإسلامي لأنه توماوي؟ أم أن شغفه بالحوار وقناعته العميقة بجدواه قاداه إلى التوماوية؟! هذا ما نحاول الإجابة عنه في الفصل الأوّل من هذا الباب المخصّص لسيرة هذا العلاّمة ونشاطاته وأبحاثه وأبرز أفكاره وطروحاته في مجال الحوار المذكور. أمّا الفصلان الثاني والثالث من هذا الباب فمجموعة نصوص، بعضها غير منشور للأب قنواتي، الأوّل منها مساهمة في الحوار المسيحي – الإسلامي أمّا الباقي فدراسات توماويّة/رشديّة.
والمحور/الباب الثامن يقدّم جانباً مبتكراً آخر للتوماويّة وأثرها في الفلسفة في أرض الإسلام. فمع الدكتور شارل مالك نفتح صفحة التوماويّة فلسفة للإنسان وحقوقه. وندرس ما كان لمذهب القدّيس توما من أثر في الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان والتي تعتبر من أبرز إنجازات الأمم المتّحدة حتى اليوم.
شارل مالك فيلسوف أرسطي توماوي عبّر عن مذهبه هذا في العديد من نصوصه الفكريّة ونشاطاته السياسية. والقدّيس توما في تمييزه بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي وتشديده على محوريّة الأوّل وتبعيّة الثاني له كان واحداً من أبرز القائلين بحقوق الإنسان والمنافحين عنها. وشارل مالك المفكّر والدبلوماسي الذي لعب دوراً بارزاً في صياغة الشرعة العالميّة لحقوق الإنسان وإصدارها كرّس في هذا الدور حضوراً توماوياً بيّناً في الشرعة وفي الفلسفة التي تستند إليها, هذا الحضور وذاك الدور وذلك الجانب البارز في الفلسفة التوماويّة عموماً وفي أرض الإسلام خصوصاً كلّها أفكار ومواضيع نتدارسها في الفصل الأوّل من الباب الثامن عبر عرض لسيرة شارل مالك وأبرز معالم فكره وآثاره. نتبعه في الفصلَين التاليَين من هذا الباب بنصوص لمالك في فلسفة حقوق الإنسان وأخرى في قمم الفلسفة وموقع التوماويّة فيها.
والباب التاسع والأخير يقدّم لنا مع الأب عفيف عسيران وجهاً آخر من التوماوية.
لقد عبر هذا السالك الرزين في بحثه الدؤوب عن الله والحقيقة من الإسلام إلى المسيحيّة من دون أن يقطع الصلة مع تراثه الأوّل بل كان هذا التراث معيناً له في عيش المسيحيّة واختبارها.
فغدا في إيمانه المسيحي وجذوره الإسلاميّة عَلمَ حوار بين الديانتَين ومهندس تفاعل وتلاقٍ بين الثقافتَين. وكان للتوماويّة أثر بارز في اعتناق عفيف المسيحيّة كما بيّنا في الفصل الأوّل من الباب التاسع. كما كان لعفيف إسهام فاعل في إظهار دور مميّز للتوماويّة وجانب بارز منها لا نجده بهذا الوضوح عند غيره: إنه الفلسفة واللاهوت في وجههما العملي. فلا قيمة للفلسفة بمفهوم عفيف إلاّ بما تخدم الإنسان. وعفيف بسيرته التي تفوح قداسة كان خير مجسّد لهذا المبدأ.
ووقفتنا الطويلة عند الأب عفيف لها العديد من المبرّرات، فتجربته في الحوار المسيحي-الإسلامي رائدة وتعلّمنا الكثير. ودعوته إلى اللاعنف وحبّ الأعداء وتجسيده لها في سيرته تدهشنا بجرأتها وجذريتها.
عفيف عسيران نموذج للفكر التوماوي خاص ومميّز وجدير بالتأمل والتقدير.
ومع الأب عسيران ونصوصه في الحوار وضرورته وشروطه نختم جولتنا الطويلة في التوماويّة في أرض الإسلام.
جولة سعينا أن لا نستثني منها أحداً. فكل صاحب إسهام أياً يكُن قدره ومقداره في الفِكر التوماوي كان له فيها نصيب. وإذا كانت وقفتنا قد طالت عند البعض وقصرت عند البعض الآخر فليس مردّ ذلك إلى انحياز في تقدير إسهام على حساب آخر وإنما توفّر معلومات ومعطيات في مكان مقابل نقصها في موضع آخر.
ولسنا نزعم هنا أن إسهامات المفكّرين والمترجمين التوماويين الذين نعرض لسيرهم وآثارهم في هذا السِفر تقف كلّها على قدم واحد من المساواة، فبعضهم كان مجرّد مترجم ناقل في حين كان البعض الآخر مفكّراً أصيلاً ومجدّداً للتوماويّة. وهذا التفاوت في الإسهام وقدره قد يعكس هو الآخر تفاوتاً في حجم ما خصّص لكل كاتب أو مفكّر من عرض ودراسة وتحليل.
وحرصنا كذلك على أن تغطّي جولتنا أوسع مساحة جغرافيّة ممكنة، فعرضنا لمفكّرين توماويين من العراق وفارس ولبنان ومصر وسوريا، وعسانا نكتشف لاحقاً توماويين من أصقاع وبلدان عربية وإسلامية أخرى فنضمّهم إلى اللائحة.
وفي الختام، ليس ما  نقدّمه في هذا المصنّف سوى تدوين بالأحرف الأولى لتاريخ مذهب فكري نما وتطوّر وانتشر في أرض الإسلام عبر أربعة قرون، وهذا التيّار الفلسفي المسيحي في انتشاره ورسوخه في هذه البقعة من العالم يقدّم دليلاً آخر على أن هذه الأخيرة عرفت دوماً تعدّدية الفكر وانفتاحه. فالتعدّدية وقبول الآخر المختلف كانت ثابتة من ثوابت تاريخها وقاعدة عامّة فيه أمّا أحديّة الفكر والتوتاليتاريّة فاستثناء.
قد تتفاوت الآراء والأحكام في دور التوماويّة ومكانتها وأثرها في الفلسفة في أرض الإسلام، ولكن مهما تباينت وجهات النظر في تقدير أهمّية هذا الدور، وحتى وإن اعتبر ثانويّاً ومحدود التأثير فلا يجوز أن يغفل أو يُتجاهل عند التأريخ للفكر العربي أو الفلسفة في أرض الإسلام في الحقبتَين الحديثة والمعاصرة.
وما قدّمناه في هذا الكتاب ليس سوى مجرّد خطوة أولى متواضعة لوضع أمور وأحكام في نصابها وتأريخ للفكر في أرض الإسلام لا يستثني أحداً.. ولا يغفل أحداً عن عمد أو عن غير قصد.
Q.J.C.S.T.B     
   د. لويس صليبا
باريس في 30/09/2010

شاهد أيضاً

رسالة الأكويني في الرد على المسلمين

مدخل إلى بحوث الكتاب ونصوصهتطرح أبحاث كتابنا هذا ونصوصه وبإلحاح إشكالية الموقف من عقائد الآخر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *